غرناطة المسلمة في شعر «لوركا» الأول

غرناطة المسلمة في شعر «لوركا» الأول

كان‭ ‬يروق‭ ‬لفيديريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬مملكة‭ ‬غرناطة،‭ ‬ليذكر‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المرات‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬الغوطة‭.‬

والواقع‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نفصل‭ ‬بين‭ ‬المكانين‭ ‬اللذين‭ ‬ارتبطا‭ ‬بقوة‭ ‬بتاريخ‭ ‬الإسلام،‭ ‬وقد‭ ‬شعر‭ ‬فيديريكو‭ ‬أنه‭ ‬ينتمي‭ ‬إليهما،‭ ‬كما‭ ‬نستنتج‭ ‬لدى‭ ‬قراءة‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬إنتاجه‭ ‬الشعري‭ ‬الأول‭: ‬أن‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬المكانين‭ ‬هو‭ ‬امتداد‭ ‬للآخر‭ ‬جغرافيا،‭ ‬كما‭ ‬أنهما‭ ‬يشتركان‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬واحد،‭ ‬إذ‭ ‬ارتفعت‭ ‬فوق‭ ‬مآذنهما‭ ‬وطوال‭ ‬7‭ ‬قرون‭ ‬رايات‭ ‬الإسلام‭. ‬وكلا‭ ‬المكانين‭ ‬استبدل‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬وأواخره‭ ‬تاريخا‭ ‬بتاريخ،‭ ‬وعشاقا‭ ‬بأسياد،‭ ‬وظل‭ ‬يحمي‭ ‬بحنان‭ ‬وسرية،‭ ‬جذورا‭ ‬إسلامية‭ ‬عميقة‭ ‬الغور،‭ ‬ويحمي‭ ‬ذكرى‭ ‬‮«‬العرق‭ ‬الأسمر‭ ‬النبيل‮»‬‭.‬

الذي‭ ‬أبدع‭ ‬ملامحه‭ ‬وراح

وكانت‭ ‬الغوطة‭ ‬كما‭ ‬غرناطة،‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬عرضة‭ ‬لتشوه‭ ‬الملامح‭ ‬الحقيقية‭ ‬للأرض،‭ ‬ولتغييب‭ ‬الروح‭ ‬الإسلامية‭ ‬الباقية،‭ ‬وقد‭ ‬اتجهت‭ ‬إسبانيا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬المحورية‭ ‬إلى‭ ‬أوربا،‭ ‬واجتاحت‭ ‬حياتها‭ ‬رياح‭ ‬التغيير‭ ‬السياسي،‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬فقوت‭ ‬الطبقات‭ ‬الحاكمة‭ ‬الغرناطية،‭ ‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬دخيل‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التراث‭ ‬القومي‭ ‬الإسلامي‭.‬

حتى‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬الطبيعي‭ ‬والتقليدي‭ ‬للغوطة‭ ‬واحدا،‭ ‬مرتبطا‭ ‬بذكرى‭ ‬المسلمين،‭ ‬الذين‭ ‬تركوا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ‭ ‬أثرهم‭ ‬الأعمق‭ ‬في‭ ‬المكان‭: ‬هناك‭ ‬وكما‭ ‬تشير‭ ‬كارمن‭ ‬أوكانيا،‭ ‬وكيفما‭ ‬تلفّت‭ ‬المرء،‭ ‬كانت‭ ‬عيناه‭ ‬تقعان‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يذكّر‭ ‬بالمسلمين‭ ‬وبنمط‭ ‬حياتهم‭ ‬الريفية‭ ‬وتقدمهم‭ ‬الزراعي‭: ‬الأشجار‭ ‬المثمرة،‭ ‬تنظيمات‭ ‬الري‭ ‬وقنوات‭ ‬سحب‭ ‬مياه‭ ‬الأنهار‭ ‬من‭ ‬منابعها‭ ‬لتخصيب‭ ‬الغابة‭ ‬من‭ ‬الجفاف‭.‬

وتغير‭ ‬مشهد‭ ‬الغوطة،‭ ‬حين‭ ‬استبدلت‭ ‬بالزراعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التقليدية،‭ ‬زراعة‭ ‬الشمندر‭ ‬السكري،‭ ‬التي‭ ‬درّت‭ ‬على‭ ‬أصحابها‭ ‬أرباحا‭ ‬طائلة،‭ ‬واجتذبت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المستثمرين،‭ ‬يوظفون‭ ‬أموالهم‭ ‬في‭ ‬معامل‭ ‬السكر‭ ‬التي‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬وفد‭ ‬إليه‭ ‬عمال‭ ‬أجانب‭ ‬كثيرون،‭ ‬ليستقروا‭ ‬في‭ ‬الجنة‭ ‬الأرضية‭ ‬التي‭ ‬أبدعها‭ ‬العرب‭ ‬المسلمون،‭ ‬طبعوها‭ ‬بطابعهم‭ ‬الخاص،‭ ‬وظلت‭ ‬حياتها‭ ‬تقليدية‭ ‬هادئة،‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬بسلام‭ ‬متوحدا‭ ‬مع‭ ‬الأرض،‭ ‬وكما‭ ‬يشير‭ ‬إيان‭ ‬جبسون‭.‬

غيّر‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬الغوطة،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التغيير‭ ‬الاقتصادي‭ - ‬الاجتماعي،‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬التدمير،‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬غرناطة‭ ‬المدينة،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬سلبها‭ ‬لأجل‭ ‬تراثها‭ ‬المعماري‭ ‬الإسلامي‭.‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يعجب‭ ‬البورجوازية‭ ‬المغتنية،‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬متقاطعة‭ ‬الدروب،‭ ‬وارتأت‭ ‬أن‭ ‬تجعلها‭ ‬أوربية‭ ‬الطابع،‭ ‬فتم‭ ‬هدم‭ ‬نصف‭ ‬غرناطة‭ ‬الموريسكية‭ ‬تقريبا،‭ ‬لشق‭ ‬شارعين‭ ‬تمر‭ ‬فيهما‭ ‬العربات،‭ ‬وتكرس‭ ‬رسميا‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬الأوربة‭: ‬شارع‭ ‬الملكين‭ ‬الكاثوليكيين،‭ ‬وغران‭ ‬بيّا‭ ‬دي‭ ‬كولون‭ (‬كريستوفر‭ ‬كولومبوس‭).‬

إزاء‭ ‬هذا‭ ‬التدمير‭ ‬المبرمج‭ ‬للتراث‭ ‬المعماري‭ ‬الإسلامي،‭ ‬المميز‭ ‬لشخصية‭ ‬المدينة‭ ‬التاريخية‭ ‬الخاصة،‭ ‬لروحها‭ ‬الأصيلة،‭ ‬انبرى‭ ‬أنخيل‭ ‬غانيفيت‭ (‬1862‭ - ‬1898‭)‬،‭ ‬الشاعر،‭ ‬المفكر‭ ‬العالمي،‭ ‬والديبلوماسي،‭ ‬ومن‭ ‬فنلندا‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬المدينة‭ ‬الحضاري‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ورسم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬التحفة‭ ‬‮«‬غرناطة‭ ‬الجميلة‮»‬،‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليها‭ ‬المدينة،‭ ‬لتبقى‭ ‬متوحدة‭ ‬مع‭ ‬سرمدية‭ ‬ماضيها،‭ ‬رغم‭ ‬تطلعها‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭.‬

أثّر‭ ‬غانيفيت‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬تفكير‭ ‬أجيال‭ ‬لاحقة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والأدباء،‭ ‬كان‭ ‬أبرزهم‭ ‬وأعظمهم‭ ‬فيديريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭.‬

‭ ‬متأثرا‭ ‬بغانيفيت،‭ ‬وبمعايشة‭ ‬الماضي‭ ‬الإسلامي‭ ‬الظاهر‭ ‬والسري‭ ‬في‭ ‬الغوطة‭ ‬وغرناطة،‭ ‬توحد‭ ‬لوركا‭ ‬مع‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي،‭ ‬مع‭ ‬أماكن‭ ‬لاتزال‭ ‬عربية‭ ‬الاسم،‭ ‬يذكّر‭ ‬وجودها‭ ‬عفويا،‭ ‬بالذين‭ ‬أبدعوا‭ ‬المكان‭ ‬وراحوا،‭ ‬تاركين‭ ‬روحهم‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬الحجارة‭ ‬البليغ،‭ ‬يروي‭ ‬للدنيا‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬السلالة‭ ‬الرائعة‮»‬‭ ‬و«العرق‭ ‬الأسمر‭ ‬النبيل‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬أبناؤه‭ ‬محاربين‭ ‬شجعانا‭ ‬أقوياء،‭ ‬عشاقا‭ ‬كبارا‭ ‬يرتدون‭ ‬الحرير،‭ ‬ومبدعي‭ ‬فن‭ ‬فريد‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭.‬

لقد‭ ‬دمغت‭ ‬غرناطة،‭ ‬غوطة‭ ‬ومدينة،‭ ‬حياة‭ ‬الشاعر‭ ‬وكلية‭ ‬إنتاجه‭ ‬بوشمها‭ ‬الخاص،‭ ‬الفريد‭ ‬والسرمدي،‭ ‬وكان‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬تاريخها‭ ‬الإسلامي‭ ‬وروحها‭ ‬الإسلامية،‭ ‬هما‭ ‬العنصران‭ ‬الأولان‭ ‬اللذان‭ ‬نسجا‭ ‬كنه‭ ‬أرضه‭ ‬الحقيقي،‭ ‬الذي‭ ‬جسده‭ ‬بداية‭ ‬بصور‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬إنتاجه‭ ‬الشعري‭ ‬الأول،‭ ‬والذي‭ ‬نتعرّف‭ ‬إليه‭ ‬بتأثر‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬أولى،‭ ‬منظومة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1918‭ ‬و1919،‭ ‬وأبدع‭ ‬وهو‭ ‬ينقل‭ ‬إلينا‭ ‬إحساسه‭ ‬بالحضور‭ ‬العربي‭ ‬الإسباني‭ ‬السرمدي‭ ‬في‭ ‬الغوطة،‭ ‬وفي‭ ‬توحده‭ ‬ورثائه‭ ‬لغرناطة‭ ‬المليئة‭ ‬بالغياب،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رحل‭ ‬عنها‭ ‬أبناؤها‭ ‬السود‭ ‬العيون،‭ ‬الذين‭  ‬أبدعوا‭ ‬حضارة‭ ‬إنسانية‭ ‬فريدة،‭ ‬كان‭ ‬يقضي‭ ‬عليها‭ ‬تدريجيا‭ ‬الزمن،‭ ‬وتجسدت‭ ‬في‭ ‬جلال‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬العجيب،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬عيناه‭ ‬تتمليان‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬وهو‭ ‬يتطلع‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬غرفته‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬طريق‭ ‬الدّارو،‭ ‬الذي‭ ‬سكنت‭ ‬فيه‭ ‬العائلة‭ ‬عندما‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬غرناطة‭.‬

 

طفل‭ ‬في‭ ‬الغوطة

ولد‭ ‬فيديريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭ ‬عام‭ ‬1898،‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬فوانتيه‭ ‬باكيروس،‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬حرج‭ ‬روما‭ ‬الملكي،‭ ‬الذي‭ ‬يذكر‭ ‬أخوه‭ ‬فرنسيسكو،‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أكيدا‭ ‬من‭ ‬ممتلكات‭ ‬ملوك‭ ‬غرناطة،‭ ‬وصار‭ ‬بالتالي‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬ثروة‭ ‬تاج‭ ‬قشتالة‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬القرية،‭ ‬فتح‭ ‬فيديريكو‭ ‬عينيه،‭ ‬ليتواصل‭ ‬لاشعوريا‭ ‬مع‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سواقي‭ ‬الري‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بالبيت‭ ‬الأندلسي‭ ‬الطراز،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬البرج‭ ‬المسلم‭ ‬القريب،‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬برج‭ ‬روما،‭ ‬وحيث‭ ‬كان‭ ‬يلعب‭ ‬مع‭ ‬أقرانه‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأراضي‭ ‬الشاسعة،‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالحكم‭ ‬الإسلامي‭ ‬سبعة‭ ‬قرون،‭ ‬كان‭ ‬الأب‭ ‬يملك‭ ‬ثلاث‭ ‬مزارع‭ ‬كبيرة،‭ ‬يذكر‭ ‬اسم‭ ‬اثنين‭ ‬منها‭ ‬بوضوح‭ ‬بالغرناطيين‭ ‬المسلمين‭: ‬الصخيرة‭ ‬والديموز‭ (‬الديموس‭). ‬هدمت‭ ‬قرية‭ ‬الصخيرة‭ ‬كليا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1431‭ ‬عمدا،‭ ‬عندما‭ ‬غزا‭ ‬ألفارو‭ ‬دي‭ ‬لونا‭ ‬الغوطة،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬لها‭ ‬غير‭ ‬اسمها‭ ‬العربي،‭ ‬أما‭ ‬مزرعة‭ ‬الديموز،‭ ‬فكانت‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬هويتها‭ ‬اسما‭ ‬ووثائق،‭ ‬كان‭ ‬أقدمها‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬فرنسيسكو‭ ‬لوركا،‭ ‬مكتوبا‭ ‬بأحرف‭ ‬عربية‭ ‬كان‭ ‬يتأملها‭ ‬وفيديريكو‭ ‬أحيانا‭.‬

طفل‭ ‬واسع‭ ‬الخيال‭ ‬ومرهف‭ ‬الإحساس،‭ ‬اختزن‭ ‬لوركا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬صورا‭ ‬تجسد‭ ‬واقع‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬أرضه،‭ ‬وانبثقت‭ ‬من‭ ‬أعماقه‭ ‬أبيات‭ ‬مؤثرة،‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬توحده‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬العريق،‭ ‬أبيات‭ ‬موحية‭ ‬بشكل‭ ‬آسر،‭ ‬تولّد‭ ‬قراءتها‭ ‬في‭ ‬الأعماق‭ ‬مشاعر‭ ‬مؤثرة‭ ‬وحنينًا‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس‭.‬

كان‭ ‬شعور‭ ‬لوركا‭ ‬بالحضور‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬الغوطة‭ ‬قويا‭ ‬وعميقا،‭ ‬وتعرف‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬فلاحيها‭ ‬إلى‭ ‬قلق‭ ‬العربي‭ ‬الإسباني،‭ ‬وهو‭ ‬يراهم‭ ‬أشبه‭ ‬بجذوع‭ ‬الحور‭ ‬العتيقة،‭ ‬عائدين‭ ‬مساء‭ ‬من‭ ‬الحقل‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم‭ ‬المظلمة‭ ‬القليلة‭ ‬الأثاث‭:‬

 

عرب‭ ‬مقنعون‭ ‬ينتظرون‭ ‬بإصرار

العودة‭ ‬البطولية‭ ‬لابن‭ ‬أمية‭ ‬المقاوم

الذي‭ ‬سيأتي‭ ‬عبر‭ ‬الجبل‭ ‬ملوحا‭ ‬الراية

بيديه‭ ‬الناريتين

في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الغوطة‭ ‬كان‭ ‬لوركا‭ ‬يشعر‭ ‬بوجود‭ ‬العرق‭ ‬الموري‭ ‬ويسمع‭ ‬تنهدات‭ ‬قشتالة‭..‬

 

إزاء‭ ‬الجبل

الذي‭ ‬يصون‭ ‬في‭ ‬قممه

حياة‭ ‬ودما‭ ‬مسلما

وهناك‭ ‬كانت

النظرات‭ ‬العميقة

للملك‭ ‬الموري

تجول‭ ‬ليلا

فيما‭ ‬وراء‭ ‬الغوطة

والعرق‭ ‬الموري‭ ‬يعيش

في‭ ‬غرناطة‭ ‬وغوطتها

وفي‭ ‬كل‭ ‬إسبانيا،‭ ‬ذكراه

المستحبة،‭ ‬تبقى،

تـــنــــبض‭ ‬بــــها‭ ‬الروح‭ ‬النبيلة

للهضبة‭ ‬الحمراء

 

والهضبة‭ ‬الحمراء،‭ ‬هي‭ ‬الربوة‭ ‬الغرناطية‭ ‬التي‭ ‬بنى‭ ‬ملوك‭ ‬بني‭ ‬نصر‭ ‬في‭ ‬نطاقها،‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬العجيب،‭ ‬يكتب‭ ‬غانيفيت‭ ‬أنه‭ ‬قصر‭ ‬شيده‭ ‬الإيمان،‭ ‬وجعلوه‭ ‬رمزا‭ ‬مدهشا‭ ‬لعظمة‭ ‬حضارتهم‭ ‬الإسلامية‭.‬

 

شاعر‭ ‬في‭ ‬غرناطة

في‭ ‬عام‭ ‬1909‭ ‬تنتقل‭ ‬عائلة‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭ ‬إلى‭ ‬غرناطة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬آنذاك،‭ ‬ذكرى‭ ‬باهتة‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر،‭ ‬أي‭ ‬أجمل‭ ‬مدن‭ ‬الدنيا،‭ ‬المتحولة‭ ‬إلى‭ ‬عاصمة‭ ‬صغيرة‭ ‬لمقاطعة،‭ ‬تعرض‭ ‬بانوراما‭ ‬واقعها،‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬لجزأين‭ ‬مختلفين‭ ‬تماما،‭ ‬لأن‭ ‬وجودهما‭ ‬هو‭ ‬ثمرة‭ ‬ثقافتين‭ ‬مختلفتين‭ ‬ونقيضتين،‭ ‬أولاهما‭ ‬إسلامية‭ ‬عربية‭ ‬عريقة،‭ ‬وثانيتهما‭ ‬مسيحية‭ ‬حالية‭.‬

انحاز‭ ‬لوركا‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬ونثره،‭ ‬إلى‭ ‬أولى‭ ‬الثقافتين،‭ ‬وذلك‭ ‬بشكل‭ ‬صريح،‭ ‬وربما‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانحياز،‭ ‬كان‭ ‬سببا‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬اغتياله‭ ‬المجرم‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الفاشية،‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬عام‭ ‬1936‭ ‬في‭ ‬يوليو‭. ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬كان‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافتين‭ ‬يقسم‭ ‬الغرناطيين‭ ‬إلى‭ ‬فريقين،‭ ‬وكما‭ ‬يشير‭ ‬الباحث‭ ‬الإيرلندي‭ ‬إيان‭ ‬جبسون‭ ‬في‭ ‬غرناطة‭ ‬لوركا،‭ ‬كانت‭ ‬التخطيطات‭ ‬الأولية‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬المدينة‭ ‬القديم،‭ ‬لاتزال‭ - ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬5‭ ‬قرون‭ - ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬مشهدها‭ ‬الواحد،‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬كما‭ ‬يوم‭ ‬ودّعه‭ ‬ملوكه‭ ‬النصريون،‭ ‬يحضن‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬الربوة‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬العجيب،‭ ‬يواجهه‭ ‬البيازين‭ ‬المسلم‭ ‬العتيق‭ ‬المليء‭ ‬بذكريات‭ ‬عربية،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جهاته،‭ ‬ويحضن‭ ‬في‭ ‬السفح،‭ ‬الدروب‭ ‬العربية‭ ‬الصغيرة‭ ‬والضيقة،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التدمير‭ ‬البورجوازي‭ ‬العشوائي‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬إليها‭.‬

عاشت‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الموريسكي،‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬المرء،‭ ‬وكيفما‭ ‬تجوّل‭ ‬فيه،‭ ‬بغياب‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عربي،‭ ‬فغرناطة‭ ‬ظلت‭ ‬مدينة‭ ‬غائبة‭ ‬الروح،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طرد‭ ‬منها‭ ‬الشعب‭ ‬العربي،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬الغزاة‭ ‬أبدا‭ ‬أن‭ ‬يحلّوا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬المنتزعة‭ ‬من‭ ‬أسيادها،‭ ‬روح‭ ‬وعظمة‭ ‬الغائبين،‭ ‬وكما‭ ‬يذكر‭ ‬مورا‭ ‬غوارنيدو‭ ‬صديق‭ ‬لوركا‭: ‬مثل‭ ‬غوارنيدو،‭ ‬كان‭ ‬فيديريكو‭ ‬يشعر‭ ‬بأن‭ ‬في‭ ‬غرناطة‭ ‬‮«‬فراغا‭ ‬لشيء‭ ‬ما‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‮»‬‭.‬

كان‭ ‬لوركا‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬غرناطة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬راحت،‭ ‬وضاعت‭ ‬مع‭ ‬رحيلها‭ ‬‮«‬حضارة‭ ‬رائعة،‭ ‬نسيجها‭ ‬شعر،‭ ‬علم،‭ ‬فلك،‭ ‬هندسة‭ ‬معمارية‭ ‬ورقة‭ ‬نادرتان‭ ‬في‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬وحلت‭ ‬محلها‭ ‬مدينة‭ ‬بائسة،‭ ‬وأرض‭ ‬تافهين،‭ ‬حيث‭ ‬تتكاثر‭ ‬أسوأ‭ ‬بورجوازية‭ ‬إسبانية،‭ ‬كما‭ ‬صرح‭ ‬فيديريكو‭ ‬إلى‭ ‬جريدة‭ ‬آل‭ ‬سول‭ ‬المدريدية،‭ ‬قبيل‭ ‬اغتياله‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬بيزنار،‭ ‬في‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬أغسطس،‭ ‬بعد‭ ‬حوالي‭ ‬شهر‭ ‬من‭ ‬بدء‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭.‬

ويؤرخ‭ ‬لوركا‭ ‬لتاريخ‭ ‬غرناطة‭ ‬الإسلامي،‭ ‬في‭ ‬مرثية‭ ‬متواضعة‭ ‬قصيدة‭ ‬مؤثرة‭ ‬جدا،‭ ‬يستوقفنا‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬أبيات‭ ‬الرثاء،‭ ‬معرفة‭ ‬فيديريكو‭ ‬العميقة‭ ‬بالحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتفاصيلها‭ ‬المهمة،‭ ‬ويستوقفنا‭ ‬فيها‭ ‬ذكره‭ ‬للسلالة‭ ‬الرائعة‭ ‬وكل‭ ‬مآثرها،‭ ‬وللعرب‭ ‬المسلمين،‭ ‬العشق‭ ‬الكبير،‭ ‬وإحساسه‭ ‬العميق‭ ‬بحزن‭ ‬القصر‭ ‬العجيب،‭ ‬يقضي‭ ‬عليه‭ ‬الزمن‭.‬

في‭ ‬غرناطة،‭ ‬يتطلع‭ ‬فيديريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭ ‬بحزن‭ ‬كبير‭ ‬وبتأثر‭ ‬إلى‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬المدهش،‭ ‬رمز‭ ‬تلك‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الرائعة،‭ ‬المليء‭ ‬بالغياب،‭ ‬يتألم‭ ‬وحيدا‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬الربوة،‭ ‬مليئا‭ ‬بالحنين‭ ‬لملوكه‭ ‬الذين‭ ‬راحوا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أبدعوه،‭ ‬ويقاوم‭ ‬ولو‭ ‬مخدرا‭ ‬اجتياح‭ ‬الظلام‭ ‬الحالك‭ ‬لأسواره‭.‬

في‭ ‬غرناطة‭ ‬يحاور‭ ‬لوركا‭ ‬مدينة‭ ‬الحلم‭ ‬والبدر،‭ ‬ويسألها‭ ‬أن‭ ‬تخبئ‭ ‬في‭ ‬رحمها‭ ‬ذكرى‭ ‬الغائبين،‭ ‬وتحمي‭ ‬رمز‭  ‬حضارتها‭ ‬النصرية،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يقضي‭ ‬عليه‭ ‬نهائيا‭ ‬الزمن‭.‬

اخْفِ‭ ‬أبراجك‭ ‬الصغيرة‭!‬

اخْفِ‭ ‬قصر‭ ‬حمرائك‭ ‬العريق،

الذي،‭ ‬كئيبا‭ ‬وتائها،‭ ‬فوق‭ ‬الهضبة‭ ‬يتألم

وإزاء‭ ‬هذه‭ ‬الكآبة‭ ‬التي‭ ‬تغرق‭ ‬بالصمت‭ ‬جلال‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء،‭ ‬يحيي‭ ‬فيديريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭ ‬صورة‭ ‬زاهية‭ ‬من‭ ‬حضارة‭ ‬غرناطة‭ ‬النصرية،‭ ‬ويذكرها‭ ‬بالماضي‭ ‬المجيد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭.‬

أنت‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬الغابر،‭ ‬فيض‭ ‬من‭ ‬أزهار

حشود‭ ‬محاربين،‭ ‬بيارقهم‭ ‬في‭ ‬الريح‭ ‬مرفرفة،

مآذن‭ ‬مرمرية‭/ ‬وعمامات‭ ‬من‭ ‬حرير،

أنت‭ ‬يا‭ ‬مدينة‭ ‬الحلم‭ ‬والبدر

التي‭ ‬حضنت‭ ‬مشاعر‭ ‬عظيمة‭ ‬لعشق

ويسألها‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬غابوا‭ ‬ولم‭ ‬يعودوا،‭ ‬راحوا‭ ‬تاركين‭ ‬ذكراهم‭ ‬وروحهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭:‬

 

ما‭ ‬الذي‭ ‬غاب‭ ‬عن‭ ‬أسوارك‭ ‬يا‭ ‬غرناطة؟

اختفى‭ ‬العطر‭ ‬القوي‭ ‬لسلالتك‭ ‬الرائعة،

التي،‭ ‬مخلفة‭ ‬لفيض‭ ‬من‭ ‬ضباب،‭ ‬رحلت‭ ‬عنك،

أو‭ ‬ربما‭ ‬أن‭ ‬حزنك،‭ ‬هو‭ ‬حزن‭ ‬خلقي،

ومازلت‭ ‬منذ‭ ‬وجدت،‭ ‬مشغولة‭ ‬البال،

مسربلة‭ ‬أبراجك،‭ ‬بالزمن‭ ‬الذي‭ ‬راح؟

 

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬القصيدة،‭ ‬يتوحد‭ ‬لوركا‭ ‬مع‭ ‬غرناطة،‭ ‬ويريد‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الظلام‭ ‬الحالك‭ ‬الذي‭ ‬يجتاح‭ ‬أسوارها،‭ ‬أن‭ ‬يحمي‭ ‬ذكرى‭ ‬العرق‭ ‬الشجاع‭ ‬الذي‭ ‬أبدعها،‭ ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬يحمي‭ ‬غناؤه‭ ‬سحرها‭ ‬المدفون‭ ‬الذي‭ ‬يدنسه‭ ‬الإنسان‭.‬

 

اليوم،‭ ‬يا‭ ‬مدينة‭ ‬كئيبة‭ ‬لسرو‭ ‬ومياه،

في‭ ‬لبلابك‭ ‬العتيق‭ ‬ينام‭ ‬صوتي

يجتاحون‭ ‬بالظلام‭ ‬الحالك‭ ‬أسوارك،

ينسون‭ ‬العرق‭ ‬الشجاع‭ ‬الذي‭ ‬أبدعك،

اليوم‭ ‬والإنسان‭ ‬يدنّس‭ ‬سحرك‭ ‬المدفون،

أريد‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬بين‭ ‬أطلالك‭ ‬غنائي

كعصفور‭ ‬جريح‭ ‬بسهم‭ ‬صياد‭ ‬نجمي

 

غرناطة‭ ‬المسلمة،‭ ‬غوطة‭ ‬ومدينة،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬فيديريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا،‭ ‬هي‭ ‬البداية‭ ‬وهي‭ ‬النهاية‭ ‬‭>‬