واحـــد اثنـــان
واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة.. أصبحت متأكدة من أنني سأموت قريبا، وأنّ تلك النهاية التي طالما توجستها وحاولت تخيّل شكلها و توقيتها، أصبحت وشيكة... وشيكة جدا: لقد سحبني أبي من يدي في الحلم. تعلّمنا منذ البداية أنّ رؤية أحد المقربين من الموتى في المنام وهو يطلب منا مرافقته يعد فألا سيئا... و أنا رأيته في الحلم وكنت أرافقه إلى مكان ما... الغريب في الأمر أنني لم أكن حتّى لأشعر أنني أرافقه، كنت أحسّ أنني أمشي في الاتجاه الصحيح... كمن يذهب إلى المكان الذي أتى منه. لم أتردد لحظة بل لم يكن محتاجا ليطلب مني ذلك
كلّ شيء بدا طبيعيا ومعتادا... كان يقبض على يدي بيده الدافئة و الرطبة، التي كانت تكفي في ما مضى لأشعر بالأمان.. ويسحبني خلفه، أمّا الخاصية الثانية والأساسية في هذا الحلم فكانت أنّ أبي هذه المرّة وعلى غير عادته في أحلامي التي لا تخلو منه، كان شابا، أقصد كان أبي في شكله لأيام طفولتي الأولى: وسيما وأنيقا
ويبتسم ابتسامته السخيّة التي تستطيع أن تفرحني بسرعة قياسية، لم يكن مريضا وشاحبا كعهدي به في أيامه الأخيرة قبل أن يغادر دار الفناء ويلتحق بدار البقاء. أما أنا فكنت كما أنا الآن امرأة متشنجة ترتدي طقما أسود لا يساير الموضة وتكتفي من الحياة بالتلفزيون، نسي جيرانها بالتأكيد وجودها بالحيّ... تحرق وقتها وأيّامها في ممارسة العمل الإداري حتّى لا تتذكر أنها لم تمارس الحب منذ ثلاثة عشر عاما على الأقلّ.
الحكمة تقول أن أتّصل بأحد ما له تلك المعرفة المعمقة بفكّ شفرة الأحلام مثل فقيه أو عجوز ما، أو ببساطة أن أتّصل بأمّي فهي من خيرة مفسّري أحلام المسلمين في البلاد (لأنّها لم يسبق لها أن استمعت لغيرهم يحكون أحلامهم بكلّ تلك الجدية التي سيحسدهم عليها فرويد).
في الهاتف جاء صوت أمي ضعيفا كالعادة قبل أن يتماسك ويصبح عاديا، أي يصبح صوتها الجهوري النافذ الذي كان يرعبني في طفولتي. كنت قد أصبحت أتعوّد على هذه «الدخلة» الباردة لمكالماتنا القليلة والمتباعدة والتي تقول لي الكثير، ابتداء من عتابها على قلة اتصالي وانتهاء بمرضها الغامض الذي يأخذ كل يوم اسما جديدا وبحاجتها المستعجلة لزيارة الطبيب. كان عليّ أن أتمالك نفسي حتى تمرّ عاصفة العتاب بسلام، عتاب سيهجم عليّ مثل وابل من الرمال الصحراوية الحارقة التي ستعمي عيني...
أخّذت أحكّ عيني وأنا أنتظر ملصقة السماعة اللعينة بوجهي، أبعدها من حين لآخر كلّما اشتدّ الوابل الذي كنت أعلم مسبقا أنّه لن يتوقف حتّى تطمئن إلى غرقي الكامل في مشاعر الذنب. عندما أشعر بالندم والعقوق (تفهم ذلك من خلال استمرار صمتي في الطرف الآخر للمكالمة) تحسّ أمي بكثير من التوازن النفسي، لأنّ ما يجب أن أسمعه قد سمعته وتضمن ألا يتكرر ما وقع.
في لحظة ما ومن دون سابق إنذار تتوقف أمي عن العتاب والشكوى ويصلني صوتها أقلّ حدة:
- ما علينا.. كيف حالك بعدا؟؟
«حالي زفت» كنت أريد أن أقول.
- الحمد لله أمي مازلنا أحياء.
كانت مناسبة سرد الحلم العجيب مواتية الآن، العاصفة مرّت بسلام وهي الآن تلتقط أنفاسها، تتوقف قليلا ما يكفي لأدسّ حكايتي الصغيرة في هذه المكالمة المتوترة.
- أمي لقد رأيت أبي في الحلم.
- خير وسلام.
- كان يشدّ يدي وكنت أرافقه إلى حيث سيذهب.
في تلك الأثناء كنت أفكر: لماذا نتوقع جميعا (أو غالبيتنا) أنّ الموتى عندما يزوروننا في المنام فهم يعودون مباشرة بعد ذلك إلى «الآخرة».. أقصد مقر إقامتهم النهائي؟؟ أليس هناك موتى مشاغبون يحاولون من حين إلى آخر تأخير موعد عودتهم الحتمي بأن يزوروا الفضاءات العزيزة على قلوبهم؟ لماذا لم أفكر مثلا أنّه (أقصد أبي) سيتوجه إلى حانة «كلّ شيء على ما يرام» قبل أن يلوي عائدا؟؟ أو يزور أحد أصدقائه الأحياء الذين مازالوا لم يلتحقوا به بعد؟؟ أو يتوقف قليلا في كشك با العياشي ويتصفح بعض العناوين التي لن يفهم منها شيئا لأن عجلة الأحداث قد تجاوزته بالتأكيد؟؟
ضخّت هذه الأفكار الإيجابية الكثير من الحماس في عروقي حتّى أنني شعرت بالمنخولية اللعينة التي تجثم على صدري منذ ثلاث عشرة سنة أقلّ وزنا..
هنا سأسمع نفسي أقول لها بصوت صغير كأنه يخرج من مكان آخر غير حلقي:
- أمي .. هل يزورك أبي في الحلم من حين لآخر؟
- الله ينجيني يزور عدياني واللي ما يبغيوني.
نحن معا أرملتان.. ابتسمت وأنا أفكر أن على طرفي هذه المكالمة العجيبة، توجد أرملتان كئيبتان، واحدة منذ ثلاثين سنة وواحدة منذ ثلاث عشرة سنة، الفرق الأساسي بيني وبين هذه المرأة التي أنجبتني وكانت تنسى أن تقبلني وأنا أخرج للمدرسة وقد عقصت شعري الأجعد بالأستيك الأبيض المؤلم، أنني أستعذب زيارة موتاي لي في النوم أمّا هي فلا.
هي لا تحبني وأنا أيضا.. لا يهمني حبّها.
فكرت أن «عديانها» الذين أشارت إليهم هم بالتأكيد «أنا»، لكني لم أكترث.. كانت جذوة الفرح قد انتشرت في أوصالي الناشفة بسبب فكرة أنه لايزال هنا وأن جولته المؤقتة في دار الفناء لاتزال مستمرة وبقليل من الحظّ قد أصادفه في مكان ما من تلك الأماكن العزيزة على قلبه في العاصمة الرباط.
على هذه الجملة بالضبط ستضيء فكرة سارّة في رأسي فجأة: عليّ تعقّب آثاره في الأماكن التي يمكن أن يمرّ بها، عليّ البحث عن أبي في مدينة الرباط. نظرت بسرعة إلى معصمي.. الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا... لا بدّ أنّه لايزال هنا... عليّ بالعجلة حتّى ألتقي به، إنه هنا في العاصمة، في المدينة القديمة ربّما في السويقة أو في ديور الجامع أو بلاس بيتري، أو ربّما في الحانة العريقة إيّاها التي كان يتركني ببابها وأنا طفلة.
- أمّي اعذريني عليّ مغادرة المنزل، عندي مهمة كبيرة هذا الصباح .. عليّ العثور على أبي قبل أن يعود من حيث أتى..
كانت قد فتحت فمها وعينيها مندهشة خلف السماعة في الجهة الأخرى من المكالمة (أنا متأكدة من ذلك) وضعت السماعة ونهضت..
انتعلت حذائي وحملت حقيبة يدي ومفاتيح السيارة وغادرت المنزل.
المنزل سيظلّ فارغا لن يحصل فيه أيّ شيء، لن يتحرك شيء من مكانه... ليس هناك أحد غيري
ولن يفتقدني أو ينتظر عودتي أحد... حقيقة وجودي الكبيرة هذه بدت لي صغيرة تماما وأنا أدير المفتاح في ثقب الباب.
مدينة الرباط الباردة المتمدنة التي تريد أن تشبه مدنا من الضفة الأخرى في القارة العجوز تنهض وتستقبل يوما جديدا... الشوارع والحافلات
والترامواي والناس الكثيرون الذين يرتدون الألبسة العصرية و يهرولون في اتجاهات متعددة على أقدامهم أحيانا وفي وسائل النقل في أحيان أخرى.. السيارات والمحال والأصوات والإدارات والحركات في كلّ مكان... هذه هي الدنيا الفانية، إنّها الحافلات الزرقاء التي تصدر صوتا قويا لتتوقف قبل أن تلفظ الكثير من الناس الأحياء الذين لا يدركون, مع الأسف, أن صعودهم للحافلة المكتظة ونزولهم منها يعدّ في حدّ ذاته إنجازا هائلا بالنظر لأولئك الذين لم يعد بإمكانهم ممارسة ذلك: أولئك الذين ماتوا وغادروا بالفعل والذين يعلمون أن احتمال مغادرتهم وارد جدا مثلي.
ركنت سيارتي في المرآب... أفعل ذلك أوتوماتيكيا مثل كلّ الباقين على قيد الحياة الذين يملكون سيارات... البحث عن أبي لا يمكنه أن يكون بالسيارة، البحث عن الموتى يكون على الأقدام فقط.
بماذا سأبدأ؟؟
أشرقت في رأسي فجأة فكرة جميلة تشبه فرحا مؤجلا. سأبدأ من ذلك الباب المؤدي إلى ساحة باب لعلو قبل الوصول إلى حي المحيط، هناك قابلته صدفة ذات يوم بعيد كنت في الثانية عشرة من عمري، وكنت عائدة من سفر قصير عند أقاربنا. صدفة غريبة أن تصادف أباك في مكان لم تكن تتوقع أن تجده فيه، فرحت جدّا لأنني كنت قبالته وكان قبالتي: أبي الذي كنت لا أراه جيدا في بيتنا بسبب وجود إخوتي وأمي ورائحة الطعام وصوت «الكوكوتمينوت» وضوضاء أطفال الحي والباعة المتجولين ونشرة الأخبار في التلفزيون.. كل هذا كان يشوش عليّ رؤية أبي ويشوش عليه رؤيتي، في تلك اللحظة الخاطفة أتذكر، كنت كأنني أراه للمرة الأولى, أراه كاملا وقريبا, أبي لي أنا وحدي, للحظة شعرت أنني لم أكن أتقاسمه مع أحد. كان ينظر إليّ أنا ابنته الصغيرة، بوضوح لأوّل مرّة. الآخرون لم يكونوا هناك، كان يحتضنني بعينيه وكنت أحتضنه بعيني قبل أن يتناول رقبتي بيده الكبيرة الدافئة ويرافقني إلى محطة الحافلة رقم 16.
ذلك الباب العظيم الذي لا يشبه أيّ باب آخر من أبواب العالم شهد هذا الحدث الذي لم يتكرر أبدا في ما بعد.. أقصد حدث مصادفتي لأبي هكذا من دون سابق موعد. سأتّجه رأسا إلى هناك، لا بدّ أنه مثلي يشعر بالحنين إلى ذلك اليوم البعيد، لا بد أنه مثلي سيعود إلى هناك ليبحث عني أنا طفلته الصغيرة ذات الاثنتي عشرة سنة التي سيشبع بالنظر إليها لأوّل مرة ولآخر مرّة.
الرجال كثيرون في الشارع أكثر من النساء ومن الأطفال والراجلون أكثر من الراكبين. الحركة تدبّ في أوصال المدينة. أقف قليلا عند الباب العظيم الذي يشهد على ما وقع. أريح ظهري على الحائط، أبي لن يتأخر سيأتي للتو وسيقف في مواجهتي وأقف في مواجهته ونبتسم في وجه بعضنا قبل أن أرتمي في حضنه ويسألني تلك الأسئلة المعتادة عن ماذا أفعل هنا، وكيف هي أحوالي، وماذا حصل معي من بعده؟ كنت أحزن كثيرا و أنا أرى أنّ الناس مازالوا هنا جميعهم، في حين رحل هو وللأبد. مازال بإمكانهم أن يأكلوا «الصوصيت» عند الوزاني ويتلذذوا بذلك، مازال بإمكانهم أن يضحكوا ويشاهدوا مباريات كرة القدم و أفلام الويسترن التي يحبّها، بل بإمكانهم أن يقرعوا كئوسا باردة، في حين هو لن يكون بإمكانه ذلك أبدا... أبدا.
مسكين أبي... لقد مات.
الموت.. إنّه أقسى ما يمكن أن يحدث للآباء..
لا بد أنه ضجر من حياة دار البقاء ليس لي أيّ فكرة عمّا يمكنه أن يفعل هناك، وبماذا سيتسلّى في انتظار أن يحدث أمر آخر، كلّ ما كنت أعلمه حتّى صباح اليوم هو أنّه لا بدّ أن تكون له رغبة كبيرة في المجيء إلى هنا والتجول في مكان الجريمة، أقصد مكان وجوده عندما كان من سكان هذه الأرض.
اليوم أربعاء. فكرت عند استيقاظي من النوم هذا الصباح أن اليوم أربعاء، «أربعاءات» كثيرة جدا حلّت ثمّ توارت، الكثير الكثير من الأربعاءات.. ينبغي أن أكون سعيدة لأنني أوجد في يوم الأربعاء الذي يوجد بدوره في التقويم الزمني للعالم الذي هو عالم الباقين على قيد الحياة، أمّا الذين ماتوا فليس لهم أيّ أربعاء ولا أيّ خميس ولا حتّى ساعة من أيّ يوم آخر ولا دقيقة ولا حتى ثانية ...
أنتظر...
أبي يتأخر، هل سيخلف ميعاده؟ .. ميعاده الذي لا يلزمه الذي لم نتفق عليه حتىّ... ربّما غادر مباشرة بعد انتهاء الحلم، لكنه كان يشدّني من يدي وفهمت أنّه يريدني أن أرافقه. لماذا إذن لاأزال هنا؟؟ لماذا لم أصحبه؟؟ ماذا أفعل بين كلّ هؤلاء الغرباء الذين يمرّون بي ولا ينظرون إليّ أو ينظرون إليّ ولا يشاهدونني؟؟
أبي لم يأت إلى باب لعلو.. لم يفكر أن يتريث قليلا ما يكفي حتّى نتقابل، بالفعل.
الساعة تشير إلى العاشرة والنصف.
برقت في ذهني فكرة.. سأحاول أن أعود للحلم ربما أتلقف أبي لحظة قبل انسحابه، ربّما أنجح في استبقائه معي ولو للحظة حتى أخبره أنّه كان على حقّ عندما تبول على العالم من النافذة.
أعود أدراجي، شريط الأحداث يتراجع للخلف الآن:
أغادر الساحة.. باب لعلو يتوارى خلف ظهري ويصبح بعيدا، أمتطي سيارتي، العجلات تدور إلى الخلف، المشاهد التي مرّت بي قبل قليل تعود القهقرى، مدينة الرباط تستقبل يوما جديدا، الشوارع والحافلات والترامواي والناس الكثيرون الذين يرتدون الألبسة العصرية ويهرولون في اتجاهات متعددة على أقدامهم أحيانا، وفي وسائل النقل في أحيان أخرى، السيارات والمحال والأصوات والحركات في كلّ مكان.., هذه هي الدنيا... الحافلات الزرقاء التي تصدر صوتا قويا لتتوقف قبل أن تلفظ الكثير من الناس الأحياء الذين لا يدركون أنّ صعودهم للحافلة المكتظة ونزولهم منها يعدّ في حد ذاته إنجازا هائلا بالنظر لأولئك الذين لم يعد بإمكانهم ممارسة ذلك، الذين ماتوا وغادروا أو الذين سيغادرون قريبا. أوقف السيارة، أفتح باب المنزل ألقي بحذائي فوق الأرض أنسحب من معطفي، أمّي في الطرف الآخر من المكالمة تؤنّبني لأنني فتاة عاقّة، أضع السماعة، أعود للفراش...
أغمض عيني، أشد الغطاء حول جسدي، كيف يمكننا العودة للحلم... لآخر حلم؟؟ كيف يمكننا استرجاع الأحلام التي تسحبت من تحت عيوننا؟؟
أغمض عيني وأشد الغطاء أكثر على رأسي.., عليّ أن أنام، أتذكر فجأة أنّه كان يحكّ رأسي الصغير بأطراف أصابعه فأشعر باسترخاء لذيذ، أتذكر أنه كان ينصحني أن أحسب من واحد إلى مائة..,
- احسبي من واحد إلى مائة.., وسيجيء النوم على صهوة الأرقام.
سوف أحسب من واحد إلى المائة، سأستعمل أصابع يدي العشرة وأصابع رجلي العشرة أيضا دون أن ألمس أي أصبع، عقلي يذهب مباشرة إلى الأصبع دون أن أضطر للمسه. لعبة مسلية، هكذا علمني أبي أن أفعل لأعثر على النوم وسط جلبة الأفكار والهواجس.., سوف أعثر على النوم وأعثر على أبي وسأرافقه..,
أمتلئ بأمل استرجاع الحلم، أغوص في ذاتي.. يتلاشى العالم تماما من حولي.. ينتشر دفء لذيذ في جسدي ..
- أنا مستعدة لمرافقتك أبي.
... وأشرع في الحساب
واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، أحد عشر ... >