د.عبدالله يوسف الغنيم و«كتاب اللؤلؤ»
د.عبدالله يوسف الغنيم، رجل الفكر المستنير والثقافة العميقة، وأستاذ جامعي قام بالتدريس أكثر من عشرين عامًا، وشغل مناصب عدة في دولة الكويت، منها وزير التربية وزير التعليم العالي خلال سنوات مختلفة، ورئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية، وعميد كلية الآداب بجامعة الكويت، كما أنه عضو في عدد من المراكز والمجالس العلمية، وصدرت له مجموعة
كثيرة من الكتب العلمية والتراثية، من أهمها هذا الكتاب الذي نتناوله بالقراءة والتحليل.
بحث مبتكر
«كتاب اللؤلؤ» بحث علمي مبتكر، ومرجع نادر في المكتبة العربية، ولذلك أعتقد أن د.الغنيم بذل جهدًا كبيرًا في تأليف هذا الكتاب الذي يعتبر من الكتب والمؤلفات المبتكرة، وبحثًا فريدًا لم يتطرق إلى موضوعه أحد من المؤلفين أو الباحثين.
وتكمن صعوبة الكتابة في أن المراجع في هذا الموضوع تكاد تكون نادرة إلا شذرات من بعض المقالات في المجلات القديمة عن مغاصات اللؤلؤ واليابان واللؤلؤ الصناعي، لكن ليس هناك مرجع شامل يمكن الاعتماد عليه في هذا البحث.
أما المراجع الأجنبية فقد تتوافر منها بعض الكتب، وإن كانت تتناول الموضوع بصورة عامة عن هواة البحث عن اللؤلؤ، وكتب أخرى تتحدث عن اللؤلؤ في إيران، ومراجع أخرى تشرح صفات اللؤلؤ الطبيعي، ولكن لم تكن هناك كتب تتصل مباشرة بالبحث عن اللؤلؤ في منطقة الخليج، ومدى أهميته قبل اكتشاف النفط.
توثيق عصر
ولذلك اشتد إعجابي بمدى مثابرة د.الغنيم على المتابعة والبحث والقراءة والتحليل، وكذلك توظيفه للمنهجين العلمي والتاريخي في توثيق عصر اللؤلؤ، حتى أنه اطلع على مئات الوثائق والمراجع من المكتبات العربية ومكتبة جامعة كمبردج البريطانية، بالإضافة إلى ما لديه في مكتبة الأسرة من كتب ومخطوطات قديمة عن نواخذة اللؤلؤ والغواصين، ولاشك في أنه استمع وقرأ قصصًا كثيرة عن تلك الحياة التي كانت حافلة بالمخاطرة من أجل صيد لؤلؤة تحوِّل حياة الصيادين إلى رخاء بعد صبر وعذاب.
إن قصة اللؤلؤ في الخليج ليست مجرد سرد تاريخي أو تفسير علمي لصفات ومزايا اللؤلؤ الطبيعي أو الصناعي، ولكنها قصة أرض وكفاح أجداد من أجل البقاء والصراع مع البحر والحياة.
أفكار الكتاب
لم أكن أتصوّر أنه من الممكن أن يصدر كتاب شامل عن اللؤلؤ يبدأ فيه الغنيم بفصل خاص عن اللؤلؤ في الشعر العربي القديم، وقد استشهد بقصائد كثيرة من العصر الجاهلي وصدر الإسلام والعصر الأموي.
وفي الفصل الثاني يتحدث الكاتب عن اللؤلؤ في كتب الأحجار وكتب الجغرافيا العربية، وفي الفصل الثالث عن نشأة اللؤلؤ بين القدماء والمحدثين، ويشرح لنا في الفصل الرابع عن نظام الغوص وطرقه في البحث عن اللؤلؤ، وفي الفصل الخامس يكشف لنا عن مغاصات اللؤلؤ في الخليج العربي وخليج عمان والبحر الأحمر وجزيرة سرنديب.
ثم يخصص الفصل السادس لأسماء اللآلئ وأصنافها عند اللغويين، ثم يصف لنا المعايير العامة لتقييم اللآلئ وتسعيرها في الفصل السابع، وفي الفصل الثامن والأخير يتطرق المؤلف إلى اللؤلؤ الصناعي وتجربته باليابان وطرق التعرّف على اللؤلؤ المقلد.
أهمية الكتاب
تكمن أهمية هذا الكتاب كما جاء في مقدمة د.الغنيم في أنه يقدم تحليلاً شاملاً عن ظاهرة اللؤلؤ في المجتمعات الخليجية، حيث تفصل بين عصرين هما عصر اللؤلؤ بامتداده الزمني البعيد، وعصر البترول الذي يسود المنطقة.
ويرى المؤلف أن الثروة البترولية جاءت لتسبب الاضمحلال لثروة اللؤلؤ نتيجة اكتشاف طريقة استثارة حيوان اللؤلؤ وزراعته والتمكّن من الحصول على اللآلئ بكميات تجارية كبيرة وبمجهودات لا تقارن مع تلك المشاق التي كان يبذلها الآباء والأجداد في منطقة الخليج. ويحدّثنا الغنيم عن الأسباب التي دفعته إلى توثيق عصر اللؤلؤ فيقول: وقد حفزني لتوثيق عصر اللؤلؤ ما سمعته من قصص كثيرة رواها لي والدي، وهو ممن عاشوا الحقبة الأخيرة لذلك العصر، فقد امتهن حرفة الغوص مع كثير من أبناء جيله، وعرفت منه مقدار المعاناة والأخطار التي كانوا يواجهونها مدة أشهر الصيف الطويلة أملاً في الحصول - من بين آلاف المحار - على لؤلؤة يسد ثمنها بعض مطالب الحياة في بلدهم، وكان في إمكانهم أن يتركوا هذه الحرفة المتعبة ويلجأوا إلى بعض البلاد المجاورة، حيث الأنهار والمزارع التي لا يتطلب العيش في رحابها مثل تلك المعاناة، إلا أن حب الوطن جعلهم يحرصون على هذه الأرض الطيبة ويتشبثون بها ويقبلون على كل صعب في سبيل البقاء على ثراها.
شعراء اللؤلؤ
في البداية يقدم د.الغنيم فصلاً عن اللؤلؤ في الشعر من خلال سرد درامي شائق حين يمر الشاعر الأعشى الكبير ميمون بن قيس بالبحرين وشاهد الغاصة وما يلقونه من أهوال في سبيل اللؤلؤ، ويتأثر حتى يصف حبيبته بالدرة الزهراء التي كابد الغواص مشقة كبيرة للحصول عليها منذ شبابه، حتى أصبح شيخًا هرمًا ومازال لديه الأمل في الحصول على الدرة.
كأنها دُرةً زَهْراءُ أَخْرجها
غَوَّاصُ دَارين يَخْشَى دُونها الغَرقَا
قد رَامها حججًا مُذْ طرَّ شاربه
حتى تسعسع يرجوها وقد حفقا
أما الشاعر بشار بن برد فيصف بشرة المحبوبة فيقول:
كأنما صُوّرت من ماء لؤلؤة
فكلُ أكنافها وجهٌ بمرصادِ
ويقول عنترة بن شداد:
بَسمتْ فلاح ضياء لؤلؤِ فكها
فيه لداء العاشقين سفاء
ويقول البحتري:
فمن لؤلؤ تبديه عند ابتسامها
ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
وفي الفصل الثاني بحث شامل عن الكتب التي ذكر فيها اللؤلؤ، حيث اهتم العلماء العرب بالكتابة عن موضوع اللؤلؤ في الكتب التي تتحدث عن علم المعادن والأحجار البرية والبحرية، منها كتاب «الجواهر وصفاتها» من تأليف يحيى بن ماسويه. وكتب الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي كتاب «أنواع الجواهر الثمينة» وكتب البيروني كتاب «الجماهر في معرفة الجوهر»، وذكر فيه أسماء اللآلئ وصفاتها عند اللغويين والأشعار المتعلقة بها. ومن علماء القرن السابع الهجري أبوالعباس التيفاشي، حيث ذكر اللؤلؤ وسمّاه الجواهر في كتابه «أزهار الأفكار في جواهر الأحجار».
وأشار الغنيم إلى الجغرافيين العرب الذين كتبوا عن اللؤلؤ، ومنهم أبوالحسن المسعودي في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» الذي وصف وقت الغوص عن اللؤلؤ في بحر العرب. وهناك أيضًا أبوعبيد البكري في كتابه الشهير «المسالك والممالك»، حيث وصف الغوص في الخليج والجزيرة العربية.
ويخصص الغنيم الفصل الثالث ليحدّثنا عن نشأة اللؤلؤ بين القدماء والمحدثين، فقد اهتم قدماء اليونان والمصريين والهنود والفرس باللآلئ وتقديرهم لها، باعتبارها من مظاهر الثروة والجاه، ونرى أرسطو يصف سبعمائة نوع من الأحجار في كتاب «الأحجار».
وفي الفصل الرابع عن نظام الغوص وطرقه وكيف وصف العلماء مهنة الغوص وطرق تعلّمها، ويقول البيروني: إن من أراد تعلم مهنة الغوص يقوم بحشو أذنيه على غاية الإحكام حتى تتعفن وتتدود وينفتح له إلى الحلق طريق يتنفس منه تنفسًا ضعيفًا داخل الماء.
وقد أضاف الكاتب في هذا الفصل بعض الصور التراثية عن الغوص وأنواع الأسماك التي تعيش في بحار الخليج، وكذلك صور توضح بعض الأدوات التي كانت تستخدم في الغوص مثل الفطام والمفلقة والخيط والحجر، وشرح شامل لأهمية تلك الأدوات وطرق استخدامها في الغوص.
وأشار الغنيم إلى أهم مغاصات اللؤلؤ، وذلك في الفصل الخامس، وذكر اسم تلك المغاصات في الخليج العربي، وقدم وصفًا دقيقًا للمكان، كما أورد ذكر هذه المناطق في كتب العلماء القدامى مثل الإدريسي وابن ماجد وابن ماسويه وابن الأثير، وكذلك تكلم عن مغاصات الخليج العربي مجموعة من الكتّاب المعاصرين أقدمهم «لوريمر» في كتابه «دليل الخليج» الذي وضعه بتكليف من حكومة الهند.
ويحتوي الفصل السادس عن أسماء اللآلئ وأصنافها عند اللغويين والجوهريين، ومن هذه الأسماء الشهيرة «السختيتة» و«السفانة» و«الجمان» و«الحص» و«الخريدة» و«الخضل» و«الخوضة» و«المرجان» و«الفريدة» و«الدرة»، حيث يقول الشاعر أمية بن أبي عائذ:
ليلى وما ليلى ولم أر مثلها
بين السما والأرض ذات عقاص
بيضاء صافية المدامع هولةٌ
للناظرين كدُرّة الغواص..
أما عن المعايير العامة لتقييم اللآلئ - جاء ذكرها في الفصل السابع - فهي الإشراق والبريق والصنف واللون ودرجة الجودة والحجم ثم الوزن، وكتب الجاحظ عن قواعد متبعة في تسعير اللؤلؤ فيقول:
«وخير اللؤلؤ الصافي العماني المستوي الجسد، الشديد التدحرج والاستواء، وإذا كانت حبتان متساويتان في الشكل والصورة واللون والوزن كان أرفع لثمنهما، والعماني أنفس وأرفع من القلزمي، لأن العماني عذب نقي صاف والقلزمي فيه ملوحة مع عيب كثير.
وفي الفصل الثامن والأخير يشرح لنا د.الغنيم طرق زراعة اللؤلؤ وصناعته، حيث بدأت المحاولات الأولى في الصين، ولكن العالم ميكيموتو استطاع إنتاج اللؤلؤ الزراعي في اليابان بحيث كان إنتاجه كامل الاستدارة يشابه اللؤلؤ الطبيعي.
هذا الكتاب «كتاب اللؤلؤ» جدير بالقراءة أكثر من مرة، ويعتبر دراسة علمية وبحثًا محكمًا موثقًا بالصور والأحداث والوقائع، ما يجعل الكتاب سباقًا في هذا المجال لم تتطرق إلى أفكاره كتب أخرى من قبل. تحية تقدير للكاتب الكبير والمفكر د.عبدالله يوسف الغنيم .