المايسترو فالنتينا ماريا باجنيسكا وأشرف أبواليزيد التعبير الثقافي موسيقيًا وسيلة للحفاظ على تقاليد الأوطان
تعيش المايسترو البولندية فالنتينا باجنيسكا في الكويت أستاذة لفنها الأثير في المعهد العالي للموسيقى، كما أنها أول من أدخل آلة الأرغن إلى الحفلات الموسيقية، وبالتحديد لمواسم دار الآثار الإسلامية. ومع عشقها للتدريس، وعملها كقائد أوركسترا، تعزف فالنتينا فتمتع. رحلة طويلة على بساط الفن تضيئها هذه الصفحات في حوارها مع أشرف أبواليزيد.
< حيرة تتمثل بداية الحوار أمامي وأنت تمثلين هذه العوالم جميعها: التدريس الموسيقي بالجامعة.. تخطيط البرامج الموسيقية.. تأليف النوتات وكذلك عزفها، هي كلها تمثل الموسيقى, لكنك وحدك تملكين سر جمعها معا..
- سأكون سعيدة حين أتبادل معكم تجاربي وأفكاري من أجل الكثيرين الذين يهتمون بالموسيقى، وتعلمها، وثقافتها على نحو أعم. نعم، بدأت مبكرا في منح الموسيقى مساحة مهمة جدا في حياتي. الموسيقى عالم ثري ومتنوعة تماما. غنية جدا ومتنوعة لدرجة أن حياة واحدة للإنسان لا تكفيه كي يتعرف عليها ويكتشفها، سواء كان مكتوبا عنها أو معزوفا بها، أو اكتساب القدرات المطلوبة لعزف الموسيقى على نحو راقٍ جدا. وأود أن أشرح لماذا اهتممت بمجالات مختلفة للموسيقى، بدءا من المعرفة عنها كتاريخ ونظرية وآداب الموسيقى، مرورًا بأداء هذه الموسيقى، وصولا إلى العملية التعليمية لتجربتي الأكاديمية في تدريس الموسيقى.
الشأن الأهم في ذلك كله بالنسبة إلي هو العملية الفنية، لأنني عازفة، أكتب برامج موسيقية لكل منها مفهومه الخاص. في ذلك أحاول أن أبعث برسائل إلى الجمهور، كما أكرر غالبا لطلابي أن الموسيقى موضوع دقيق جدا، مثل الطب والرياضيات. هذا هو السبب في أنني درست وقتا طويلا في المدارس والمراكز الموسيقية المرموقة في أوربا، مثل أكاديمية فريدريك شوبان للموسيقى في وارسو، وأكاديمية الموسيقى في ريجا، كما أنجزت دراسات عليا، بينها ماجستير للدراسات الموسيقية في مدن مختلفة غرب أوربا على أيدي أساتذة معروفين في جميع أنحاء العالم.
< لمَ لا نعود إلى الجذور التي روت تلك الشجرة الباسقة من دراسة الموسيقى - حب الموسيقى - لا بد أن هناك جذورا في حياة فالنتينا ماريا باجينسكا لتبدأ هذه الرحلة مع الموسيقى؟
بدأت الخطوات الأولى في عالم الموسيقى داخل الأسرة. أتذكر كيف كان والداي وأقاربي يجتمعون في منزلنا ليحتفلوا بالعطلات مثل عيد الميلاد، عيد الفصح، وأعياد الميلاد وحفلات الزفاف وأي مناسبات أخرى. بعض أعمامي كانوا يعزفون على الجيتار والبيانو والأكورديون، والمندولين والكمان، وكان آخرون لديهم أصوات غنائية ممتازة. لم أكن طفلة نمطية، ففي المساء خلال اللقاءات العائلية، حين يشعر الأطفال الآخرون بالتعب، ويخلدون للنوم أو يفضلون ألعاب الأطفال، كنت وحدي أطلب الإذن للسهر، من أجل الاستماع للموسيقى. في طفولتنا، بالبيت، وكنا ضمن عائلة كبيرة العدد، كنا نرتب ديكور المكان، ونبدل ملابسنا كي نمثل شخصيات لأدوار مختلفة مقتبسة من الحكايات والقصص.
كان هناك دور مهم للتربية الفنية بثته فينا رياض الأطفال، فقد كان لتلك الرياض برنامج موسيقي ثري جدا. وكذلك بعد هذا أثناء المرحلة المدرسية، مع نشاط كبير في الموسيقى والرياضة والرقص والرسم، انضممت أيضا إلى عدة أندية رياضية، وموسيقية ومسرحية، كما اعتدت أن أكتب القصائد عندما كنت في سن المراهقة، وقد نشر بعض هذه القصائد في الصحافة المحلية. ومنذ بدأت العزف على الآلات الموسيقية وأنا أشارك بشكل دائم في المناسبات المدرسية، وكان شغفي الكبير بالمسرح يقدم لي دورا كبيرا.
< من هذه الأيام المبكرة، هناك كتابة الشعر، أعتقد أنها زرعت فيك أيضا جزءا من الموسيقى, بتفاعيل الشعر وأوزانه؟
- أتذكر أنني بدأت كتابة هذه القصائد في عمر الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. كانت طبعا قصائد عن الطبيعة، مثل الربيع الذي يوقظ الجميع، مشاعري الأولى نحو الآخرين. أعتقد أنها كانت قصائد بريئة وساذجة جدا، لكنها كانت تحمل مشاعر قوية, نابعة من روحي، أحببت أن أعبر عنها بالكلمات.
< سواء كان التعبير بالكلمة أو الموسيقى، لكنه انتقل معك إلى مرحلة الدراسة، سواء في الدراسة الأكاديمية أو الدراسة العالية، ما بعد الدراسة الأكاديمية، وأنت وجهت جزءا من الطاقة لأغاني المهرجانات في لاتفيا لتكتبي عن هذه الموسيقى في رسالة الماجستير، حدثيني عن هذه التجربة؟
- أشعر بالإثارة حين تركز في هذا السؤال على الموسيقى في لاتفيا. لتلك الموسيقى تاريخ طويل معي منذ صغري، اخترت هذا الموضوع لرسالتي في المعهد العالي للموسيقى في وارسو، لأنني كنت أختزن تجربة غنية لثقافة البلطيق.
حين نعود بالزمن إلى سنوات السبعينيات من القرن الماضي، لم تكن هناك كتابات بولندية عن ثقافة الموسيقى في لاتفيا، لذلك استخدمت اللغات الألمانية واللاتفية والروسية للبحث عن مصادري، مستندة أساسا إلى تجربتي الشخصية، والمعرفة المرجعية لعمل الجوقة الغنائية التي أحيط بها تماما.
بدأ تاريخ ثقافة لاتفيا في حياتي على النحو التالي؛ كنت عضوا في المسرح الوطني البولندي، وكنا نقوم بجولة في بلدان البلطيق أستونيا وليتوانيا ولاتفيا، وفي مدينة ريجا كانت لدي انطباعات وذكريات عن مهرجان الأغنية الوطنية، الذي يسمى Svetki Dziesmu Latviešu. كانت المدينة كلها تغني وترقص وتعزف، سترى الفرق في كل مكان، في الشوارع والمتنزهات والمسارح، وفي كل قاعة هناك مجموعات تغني وترقص. استطعت أيضا خلال المهرجان أن أستمع إلى حفلة لآلة الأرغن، والأرغن هي عشقي الكبير منذ ذلك الوقت، وكان ذلك في Baznica؛ الكاتدرائية الكبرى في لاتفيا.
كان هناك أرغن كبير صنعه الموسيقي الألماني الشهير فالكر، في عام 1884م، وخلال تلك الفترة، كان ذلك أكبر أرغن في أوربا. ومنذ تلك الجولة، أصبح حلمي الدراسة هناك في ريجا. وقد حضرت إلى أكاديمية الموسيقى بمدينة ريغا في لاتفيا، وكانت لي دروس في الأداء وأخرى في العزف على الأرغن.
الوقت الذي أمضيته في ريجا كان أغنى تجربة موسيقية في حياتي. لقد شاهدت أحداثا كثيرة، ولكن ذلك الحدث كان بالغ التأثير فيّ. أتيحت لي الفرصة للتعرف على لغة جديدة، لأن المحاضرات كانت في لاتفيا باللغة الوطنية.
كنت أغني وأعزف وكذلك أعلّم مجموعة لتكون جوقة لمهرجان الأغنية التالي. شارك الآلاف كفنانين، بين الغناء والعزف والرقص، وكان الجميع يرتدون ثيابهم التقليدية، متعددة الألوان الزاهية التي لا تضاهى.
هذا الحدث يتم تنظيمه كل 3 أو 4 سنوات، بدءا من عام 1873م. كان الحفل الأول للمهرجان يضم أكثر من ألف مشارك، ومن مصادري أعلم أنه في الذكرى الـ100 للمهرجان عام 1973م كان هناك 19000 مشارك، مشهد من الصعب وصفه.
ما أود إيجازه هو أن التعبير الثقافي بمختلف أشكاله كالغناء والعزف والأداء الحركي والمسرح، هو وسيلة للحفاظ على تقاليد البلاد. إعداد المهرجان هو عمل مجموعات من الناس، وليس لصيقا بشخص بمفرده، فهناك اختبارات كثيرة لاختيار أفضل الفنانين المشاركين خلال المهرجان التالي. جميع المشاركين يطلب منهم الأمر نفسه، ليتدربوا على أداء البرنامج، ومن ثم يقوم الحكَّام باختيار الأفضل منهم. وقد أتيحت لي الفرصة لأكون عضوا تحكيميا بمهرجان الأغنية في عامي 1977م و1980م. تجربة حضوري هذا المهرجان حفرت ذكريات لا تمحى من عقلي وقلبي.
< هذه المهرجانات الكثيرة التي احتفت بالثقافة التقليدية الموسيقية أعتقد أن وراءها قصصا كثيرة، وربما عشت أنت بعض هذه القصص، ولعلني أعرج على ثقافة لاتفيا الموسيقية، حيث اخترت آلة الأرغن في دراسة أخرى.
- جمهورية لاتفيا - وهي بلد صغير بمنطقة البلطيق - تعد عاصمة العالم للثقافة الموسيقية والجوقة الغنائية. أنا مقتنعة بهذه الحقيقة، وأحاول أن أروج لها. العيش بشكل كامل في لاتفيا يعني أن تمارس الغناء. أبناء لاتفيا الحقيقيون هم عازفون ومغنون في جوقات. الموسيقى بالنسبة إليهم مثل الهواء للآخرين، مثل أشعة الشمس ومثل الطعام أيضا. في كل مكان، وبكل مناسبة. وبالتالي فإن ذروة الاحتفال الوطني للموسيقى - بطبيعة الحال- هي المهرجان الشهير للأغنية اللاتفية، وهذه هي الحال لنحو خمسة ملايين مواطن من أبناء لاتفيا.
كذلك، وبنفس شهرة لاتفيا الموسيقية، فهي معروفة أيضا بآلات الأرغن وعازفيها، لأجهزتها الممتازة ووجود الموهوبين بالجهاز. وهذا هو السبب في أنني بدأت دراساتي هناك، وكما حدثتك عن دروس كاتدرائية Baznica، التي كانت قاعتها تستضيف حفلات لآلة الأرغن، لأن قاعة الموسيقى الأوركسترالية الفلهارمونية لم يكن بها أرغن مماثل، وكنا نعزف خمس مرات أسبوعيا، كنت أواظب عليها جميعا خلال فترة دراستي، والتقيت هناك عازفا بارعا على آلة الأرغن. والمثير للاهتمام هو أنه بجانب جمال الموسيقى كانت هناك رعاية تقنية يقدمها خمسة فنيين بشكل دائم لصيانة آلة الأرغن، التي كان يصل ارتفاعها إلى نحو طابقين أو ثلاثة من أي مبنى.
وداخل ذلك كله هناك تركيبات معقدة، ولم يكن جهازا إلكترونيا كما هي الحال في آلات الأرغن اليوم. وكان واجبهم إصلاح أي شيء حتى أثناء الحفل.
هؤلاء المشاهير الذين عزفوا هناك أصبح بعضهم أساتذة لي، وأصدقاء بالمثل. حالفني توفيق كبير في أن أدرس على يد أشهر عازفي الأرغن المشاهير مثل نيقولاس فانادزنس، وبيترسيبولنيكس، وبريجيتا ميتز. التقيت أيضا بمؤلفين موسيقيين كبار، كان أحدهم إيفارس كالخز، وقد اخترت عمله «درب الآلام» لأقدمه للجمهور الكويتي في أحد المواسم الماضية.
< الموسيقار فالنتينا، أعتقد أن الموسيقى ارتبطت معك بالرحلة، ليس فقط في الكويت وبلدك بولندا ولكن في كل أنحاء أوربا، حدثينا عن هذا الارتباط بين الموسيقى والرحالة.
- الموسيقي المحترف الذي يعزف للجمهور في الحفلات العامة يحتاج إلى العزف دائما. وإلا فقد مقدرته وحساسيته. الأمر يشبه حاجة المدرس لتلاميذه، وضرورة وجود مرضى للطبيب يسعى لشفائهم. هذا الأمر لا يعترف بالزمان والمكان، إنه أمر راسخ في القلب.
إنها ليست مجرد مهنة، بل هي أسلوب حياة. ولكي تكون فنانا موسيقيا يعني أيضا أن تكون لك مهمة أمام الآخرين، وهي أن تفتح لهم باب عالم جميل من الموسيقى. البرنامج الموسيقي لأمسية ما يؤدي رسالة يجب تكرارها عدة مرات، وهذا هو الدافع لكي يسافر الفنان باحثا عن جمهور جديد. مرة واحدة لا تعطي القوة الكافية لكي تصل الرسالة. مرات كثيرة، وأناس كثيرون يجب أن يستمعوا إليك، لكي تحدث الاستجابة العاطفية.
السفر هو جزء من الحياة الفنية. يحتاج الفنان إلى مصدر إلهام كي يبدع، فليس تكرار الأمر ذاته يوميا ذا فائدة. أحب السفر والعزف أمام الجمهور. علنا - خلال عقد بين 1980و1990- كنت أعزف سنويا في نحو 30 أمسية لآلة الأرغن. وكذلك عزفت أكثر من30 مرة ضمن جوقات فنية. التقيت جماهير رائعة، ولاسيما في ألمانيا وسويسرا والدنمارك والسويد. كانت هذه الأمسيات مصدر إلهام لي كي أواصل مسيرتي الموسيقية. فلكي تكون موسيقيا يعني أن تواظب بجد ونظام على عملك. لسنوات عديدة تمكنت من التواصل مع عدد كبير من الناس كانوا بين جمهور الحفلات الموسيقية بمختلف البلدان الأوربية.
< هذا الإلهام الذي لا يأتي وحده من الجمهور- ولا من الموسيقيين - ولكن يأتي أيضا من المكان. لذلك كنت أريد أن أسألك عن الإلهام الذي كنت تحت تأثيره وأنت تتنقلين في تلك الأماكن.
- الإلهام، نعم، فحين تكون في ألمانيا حيث ولد وعاش يوهان سباستيان باخ، بالطبع أستدعي موسيقاه، وفي فرنسا أستدعي موسيقى فرانك، وبختام الحفل يأتي عديدون للتعليق على هذه المعزوفة بأنها مميزة، وقد يقولون إنها موسيقاهم، فكيف تسنى لي أن أفهمها؟ الموسيقى تساعد على بناء علاقات قوية مع الآخرين، وتجعلنا من المرة الأولى يفهم أحدنا الآخر.
< أعتقد أن أسرار المايسترو فالنتينا الموسيقية جديرة بأن تكون هادية لكل من يريد أن يتعلم الموسيقى أو يعلمها. وأنتقل بك وحياتك الثرية في الموسيقى، إلى المواسم الثقافية في دار الآثار الإسلامية، وأنا حضرت إحداها حين لخصتم فيها تاريخ بولندا بالموسيقى. حدثيني عن هذه المواسم.
- بدأت مغامرتي مع الأرغن في الكويت عام 2006. لكنني فكرت في ذلك منذ عام 2003 حين وصلت إلى الكويت. في أبريل 2006 اجتمعت مع الشيخة حصة صباح السالم الصباح خلال محاضرة بمسرح الميدان الثقافي. لقد وجدت هذا المكان المسرحي مناسبا جدا للحفلات الموسيقية بسبب الفضاء الداخلي له. أقنعت الشيخة حصة بجلب آلات موسيقية، مثل: البيانو والأرغن، لتدشين نشاط موسيقي على نحو منظم. واخترت أرغن متقدما وعصريا جدا، صناعة شركة إيطالية، صوته قريب للغاية من أصوات أرغن الأنابيب الحقيقي.
وكذلك، أوصيت أيضا بشراء بيانو كبير من اليابان يستخدم مثيله في العديد من قاعات الحفلات الموسيقية الشهيرة لأنها معروفة بجودة الصوت الممتازة، وهي تستخدم في أوركسترا وارسو خلال منافسات شوبان. وصل الأرغن إلى الكويت في 15 سبتمبر 2006، وكان يومًا مهما جدا بالنسبة إلي، أسعد بهذا التاريخ وأذكره دائما، ولكن في المقام الأول كان يعني خطوة واحدة للأمام بالنسبة للثقافة الموسيقية في الكويت.
في الاجتماع الافتتاحي يوم 28 يناير 2007، عزفت المقطوعة الثانية على الأرغن، كان طقسا باردا جدا على ما أذكره الآن. الحفل الثاني لي على الأرغن كان في 23 أبريل بمحاضرة وعزف على البيانو، بعنوان «ظاهرة فريدريك شوبان الموسيقية».
وفي 14 مايو 2007 كانت حفلتي الثالثة بعنوان «الأرغن - ملك الآلات». وعموما كانت المواسم الثقافية التالية لدار الآثار الإسلامية غنية بالموسيقى حين ربطت ما بين الأرغن وموسيقى الحجرة، وبدأت في 2008 عزف الموسيقى العربية.
< في الأداء الأخير، كنت تتحدثين عن تقنية الكاروكي. وصحيح أنا أريد أن أوضح كيف يمكن أن ترتبط تلك التقنية بعمل أداء موسيقي حي للجمهور.
- تستخدم تقنية الكاروكي على نحو أكبر في الموسيقى الشعبية، ولا تستخدم غالبا في الموسيقى الكلاسيكية التقليدية. كانت فكرتي هي أن أقدم للجمهور الكويتي جوا من الموسيقى البولندية، ولأنني لا أملك هنا أوركسترا كورالية كبيرة العدد استخدمت الكاروكي مستعينة بدعم من فريق جوقة بأصوات تقيم في الكويت لتقديم انطباع أعمق للجمهور.
< بجانب هذه الموهبة في الموسيقى، كنت أريد أن أقدم موهبة أخرى في تعلم اللغات وإتقانها، ودعيني أتذكر بجانب الإنجليزية هناك الألمانية والروسية والبولــــندية والأوكرانــــية واللاتفــية والتشيكية والفرنسية، وأعتقد وقليل من العربية، هل كانت الموسيقى مساعدة لك لكي تتعلمي هذه اللغات؟
- أنت على حق، بين المواضيع الأخرى كانت دراسة اللغات الأجنبية مهمتي المفضلة. وجدت أن لكل لغة طقسها الخاص، والمورفولوجيا الخاصة بها، واللكنة، والنغمة، واللون بل والدراما. في كل من هذه اللغات يجب التأكيد على اللهجة، سواء في وسط أو بداية أو نهاية الكلمات. تماما مثل القطع الموسيقية لإعطاء اللحن الصحيح. دراسة لغة جديدة كانت عملية مثيرة للغاية بالنسبة إلي.
حلمت دائما بالسفر حول العالم، وفهم كل اللغات الممكنة للتواصل مع كل شخص في العالم على نحو فعال من دون مساعدة من أحد كمترجم أو ما شابه.
في المدرسة درست اللغتين الإنجليزية، والروسية، لاحقا حينما بدأت السفر تعلمت اللغة الألمانية، لأنها لغة باخ وهايدن وموتسارت وبيتهوفن وشوبرت وشومان. كانت رحلتي التالية إلى فرنسا وبلجيكا، وطبعا أردت دراسة الفرنسية كلغة فرانك، كوبران، بيزيه، تشوش، ودوبري، دوبوسي وآخرين.
وفي مدينة ريجا درست لغة لاتفيا، وفي أوكرانيا أقمت بعض العروض هناك وأردت أن أتواصل مع الناس هناك. وهي لغة قريبة من الروسية ليست هناك صعوبة في تعلمها مادمت تعرف الروسية. اللغة التشيكية إحدى اللغات السلافية، وإذا تعاملت مع التشيكيين أستطيع بعد عدة دقائق أن أجيب عن أسئلتهم من دون مشكلات.
كعازفة للجوقة كان لي تعامل مع لغات مختلفة، وكان طموحي أن أفهم معنى كلمات القطع الموسيقية التي نؤديها. بالتأكيد للموسيقيين حساسية سمع أكبر، ويتحدثون لهجة أفضل من سواهم. أكثر من غيرها. ولكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن الموسيقى لغة عالمية للعواطف الإنسانية والمشاعر والشخصيات من دون كلمات.
< لن نبتعد عن عالم الفنون.. لو أنك بإمكانك أن تكتبي فيلما عن حياة موسيقي فمن ستختارين ولماذا؟
-لدي العديد من الشخصيات المفضلة في عالم الموسيقى: ملحنون ومؤدون وعازفون، أعجب بهم وأكن لهم الاحترام. المشاهير جدا لديهم كثير من المصادر حول حياتهم. ولكنني إذا قررت الكتابة فسأختار الموسيقار البولندي المعاصر ماريان ساوا (1937-2005)، الذي عرفته لأكثر من 25 عاما. كان أستاذي، وصديقي، وكان فنانا كبيرا. وقال إنه كتب وأهدى خمسة ألحان للأرغن بناء على طلبي بمناسبات خاصة مثل: مهرجان الأرغن الدولي في نيورنبرج بألمانيا، وفي لوند بالسويد ومناسبات أخرى في بولندا. لقد كان عبقريا كملحن كبير، وفنان وعازف وأستاذ، وفي الوقت نفسه كان متواضعا للغاية وحساسا جدا بقلب كبير ونفس أبية وود للجميع. شخصية مميزة، كان له العديد من الأصدقاء الذين أحبوه كثيرا. كتب ماريان ساوا نحو 1000 معزوفة في مختلف أنواع الموسيقى، للجوقات الكبيرة، والألحان الدينية وللعديد من الآلات، وخاصة للأرغن. دوره في الموسيقى الحديثة البولندية يضاهي دور يوهان سيباستيان باخ. أنا أسميه «باخ القرن العشرين في بولندا» .
في ريغا كانت أغنى تجربة موسيقية في حياتي. كنت أغني وأعزف وكذلك أعلم مجموعة لتكون جوقة لمهرجان الأغنية التالي. شارك الآلاف كفنانين، بين الغناء والعزف والرقص، وكان الجميع يرتدون ثيابهم التقليدية، متعددة الألوان الزاهية التي لا تضاهى.