ساطع الحصري... واللغة العـربـيـة

ساطع الحصري...  واللغة العـربـيـة

من أغرب الانطباعات عن مفكر القومية العربية ومنظِّرها الكبير ساطع الحصري، الشخصية الثقافية البارزة، والراحل عن 88 عاماً (1880 - 1968) بعد عطاء فكري واسع ونشاط تربوي وسياسي محلي وقومي، ما يطالعه القارئ في كتاب الإعلامي والمؤلف المصري المعروف وديع فلسطين عن شخصيات عصره.

أعجب ما يقوله الأستاذ فلسطين عن ساطع الحصري، أحد أكبر مؤسسي النظرية القومية وجامع العروبة، إن لغته العربية لم تكن صافية، بل إن كلامه بهذه اللغة لم يكن مفهوماً!
وتزداد أهمية هذه الملاحظة ودلالتها إذا أخذنا في الاعتبار أن نظرية الحصري القومية والوحدة العربية التي كرس حياته لها، تقوم بشكل خاص على ركني اللغة والتاريخ المشترك.
فقد دُعي وديع فلسطين إلى محاضرة للحصري في القاهرة، مع جمع كبير من المشتغلين بالقضايا العربية من ساسة وصحافيين، وقام رئيس جمعية «الوحدة العربية»، الأستاذ أسعد داغر، المستشار بالجامعة العربية، بتقديم المحاضر بوصفه «فيلسوف القومية العربية» ويتحدث  الأستاذ فلسطين عن المحاضرة فيقول: «كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها عن قُرب. ولم يكد الحصري يبدأ في الكلام بصوت خفيض - فلم تكن هناك مضخمات للصوت - حتى أخذ الحاضرون يتهامسون في ما بينهم، متسائلين: بأي لغة يتحدث هذا الرجل؟ فكلامه غير مفهوم، وهو مزيج من لكنات تركية وعراقية ويمنية ومغاربية ومقدونية ضاعت في أثنائها مادة المحاضرة. وإذا كان جانب من الحاضرين قد صبر على معاناة الاستماع، فإن الغالبية العظمى منهم أخذت تتسلل خارج القاعة حتى كادت تفرغ من الحاضرين!».
ويكمل الأستاذ فلسطين كلامه عن الحصري فيقول: «كانت هذه هي الصورة الأولى التي انطبعت في ذهني عن ساطع الحصري، وهي صورة تنطق بغربة المتحدث عن اللغة العربية، لعجزه عن التعبير الفصيح بأسلوب واضح مفهوم يوصّل به رسالته إلى جمهرة السامعين. وعجبتُ أن يكون هذا هو شأن «فيلسوف القومية العربية» الذي يدعو إلى وحدة شاملة جامعة مانعة تضم مفردات الأمة العربية في القارتين الآسيوية والإفريقية في كيان واحد».

لغة أعجمية
والتقى الأستاذ فلسطين ثانية المفكر الكبير في دعوة غداء في شقة الأمير مصطفى الشهابي، «رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق»، في القاهرة، «ولما بدأ يتحدث معي لم أفهم منه حرفاً، واستصوبت التحول إلى اللغة الإنجليزية، فجاوبني بها بكلام واضح، واستمر الحديث يدور بيننا بهذه اللغة الأعجمية طوال الجلسة ومن غير مشقة». (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره، جـ 1، دمشق 2003، ص262).
وكانت المرة الأخيرة التي التقى فيها فلسطين ساطع الحصري في صيف عام 1956 بجنيف، «حيث صادفته في الشارع مع ابنته، وسألني عن الفندق الذي أقيم فيه، وقال إنه سيزورني فوفى بوعده، وكان حديثنا يجري دائما باللغة الإنجليزية» (ص 264).
وللصحافي والكاتب الفلسطيني أكرم زعيتر رأي مناقض تماما في مدى إتقان الحصري للغة العربية فهو يقول: «وكان ساطع لا يعرف العربية، وإن توقد في صدره حبها، وغلت عروقه بدمها، فما أسرع ما استجاب لصارختها، ويمم دمشق في عهدها الفيصلي، وانكفأ يدرس العربية حتى أجادها كاتباً بليغاً، ومحاضراً مبيناً»! وكان الملك فيصل يعلم عن ساطع كثيراً وإن لم يكن يعرفه شخصياً، فولاّه وزارة المعارف فنهض بها. عرّب التعليم ووجهه وجهة تربوية حديثة، وعقد مؤتمرات للإصلاح». (العربي، عدد 127، يونيو 1969، ص 50).

حياة البدو الرّحل
والحقيقة، يقول وديع فلسطين شارحا حياة ساطع الحصري العجيبة: إن الرجل عاش حياة حافلة بالأعمال والمنجزات، سواء في تركيا أو في الأقاليم المقدونية أو في سورية أو في العراق أو في مصر. فحياته تكاد تشبه حياة البدو الرحل الذين لا يستقرون في مكان إلا لكي يشدوا الرحال إلى سواه. فهو من مواليد «لحج» بحضرموت اليمن لأبوين من حلب الشهباء، إذ كان أبوه محمد هلال الحصري قاضياً في الدولة العثمانية، التي كانت تنقله من مدينة إلى أخرى في أرجاء الدولة المترامية الأطراف. ولما وصل الصبي إلى سن المدرسة، أوفده أبوه إلى المدرسة الملكية الشاهانية في الأستانة - اسطنبول، وبقي هناك إلى أن تخرَّج عام 1900. وانتقل بعد ذلك إلى دول البلقان التابعة للدولة العثمانية، حيث عمل في التدريس ثماني سنوات، وألَّف كتباً عدة باللغة التركية. كان الحصري متفوقاً في العلوم الطبيعية محباً لها، وكان هذا التفوق «سر التزامه التفكير العلمي طول حياته»، كما يقول زعيتر. ويضيف أن الحصري بدأ حياته العملية مدرساً للعلوم الطبيعية في مدينة يونانية، وألف في أثناء ذلك في علم النبات كتاباً تقرر تدريسه في مدارس الدولة العثمانية. وفي عام 1908 عاد إلى الأستانة حيث تولى إدارة مدرسة المعلمين التي قام بتنظيمها على أسس جديدة، ورأس بعد ذلك دائرة المطبوعات التركية. وكان ساطع الحصري قد أبدى تعاطفاً مع حركة القومية العربية، وشارك في جمعياتها السرية، فأدى ذلك إلى وقوع خلاف بينه وبين المسؤولين الأتراك، فقرر مغادرة تركيا والقيام بأول رحلة إلى أوربا في عام 1910، وزار عدداً كبيراً من حواضرها. وكان لقاؤه بالأمير فيصل، أو الملك فيصل في ما بعد، نقطة تحول في حياته، «إذ قرّبه منه، ووثق به، وظل على اتصال به إلى وفاته. وفي عام 1919 توجه ساطع الحصري إلى دمشق، حيث أسندت إليه وظائف شتى في أجهزة التعليم الرسمية، وأدخل على نظم التعليم إصلاحات كثيرة، أهمها تعريبه «فصارت الدروس تُلقن باللغة العربية بدلاً من التركية» (فلسطين، ص 265).
وفي عام 1921 دعاه الملك فيصل الأول ملك العراق، مستشارا في شؤون المعارف، أي التعليم، وكان الحصري في مصر فحرص على دراسة نظم التعليم المصرية بعين فاحصة ستة أشهر، قبل ترك مصر إلى العراق. وهناك قام بالتدريس في دار المعلمين العالية، ثم ترأس كلية الحقوق، وتولى مديرية الآثار القديمة، وكانت له في جميع هذه المناصب آثار إصلاحية وتنظيمية واسعة. ومع ذلك، يقول فلسطين «فوجئ الحصري في عام 1941 بفصله من خدمة الحكومة العراقية، ثم تجريده من الجنسية العراقية وإبعاده من البلاد».
والواقع أن الحصري كان متحمساً للمدرسة القومية الألمانية، وبالتالي كان متعاطفاً مثل كثير من المثقفين والساسة العرب والمسلمين في هذه المرحلة مع الألمان، ومعادياً للإنجليز في العراق وللفرنسيين، ومعادياً في الحرب العالمية الثانية للحلفاء. وقد أدى به هذا إلى نفيه من العراق بعد فشل حركة «رشيد عالي الكيلاني الانقلابية ضد النظام العراقي والإنجليز، والذي هرب إلى ألمانيا النازية وبقي هناك إلى نهاية الحرب، ويقال إن تهمة الحصري كانت أنه قال عن الأمير عبدالإله «رصاصة واحدة كفيلة بتخليص العراق منه». (معجم الشرق الأوسط، سعد سعدي، بيروت 1998، ص 164).

العرب إلى ألمانيا الهتلرية
يقول الباحث العراقي مير بصري: «كان رشيد عالي من السياسيين الذين شجعوا عقداء الجيش على المغامرات السياسية، وعندما جاءوا به إلى سدة الحكم وأصبح رئيساً لحكومة الدفاع الوطني، صار ألعوبة بيد أولئك العُقداء وبيد المفتي الحاج محمد أمين الحسيني، لا يملك من أمره شيئا. وتتابعت الأحداث، فإذا بالعقداء قد اعتقلوا وأبعدوا ثم ارتقوا أعواد المشانق، أما هو والمفتي فأفلتا إلى ألمانيا الهتلرية. ولم يكادا يبلغان ملجأ الأمان في برلين حتى اشتدت المنافسة بينهما على الزعامة، وتبادل أعوانهما الدس والشتيمة». (أعلام السياسة في العراق الحديث، لندن، 1987، ص 151).
ويضيف مير بصري  في الكتاب نفسه: «حدثني عبدالرزاق الشيخلي عضو مجلس النواب، قال: كنا نحن الشباب مغرورين برشيد عالي، فالتففنا حوله وسرنا في ركابه حتى ظهر لنا بعد ذلك بوجهه الصحيح، إذ وجدناه رجلاً أنانياً طامعاً يستسيغ كل عمل في سبيل تحقيق مراميه الشخصية. وكان استيلاؤه على الأراضي الزراعية، وقبضه على تولية الأوقاف القادرية من السيد عاصم نقيب الأشراف، واشتراكه مع جورج عابديني اللبناني في محاولة السيطرة على التجارة العراقية مع اليابان في مقدمة أسباب حدوث انقلاب بكر صدقي». (ص 150).
كان ساطع الحصري مفكراً قومياً متحمساً، إلا أنه لم يحاول الاستفادة من مناصبه لمنافع شخصية. وقد بنى في العراق وغيره مؤسسات ثقافية بكل تفان وإخلاص. وعندما تولى إدارة الآثار العامة بذل مع كوركيس عواد مجهوداً كبيراً في بناء مكتبتها حتى أصبحت في ما بعد «أكبر وأنظم مكتبة في العراق»، كما يقول قاسم الرجب، صاحب «مكتبة المثنى» في بغداد، في مذكراته. (ص 95). وعلى الرغم من أن الحصري كان يشتري الكتب لإدارة حكومية، فإنه كما يضيف الرجب، كان «يفاصل عند شراء الكتب من أي كان... وعندما يُعرض عليه كتاب مثلاً في اللغة فإنه يكتب على المذكرة: يؤجل ثلاثة أشهر، إذ يقدم عليه كتابا في التاريخ مثلاً».
بين 1941 و 1944 استقر الحصري في لبنان، حيث كتب دراسة عن ابن خلدون، إذ كان معجباً بهذا المفكر، وقد سمى ابنه البكر «خلدون» فكنّي بأبي خلدون. وعمل سنة 1947 في سورية، فألغى نظام التعليم الفرنسي، كما سبق له أن ألغى التعليم الإنجليزي من العراق، منطلقا من فكرة أن النفوذ الثقافي مقدمة للنفوذ السياسي، كما ألغى تعليم اللغة الأجنبية من المدارس الابتدائية وتهميشها في المراحل التالية، وقام بتكثيف دروس اللغة العربية، وعمل على توثيق الصلات الثقافية، لتكون «ثقافة عربية واحدة تكون مدخلاً لوحدة عربية سياسية». (معجم الشرق الأوسط، 165).

اهتمامات موسوعية
كان الحصري موسوعي الاهتمامات متنوع الاطلاع. يقول فلسطين: «كانت لساطع الحصري اهتمامات غريبة بالنسبة لتخصصه في علم الاجتماع، إذ درس العلوم الطبيعية واشتغل بتحنيط الحيوان وتيبيس النبات، ودرس علم وظائف أعضاء الجسم ووظائف الجهاز العصبي. واهتم بعلم النفس، كما أنه أصدر عددا من المجلات التربوية أثناء عمله في وزارة المعارف المختلفة. وله محصول وافر من الدراسات والمقالات والكتب باللغتين العربية والتركية. ومن أهم كتبه «دراسات عن مقدمة ابن خلدون». ومجموعة كتب في سلسلة «آراء وأحاديث» تناولت التاريخ والاجتماع والعلم والأخلاق واللغة والأدب والقومية التربوية والوطنية، وكتب «يوم ميسلون» و«العروبة أولاً» و«صفحات من الماضي القريب» و«العروبة بين دعاتها ومعارضيها» و«محاضرات في نشوء الفكرة القومية» و«ثقافتنا في جامعة الدول العربية» و«مذكراتي في العراق» وهو في جزءين، وغيرها». (ص 267).
وتقول «موسوعة الشرق الأوسط» عن أعمال الحصري: «يغطي مسرد مؤلفات الحصري خمس صفحات، تشمل مجلات أصدرها وكتبا مدرسية لمختلف المراحل التعليمية. مؤلفات في القومية هي: «محاضرات في نشوء الفكرة القومية»، (1951) و«آراء وأحاديث في القومية العربية»، (1951) و«العروبة بين دعاتها ومعارضيها»، (1952) و«ما هي القومية» (1959) و«حول القومية العربية»، (1961)، و«أبحاث مختارة في القومية العربية»، (1964) إضافة إلى مؤلفات تاريخية ومذكرات شخصية تغطي الأحداث التاريخية التي عاصرها أو كان مساهماً فيها. أصدر ست حوليات سنوية تغطي الشؤون الثقافية للعالم العربي منذ عام 1945 حتى 1962». (ص 165).

جمعية إخوان الأدب
ولم تمنعه مشاغله الفكرية والسياسية الكثيرة في العراق عن نشر الثقافة في الأوساط الشعبية وتنمية حب القراءة والاطلاع. فقام في عام 1921 مع نخبة من مثقفي العراق مثل جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، وهما أبرز شعراء العراق آنذاك، وكذلك د. أمين معلوف والصحافي إبراهيم حلمي العمر، بتأسيس «جمعية إخوان الأدب»، وكان من أهدافها «نشر الأدب العصري والثقافة العربية بين المواطنين، فكانت مقراً للقاء المثقفين والأدباء، واستفاد الكثيرون من ندواتها. (الأحزاب السياسية في العراق، هادي حسن عليوي، دار الريس، 2001، ص 83). ويلخص أكرم زعيتر منجزات الحصري في العراق فيقول: إنه «أنقذ المعارف من النظم الموروثة عن العهد البريطاني، ووحد التربية والتعليم في مدارس الحكومة والمدارس الأجنبية والطائفية، ووجَّه التعليم اتجاها وطنيا، ورفع مستوى دار المعلمين العليا، ودرّس فيها علم النفس وأصول التدريس، وألقى محاضرات في علم الاجتماع وفلسفة العلوم، وأنشأ مجلة التربية والتعليم، وألَّف في أصول التدريس ومواضيع مدرسية أخرى حتى في القراءة الألفبائية واسمها «القراءة الخلدونية»، وأصلح التفتيش، ووضع نظام المدارس الأهلية والأجنبية، وأصلح كلية الحقوق ودرس هو فيها علم الإحصاء، ووضع قانون الآثار. وأسس ساطع متحفا للآثار العربية في بغداد، وآخر للأسلحة، وثالثا للأزياء ورابعا في سامراء، وخامسا في بابل، وقطع دابر سرقة الآثار العراقية».

الوحدة الثقافية أولاً
اهتم الحصري بالغ الاهتمام بدور الثقافة في توحيد العالم العربي، ومن أقواله المأثورة «اضمنوا لي وحدة ثقافية، وأنا أضمن لكم كل ما بقي من ضروب الوحدة». وقد هاجم الحصري المعاجم اللغوية العربية واعتبرها متخلفة وملتزمة بالمعاجم القديمة، لأنها ترتب الكلمات وفق جذورها الأصلية ولا تراعي الترتيب الهجائي بشكل كامل. ودخل عام 1938 في جدل مع د. طه حسين، الذي عارض الدعوة إلى توحيد مناهج التعليم في البلدان العربية، بل وعارض حتى الوحدة السياسية، سواء أكانت تشكل إمبراطورية جامعة أم على طراز اتحاد مشابه للاتحادين الأمريكي والسويسري. كما دخل في سجال مع إسماعيل قباني بعد نشر محاضرته عام 1958، والتي فند فيها آراء القائلين بوجوب توحيد نظم التعليم، إذ يقول: «إن ذلك ليس ضرورياً فضلاً عن أنه ذو محاذير عظيمة». (مقال: أبوخلدون والنضال من أجل الوحدة، «العربي» 229، ديسمبر 1977، ص 30 - 35، د. نبيل صبيح).
يخصص الباحث الكبير ألبرت حوراني العديد من الصفحات في كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة»، الذي يعد أهم الكتب في مجاله، أي دراسة هذا الفكر ما بين 1798 و1939، للحديث عن إسهام ساطع الحصري في بلورة النظرية القومية. يقول د.حوراني: إننا نجد في كتابات الحصري «نظرية نقية للقومية»، مُستمدة من الفكر الإنجليزي والفرنسي والألماني.
يتساءل الحصري: ما هي الأمة؟ المفكرون الإنجليز والفرنسيون الذين يخالفهم الحصري يقولون إنها أي جماعة تريد أن تكون أمة! أما الحصري فكان يرى أن الأمة ليست كما يحددها الفرنسي رينان بقوله: «الأمة هي الاشتراك في الأمجاد في الماضي وإرادة واحدة في الحاضر وإتيان الأعمال العظيمة معاً والعزم على الإتيان بالمزيد منها»، بل الأمة عند الحصري شيء موجود بالفعل. فالإنسان يكون عربياً أو غير عربي، شاء أم أبى. والأمة تقوم على أساس موضوعي هو قبل كل شيء اللغة، والأمة العربية هي مجموع من كانت لغتهم الأصلية اللغة العربية. ويلي اللغة في الأهمية التاريخ. فالتاريخ المشترك أمر مهم، لكنه ثانوي، إذ إن من شأنه أن يقوي الرابطة القومية، لكنه لا يمكنه أن يخلقها. أما الدين، فالحصري لا ينكر تأثيره، فهو يساعد على خلق نوع من الوحدة في مشاعر الأفراد. لكن الدين يخلق مشاعر عالمية أو مشاعر لا قومية، بمعنى متجاوزة للقومية. (انظر الحوراني، ص 373 - 374).
يقول الحوراني مضيفا: «قد يبدو غريباً أن يتبنى الحصري هذه النظرة، فيناقض بذلك اختياره الشخصي. فلغته الأصلية كانت اللغة التركية، وهو لم يصمّم على التضلع من اللغة العربية إلا بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، إذ كان عليه أن يقرر أن يكون إما عربياً أو تركياً».
ويتناول الأستاذ طلال جمعان الجويعد الجانب اللغوي في ثقافة الحصري، مستعينا بمراجع عربية عدة، منها «معجم أعلام المورد»، و«الموسوعة السياسية» للكيالي، فيقول عن الحصري: «وبرغم كونه عربي الأصل, فإنه لم يكن يتكلم العربية إلا بعد أن تجاوز العشرين من عمره, وعانى طوال حياته من عدم إجادته العربية كما ينبغي، فكان يستعين بمن يدقق في كتاباته تدقيقاً لغوياً». (محمد روحي الخالدي ونظرته للإصلاحات العثمانية، الكويت، 2012، ص 126).
إن المفكر ساطع الحصري كاتب وباحث له مكانته في الثقافة العربية الحديثة، وقد عاش في حياته مراحل صعبة وواجه تحولات مؤلمة عقَّدت بعض جوانب تجربته، ولا شك 
في  أن الحصري بحاجة إلى المزيد من الدراسات شخصاً وفكراً، لا مجال لها في هذا المقال .