سوق السرد.. انتشار الرواية عبر الترجمة ومفاعيله

سوق السرد.. انتشار الرواية عبر الترجمة ومفاعيله

تفترض‭ ‬هذه‭ ‬المقالة،‭ ‬مقدّمًا،‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬سوقًا‭ ‬دولية‭ ‬لتبادل‭ ‬المنتجات‭ ‬الثقافية،‭ ‬ومنها‭ ‬الروايات،‭ ‬تقترب‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬مفهومها‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬السوق‭ ‬الدولية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وعلاقات‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬تحكمها،‭ ‬والترجمة‭ ‬بمعناها‭ ‬الواسع،‭ ‬الذي‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬التفاعل‭ ‬الثقافي،‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تلك‭ ‬السوق‭. ‬وما‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تمتحنه‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬هو‭ ‬مفهوم‭ ‬زاوية‭ ‬النظر،‭ ‬الذي‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬انتشار‭ ‬الجنس‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم،‭ ‬تختلف‭ ‬رؤيتها‭ ‬تبعًا‭ ‬لموقع‭ ‬الناظر‭. ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬غوته‭ ‬عام‭ ‬1827،‭ ‬وكان‭ ‬يقرأ‭ ‬رواية‭ ‬صينية‭ ‬آنذاك،‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأدب‭ ‬القومي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يعني‭ ‬الكثير‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬لقد‭ ‬بدأ‭ ‬عصر‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي،‭ ‬وعلى‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬يسهموا‭ ‬في‭ ‬التعجيل‭ ‬بقدومه‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬رآه‭ ‬أيضًا‭ ‬ماركس‭ ‬وإنجلز‭ ‬عام‭ ‬1848‭: ‬‮«‬أحادية‭ ‬الجانب‭ ‬وضيق‭ ‬الأفق‭ ‬القوميان‭ ‬يغدوان‭ ‬مستحيلين‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر،‭ ‬ومن‭ ‬الآداب‭ ‬القومية‭ ‬والمحلية‭ ‬الكثيرة‭ ‬ينهض‭ ‬أدب‭ ‬عالمي‮»‬‭.‬

فهل‭ ‬يرى‭ ‬الناظر‭ ‬العربي،‭ ‬أو‭ ‬الصيني،‭ ‬أو‭ ‬الإفريقي‭ ‬أو‭ ‬البرازيلي،‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬العالم‭ ‬أو‭ ‬هامشه،‭ ‬مثلما‭ ‬رآه‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأوربيون؟‭ ‬وهل‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلع‭ ‬به‭ ‬لو‭ ‬نظرنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية؟

حتى‭  ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وتقريبًا‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬منتصفه،‭ ‬تطوّرت‭ ‬الأشكال‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬العالم‭ ‬المختلفة‭ ‬باستقلال‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬بعضًا،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬السمات‭ ‬الشكلية‭ ‬ودلالاتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬الأوربية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬وما‭ ‬عاصرها‭ ‬من‭ ‬أنماط‭ ‬سردية‭ ‬عربية‭ ‬أو‭ ‬سواها،‭ ‬كسيطرة‭ ‬التناظر‭ ‬الذي‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬الديمومة‭ ‬والاستمرار‭ ‬والتكرار،‭ ‬وسيادة‭ ‬البطل‭ ‬الجماعي‭ (‬أسرة،‭ ‬فئة،‭ ‬جماعة،‭ ‬أمة‭.. ‬إلخ‭)‬،‭ ‬وكثرة‭ ‬الشخصيات‭ ‬المحيطة‭ ‬بها،‭ ‬وإيلاء‭ ‬الأهمية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متزامن،‭ ‬بخلاف‭ ‬الأعراف‭ ‬الشكلية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الأوربية،‭ ‬حيث‭ ‬كسر‭ ‬التناظر،‭ ‬والبطل‭ ‬الفرد،‭ ‬وإبراز‭ ‬تعاقب‭ ‬الزمن‭ ‬وإبرامه‭.. ‬إلخ‭.‬

وطوال‭ ‬فترة‭ ‬إقلاع‭ ‬الرواية‭ ‬الأوربية‭ (‬1750-1850‭)‬،‭ ‬وبشكل‭ ‬أضيق‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1816و1850،‭ ‬تُظهر‭ ‬سبل‭ ‬الترجمة‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬البلدان‭ ‬الأوربية‭ ‬كانت‭ ‬تستورد‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬رواياتها‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬40و80‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬وأكثر،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬شكّلت‭ ‬فرنسا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬مجموعة‭ ‬وحدهما،‭ ‬ولم‭ ‬تستوردا‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬أوربا‭ ‬أو‭ ‬العالم‭ ‬سوى‭ ‬أقل‭ ‬القليل،‭ ‬لأنهما‭ ‬كانتا‭ ‬تنتجان‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الروايات،‭ ‬ولم‭ ‬تكونا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬شرائها‭ ‬من‭ ‬الخارج‭. ‬هكذا‭ ‬وقفت‭ ‬معظم‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬المستورد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يصدر‭ ‬شيئًا،‭ ‬والذي‭ ‬تآلف‭ ‬قرّاؤه‭ ‬مع‭ ‬الشكل‭ ‬الجديد‭ ‬عبر‭ ‬الروايات‭ ‬الفرنسية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬التي‭ ‬غدت‭ ‬نموذجًا‭ ‬يحتذى،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬وقفت‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ (‬ومعهما‭ ‬ألمانيا‭ ‬حينًا‭ ‬وروسيا‭ ‬حينًا‭ ‬آخر‭) ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬المصدّر،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعني،‭ ‬حتى‭ ‬ضمن‭ ‬أوربا،‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬غوته‭ ‬وماركس‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كذلك‭ ‬تمامًا،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬لزوج‭ ‬من‭ ‬الآداب‭ ‬القومية‭ ‬وجدا‭ ‬نفسيهما‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬محظوظ‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭.‬

تصف‭ ‬إليزا‭ ‬مارتي‭ ‬لوبيز‭ ‬حال‭ ‬إسبانيا‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬فتقول‭: ‬‮«‬لم‭ ‬يكن‭ ‬القرّاء‭ ‬مهتمين‭ ‬بأصالة‭ ‬الرواية‭ ‬الإسبانية‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬رغبتهم‭ ‬الوحيدة‭ ‬التمسّك‭ ‬بتلك‭ ‬النماذج‭ ‬الأجنبية‭ ‬التي‭ ‬ألفوها‮»‬‭. ‬ويقول‭ ‬ديفيد‭ ‬غاسبيريتي‭ ‬عن‭ ‬بدايات‭ ‬الرواية‭ ‬الروسية‭: ‬‮«‬نظرًا‭ ‬لتاريخ‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬تشكّل‭ ‬الرواية‭ ‬الروسية‭ ‬الباكر،‭ ‬لا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬قد‭ ‬اشتملت‭ ‬على‭ ‬حشد‭ ‬من‭ ‬الأعراف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬الأدبين‭ ‬الفرنسي‭ ‬والبريطاني‮»‬‭. ‬أما‭ ‬لوقا‭ ‬توسكي،‭ ‬فيصف‭ ‬حال‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1800‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬طلب‭ ‬على‭ ‬المنتجات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬أن‭ ‬يتمثل‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬والعالم‭ ‬العربي،‭ ‬فثمة‭ ‬إجماع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬سلسلة‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬الغرب‭. ‬وأن‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬أسسها،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬يحيى‭ ‬حقي،‭ ‬هم‭ ‬أشخاص‭ ‬تأثروا‭ ‬بالأدب‭ ‬الأوربي،‭ ‬وخاصة‭ ‬الفرنسي‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يرد‭ ‬أيضًا‭ ‬عند‭ ‬أحمد‭ ‬إيفين‭ ‬بصدد‭ ‬أصول‭ ‬الرواية‭ ‬التركية‭: ‬‮«‬كتب‭ ‬أولى‭ ‬الروايات‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬الإنتلجنسيا‭ ‬الجديدة،‭ ‬كانوا‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬الخدمات‭ ‬الحكومية‭ ‬وتأثروا‭ ‬بالأدب‭ ‬الفرنسي‮»‬‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يذكّر،‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬بحال‭ ‬الروايات‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬جميعها‭ ‬قد‭ ‬كتبت‭ ‬بأيدي‭ ‬إنتلجنسيا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬خليل‭ ‬الخوري،‭ ‬صاحب‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى،‭ ‬‮«‬وَيْ‭.. ‬إذن‭ ‬لست‭ ‬بإفرنجي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬الفرنسية‭ ‬والتركية‭ ‬وتدرج‭ ‬في‭ ‬الوظائف‭ ‬حتى‭ ‬غدا‭ ‬مدير‭ ‬الأمور‭ ‬الأجنبية‭ ‬في‭ ‬سورية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬مترجمًا‭ ‬نشر‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬المترجمة،‭ ‬وكان‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭ ‬يترجمون‭ ‬بعض‭ ‬القصص‭ ‬والمقالات‭ ‬ويبعثون‭ ‬بها‭ ‬لينشرها‭ ‬في‭ ‬صحيفته‭ ‬‮«‬حديقة‭ ‬الأخبار‮»‬‭.‬

 

تقليد‭ ‬محلي

ويوجز‭ ‬الأمر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬وروجر‭ ‬آلن،‭ ‬بقول‭ ‬أولهما‭: ‬‮«‬عرف‭ ‬الكتّاب‭ ‬العرب‭ ‬الرواية‭  ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬وراحوا‭ ‬يكتبون‭ ‬أعمالاً‭ ‬تشبهها‮»‬،‭ ‬وأشار‭ ‬الثاني‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬صلات‭ ‬متزايدة‭ ‬مع‭ ‬الآداب‭ ‬الغربية‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة‭ ‬الأعمال‭ ‬القصصية‭ ‬الأوربية‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وما‭ ‬تلا‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تبني‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬ومحاكاتها،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬الأمر‭ ‬ذروته‭ ‬بظهور‭ ‬تقليد‭ ‬محلي‭ ‬من‭ ‬القصّ‭ ‬الحديث‭ ‬المكتوب‭ ‬بالعربية‭.‬

والحال،‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬استيراد‭ ‬الرواية‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬المعمورة‭ ‬من‭ ‬البرازيل‭ ‬إلى‭ ‬الصين‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يضعنا‭ ‬إزاء‭ ‬مصير‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬من‭ ‬محيط‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬العادة‮»‬‭ ‬تعترضها‭ ‬وتبادلها‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬من‭ ‬المركز‮»‬‭ ‬تتجاهلها‭ ‬تجاهلاً‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬تامًا،‭ ‬ويقف‭ ‬وراءه‭ ‬تباين‭ ‬هائل‭ ‬في‭ ‬القوة،‭ ‬بحيث‭ ‬يبدو‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي،‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬نظر‭ ‬الهامش،‭ ‬أدبًا‭ ‬عالميًا‭ ‬واحدًا‭ ‬بالفعل،‭ ‬لكنه‭ ‬غير‭ ‬متكافئ،‭ ‬أدب‭ ‬واحد،‭ ‬نظام‭ ‬أدبي‭ ‬عالمي‭ ‬واحد‭ ‬‮«‬مؤلف‭ ‬من‭ ‬الآداب‭ ‬المرتبطة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬مختلف‭ ‬عمّا‭ ‬كان‭ ‬يأمله‭ ‬غوته‭ ‬وماركس،‭ ‬لأنه‭ ‬غير‭ ‬متكافئ‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عميق‭.‬

غير‭ ‬أن‭  ‬اللافت‭ ‬هو‭ ‬التوقف،‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬المتكررة‭ ‬من‭ ‬الاستيراد‭ ‬والمحاكاة‭ ‬والتشبّه‭ ‬والتأثر‭.. ‬إلخ،‭ ‬عن‭ ‬حدود‭ ‬الوصف‭ ‬وتسجيل‭ ‬الواقعة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يدعوه‭ ‬فرانكو‭ ‬موريتي‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الأسواق‭ ‬والأشكال،‭ ‬أو‭ ‬الذهاب‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬النهاية،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬إكراه‭ ‬قوي‭ ‬ومنهجي‭ ‬يمارسه‭ ‬أدب‭ ‬معين‭ ‬على‭ ‬آداب‭ ‬أخرى،‭ ‬فينبغي‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تبيّن‭ ‬آثار‭ ‬هذا‭ ‬الإكراه‭ ‬ضمن‭ ‬الشكل‭ ‬الأدبي‭ ‬ذاته،‭ ‬لأن‭ ‬الأشكال‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬تجريد‭ ‬علاقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬معينة‭.‬

يقول‭ ‬سيد‭ ‬البحراوي،‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬تقديمه‭ ‬رواية‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬آنفة‭ ‬الذكر،‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬قد‭ ‬استفادت‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬الرواية‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬نمط‭ ‬بنائها‭ ‬للشخصيات‭ ‬المعمّقة،‭ ‬والعليّة‭ ‬المركبة‭ ‬لنتائج‭ ‬الأحداث‭ ‬وفي‭ ‬اللغة‭ ‬الحديثة‭ ‬السلسة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬استجابت‭ ‬للذائقة‭ ‬الشعبية‭ ‬للقرّاء‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التسلسل‭ ‬الحكائي‭ ‬للأحداث‭ ‬وتقديم‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬الشامية‭ ‬آنذاك،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬ثنائيات‭ ‬وتناقضات‭ ‬من‭ ‬تابعوه‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬يعرفوه‮»‬‭. ‬وعن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬زينب‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل،‭ ‬يقول‭ ‬روجر‭ ‬آلن‭: ‬‮«‬من‭ ‬السهل‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬مشكلات‭ ‬المغالطة‭ ‬النفسية‭ ‬هنا،‭ ‬حيث‭ ‬يتعرف‭ ‬حامد،‭ ‬الطالب‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬غريبة‭ ‬تتناول‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬كأعمال‭ ‬جون‭ ‬ستيوارت‭ ‬مل‭ ‬وهربرت‭ ‬سبنسر،‭ ‬ثم‭ ‬يتابع‭ ‬ذلك‭ ‬ويناقش‭ ‬مشكلة‭ ‬الزواج‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭ ‬بذلك‭ ‬المستوى‭ ‬الرفيع‭ ‬مع‭ ‬والديه‭ ‬اللذين‭ ‬لم‭ ‬يغادرا‭ ‬أعماق‭ ‬الريف‭ ‬المصري‮»‬‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬متَّى‭ ‬موسى‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬مترجمو‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية‭ ‬يأخذون‭ ‬حريتهم‭ ‬الواسعة‭ ‬وغير‭ ‬المحترسة‭ ‬أحيانًا‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬الأصلي‭. ‬فلم‭ ‬يكتف‭ ‬يعقوب‭ ‬صرّوف‭ ‬بتغيير‭ ‬عنوان‭ ‬رواية‭ ‬سكوت‭ ‬‮«‬تاليسمان‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الأسد‭ ‬وصلاح‭ ‬الدين‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬اعترف‭ ‬أيضًا‭ ‬بأنه‭ ‬أخذ‭ ‬حريته‭ ‬بالحذف‭ ‬والإضافة‭ ‬وتغيير‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرومانس‭ ‬كي‭ ‬يناسب‭ ‬ما‭ ‬اعتقد‭ ‬أنه‭ ‬ذوق‭ ‬جمهور‭. ‬وقد‭ ‬غيّر‭ ‬مترجمون‭ ‬آخرون‭ ‬العناوين‭ ‬وأسماء‭ ‬الشخصيات‭ ‬والمحتويات،‭ ‬وذلك‭ - ‬كما‭ ‬زعموا‭ - ‬كي‭ ‬يجعلوا‭ ‬العمل‭ ‬المترجم‭ ‬أكثر‭ ‬قبولاً‭ ‬لدى‭ ‬قرّائهم‭ ‬وأكثر‭ ‬اتساقًا‭ ‬مع‭ ‬التقليد‭ ‬الأدبي‭ ‬المحلي‭.‬

 

على‭ ‬هامش‭ ‬النظام‭ ‬الثقافي‭ ‬العالمي

بيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة،‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الصدع‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أوربي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬محلي،‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬بل‭ ‬يتكرر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬هامش‭ ‬النظام‭ ‬الثقافي‭ ‬العالمي‭. ‬يقول‭ ‬أحمد‭ ‬إيفين‭ ‬لدى‭ ‬تناوله‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬انتباه‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬التركي‭ ‬الباكر‭ ‬نامق‭ ‬كمال‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الثيمتين،‭ ‬الأولى‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬العائلية‭ ‬التقليدية،‭ ‬والأخرى‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬توق‭ ‬امرأة‭ ‬عاهرة،‭ ‬تشكّلان‭ ‬أول‭ ‬محاولة‭ ‬في‭ ‬القص‭ ‬التركي‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬من‭ ‬البعد‭ ‬النفسي‭ ‬الذي‭ ‬يُلحَظ‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬الأوربية‭ ‬ضمن‭ ‬إطار‭ ‬موضوعات‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬التركيّة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تنافر‭ ‬الثيمتين‭ ‬والاختلاف‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬الإلحاح‭ ‬المركّز‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬منهما‭ ‬يفضيان‭ ‬إلى‭ ‬ثلم‭ ‬وحدة‭ ‬الرواية،‭ ‬فالعيوب‭ ‬البنيوية‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬انتباه‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أعراض‭ ‬للفروق‭ ‬بين‭ ‬طريقة‭ ‬واهتمامات‭ ‬التقليد‭ ‬الأدبي‭ ‬التركي‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وطريقة‭ ‬واهتمامات‭ ‬الرواية‭ ‬الأوربية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‮»‬‭.‬

ويقول‭ ‬هنري‭ ‬زهاو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوانًا‭ ‬لافتًا‭ ‬‮«‬السارد‭ ‬القلق‭.. ‬الرواية‭ ‬الصينية‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‮»‬‭: ‬‮«‬لعل‭ ‬التخلّع‭ ‬السردي‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬الأحداث‭ ‬المتعاقب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الانطباع‭ ‬الأبرز‭ ‬الذي‭ ‬تلقّاه‭ ‬كتّاب‭ ‬الكنغ‭ ‬المتأخرون‭ ‬حين‭ ‬قرأوا‭ ‬القص‭ ‬الأوربي‭ ‬أو‭ ‬ترجموه‭. ‬لقد‭ ‬حاولوا‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أن‭ ‬يردّوا‭ ‬نتيجة‭ ‬الأحداث‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬السابق‭ ‬على‭ ‬السرد‭ ‬ويرتبوها‭ ‬ضمنه‭. ‬وحين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الترتيب‭ ‬ممكنًا‭ ‬أثناء‭ ‬الترجمة،‭ ‬كانوا‭ ‬يقحمون‭ ‬ملاحظة‭ ‬يعتذرون‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬تعذّر‭ ‬ذلك،‭ ‬والمفارقة‭ ‬أن‭ ‬المترجم‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يبدّل‭ ‬الأصل‭ ‬ولا‭ ‬يكتفي‭ ‬باتّباعه،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يشعر‭ ‬بضرورة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظة‭ ‬الاعتذارية‮»‬‭.‬

ويشير‭ ‬فريدريك‭ ‬جيمسون‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الصدع‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬كتاب‭ ‬كوجين‭ ‬كاراتاني‭ ‬‮«‬أصول‭ ‬الأدب‭ ‬الياباني‭ ‬الحديث‮»‬،‭ ‬فعند‭ ‬إقلاع‭ ‬الرواية‭ ‬اليابانية‭ ‬الحديثة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بالإمكان‭ ‬صهر‭ ‬مادة‭ ‬التجربة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬اليابانية‭ ‬الخام‭ ‬والنماذج‭ ‬الشكلية‭ ‬المجرّدة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الرواية‭ ‬ذلك‭ ‬الصهر‭ ‬التام‭.‬‭ ‬وعرّج‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬ماساو‭ ‬ميوشي‭ ‬‮«‬شركاء‭ ‬الصمت‮»‬،‭ ‬وكتاب‭ ‬ميناكشي‭ ‬موخرجي‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬والواقع‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يتناول‭ ‬الرواية‭ ‬الهندية‭ ‬الباكرة،‭ ‬هذان‭ ‬الكتابان‭ ‬اللذان‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يعودان‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬دعاه‭ ‬موخرجي‭ ‬‮«‬المشكلات‭ ‬المعقدة‭ ‬الناشئة‭ ‬عن‭ ‬اللقاء‭ ‬بين‭ ‬الشكل‭ ‬الغربي‭ ‬والواقع‭ ‬الياباني‭ ‬أو‭ ‬الهندي‮»‬‭.‬

ما‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬هنا؟‭ ‬ثمة‭ ‬‮«‬صدوع‮»‬،‭ ‬إذن،‭ ‬و«مشكلات‮»‬‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬سبر‭ ‬وتحليل‭ ‬لتواريخها‭ ‬وتجلياتها‭ ‬ودلالاتها،‭ ‬ولا‭ ‬تكفي‭ ‬مجرد‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬وجودها،‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬‮«‬زينب‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تُقرأ‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭ ‬دون‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬إعجاب‭ ‬هيكل‭ ‬بفلسفة‭ ‬روسو،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬المدن‭ ‬الثلاث‮»‬‭ ‬لفرح‭ ‬أنطون‭ ‬لا‭ ‬تُفهم‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬ظهور‭ ‬الأفكار‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬ثلاثية‮»‬‭ ‬محفوظ‭ ‬لا‭ ‬تُحلل‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الليبرالية‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬الأجنبي،‭ ‬إذا‭ ‬جازت‭ ‬التسمية،‭ ‬يتداخل‭ ‬مع‭ ‬تلفّظ‭ ‬الرواية‭ ‬ذاتها،‭ ‬وفي‭ ‬بنيتها‭ ‬الجوهرية‭. ‬والنظام‭ ‬الأدبي‭ ‬الواحد‭ ‬وغير‭ ‬المتكافئ‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬شبكة‭ ‬خارجية‭ ‬تبقى‭ ‬خارج‭ ‬النص،‭ ‬بل‭ ‬يكون‭ ‬منطمرًا‭ ‬في‭ ‬شكله‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نفهم‭ ‬قول‭ ‬روبرتو‭ ‬شوارز‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬عن‭ ‬استيراد‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬البرازيل‭: ‬‮«‬الدّين‭ ‬الخارجي‭ ‬حتميّ‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬البرازيلية‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الأخرى‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬فيه،‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬جزء‭ ‬يسهل‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنه،‭ ‬بل‭ ‬سمة‭ ‬معقدة‭ ‬من‭ ‬سماته‮»‬‭.‬

 

قانون‭ ‬عام‭ ‬للتطور‭ ‬الأدبي

غير‭ ‬أن‭ ‬فرانكو‭ ‬موريتي‭ ‬يرفع‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬قانون‭ ‬عام‭ ‬للتطور‭ ‬الأدبي‭: ‬في‭ ‬الثقافات‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬هامش‭ ‬النظام‭ ‬الأدبي‭ (‬أي‭ ‬جميع‭ ‬الثقافات‭ ‬تقريبًا،‭ ‬داخل‭ ‬أوربا‭ ‬وخارجها‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬تنشأ‭ ‬الرواية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬كتطور‭ ‬مستقل،‭ ‬بل‭ ‬كتسوية‭ ‬بين‭ ‬تأثير‭ ‬شكلي‭ ‬غربي‭ (‬فرنسي‭ ‬وإنجليزي‭ ‬في‭ ‬العادة‭) ‬ومواد‭ ‬محليّة،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬تمهّد‭ ‬لهذه‭ ‬التسوية‭ ‬الشكلية‭ ‬موجة‭ ‬عارمة‭ ‬من‭ ‬الترجمات‭ ‬الأوربية‭ ‬الغربية‭. ‬وهذه‭ ‬التسوية‭ ‬تكون‭ ‬مزعزعة‭ ‬وبعيدة‭ ‬عن‭ ‬الاستقرار‭ ‬بوجه‭ ‬عام،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬ميوشي‭ ‬يصوّرها،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬اليابانية‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬برنامج‭ ‬مستحيل‮»‬‭. ‬وبين‭ ‬الشكل‭ ‬الأجنبي‭ ‬أو‭ ‬الحبكة‭ ‬الأجنبية‭ ‬والمادة‭ ‬الخام‭ ‬المحلية‭ ‬أو‭ ‬التجربة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المحلية‭ ‬بشخصياتها‭ ‬المحلية،‭ ‬فإن‭ ‬موضع‭ ‬الزعزعة‭ ‬هو‭ ‬صوت‭ ‬السارد‭ ‬المحلي،‭ ‬الذي‭ ‬يتجلى‭ ‬فيه‭ ‬انعدام‭ ‬الاستقرار‭ ‬ويكون‭ ‬القلق‭ ‬على‭ ‬أشدّه‭. ‬فالسارد‭ ‬هو‭ ‬قطب‭ ‬التعليق‭ ‬والشرح‭ ‬والتقويم،‭ ‬وحين‭ ‬تدفع‭ ‬النماذج‭ ‬الشكلية‭ ‬الأجنبية‭ ‬أو‭ ‬الحضور‭ ‬الأجنبي‭ ‬الفعلي‭ ‬الشخصيات‭ ‬إلى‭ ‬سلوكيات‭ ‬غريبة‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يغدو‭ ‬التعليق‭ ‬قلقًا،‭ ‬مهذارًا،‭ ‬غريب‭ ‬الأطوار،‭ ‬بلا‭ ‬دقة‭ ‬أو‭ ‬ضابط‭. ‬هكذا‭ ‬تجعل‭ ‬الآداب‭ ‬القوية‭ ‬حياة‭ ‬الآداب‭ ‬الأخرى‭ ‬وبنيتها‭ ‬عسيرة،‭ ‬ويظهر‭ ‬ذلك‭ ‬الصدع‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬بين‭ ‬القصة‭ ‬والخطاب،‭ ‬بين‭ ‬العالم‭ ‬ورؤية‭ ‬العالم،‭ ‬بين‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬غريب‭ ‬تمليه‭ ‬قوة‭ ‬خارجية،‭ ‬ورؤية‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تضفي‭ ‬المعنى،‭ ‬وتكون‭ ‬مختلة‭ ‬التوازن‭ ‬وبعيدة‭ ‬عن‭ ‬السواء‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭.‬

وهنا‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أمور‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الأهمية‭: ‬أولها‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬للتسوية‭ ‬المذكورة‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬الكلي،‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬السبل‭ ‬المستقلة‭ ‬التي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تعتبر‭ ‬القاعدة‭ ‬في‭ ‬نشوء‭ ‬الرواية‭ (‬السبيل‭ ‬الإسباني،‭ ‬والفرنسي،‭ ‬وخاصة‭ ‬البريطاني‭) ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬القاعدة‭ ‬بل‭ ‬الاستثناء،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬جاءت‭ ‬أولاً،‭ ‬وثانيها‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التسوية‭ ‬تتخذ‭ ‬أشكالاً‭ ‬مختلفة‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬باختلاف‭ ‬الواقع‭ ‬المحلي‭ ‬تبعًا‭ ‬لمناطقه‭ ‬وتواريخه‭ ‬وباختلاف‭ ‬التأثير‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متساويًا‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأماكن‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬ضغط‭ ‬المركز‭ ‬الأنجلو‭ - ‬فرنسي‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬قط‭ ‬من‭ ‬محو‭ ‬واقع‭ ‬الاختلاف‭ ‬ذلك‭ ‬المحو‭ ‬الكامل‭. ‬أما‭ ‬ثالثها‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حالات‭ ‬نادرة‭ ‬تحقق‭ ‬فيها‭ ‬البرنامج‭ ‬المستحيل‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ثورات‭ ‬شكلية‭ ‬أصيلة‭. ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬والتكوينات‭ ‬التسوويّة‭ ‬والإخفاقات‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬القاعدة‭ ‬والقوة‭ ‬الحاسمة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية،‭ ‬فإنه‭ ‬حين‭ ‬يجري‭ ‬ذلك‭ ‬الالتحام‭ ‬المستحيل،‭ ‬ينفتح‭ ‬الأفق‭ ‬بالفعل‭ ‬ويحصل‭ ‬الاختراق‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬رواية‭ ‬الأفكار‭ ‬الروسية‭ (‬1860-1890‭)‬،‭ ‬ومع‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية‭ ‬الأمريكية‭ - ‬اللاتينية‭ (‬1960-1990‭)‬‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬فردية‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك،‭ ‬يتحول‭ ‬فيها‭ ‬الضعف‭ ‬البنيوي‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭. ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬مقامه‭ ‬‭>‬