واحـــد اثنـــان

واحـــد اثنـــان

واحد،‭ ‬اثنان،‭ ‬ثلاثة،‭ ‬أربعة،‭ ‬خمسة،‭ ‬ستة‭.. ‬أصبحت‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬سأموت‭ ‬قريبا،‭ ‬وأنّ‭ ‬تلك‭ ‬النهاية‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬توجستها‭ ‬وحاولت‭ ‬تخيّل‭ ‬شكلها‭ ‬و‭ ‬توقيتها،‭ ‬أصبحت‭ ‬وشيكة‭... ‬وشيكة‭ ‬جدا‭: ‬لقد‭ ‬سحبني‭ ‬أبي‭ ‬من‭ ‬يدي‭ ‬في‭ ‬الحلم‭. ‬تعلّمنا‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬أنّ‭ ‬رؤية‭ ‬أحد‭ ‬المقربين‭ ‬من‭ ‬الموتى‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬وهو‭ ‬يطلب‭ ‬منا‭ ‬مرافقته‭ ‬يعد‭ ‬فألا‭ ‬سيئا‭... ‬و‭ ‬أنا‭ ‬رأيته‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬وكنت‭ ‬أرافقه‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬ما‭... ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬حتّى‭ ‬لأشعر‭ ‬أنني‭ ‬أرافقه،‭ ‬كنت‭ ‬أحسّ‭ ‬أنني‭ ‬أمشي‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح‭... ‬كمن‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬أتى‭ ‬منه‭. ‬لم‭ ‬أتردد‭ ‬لحظة‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬محتاجا‭ ‬ليطلب‭ ‬مني‭ ‬ذلك

كلّ‭ ‬شيء‭ ‬بدا‭ ‬طبيعيا‭ ‬ومعتادا‭... ‬كان‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬بيده‭ ‬الدافئة‭ ‬و‭ ‬الرطبة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تكفي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬لأشعر‭ ‬بالأمان‭.. ‬ويسحبني‭ ‬خلفه،‭ ‬أمّا‭ ‬الخاصية‭ ‬الثانية‭ ‬والأساسية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬فكانت‭ ‬أنّ‭ ‬أبي‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭ ‬وعلى‭ ‬غير‭ ‬عادته‭ ‬في‭ ‬أحلامي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬منه،‭ ‬كان‭ ‬شابا،‭ ‬أقصد‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬شكله‭ ‬لأيام‭ ‬طفولتي‭ ‬الأولى‭: ‬وسيما‭ ‬وأنيقا
ويبتسم‭ ‬ابتسامته‭ ‬السخيّة‭ ‬التي‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تفرحني‭ ‬بسرعة‭ ‬قياسية،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مريضا‭ ‬وشاحبا‭ ‬كعهدي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أيامه‭ ‬الأخيرة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬دار‭ ‬الفناء‭ ‬ويلتحق‭ ‬بدار‭ ‬البقاء‭. ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فكنت‭ ‬كما‭ ‬أنا‭ ‬الآن‭ ‬امرأة‭ ‬متشنجة‭ ‬ترتدي‭ ‬طقما‭ ‬أسود‭ ‬لا‭ ‬يساير‭ ‬الموضة‭ ‬وتكتفي‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬بالتلفزيون،‭ ‬نسي‭ ‬جيرانها‭ ‬بالتأكيد‭ ‬وجودها‭ ‬بالحيّ‭... ‬تحرق‭ ‬وقتها‭ ‬وأيّامها‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬العمل‭ ‬الإداري‭ ‬حتّى‭ ‬لا‭ ‬تتذكر‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تمارس‭ ‬الحب‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬عاما‭ ‬على‭ ‬الأقلّ‭.‬

الحكمة‭ ‬تقول‭ ‬أن‭ ‬أتّصل‭ ‬بأحد‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬تلك‭ ‬المعرفة‭ ‬المعمقة‭ ‬بفكّ‭ ‬شفرة‭ ‬الأحلام‭ ‬مثل‭ ‬فقيه‭ ‬أو‭ ‬عجوز‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬ببساطة‭ ‬أن‭ ‬أتّصل‭ ‬بأمّي‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬خيرة‭ ‬مفسّري‭ ‬أحلام‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ (‬لأنّها‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬استمعت‭ ‬لغيرهم‭ ‬يحكون‭ ‬أحلامهم‭ ‬بكلّ‭ ‬تلك‭ ‬الجدية‭ ‬التي‭ ‬سيحسدهم‭ ‬عليها‭ ‬فرويد‭). ‬

في‭ ‬الهاتف‭ ‬جاء‭ ‬صوت‭ ‬أمي‭ ‬ضعيفا‭ ‬كالعادة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتماسك‭ ‬ويصبح‭ ‬عاديا،‭ ‬أي‭ ‬يصبح‭ ‬صوتها‭ ‬الجهوري‭ ‬النافذ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرعبني‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭. ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬أتعوّد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الدخلة‮»‬‭ ‬الباردة‭ ‬لمكالماتنا‭ ‬القليلة‭ ‬والمتباعدة‭ ‬والتي‭ ‬تقول‭ ‬لي‭ ‬الكثير،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬عتابها‭ ‬على‭ ‬قلة‭ ‬اتصالي‭ ‬وانتهاء‭ ‬بمرضها‭ ‬الغامض‭ ‬الذي‭ ‬يأخذ‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬اسما‭ ‬جديدا‭ ‬وبحاجتها‭ ‬المستعجلة‭ ‬لزيارة‭ ‬الطبيب‭. ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أتمالك‭ ‬نفسي‭ ‬حتى‭ ‬تمرّ‭ ‬عاصفة‭ ‬العتاب‭ ‬بسلام،‭ ‬عتاب‭ ‬سيهجم‭ ‬عليّ‭ ‬مثل‭ ‬وابل‭ ‬من‭ ‬الرمال‭ ‬الصحراوية‭ ‬الحارقة‭ ‬التي‭ ‬ستعمي‭ ‬عيني‭... ‬

أخّذت‭ ‬أحكّ‭ ‬عيني‭ ‬وأنا‭ ‬أنتظر‭ ‬ملصقة‭ ‬السماعة‭ ‬اللعينة‭ ‬بوجهي،‭ ‬أبعدها‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر‭ ‬كلّما‭ ‬اشتدّ‭ ‬الوابل‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬مسبقا‭ ‬أنّه‭ ‬لن‭ ‬يتوقف‭ ‬حتّى‭ ‬تطمئن‭ ‬إلى‭ ‬غرقي‭ ‬الكامل‭ ‬في‭ ‬مشاعر‭ ‬الذنب‭. ‬عندما‭ ‬أشعر‭ ‬بالندم‭ ‬والعقوق‭ (‬تفهم‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استمرار‭ ‬صمتي‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬للمكالمة‭) ‬تحسّ‭ ‬أمي‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬النفسي،‭ ‬لأنّ‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أسمعه‭ ‬قد‭ ‬سمعته‭ ‬وتضمن‭ ‬ألا‭ ‬يتكرر‭ ‬ما‭ ‬وقع‭. ‬

في‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار‭ ‬تتوقف‭ ‬أمي‭ ‬عن‭ ‬العتاب‭ ‬والشكوى‭ ‬ويصلني‭ ‬صوتها‭ ‬أقلّ‭ ‬حدة‭:‬

‭- ‬ما‭ ‬علينا‭.. ‬كيف‭ ‬حالك‭ ‬بعدا؟؟

‮«‬حالي‭ ‬زفت‮»‬‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقول‭.‬

‭- ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬أمي‭ ‬مازلنا‭ ‬أحياء‭.‬

كانت‭ ‬مناسبة‭ ‬سرد‭ ‬الحلم‭ ‬العجيب‭ ‬مواتية‭ ‬الآن،‭ ‬العاصفة‭ ‬مرّت‭ ‬بسلام‭ ‬وهي‭ ‬الآن‭ ‬تلتقط‭ ‬أنفاسها،‭ ‬تتوقف‭ ‬قليلا‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لأدسّ‭ ‬حكايتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المكالمة‭ ‬المتوترة‭.‬

‭- ‬أمي‭ ‬لقد‭ ‬رأيت‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬الحلم‭. ‬

‭- ‬خير‭ ‬وسلام‭. ‬

‭- ‬كان‭ ‬يشدّ‭ ‬يدي‭ ‬وكنت‭ ‬أرافقه‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬سيذهب‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الأثناء‭ ‬كنت‭ ‬أفكر‭: ‬لماذا‭ ‬نتوقع‭ ‬جميعا‭ (‬أو‭ ‬غالبيتنا‭) ‬أنّ‭ ‬الموتى‭ ‬عندما‭ ‬يزوروننا‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬فهم‭ ‬يعودون‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الآخرة‮»‬‭.. ‬أقصد‭ ‬مقر‭ ‬إقامتهم‭ ‬النهائي؟؟‭ ‬أليس‭ ‬هناك‭ ‬موتى‭ ‬مشاغبون‭ ‬يحاولون‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬تأخير‭ ‬موعد‭ ‬عودتهم‭ ‬الحتمي‭ ‬بأن‭ ‬يزوروا‭ ‬الفضاءات‭ ‬العزيزة‭ ‬على‭ ‬قلوبهم؟‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬أفكر‭ ‬مثلا‭ ‬أنّه‭ (‬أقصد‭ ‬أبي‭) ‬سيتوجه‭ ‬إلى‭ ‬حانة‭ ‬‮«‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلوي‭ ‬عائدا؟؟‭ ‬أو‭ ‬يزور‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬الأحياء‭ ‬الذين‭ ‬مازالوا‭ ‬لم‭ ‬يلتحقوا‭ ‬به‭ ‬بعد؟؟‭ ‬أو‭ ‬يتوقف‭ ‬قليلا‭ ‬في‭ ‬كشك‭ ‬با‭ ‬العياشي‭ ‬ويتصفح‭ ‬بعض‭ ‬العناوين‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬يفهم‭ ‬منها‭ ‬شيئا‭ ‬لأن‭ ‬عجلة‭ ‬الأحداث‭ ‬قد‭ ‬تجاوزته‭ ‬بالتأكيد؟؟

ضخّت‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬الإيجابية‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحماس‭ ‬في‭ ‬عروقي‭ ‬حتّى‭ ‬أنني‭ ‬شعرت‭ ‬بالمنخولية‭ ‬اللعينة‭ ‬التي‭ ‬تجثم‭ ‬على‭ ‬صدري‭ ‬منذ‭ ‬ثلاث‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬أقلّ‭ ‬وزنا‭..‬

هنا‭ ‬سأسمع‭ ‬نفسي‭ ‬أقول‭ ‬لها‭ ‬بصوت‭ ‬صغير‭ ‬كأنه‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬حلقي‭:‬

‭- ‬أمي‭ .. ‬هل‭ ‬يزورك‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر؟

‭- ‬الله‭ ‬ينجيني‭ ‬يزور‭ ‬عدياني‭ ‬واللي‭ ‬ما‭ ‬يبغيوني‭.‬

نحن‭ ‬معا‭ ‬أرملتان‭.. ‬ابتسمت‭ ‬وأنا‭ ‬أفكر‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬طرفي‭ ‬هذه‭ ‬المكالمة‭ ‬العجيبة،‭ ‬توجد‭ ‬أرملتان‭ ‬كئيبتان،‭ ‬واحدة‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬وواحدة‭ ‬منذ‭ ‬ثلاث‭ ‬عشرة‭ ‬سنة،‭ ‬الفرق‭ ‬الأساسي‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬أنجبتني‭ ‬وكانت‭ ‬تنسى‭ ‬أن‭ ‬تقبلني‭ ‬وأنا‭ ‬أخرج‭ ‬للمدرسة‭ ‬وقد‭ ‬عقصت‭ ‬شعري‭ ‬الأجعد‭ ‬بالأستيك‭ ‬الأبيض‭ ‬المؤلم،‭ ‬أنني‭ ‬أستعذب‭ ‬زيارة‭ ‬موتاي‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬النوم‭ ‬أمّا‭ ‬هي‭ ‬فلا‭. ‬

هي‭ ‬لا‭ ‬تحبني‭ ‬وأنا‭ ‬أيضا‭.. ‬لا‭ ‬يهمني‭ ‬حبّها‭. ‬

فكرت‭ ‬أن‭ ‬‮«‬عديانها‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬أشارت‭ ‬إليهم‭ ‬هم‭ ‬بالتأكيد‭ ‬‮«‬أنا‮»‬،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أكترث‭.. ‬كانت‭ ‬جذوة‭ ‬الفرح‭ ‬قد‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬أوصالي‭ ‬الناشفة‭ ‬بسبب‭ ‬فكرة‭ ‬أنه‭ ‬لايزال‭ ‬هنا‭ ‬وأن‭ ‬جولته‭ ‬المؤقتة‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الفناء‭ ‬لاتزال‭ ‬مستمرة‭ ‬وبقليل‭ ‬من‭ ‬الحظّ‭ ‬قد‭ ‬أصادفه‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬العزيزة‭ ‬على‭ ‬قلبه‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الرباط‭.‬

على‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬بالضبط‭ ‬ستضيء‭ ‬فكرة‭ ‬سارّة‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬فجأة‭: ‬عليّ‭ ‬تعقّب‭ ‬آثاره‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمرّ‭ ‬بها،‭ ‬عليّ‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الرباط‭. ‬نظرت‭ ‬بسرعة‭ ‬إلى‭ ‬معصمي‭.. ‬الساعة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬التاسعة‭ ‬والنصف‭ ‬صباحا‭... ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أنّه‭ ‬لايزال‭ ‬هنا‭... ‬عليّ‭ ‬بالعجلة‭ ‬حتّى‭ ‬ألتقي‭ ‬به،‭ ‬إنه‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬العاصمة،‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬ربّما‭ ‬في‭ ‬السويقة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ديور‭ ‬الجامع‭ ‬أو‭ ‬بلاس‭ ‬بيتري،‭ ‬أو‭ ‬ربّما‭ ‬في‭ ‬الحانة‭ ‬العريقة‭ ‬إيّاها‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتركني‭ ‬ببابها‭ ‬وأنا‭ ‬طفلة‭.‬

‭- ‬أمّي‭ ‬اعذريني‭ ‬عليّ‭ ‬مغادرة‭ ‬المنزل،‭ ‬عندي‭ ‬مهمة‭ ‬كبيرة‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ .. ‬عليّ‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬أبي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتى‭..‬

كانت‭ ‬قد‭ ‬فتحت‭ ‬فمها‭ ‬وعينيها‭ ‬مندهشة‭ ‬خلف‭ ‬السماعة‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬المكالمة‭ (‬أنا‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭) ‬وضعت‭ ‬السماعة‭ ‬ونهضت‭..‬

انتعلت‭ ‬حذائي‭ ‬وحملت‭ ‬حقيبة‭ ‬يدي‭ ‬ومفاتيح‭ ‬السيارة‭ ‬وغادرت‭ ‬المنزل‭. ‬

المنزل‭ ‬سيظلّ‭ ‬فارغا‭ ‬لن‭ ‬يحصل‭ ‬فيه‭ ‬أيّ‭ ‬شيء،‭ ‬لن‭ ‬يتحرك‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬مكانه‭... ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬أحد‭ ‬غيري
ولن‭ ‬يفتقدني‭ ‬أو‭ ‬ينتظر‭ ‬عودتي‭ ‬أحد‭... ‬حقيقة‭ ‬وجودي‭ ‬الكبيرة‭ ‬هذه‭ ‬بدت‭ ‬لي‭ ‬صغيرة‭ ‬تماما‭ ‬وأنا‭ ‬أدير‭ ‬المفتاح‭ ‬في‭ ‬ثقب‭ ‬الباب‭.‬

مدينة‭ ‬الرباط‭ ‬الباردة‭ ‬المتمدنة‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تشبه‭ ‬مدنا‭ ‬من‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬العجوز‭ ‬تنهض‭ ‬وتستقبل‭ ‬يوما‭ ‬جديدا‭... ‬الشوارع‭ ‬والحافلات
والترامواي‭ ‬والناس‭ ‬الكثيرون‭ ‬الذين‭ ‬يرتدون‭ ‬الألبسة‭ ‬العصرية‭ ‬و‭ ‬يهرولون‭ ‬في‭ ‬اتجاهات‭ ‬متعددة‭ ‬على‭ ‬أقدامهم‭ ‬أحيانا‭ ‬وفي‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭.. ‬السيارات‭ ‬والمحال‭ ‬والأصوات‭ ‬والإدارات‭ ‬والحركات‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭... ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الدنيا‭ ‬الفانية،‭ ‬إنّها‭ ‬الحافلات‭ ‬الزرقاء‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬صوتا‭ ‬قويا‭ ‬لتتوقف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تلفظ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬الأحياء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭,‬‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭,‬‭ ‬أن‭ ‬صعودهم‭ ‬للحافلة‭ ‬المكتظة‭ ‬ونزولهم‭ ‬منها‭ ‬يعدّ‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاته‭ ‬إنجازا‭ ‬هائلا‭ ‬بالنظر‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بإمكانهم‭ ‬ممارسة‭ ‬ذلك‭: ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬ماتوا‭ ‬وغادروا‭ ‬بالفعل‭ ‬والذين‭ ‬يعلمون‭ ‬أن‭ ‬احتمال‭ ‬مغادرتهم‭ ‬وارد‭ ‬جدا‭ ‬مثلي‭.‬

ركنت‭ ‬سيارتي‭ ‬في‭ ‬المرآب‭... ‬أفعل‭ ‬ذلك‭ ‬أوتوماتيكيا‭ ‬مثل‭ ‬كلّ‭ ‬الباقين‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬الذين‭ ‬يملكون‭ ‬سيارات‭... ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بالسيارة،‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الموتى‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬فقط‭.‬

بماذا‭ ‬سأبدأ؟؟

أشرقت‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬فجأة‭ ‬فكرة‭ ‬جميلة‭ ‬تشبه‭ ‬فرحا‭ ‬مؤجلا‭. ‬سأبدأ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الباب‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬باب‭ ‬لعلو‭ ‬قبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬حي‭ ‬المحيط،‭ ‬هناك‭ ‬قابلته‭ ‬صدفة‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬بعيد‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬وكنت‭ ‬عائدة‭ ‬من‭ ‬سفر‭ ‬قصير‭ ‬عند‭ ‬أقاربنا‭. ‬صدفة‭ ‬غريبة‭ ‬أن‭ ‬تصادف‭ ‬أباك‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتوقع‭ ‬أن‭ ‬تجده‭ ‬فيه،‭ ‬فرحت‭ ‬جدّا‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬قبالته‭ ‬وكان‭ ‬قبالتي‭: ‬أبي‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أراه‭ ‬جيدا‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬بسبب‭ ‬وجود‭ ‬إخوتي‭ ‬وأمي‭ ‬ورائحة‭ ‬الطعام‭ ‬وصوت‭ ‬‮«‬الكوكوتمينوت‮»‬‭ ‬وضوضاء‭ ‬أطفال‭ ‬الحي‭ ‬والباعة‭ ‬المتجولين‭ ‬ونشرة‭ ‬الأخبار‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭.. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬يشوش‭ ‬عليّ‭ ‬رؤية‭ ‬أبي‭ ‬ويشوش‭ ‬عليه‭ ‬رؤيتي،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬الخاطفة‭ ‬أتذكر،‭ ‬كنت‭ ‬كأنني‭ ‬أراه‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭,‬‭ ‬أراه‭ ‬كاملا‭ ‬وقريبا‭,‬‭ ‬أبي‭ ‬لي‭ ‬أنا‭ ‬وحدي‭,‬‭ ‬للحظة‭ ‬شعرت‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتقاسمه‭ ‬مع‭ ‬أحد‭. ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ‭ ‬أنا‭ ‬ابنته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬بوضوح‭ ‬لأوّل‭ ‬مرّة‭. ‬الآخرون‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬هناك،‭ ‬كان‭ ‬يحتضنني‭ ‬بعينيه‭ ‬وكنت‭ ‬أحتضنه‭ ‬بعيني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتناول‭ ‬رقبتي‭ ‬بيده‭ ‬الكبيرة‭ ‬الدافئة‭ ‬ويرافقني‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬الحافلة‭ ‬رقم‭ ‬16‭.‬

ذلك‭ ‬الباب‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أيّ‭ ‬باب‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬العالم‭ ‬شهد‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتكرر‭ ‬أبدا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭.. ‬أقصد‭ ‬حدث‭ ‬مصادفتي‭ ‬لأبي‭ ‬هكذا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬موعد‭. ‬سأتّجه‭ ‬رأسا‭ ‬إلى‭ ‬هناك،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أنه‭ ‬مثلي‭ ‬يشعر‭ ‬بالحنين‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬البعيد،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬مثلي‭ ‬سيعود‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬ليبحث‭ ‬عني‭ ‬أنا‭ ‬طفلته‭ ‬الصغيرة‭ ‬ذات‭ ‬الاثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬التي‭ ‬سيشبع‭ ‬بالنظر‭ ‬إليها‭ ‬لأوّل‭ ‬مرة‭ ‬ولآخر‭ ‬مرّة‭.‬

الرجال‭ ‬كثيرون‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬ومن‭ ‬الأطفال‭ ‬والراجلون‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الراكبين‭. ‬الحركة‭ ‬تدبّ‭ ‬في‭ ‬أوصال‭ ‬المدينة‭. ‬أقف‭ ‬قليلا‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬يشهد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬وقع‭. ‬أريح‭ ‬ظهري‭ ‬على‭ ‬الحائط،‭ ‬أبي‭ ‬لن‭ ‬يتأخر‭ ‬سيأتي‭ ‬للتو‭ ‬وسيقف‭ ‬في‭ ‬مواجهتي‭ ‬وأقف‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭ ‬ونبتسم‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬بعضنا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أرتمي‭ ‬في‭ ‬حضنه‭ ‬ويسألني‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬المعتادة‭ ‬عن‭ ‬ماذا‭ ‬أفعل‭ ‬هنا،‭ ‬وكيف‭ ‬هي‭ ‬أحوالي،‭ ‬وماذا‭ ‬حصل‭ ‬معي‭ ‬من‭ ‬بعده؟‭ ‬كنت‭ ‬أحزن‭ ‬كثيرا‭ ‬و‭ ‬أنا‭ ‬أرى‭ ‬أنّ‭ ‬الناس‭ ‬مازالوا‭ ‬هنا‭ ‬جميعهم،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬رحل‭ ‬هو‭ ‬وللأبد‭. ‬مازال‭ ‬بإمكانهم‭ ‬أن‭ ‬يأكلوا‭ ‬‮«‬الصوصيت‮»‬‭ ‬عند‭ ‬الوزاني‭ ‬ويتلذذوا‭ ‬بذلك،‭ ‬مازال‭ ‬بإمكانهم‭ ‬أن‭ ‬يضحكوا‭ ‬ويشاهدوا‭ ‬مباريات‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬و‭ ‬أفلام‭ ‬الويسترن‭ ‬التي‭ ‬يحبّها،‭ ‬بل‭ ‬بإمكانهم‭ ‬أن‭ ‬يقرعوا‭ ‬كئوسا‭ ‬باردة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬هو‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬بإمكانه‭ ‬ذلك‭ ‬أبدا‭... ‬أبدا‭.‬

مسكين‭ ‬أبي‭... ‬لقد‭ ‬مات‭.‬

الموت‭.. ‬إنّه‭ ‬أقسى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬للآباء‭..‬

لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬ضجر‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬دار‭ ‬البقاء‭ ‬ليس‭ ‬لي‭ ‬أيّ‭ ‬فكرة‭ ‬عمّا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬هناك،‭ ‬وبماذا‭ ‬سيتسلّى‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬أمر‭ ‬آخر،‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أعلمه‭ ‬حتّى‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬رغبة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬المجيء‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬والتجول‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬الجريمة،‭ ‬أقصد‭ ‬مكان‭ ‬وجوده‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭. ‬

اليوم‭ ‬أربعاء‭. ‬فكرت‭ ‬عند‭ ‬استيقاظي‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ ‬أن‭ ‬اليوم‭ ‬أربعاء،‭ ‬‮«‬أربعاءات‮»‬‭ ‬كثيرة‭ ‬جدا‭ ‬حلّت‭ ‬ثمّ‭ ‬توارت،‭ ‬الكثير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأربعاءات‭.. ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬سعيدة‭ ‬لأنني‭ ‬أوجد‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الأربعاء‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬التقويم‭ ‬الزمني‭ ‬للعالم‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬الباقين‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬أمّا‭ ‬الذين‭ ‬ماتوا‭ ‬فليس‭ ‬لهم‭ ‬أيّ‭ ‬أربعاء‭ ‬ولا‭ ‬أيّ‭ ‬خميس‭ ‬ولا‭ ‬حتّى‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬يوم‭ ‬آخر‭ ‬ولا‭ ‬دقيقة‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬ثانية‭ ...‬

أنتظر‭...‬

أبي‭ ‬يتأخر،‭ ‬هل‭ ‬سيخلف‭ ‬ميعاده؟‭ .. ‬ميعاده‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يلزمه‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نتفق‭ ‬عليه‭ ‬حتىّ‭... ‬ربّما‭ ‬غادر‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحلم،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يشدّني‭ ‬من‭ ‬يدي‭ ‬وفهمت‭ ‬أنّه‭ ‬يريدني‭ ‬أن‭ ‬أرافقه‭. ‬لماذا‭ ‬إذن‭ ‬لاأزال‭ ‬هنا؟؟‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬أصحبه؟؟‭ ‬ماذا‭ ‬أفعل‭ ‬بين‭ ‬كلّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الغرباء‭ ‬الذين‭ ‬يمرّون‭ ‬بي‭ ‬ولا‭ ‬ينظرون‭ ‬إليّ‭ ‬أو‭ ‬ينظرون‭ ‬إليّ‭ ‬ولا‭ ‬يشاهدونني؟؟‭ ‬

أبي‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬لعلو‭.. ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬أن‭ ‬يتريث‭ ‬قليلا‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬حتّى‭ ‬نتقابل،‭ ‬بالفعل‭.‬

الساعة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬العاشرة‭ ‬والنصف‭.‬

برقت‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬فكرة‭.. ‬سأحاول‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬للحلم‭ ‬ربما‭ ‬أتلقف‭ ‬أبي‭ ‬لحظة‭ ‬قبل‭ ‬انسحابه،‭ ‬ربّما‭ ‬أنجح‭ ‬في‭ ‬استبقائه‭ ‬معي‭ ‬ولو‭ ‬للحظة‭ ‬حتى‭ ‬أخبره‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬حقّ‭ ‬عندما‭ ‬تبول‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬النافذة‭.‬

أعود‭ ‬أدراجي،‭ ‬شريط‭ ‬الأحداث‭ ‬يتراجع‭ ‬للخلف‭ ‬الآن‭: ‬

أغادر‭ ‬الساحة‭.. ‬باب‭ ‬لعلو‭ ‬يتوارى‭ ‬خلف‭ ‬ظهري‭ ‬ويصبح‭ ‬بعيدا،‭ ‬أمتطي‭ ‬سيارتي،‭ ‬العجلات‭ ‬تدور‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬مرّت‭ ‬بي‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬تعود‭ ‬القهقرى،‭ ‬مدينة‭ ‬الرباط‭ ‬تستقبل‭ ‬يوما‭ ‬جديدا،‭ ‬الشوارع‭ ‬والحافلات‭ ‬والترامواي‭ ‬والناس‭ ‬الكثيرون‭ ‬الذين‭ ‬يرتدون‭ ‬الألبسة‭ ‬العصرية‭ ‬ويهرولون‭ ‬في‭ ‬اتجاهات‭ ‬متعددة‭ ‬على‭ ‬أقدامهم‭ ‬أحيانا،‭ ‬وفي‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى،‭ ‬السيارات‭ ‬والمحال‭ ‬والأصوات‭ ‬والحركات‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭..‬‭,‬‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الدنيا‭... ‬الحافلات‭ ‬الزرقاء‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬صوتا‭ ‬قويا‭ ‬لتتوقف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تلفظ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬الأحياء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬أنّ‭ ‬صعودهم‭ ‬للحافلة‭ ‬المكتظة‭ ‬ونزولهم‭ ‬منها‭ ‬يعدّ‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬إنجازا‭ ‬هائلا‭ ‬بالنظر‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بإمكانهم‭ ‬ممارسة‭ ‬ذلك،‭ ‬الذين‭ ‬ماتوا‭ ‬وغادروا‭ ‬أو‭ ‬الذين‭ ‬سيغادرون‭ ‬قريبا‭. ‬أوقف‭ ‬السيارة،‭ ‬أفتح‭ ‬باب‭ ‬المنزل‭ ‬ألقي‭ ‬بحذائي‭ ‬فوق‭ ‬الأرض‭ ‬أنسحب‭ ‬من‭ ‬معطفي،‭ ‬أمّي‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬المكالمة‭ ‬تؤنّبني‭ ‬لأنني‭ ‬فتاة‭ ‬عاقّة،‭ ‬أضع‭ ‬السماعة،‭ ‬أعود‭ ‬للفراش‭... ‬

أغمض‭ ‬عيني،‭ ‬أشد‭ ‬الغطاء‭ ‬حول‭ ‬جسدي،‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬العودة‭ ‬للحلم‭... ‬لآخر‭ ‬حلم؟؟‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬استرجاع‭ ‬الأحلام‭ ‬التي‭ ‬تسحبت‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬عيوننا؟؟

أغمض‭ ‬عيني‭ ‬وأشد‭ ‬الغطاء‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬رأسي‭..‬‭,‬‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أنام،‭ ‬أتذكر‭ ‬فجأة‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬يحكّ‭ ‬رأسي‭ ‬الصغير‭ ‬بأطراف‭ ‬أصابعه‭ ‬فأشعر‭ ‬باسترخاء‭ ‬لذيذ،‭ ‬أتذكر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ينصحني‭ ‬أن‭ ‬أحسب‭ ‬من‭ ‬واحد‭ ‬إلى‭ ‬مائة‭..‬‭,‬

‭- ‬احسبي‭ ‬من‭ ‬واحد‭ ‬إلى‭ ‬مائة‭..‬‭,‬‭ ‬وسيجيء‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬صهوة‭ ‬الأرقام‭.‬

سوف‭ ‬أحسب‭ ‬من‭ ‬واحد‭ ‬إلى‭ ‬المائة،‭ ‬سأستعمل‭ ‬أصابع‭ ‬يدي‭ ‬العشرة‭ ‬وأصابع‭ ‬رجلي‭ ‬العشرة‭ ‬أيضا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ألمس‭ ‬أي‭ ‬أصبع،‭ ‬عقلي‭ ‬يذهب‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬الأصبع‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أضطر‭ ‬للمسه‭. ‬لعبة‭ ‬مسلية،‭ ‬هكذا‭ ‬علمني‭ ‬أبي‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬لأعثر‭ ‬على‭ ‬النوم‭ ‬وسط‭ ‬جلبة‭ ‬الأفكار‭ ‬والهواجس‭..‬‭,‬‭ ‬سوف‭ ‬أعثر‭ ‬على‭ ‬النوم‭ ‬وأعثر‭ ‬على‭ ‬أبي‭ ‬وسأرافقه‭..‬‭,‬

أمتلئ‭ ‬بأمل‭ ‬استرجاع‭ ‬الحلم،‭ ‬أغوص‭ ‬في‭ ‬ذاتي‭.. ‬يتلاشى‭ ‬العالم‭ ‬تماما‭ ‬من‭ ‬حولي‭.. ‬ينتشر‭ ‬دفء‭ ‬لذيذ‭ ‬في‭ ‬جسدي‭ ..‬

‭- ‬أنا‭ ‬مستعدة‭ ‬لمرافقتك‭ ‬أبي‭.‬

‭... ‬وأشرع‭ ‬في‭ ‬الحساب‭ ‬

واحد،‭ ‬اثنان،‭ ‬ثلاثة،‭ ‬أربعة،‭ ‬خمسة،‭ ‬ستة،‭ ‬سبعة،‭ ‬ثمانية،‭ ‬تسعة،‭ ‬عشرة،‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ... ‬‭>‬