السومريون... ملحمة الخلود
على الرغم من تقدم علم الآثار والمعرفة التاريخية يظل الغموض محيطا بحضارات عالمية قدمت الكثير لتاريخ البشرية. وحديثنا هنا عن واحدة من تلك الحضارات القديمة التي أعيت العلماء بحثا وتنقيبا وتفكيرا على مدى سنين طوال امتدت قرونا. لم يبرز هذا الاهتمام كمحض صدفة، ولكنه كان نتيجة إشارات مبعثرة ومتفرقة تشير إلى وجود شعب عاش في فترة تاريخية سحيقة، واستطاع أن يصل إلى مفاتيح المعرفة التي فتحت له أبواب الحياة والخلود وشرعت للعالم نوافذ ساعدته على التقدم العلمي والتطور الفكري. إنها قصة حضارة تحكي معرفة شعب بعلومٍ لا يتسنى لمن عاش في تلك الفترة الوصول إليها، حتى إن بعض أوائل المستكشفين لهذه الحضارة ظنوا بأنّ هذا الشعب نزل من السماء!
اتفق الباحثون على أن حضارة عظيمة نشأت في بلاد الرافدين وأطلقوا عليها «الحضارة السومرية»، واختلفوا حول أصول الشعب المؤسس لهذه الحضارة. في عام 1869م عثر الباحث الفرنسي يوليوس أوبرت على ألواح طينية مكتوبة بخط مسماري في موقع أثري بمدينة نينوى العراقية، لم تكن الكتابة على تلك الألواح شبيهة بالكتابة العراقية القديمة، كالآشورية أو الكلدانية أو البابلية، وبعد البحث العميق والجهد الطويل توصل هذا العالم إلى أن تلك الألواح ترجع إلى حضارة عريقة أقدم من حضارة الفراعنة في مصر. ومع مزيد من البحث والتنقيب أشارت الأبحاث الأثرية إلى أن تلك الحضارة بدأت قبل 4500 قبل الميلاد. استمرت الحفريات لتسفر عن كنز أثري لشعب عنى بالفلك والرياضيات والطب والأدب وتطوير الصناعة والزراعة.
توصل علماء الآثار إلى أنّ السومريين قد عرفوا أنّ الشمس نجم وهي مركز مجموعتها من الكواكب. ومن النقوش المكتشفة تبين لهؤلاء الباحثين تطور الزراعة والصناعة لدى هذا الشعب الذي استخدم المحراث وآلات زراعية غير معروفة في ذاك الزمان للري والغرس والحصاد. وقد اخترع هذا الشعب «العجلة» أو «الدولاب»، فكان هذا الاختراع فتحا لتطور البشرية والتقدم الإنساني في شتى الميادين. أما في الرياضيات والتقويم فقد اعتمدوا على نظام يقوم على العدد (60) ومضاعفاته؛ فهم أول من قال إنّ محيط الدائرة 360 ْ، والسنة 360 يوما والدقيقة 60 ثانية والساعة 60 دقيقة. لقد تطورت حياة السومريين فعاشوا في رخاء وترف، فبدأ الشعر والغناء وباقي فنون الأدب تتطور لديهم، فأنتجوا أول ملحمة أدبية مكتوبة في التاريخ، إنها ملحمة جلجامش، ملحمة الخلود.
ملحمة جلجامش
تبدأ الملحمة بالحديث عن الملك جلجامش، الذي كانت والدته إلهة خالدة أحبت والده البشري الفاني، فاقترنت به وأنجبت جلجامش. وصار جلجامش نصف إله، فكره الآلهة وكره البشر، وعاث في الأرض فسادا. ابتهل الشعب للآلهة بأن تجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش، فاستجابت الآلهة بأن سلّطت عليه «أنكيدو». كان أنكيدو رجلا بسيطا يعيش على الفطرة، لا يعتدي على حيوان أو إنسانٍ أو زرع أو مال، ولكنه يأبى العدوان ويقاتل كل من يعتدي، فاشتكى منه الأغنياء، ورفعوا مظلمتهم إلى جلجامش. كانت خطة جلجامش تدنيس روح أنكيدو لتضعف نفسه، فأرسل «شمخات» حارسة لمعبد الإلهة عشتار لغواية أنكيدو. حالف جلجامش، وبدأت شمخات بتعليم أنكيدو الحياة المدنية؛ ككيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ، فأحبها أنكيدو، ولكنه لم يرد جماعها إلا بالزواج. لم يدرِ أنكيدو بأنّ قانون المدينة يسمح لجلجامش بأن يدخل على العروس قبل أن يدخل بها زوجها. ولما عرف ذلك قرر أن يتحدى الملك في مصارعة عامة. تصارع الاثنان بقوة، وكانت الغلبة في النهاية لجلجامش، الذي أعجب بشهامة أنكيدو وقوته وكفاحه من أجل المبدأ السامي والمطلب العادل. يعرض جلجامش صداقته لأنكيدو، فيصبحان صديقين حميمين.
بعد أن تهذبت نفس جلجامش بمصادقته أنكيدو، أعجبت به الإلهة عشتار وحاولت التقرب منه بغرض الزواج، إلا أنّ رفض جلجامش لطلب عشتار جعلها تكيد له عند كبير الآلهة «آنو» وتطلب منه عقاب من أساء إليها. انتقم آنو من جلجامش بأن قَتَل صديقه الحميم أنكيدو، الأمر الذي غير حياة جلجامش وسخرها في البحث وطلب الخلود للانتقام من الآلهة.
البحث عن الخلود
بعد أن دفن جلجامش صديقه، انطلق في رحلته باحثا عن الحياة الأبدية والخلود. التقى جلجامش بأكبر المعمرين على الأرض، رجل اسمه «أوتنابشتم» عاش ألف سنة، وسرد على جلجامش قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الإله. عندما جاءت قصة الطوفان ظن كثير من الباحثين أنّ أوصاف أوتنابشتم في ملحمة جلجامش تتشابه وشخصية نوح (عليه السلام). لاحظ أوتنابشتم إصرار جلجامش على معرفة الحياة الأبدية والوصول إلى تحقيق هذا الأمل، أمل الخلود، فيدله على عشبة الخلود، ما إن تُؤكَل فلسوف يكون الخلود حقا لآكلها، وهذه العشبة لا توجد إلا في قاع بحر دلمون. وبعد كثير من الصعاب والأهوال، استطاع جلجامش الحصول على تلك العشبة. لقد عانى الكثير من التعب والارهاق، ولم يكن بيده إلا أن يرتاح قليلا على الساحل فيغفو. وعندما كان جلجامش نائما جاءته أفعى فأكلت تلك العشبة، فكانت لها الحياة الأبدية. اعتقدت الشعوب القديمة بخلود الأفعى لكونها تغير جلدها من حين إلى آخر، حتى العرب القدماء قد آمنوا بالاعتقاد نفسه، لذا أطلقوا على الأفعى اسم «حيَّة» فهي عندهم لا تموت! عاد جلجامش إلى مدينته خالي الوثاق، ولما وصل إلى دياره، تأمل سورها الرائع، فعلم أنّ الخلود بالأعمال لا بالأعوام.
وبمثل الغموض الذي أتي بالسومريين، اختفى شعب كامل، ولا ندري أين صاروا أو أين ذهبوا. اختلفت الآراء، ولا يزال الاختلاف قائما، ولكن الكل متفقٌ على أنّ حضارة هذا الشعب كانت بإنجازاته العلمية والأدبية والفنية. فقد كانت حضارة السومريين منهلا لحضارة المصريين واليونانيين والرومان، حتى أنهم استعاروا آلهة السومريين في تعددها واختصاصاتها، ونهجوا نهجها في سرد الملاحم والأساطير. واتخذوا من الأفعى رمزا للحياة، فلا تزال عشبة جلجامش سرًا لترياق الخلود، فنرى صورة الأفعى تلتف ماكنة على وعاء الدواء في كل صيدليات العالم كرمز للحياة والشفاء .