غرناطة المسلمة في شعر «لوركا» الأول
كان يروق لفيديريكو غارثيا لوركا أن يعلن أنه من مملكة غرناطة، ليذكر في بعض المرات أنه ولد في الغوطة.
والواقع أننا لا نستطيع أن نفصل بين المكانين اللذين ارتبطا بقوة بتاريخ الإسلام، وقد شعر فيديريكو أنه ينتمي إليهما، كما نستنتج لدى قراءة قصائد كثيرة من إنتاجه الشعري الأول: أن واحدا من المكانين هو امتداد للآخر جغرافيا، كما أنهما يشتركان في تاريخ واحد، إذ ارتفعت فوق مآذنهما وطوال 7 قرون رايات الإسلام. وكلا المكانين استبدل في ثلاثينيات القرن الخامس عشر وأواخره تاريخا بتاريخ، وعشاقا بأسياد، وظل يحمي بحنان وسرية، جذورا إسلامية عميقة الغور، ويحمي ذكرى «العرق الأسمر النبيل».
الذي أبدع ملامحه وراح
وكانت الغوطة كما غرناطة، في أواخر القرن التاسع عشر، عرضة لتشوه الملامح الحقيقية للأرض، ولتغييب الروح الإسلامية الباقية، وقد اتجهت إسبانيا في تلك السنوات المحورية إلى أوربا، واجتاحت حياتها رياح التغيير السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، فقوت الطبقات الحاكمة الغرناطية، الميل إلى كل ما هو دخيل على حساب التراث القومي الإسلامي.
حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان المشهد الطبيعي والتقليدي للغوطة واحدا، مرتبطا بذكرى المسلمين، الذين تركوا على مدى التاريخ أثرهم الأعمق في المكان: هناك وكما تشير كارمن أوكانيا، وكيفما تلفّت المرء، كانت عيناه تقعان على ما يذكّر بالمسلمين وبنمط حياتهم الريفية وتقدمهم الزراعي: الأشجار المثمرة، تنظيمات الري وقنوات سحب مياه الأنهار من منابعها لتخصيب الغابة من الجفاف.
وتغير مشهد الغوطة، حين استبدلت بالزراعة الإسلامية التقليدية، زراعة الشمندر السكري، التي درّت على أصحابها أرباحا طائلة، واجتذبت العديد من المستثمرين، يوظفون أموالهم في معامل السكر التي انتشرت في المكان، وفد إليه عمال أجانب كثيرون، ليستقروا في الجنة الأرضية التي أبدعها العرب المسلمون، طبعوها بطابعهم الخاص، وظلت حياتها تقليدية هادئة، يعيش فيها الإنسان بسلام متوحدا مع الأرض، وكما يشير إيان جبسون.
غيّر الواقع الجديد كثيرا من ملامح الغوطة، لكن هذا التغيير الاقتصادي - الاجتماعي، كان أقرب إلى التدمير، منه إلى التغيير في غرناطة المدينة، إذ إنه سلبها لأجل تراثها المعماري الإسلامي.لم يعد يعجب البورجوازية المغتنية، أن تعيش في مدينة متقاطعة الدروب، وارتأت أن تجعلها أوربية الطابع، فتم هدم نصف غرناطة الموريسكية تقريبا، لشق شارعين تمر فيهما العربات، وتكرس رسميا التحول إلى الأوربة: شارع الملكين الكاثوليكيين، وغران بيّا دي كولون (كريستوفر كولومبوس).
إزاء هذا التدمير المبرمج للتراث المعماري الإسلامي، المميز لشخصية المدينة التاريخية الخاصة، لروحها الأصيلة، انبرى أنخيل غانيفيت (1862 - 1898)، الشاعر، المفكر العالمي، والديبلوماسي، ومن فنلندا حيث كان يعمل للدفاع عن تاريخ المدينة الحضاري الإسلامي، ورسم في كتابه التحفة «غرناطة الجميلة»، الصورة التي يجب أن تكون عليها المدينة، لتبقى متوحدة مع سرمدية ماضيها، رغم تطلعها إلى أوربا.
أثّر غانيفيت بقوة في تفكير أجيال لاحقة من الشعراء والأدباء، كان أبرزهم وأعظمهم فيديريكو غارثيا لوركا.
متأثرا بغانيفيت، وبمعايشة الماضي الإسلامي الظاهر والسري في الغوطة وغرناطة، توحد لوركا مع التاريخ الإسلامي، مع أماكن لاتزال عربية الاسم، يذكّر وجودها عفويا، بالذين أبدعوا المكان وراحوا، تاركين روحهم في صمت الحجارة البليغ، يروي للدنيا حكاية «السلالة الرائعة» و«العرق الأسمر النبيل»، كان أبناؤه محاربين شجعانا أقوياء، عشاقا كبارا يرتدون الحرير، ومبدعي فن فريد في الدنيا.
لقد دمغت غرناطة، غوطة ومدينة، حياة الشاعر وكلية إنتاجه بوشمها الخاص، الفريد والسرمدي، وكان يعتبر أن تاريخها الإسلامي وروحها الإسلامية، هما العنصران الأولان اللذان نسجا كنه أرضه الحقيقي، الذي جسده بداية بصور كثيرة في إنتاجه الشعري الأول، والذي نتعرّف إليه بتأثر في قصائد أولى، منظومة ما بين عامي 1918 و1919، وأبدع وهو ينقل إلينا إحساسه بالحضور العربي الإسباني السرمدي في الغوطة، وفي توحده ورثائه لغرناطة المليئة بالغياب، بعد أن رحل عنها أبناؤها السود العيون، الذين أبدعوا حضارة إنسانية فريدة، كان يقضي عليها تدريجيا الزمن، وتجسدت في جلال قصر الحمراء العجيب، الذي كانت عيناه تتمليان به في كل صباح، وهو يتطلع إليه من نافذة غرفته في بيت طريق الدّارو، الذي سكنت فيه العائلة عندما انتقلت إلى غرناطة.
طفل في الغوطة
ولد فيديريكو غارثيا لوركا عام 1898، في قرية فوانتيه باكيروس، الواقعة في حرج روما الملكي، الذي يذكر أخوه فرنسيسكو، أنه كان أكيدا من ممتلكات ملوك غرناطة، وصار بالتالي جزءا من ثروة تاج قشتالة.
في تلك القرية، فتح فيديريكو عينيه، ليتواصل لاشعوريا مع التاريخ الإسلامي، من خلال سواقي الري العربية، التي تحيط بالبيت الأندلسي الطراز، ومن خلال البرج المسلم القريب، المعروف باسم برج روما، وحيث كان يلعب مع أقرانه في المكان، في تلك الأراضي الشاسعة، التي ارتبطت بالحكم الإسلامي سبعة قرون، كان الأب يملك ثلاث مزارع كبيرة، يذكر اسم اثنين منها بوضوح بالغرناطيين المسلمين: الصخيرة والديموز (الديموس). هدمت قرية الصخيرة كليا في عام 1431 عمدا، عندما غزا ألفارو دي لونا الغوطة، ولم يبق لها غير اسمها العربي، أما مزرعة الديموز، فكانت تعلن عن هويتها اسما ووثائق، كان أقدمها كما يذكر فرنسيسكو لوركا، مكتوبا بأحرف عربية كان يتأملها وفيديريكو أحيانا.
طفل واسع الخيال ومرهف الإحساس، اختزن لوركا في الذاكرة، صورا تجسد واقع التاريخ الإسلامي في أرضه، وانبثقت من أعماقه أبيات مؤثرة، تنم عن توحده مع هذا التاريخ العريق، أبيات موحية بشكل آسر، تولّد قراءتها في الأعماق مشاعر مؤثرة وحنينًا إلى الأندلس.
كان شعور لوركا بالحضور العربي الإسلامي في الغوطة قويا وعميقا، وتعرف في عيون فلاحيها إلى قلق العربي الإسباني، وهو يراهم أشبه بجذوع الحور العتيقة، عائدين مساء من الحقل إلى بيوتهم المظلمة القليلة الأثاث:
عرب مقنعون ينتظرون بإصرار
العودة البطولية لابن أمية المقاوم
الذي سيأتي عبر الجبل ملوحا الراية
بيديه الناريتين
في كل مكان في الغوطة كان لوركا يشعر بوجود العرق الموري ويسمع تنهدات قشتالة..
إزاء الجبل
الذي يصون في قممه
حياة ودما مسلما
وهناك كانت
النظرات العميقة
للملك الموري
تجول ليلا
فيما وراء الغوطة
والعرق الموري يعيش
في غرناطة وغوطتها
وفي كل إسبانيا، ذكراه
المستحبة، تبقى،
تـــنــــبض بــــها الروح النبيلة
للهضبة الحمراء
والهضبة الحمراء، هي الربوة الغرناطية التي بنى ملوك بني نصر في نطاقها، قصر الحمراء العجيب، يكتب غانيفيت أنه قصر شيده الإيمان، وجعلوه رمزا مدهشا لعظمة حضارتهم الإسلامية.
شاعر في غرناطة
في عام 1909 تنتقل عائلة غارثيا لوركا إلى غرناطة، التي كانت آنذاك، ذكرى باهتة لما كانت عليه في القرن الخامس عشر، أي أجمل مدن الدنيا، المتحولة إلى عاصمة صغيرة لمقاطعة، تعرض بانوراما واقعها، صورة واضحة لجزأين مختلفين تماما، لأن وجودهما هو ثمرة ثقافتين مختلفتين ونقيضتين، أولاهما إسلامية عربية عريقة، وثانيتهما مسيحية حالية.
انحاز لوركا في شعره ونثره، إلى أولى الثقافتين، وذلك بشكل صريح، وربما أن هذا الانحياز، كان سببا من الأسباب التي أدت إلى اغتياله المجرم على يد الفاشية، في بداية الحرب الأهلية، عام 1936 في يوليو. في ثلاثينيات القرن الماضي، كان تاريخ الثقافتين يقسم الغرناطيين إلى فريقين، وكما يشير الباحث الإيرلندي إيان جبسون في غرناطة لوركا، كانت التخطيطات الأولية في جزء المدينة القديم، لاتزال - رغم مرور 5 قرون - تحافظ على مشهدها الواحد، الذي ظل كما يوم ودّعه ملوكه النصريون، يحضن في أعلى الربوة قصر الحمراء العجيب، يواجهه البيازين المسلم العتيق المليء بذكريات عربية، في كل جهاته، ويحضن في السفح، الدروب العربية الصغيرة والضيقة، التي لم يكن التدمير البورجوازي العشوائي قد وصل إليها.
عاشت العائلة في الجزء الموريسكي، الذي يشعر المرء، وكيفما تجوّل فيه، بغياب ما هو عربي، فغرناطة ظلت مدينة غائبة الروح، بعد أن طرد منها الشعب العربي، ولم يستطع الغزاة أبدا أن يحلّوا في المدينة المنتزعة من أسيادها، روح وعظمة الغائبين، وكما يذكر مورا غوارنيدو صديق لوركا: مثل غوارنيدو، كان فيديريكو يشعر بأن في غرناطة «فراغا لشيء ما انتهى إلى الأبد».
كان لوركا يعتقد أن غرناطة الحقيقية هي التي راحت، وضاعت مع رحيلها «حضارة رائعة، نسيجها شعر، علم، فلك، هندسة معمارية ورقة نادرتان في العالم» وحلت محلها مدينة بائسة، وأرض تافهين، حيث تتكاثر أسوأ بورجوازية إسبانية، كما صرح فيديريكو إلى جريدة آل سول المدريدية، قبيل اغتياله في قرية بيزنار، في الثامن عشر من أغسطس، بعد حوالي شهر من بدء الحرب الأهلية.
ويؤرخ لوركا لتاريخ غرناطة الإسلامي، في مرثية متواضعة قصيدة مؤثرة جدا، يستوقفنا فيها مع أبيات الرثاء، معرفة فيديريكو العميقة بالحضارة الإسلامية وتفاصيلها المهمة، ويستوقفنا فيها ذكره للسلالة الرائعة وكل مآثرها، وللعرب المسلمين، العشق الكبير، وإحساسه العميق بحزن القصر العجيب، يقضي عليه الزمن.
في غرناطة، يتطلع فيديريكو غارثيا لوركا بحزن كبير وبتأثر إلى قصر الحمراء المدهش، رمز تلك الحضارة الإسلامية الرائعة، المليء بالغياب، يتألم وحيدا في قمة الربوة، مليئا بالحنين لملوكه الذين راحوا بعد أن أبدعوه، ويقاوم ولو مخدرا اجتياح الظلام الحالك لأسواره.
في غرناطة يحاور لوركا مدينة الحلم والبدر، ويسألها أن تخبئ في رحمها ذكرى الغائبين، وتحمي رمز حضارتها النصرية، حتى لا يقضي عليه نهائيا الزمن.
اخْفِ أبراجك الصغيرة!
اخْفِ قصر حمرائك العريق،
الذي، كئيبا وتائها، فوق الهضبة يتألم
وإزاء هذه الكآبة التي تغرق بالصمت جلال قصر الحمراء، يحيي فيديريكو غارثيا لوركا صورة زاهية من حضارة غرناطة النصرية، ويذكرها بالماضي المجيد الذي كان.
أنت التي كان لك في الزمان الغابر، فيض من أزهار
حشود محاربين، بيارقهم في الريح مرفرفة،
مآذن مرمرية/ وعمامات من حرير،
أنت يا مدينة الحلم والبدر
التي حضنت مشاعر عظيمة لعشق
ويسألها عن الذين غابوا ولم يعودوا، راحوا تاركين ذكراهم وروحهم في كل مكان:
ما الذي غاب عن أسوارك يا غرناطة؟
اختفى العطر القوي لسلالتك الرائعة،
التي، مخلفة لفيض من ضباب، رحلت عنك،
أو ربما أن حزنك، هو حزن خلقي،
ومازلت منذ وجدت، مشغولة البال،
مسربلة أبراجك، بالزمن الذي راح؟
وفي نهاية القصيدة، يتوحد لوركا مع غرناطة، ويريد في مواجهة الظلام الحالك الذي يجتاح أسوارها، أن يحمي ذكرى العرق الشجاع الذي أبدعها، ويريد أن يحمي غناؤه سحرها المدفون الذي يدنسه الإنسان.
اليوم، يا مدينة كئيبة لسرو ومياه،
في لبلابك العتيق ينام صوتي
يجتاحون بالظلام الحالك أسوارك،
ينسون العرق الشجاع الذي أبدعك،
اليوم والإنسان يدنّس سحرك المدفون،
أريد أن ينام بين أطلالك غنائي
كعصفور جريح بسهم صياد نجمي
غرناطة المسلمة، غوطة ومدينة، كانت في حياة فيديريكو غارثيا لوركا، هي البداية وهي النهاية >