الشعر.. ذلك الترجيع بين صوت اللغة وصمتها

الشعر..  ذلك الترجيع  بين صوت اللغة وصمتها

في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬الشعر،‭ ‬تعترض‭ ‬الباحث‭ ‬احتمالات‭ ‬عدة،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬الباحث‭ ‬شاعرا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه،‭ ‬يزداد‭ ‬حرجه‭ ‬كباحث،‭ ‬إذ‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬التعارضات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يجمع‭ ‬بينها،‭ ‬عنصر‭ ‬ذاتي‭ ‬ينحاز‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬لطريقته‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬فيغدو‭ ‬كل‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والقصيدة،‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬ذاتية،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه‭ ‬بكل‭ ‬حال،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬باحث‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬نواة‭ ‬شاعر،‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح‭. ‬فيصبح‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬كالشعر‭ ‬نفسه،‭ ‬إشكالية‭ ‬مفتوحة‭.‬

الشعر‭ ‬كإشكالية

من‭ ‬الصحيح‭ ‬القول‭ ‬مثلا،‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬مجموعة‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الشعراء،‭ ‬وهذا‭ ‬القول‭ ‬يغلق‭ ‬المسألة‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬يفتحها،‭ ‬فهو‭ ‬إذ‭ ‬ينوّع‭ ‬الاحتمالات‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬مروحة‭ ‬لا‭ ‬نهائية‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬المتحققة‭ ‬بالفعل،‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬يحتمل‭ ‬تحققها‭ ‬مع‭ ‬الوقت،‭ ‬فإنه‭ ‬يحيل‭ ‬الجدال‭ ‬في‭ ‬‮«‬الكيف‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬تجميع‭ ‬‮«‬للكم‮»‬‭. ‬وربما‭ ‬أفلت‭ ‬منه‭ ‬جوهر‭ ‬الشعر،‭ ‬إذ‭ ‬هو‭ ‬كَيْفُ‭ ‬القول‭ ‬بامتياز،‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬كَمُّه‭.‬

سيكون‭ ‬من‭ ‬الممتع‭ ‬حقا،‭ ‬وربما‭ ‬الصحيح،‭ ‬البداية‭ ‬من‭ ‬التناقضات،‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬محيّرة‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬حاضرة،‭ ‬وعصية‭ ‬على‭ ‬الحصار‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬بديهية،‭ ‬بل‭ ‬لعلني‭ ‬سأضيف‭ ‬أمرًا‭ ‬خطيرًا‭ ‬مفاده‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تعاطينا‭ ‬اليومي‭ ‬بل‭ ‬اللحظوي‭ ‬مع‭ ‬الشعر،‭ ‬فإن‭ ‬ضجرا‭ ‬مؤكدا‭ ‬ينتابنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفتنة‭ ‬الغامضة،‭ ‬ولعله‭ ‬ضجر‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬الضجر‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها،‭ ‬ولعل‭ ‬نزعة‭ ‬مرضية‭ ‬تلحق‭ ‬بالبعض‭ ‬منا،‭ ‬فيعلن‭ ‬كرهه‭ ‬للشعر،‭ ‬أو‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬قتله،‭ ‬وقد‭ ‬يسميه‭ ‬كما‭ ‬سماه‭ ‬الماغوط‭ ‬‮«‬الجيفة‭ ‬الخالدة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬يسأل‭ ‬كما‭ ‬سأل‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭: ‬‮«‬ومتى‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬يكتب‭ ‬شعرًا؟‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬المفارقة‭ ‬هنا،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬يهجو‭ ‬الشعر‭ ‬بالشعر‭. ‬يقول‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭:‬

‮«‬أكرهها‭ ‬وأشتهي‭ ‬وصلها

وإنني‭ ‬أحب‭ ‬كرهي‭ ‬لها‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬المسألة،‭ ‬كما‭ ‬نلاحظ،‭ ‬نكد‭ ‬مؤكد،‭ ‬وهو‭ ‬نكد‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬الأقدمون‭ ‬بالاسم،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬الأصمعي‭: ‬‮«‬الشعر‭ ‬نكد‭ ‬بابه‭ ‬الشر‭ ‬فإن‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬الخير‭ ‬ضعف‮»‬‭. ‬أما‭ ‬فيكتور‭ ‬هوجو‭ ‬فيقول‭ ‬بعد‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬الأصمعي،‭ ‬متأسفا‭ ‬على‭ ‬عصر‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الآفل،‭: ‬‮«‬ألقيت‭ ‬بالنظم‭ ‬النبيل‭ ‬إلى‭ ‬كلاب‭ ‬النثر‭ ‬السوداء‮»‬‭.‬

قلنا‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬إشكالية‭ ‬مفتوحة،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬بقائه‭ ‬وتجدده،‭ ‬فالشعر‭ ‬لا‭ ‬يصنعه‭ ‬اسمه،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬تجعله‭ ‬التسمية‭ ‬أسيرا‭ ‬ومستهدفا‭.‬

والحال‭ ‬أن‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬تأثروا‭ ‬بالأسئلة‭ ‬الشكاكة،‭ ‬بل‭ ‬التدميرية‭ ‬حول‭ ‬الشعر،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬فجّرها‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة،‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬‮«‬هيجل‮»‬،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬علم‭ ‬الجمال‮»‬‭ ‬1832م،‭ ‬فهو‭ ‬قد‭ ‬دمّر‭ ‬الشعر‭ ‬تدميرًا‭ ‬فلسفيًا،‭ ‬معتبرا‭ ‬أنه،‭ ‬كأداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬البرهان‭ ‬الفلسفي‭ ‬أو‭ ‬تحقيق‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬ذاتها‭ (‬Geist‭)‬،‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬دوره،‭ ‬مات‭ ‬وحلّ‭ ‬محله‭ ‬‮«‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬وحفظ‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الأرشيف‭.‬

وقد‭ ‬أصبح‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬بمنزلة‭ ‬قدّاس‭ ‬جنائزي‭ ‬امتدّ‭ ‬من‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬ولاتزال‭ ‬تقرع‭ ‬أجراسه‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬

نرى‭ ‬هنا‭ ‬بالذات،‭ ‬عمق‭ ‬نظرة‭ ‬الأصمعي‭ ‬كردّ‭ ‬مبكّر‭ ‬عظيم‭ ‬على‭ ‬‮«‬هيجل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نظر‭ ‬للشعر‭ ‬نظرة‭ ‬أخلاقية‭ ‬وظيفية‭. ‬الرد‭ ‬الغربي‭ ‬بالطبع‭ ‬على‭ ‬هيجل‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الشعراء‭ ‬أنفسهم،‭ ‬مهّد‭ ‬لهم‭ ‬‮«‬مالارميه‮»‬‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬رمية‭ ‬نرد‮»‬‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬ضربة‭ ‬نرد‭ ‬أبدًا‭ ‬لا‭ ‬تهدم‭ ‬المصادفة‮»‬،‭ ‬معتبرًا‭ ‬المصادفة‭ ‬اللامسئولة،‭ ‬غير‭ ‬المدبرة‭ ‬العشوائية،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬الجمال‭ ‬وليس‭ ‬العقل‭. ‬والأقسى‭ ‬كان‭ ‬‮«‬بودلير‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬سبلينغ‭ ‬دي‭ ‬باري‮»‬‭ (‬سويداء‭ ‬باريس‭) ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬العبث‭ ‬المرعب‭ ‬بكل‭ ‬عناصر‭ ‬الجمال‭ ‬السابقة‭ ‬وهلهلة‭ ‬المسلّمات‭ ‬الجمالية‭ ‬والفلسفية‭.‬

ستتدحرج‭ ‬الكرة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬يدحرجها‭ ‬الشعر‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬تدحرجها‭ ‬الفلسفة،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬‮«‬بول‭ ‬لا‭ ‬فارغ‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحق‭ ‬بالكسل‮»‬‭ ‬1880م،‭ ‬بمفهوم‭ ‬‮«‬اللاشيء‮»‬،‭ ‬تأسيسًا‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬‮«‬لايبنز‮»‬‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬يوجد‭ ‬شيء‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬لا‭ ‬شيء؟‮»‬‭. ‬تبعًا‭ ‬لذلك،‭ ‬لماذا‭ ‬يوجد‭ ‬شعر‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬‮«‬لا‭ ‬شعر»؟‭ ‬فأمام‭ ‬القصيدة‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬اللاقصيدة‮»‬‭.‬

عربيًا،‭ ‬يقول‭ ‬حسن‭ ‬نورالدين‭: ‬‮«‬إن‭ ‬صديقي‭ ‬هذا‭ ‬يكره‭ ‬لون‭ ‬الشعر‭ ‬وصوت‭ ‬الشعراء‭/ ‬منذ‭ ‬تزحلق‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬قافية‭ ‬ألقاها‭/ ‬من‭ ‬مجموعته‭ ‬اللاشعرية‮»‬‭. ‬لكنّ‭ ‬الأبدع‭ ‬في‭ ‬الإشكالية،‭ ‬يظل‭ ‬يرشح‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬‮«‬حقيقة‭ ‬الحقائق،‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬عَبَد‭ ‬ميزابا‭ ‬رآه‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فاس،‭ ‬وعبد‭ ‬ظله،‭ ‬وفتاة‭ ‬صغيرة‮»‬‭.. ‬ولهذه‭ ‬الظهورات‭ ‬حديث‭ ‬آخر‭.‬

 

الشعر‭: ‬سلطة‭ ‬اللغة

‮«‬لفا‮»‬‭ ‬في‭ ‬ابن‭ ‬منظور،‭ ‬تكلَّم،‭ ‬والكَلْم‭ ‬الجرح،‭ ‬والكلمة‭ ‬جرح‭ ‬المعنى‭ ‬لإظهار‭ ‬ما‭ ‬فيه‭.. ‬أما‭ ‬اللغة‭ ‬فهي‭ ‬اللسْنُ،‭ ‬وهي‭ ‬أصوات‭ ‬يعبِّر‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬قوم‭ ‬عن‭ ‬أغراضهم،‭ ‬والجمع‭ ‬لغات‭ ‬ولغون‭.‬

لكنّ‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭ ‬لم‭ ‬يستنفد‭ ‬أغراض‭ ‬اللغة،‭ ‬ولم‭ ‬يتبع‭ ‬مآلاتها‭ ‬وسلطاتها‭ ‬إلى‭ ‬النهاية،‭ ‬فاللغة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬حاجة‭ ‬لدى‭ ‬الإنسان،‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬سلطة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬السلطات،‭ ‬دينية‭ ‬وسياسية‭ ‬وعلمية‭ ‬وشعرية‭ ‬أخيرًا‭ ‬وهمية‭ ‬عنكبوتية‭. ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬الأديان‭ ‬السماوية‭ ‬سلطة‭ ‬من‭ ‬سلطات‭ ‬السحر‭ ‬والكهانة،‭ ‬ومع‭ ‬نزول‭ ‬القرآن،‭ ‬توسع‭ ‬معنى‭ ‬اللغة‭ ‬توسيعا‭ ‬فذا،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬القرآن‭ (‬قبل‭ ‬الألسنيين‭ ‬والحداثيين‭ ‬في‭ ‬الغرب‭)‬،‭ ‬الإشارة‭ ‬أو‭ ‬العلامة‭ (‬Signe‭) ‬شكلا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬اللغة،‭ ‬فتكلّم‭ ‬على‭ ‬لغة‭ ‬الطير‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬سليمان‭ ‬النبي،‭ ‬ولغة‭ ‬النمل،‭ ‬وأن‭ ‬للعناصر‭ ‬ومظاهر‭ ‬الكون‭ ‬لغات‭ ‬تنطق‭ ‬بعظمة‭ ‬الخالق‭. ‬وجاء‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مؤلفات‭ ‬الجاحظ‭ (‬المحاسن‭ ‬والأضداد،‭ ‬البخلاء‭..) ‬حكايات‭ ‬حول‭ ‬قدرة‭ ‬اللغة‭ ‬على‭ ‬الرفع‭ ‬والخفض‭ ‬والإضحاك‭ ‬والإبكاء‭ ‬والبسط‭ ‬والقبض،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬تتجاوز‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق‭ ‬في‭ ‬الحق‭ ‬والباطل‭ ‬والموت‭ ‬والحياة‭.. ‬كلمة‭ ‬تحيي‭ ‬وكلمة‭ ‬تميت،‭ ‬وخطأ‭ ‬نحوي‭ ‬يضيع‭ ‬الحق‭ ‬من‭ ‬أهله،‭ ‬وكلمة‭ ‬بليغة‭ ‬تنقذ‭ ‬من‭ ‬العقاب‭.. ‬حتى‭ ‬كأن‭ ‬اللغة‭ ‬ميزان‭ ‬قائم‭ ‬فوق‭ ‬العدالة‭ ‬وفوق‭ ‬الحق‭ ‬والباطل‭.‬

 

هل‭ ‬الشعر‭ ‬لغة؟

الشعر‭ ‬لغة‭. ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬يكفي؟‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬صحيح؟‭ ‬وكيف؟

لا‭ ‬شك،‭ ‬تاريخيًا،‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬اعتبار‭ ‬علماء‭ ‬اللغة‭ ‬وفقهائها‭ ‬مرجعيات‭ ‬جوهرية‭ ‬للشعر،‭ ‬من‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬جنّي‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬العلايلي‭. ‬وعلاقة‭ ‬الشعر‭ ‬باللغة‭ ‬والشاعر‭ ‬باللغة،‭ ‬علاقة‭ ‬شديدة‭ ‬التعقيد،‭ ‬ولعلّ‭ ‬فيها‭ ‬مسائل‭ ‬مستترة‭ ‬قابلة‭ ‬للتأويل‭ ‬ومسائل‭ ‬أخرى‭ ‬تستعصي‭ ‬على‭ ‬الشرح،‭ ‬مع‭ ‬رسوخ‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بحقيقتها‭. ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬العلاّمة‭ ‬العلايلي‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة،‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الأسرار‭ ‬الفلسفية‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬‮«‬المعرّي‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬المعري‭ ‬ذلك‭ ‬المجهول‮»‬،‭ ‬لقد‭ ‬فتّت‭ ‬العلايلي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقصيه‭ ‬اللغوي‭ ‬لأشعار‭ ‬فيلسوف‭ ‬المعرّة،‭ ‬النواة‭ ‬اللغوية‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ (‬بعبارة‭ ‬مارون‭ ‬عبّود‭ ‬عن‭ ‬العلايلي‭ ‬اللغوي‭)‬،‭ ‬بقراءته‭ ‬قراءة‭ ‬لغوية‭ ‬تأويلية‭. ‬فالمعري‭ ‬عقل‭ ‬تأويلي‭ ‬كبير،‭ ‬عقل‭ ‬مستتر‭ ‬رامز‭ ‬وغامض،‭ ‬والفلسفة‭ ‬اللغوية‭ ‬هي‭ ‬مفتاح‭ ‬أشعاره‭ ‬وأفكاره،‭ ‬فهو‭ ‬يسلك‭ ‬مسلكا‭ ‬حرفيا‭ ‬رمزيا‭ ‬يفسّر‭ ‬الوجود‭ ‬بحساب‭ ‬الحروف،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬التنكيس‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أسلوب‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬‮«‬إخوان‭ ‬الصفا‮»‬‭.‬

يقول‭: ‬‮«‬نشهد‭ ‬المعري‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬يحيا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬لغوي،‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أرجائه،‭ ‬مثل‭ ‬الرباني‭ ‬الذي‭ ‬يَسْبح‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬نهائي‭ ‬من‭ ‬الأعداد،‭ ‬يحيا‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬ويحيا‭ ‬فيه‭ ‬العدد‭..‬‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬جذبه‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬انطفاء‭ ‬حاسة‭ ‬البصر‭ ‬لديه،‭ ‬فاللغة‭ ‬هي‭ ‬الرمز‭ ‬المجرد‭ ‬الذي‭ ‬عوّض‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬المحسوسات‭ ‬والمرئيات‭ ‬التي‭ ‬يثبتها‭ ‬البصر،‭ ‬كما‭ ‬عوّض‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬غير‭ ‬المتميز‭ ‬لديه‭ ‬بسبب‭ ‬العمى‭. ‬فاللغة‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬المعري‭ ‬هي‭ ‬سر‭ ‬الكون‭ ‬وأساسه،‭ ‬وقيمتها‭ ‬قيمة‭ ‬فلسفية‭ ‬وعددية‭ ‬مطلقة،‭ ‬واللغز‭ ‬الكوني‭ ‬يُحل‭ ‬بالعدد،‭ ‬واللغة‭ ‬هي‭ ‬العدد‭:‬

‮«‬فيا‭ ‬أَلِفَ‭ ‬اللفظ‭ ‬لا‭ ‬تأملي

حراكًا‭ ‬فما‭ ‬لك‭ ‬غير‭ ‬السكون‮»‬‭.‬

والشاعر‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكامل‭ ‬هو‭ ‬شاعر‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬لأن‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬الكاملة،‭ ‬والكون‭ ‬كله‭ ‬كون‭ ‬لغوي‭:‬

‮«‬هذي‭ ‬حروف‭ ‬اللفظ‭ ‬سطر‭ ‬واحد

منها‭ ‬يؤلَّف‭ ‬للكلام‭ ‬بحار‮»‬‭.‬

تبعا‭ ‬لذلك،‭ ‬يصبح‭ ‬الكون‭ ‬لديه‭ ‬بيتًا‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬قافيته‭ ‬الإنسان،‭ ‬أو‭ ‬منظومة‭ ‬لغوية،‭ ‬وحين‭ ‬يشعر‭ ‬المعري‭ ‬بإخفاق‭ ‬هذا‭ ‬التوحد‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬فإنه‭ ‬يقول‭ ‬بفساد‭ ‬العالم،‭ ‬واليأس‭ ‬من‭ ‬التناسل‭:‬

‮«‬تواصل‭ ‬حبل‭ ‬النسل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬آدم

وبيني‭ ‬ولم‭ ‬يوصَلْ‭ ‬بلامِيَ‭ ‬باء‮»‬‭.‬

يرى‭ ‬العلايلي‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬التفسيرات‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬أعجز‭ ‬الشارحين،‭ ‬وعنده‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬إيماء‭ ‬لعلم‭ ‬الحرف‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬به‭ ‬‮«‬إخوان‭ ‬الصفا‮»‬،‭ ‬وفيه‭ ‬أن‭ ‬حرف‭ ‬الباء‭ ‬هوائي‭ ‬وحرف‭ ‬اللام‭ ‬ترابي،‭ ‬وهو‭ ‬بهذا‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وجوده‭ ‬الفنائي‭ ‬الترابي‭ ‬لم‭ ‬توصل‭ ‬به‭ ‬نسمة‭ ‬هوائية‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أننا‭ ‬هنا‭ ‬أمام‭ ‬عبقريتين‭ ‬متداخلتين،‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬وواحدة‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬ويصحّ‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬لغة‭ ‬بهذه‭ ‬المقاييس،‭ ‬لكن‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬أيضا‭ ‬إن‭ ‬النثر‭ ‬بدوره‭ ‬لغة،‭ ‬فما‭ ‬الفارق؟

السؤال‭ ‬قديم‭ ‬ومتجدد‭ ‬ولا‭ ‬ينفد‭ ‬مداده،‭ ‬وإشكالياته‭. ‬يكفي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬استبدال‭ ‬كلمة‭ ‬بكلمة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ما،‭ ‬لكي‭ ‬ينفجر‭ ‬نبع‭ ‬آخر‭ ‬للكلام،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬رواية‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭ ‬‮«‬عابر‭ ‬سرير‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬استبدلت‭ ‬كلمة‭ ‬بكلمة‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬معروفة‭ ‬‮«‬عابر‭ ‬سبيل‮»‬‭ ‬لتقدم‭ ‬معنى‭ ‬جديدا‭ ‬وموحيا‭. ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬شعر؟‭.. ‬إذن،‭ ‬ستمحى‭ ‬هنا‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬لناحية‭ ‬ضم‭ ‬الكلمات‭.. ‬وتكاد‭ ‬تكون‭ - ‬من‭ ‬القديم‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ - ‬القواعد‭ ‬الفنية‭ ‬للشعر‭ ‬هي‭ ‬عينها‭ ‬قواعد‭ ‬النثر‭ ‬الفني‭: ‬من‭ ‬الومضة‭ ‬إلى‭ ‬العمارة‭ ‬إلى‭ ‬الرمز‭ ‬إلى‭ ‬الإيقاع‭. ‬وعلى‭ ‬الإيقاع‭ ‬يعوّل‭ ‬كثيرًا‭. ‬فبمقدار‭ ‬ما‭ ‬يكمن‭ ‬فيه‭ ‬سلك‭ ‬جامع‭ ‬بين‭ ‬النثر‭ ‬الفني‭ (‬بأجلى‭ ‬مظاهره‭ ‬في‭ ‬قصية‭ ‬النثر‭ ‬وهي‭ ‬نوع‭ ‬جديد‭ ‬ومستحدث‭ ‬من‭ ‬الشعر‭)‬،‭ ‬والشعر‭ ‬الموزون،‭ ‬يكمن‭ ‬خط‭ ‬فاصل‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭. ‬وكما‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬في‭ ‬اللغة‮»‬‭ (‬بتعبير‭ ‬فاليري‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬غوايات‮»‬‭ ‬المنشور‭ ‬سنة‭ ‬1922‭)‬،‭ ‬كذلك‭ ‬النثر‭ ‬الفني‭ ‬هو‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬في‭ ‬اللغة‮»‬‭. ‬هل‭ ‬طريقة‭ ‬استعمال‭ ‬اللغة‭ ‬تحدد‭ ‬الفرق؟‭ ‬هل‭ ‬الاستعارات‭ ‬هي‭ ‬‮«‬شمس‭ ‬الشعر‮»‬‭ (‬نيرودا‭)‬؟‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬النثر‭ ‬أيضًا‭ ‬استعارات‭. ‬هل‭ ‬الصورة؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬‮«‬معنى‭ ‬المعنى‮»‬‭ (‬الجرجاني‭)‬؟

ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬وأكثر‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬النثر‭ ‬الفني‭. ‬هل‭ ‬الأشكال‭ ‬الجيومترية‭ ‬للقصيدة،‭ ‬الأبعاد،‭ ‬المسافات،‭ ‬الانتظام‭ ‬الصوتي‭ (‬التفعيلي‭) ‬هو‭ ‬الفارق؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬روحا‭ ‬خفية،‭ ‬تستعصي‭ ‬على‭ ‬الرصد‭ ‬وربما‭ ‬على‭ ‬التفسير،‭ ‬وتتجاوز‭ ‬اللغة‭ ‬بجميع‭ ‬مظاهرها،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬القصيدة؟

 

العودة‭ ‬للأصول

في‭ ‬الإمكان‭ ‬هنا،‭ ‬وبين‭ ‬مزدوجين،‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬واسع‭ ‬للنقاش‭. ‬سنجد‭ ‬حتى‭ ‬بين‭ ‬عتاة‭ ‬المجددين‭ ‬الحداثيين‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬والما‭ ‬بعد‭.. ‬من‭ ‬غربيين‭ ‬وعرب،‭ ‬من‭ ‬يوصي‭ ‬بالأصول،‭ ‬تلافيا‭ ‬لمتاهة‭ ‬خطيرة‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬وصول‭. ‬ربّ‭ ‬معترض‭ ‬يقول‭: ‬لم‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬المتاهة؟‭ ‬الشعر‭ ‬متاهة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬ناظم‭ ‬حكمت‭ ‬مثلا،‭ ‬الذي‭ ‬اشتغل‭ ‬طويلا‭ ‬بشعر‭ ‬خارج‭ ‬على‭ ‬الأصول،‭ ‬عاد‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬حياته‭ ‬صارخًا‭: ‬‮«‬أوصيكم‭ ‬بالأصول‮»‬‭.. ‬كذلك‭ ‬بول‭ ‬إيليوار‭ ‬ومثله‭ ‬أراجون‭ ‬وسواهما‭ ‬من‭ ‬مؤسسي‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وأدونيس‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬شرّق‭ ‬وغرّب،‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النظرة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يشبهها‭. ‬لكن‭ ‬الملاحظ‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬المجربين،‭ ‬خاضوا‭ ‬الحداثة‭ ‬وخرجوا‭ ‬على‭ ‬الأصول‭ ‬طويلا،‭ ‬قبل‭ ‬الرجوع‭ ‬لبيت‭ ‬الطاعة‭. ‬لعلهم‭ ‬خافوا‭ ‬أن‭ ‬يلعبوا‭ ‬لعبة‭ ‬الشعر،‭ ‬كما‭ ‬يلعب‭ ‬لاعب‭ ‬كرة‭ ‬المضرب‭ ‬بلا‭ ‬شبكة،‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬روبرت‭ ‬فروست‭.‬

 

النظرية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة

الجهد‭ ‬النظري‭ ‬العربي‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬الشعرية،‭ ‬وارتباط‭ ‬الشعر‭ ‬باللغة،‭ ‬قليل‭. ‬الأقدمون‭ ‬كانوا‭ ‬أهم‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقاس،‭ ‬وسبقوا‭ ‬النظريات‭ ‬الغربية‭ ‬بمراحل‭. ‬في‭ ‬الثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الفائت‭ ‬وضع‭ ‬كمال‭ ‬أبوديب‭ ‬نظرية‭ ‬تشبه‭ ‬نظرية‭ ‬الانزياح‭ ‬لدى‭ ‬كوهين،‭ ‬سماها‭ ‬‮«‬شعرية‭ ‬الفجوة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬المتشكلة‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الكلية‭ ‬للنص،‭ ‬ويركّز‭ ‬على‭ ‬المادة‭ ‬الصوتية‭ ‬للقصيدة،‭ ‬هذه‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬وجودها‭ ‬الفيزيائي‭ ‬الملموس،‭ ‬مستبعدًا‭ ‬الأبعاد‭ ‬الميتافيزيقية‭ ‬عن‭ ‬النص‭ (‬الجوانب‭ ‬الخفية‭) ‬كما‭ ‬يقول‭ (‬في‭ ‬الشعرية،‭ ‬مؤسسة‭ ‬الأبحاث‭ ‬العربية‭ ‬ط1‭/‬1987،‭ ‬ص13‭ - ‬14‭). ‬تبعًا‭ ‬لذلك‭ ‬فالشعر‭ ‬خصيصة‭ ‬نصية‭ ‬لا‭ ‬ميتافيزيقية‭. ‬لكن‭ ‬أبوديب‭ ‬ناقض‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬حين‭ ‬تطرق‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحضور‭ ‬والغياب‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬النص‭ ‬تجسيد‭ ‬لغوي‭ ‬لكائن،‭ ‬وانفتاح‭ ‬خارج‭ ‬اللغة‭ ‬على‭ ‬كينونة‭ ‬الغياب‮»‬‭ (‬ص19‭).‬

 

سمات‭ ‬الدراسات‭ ‬الألسنية‭ ‬الحديثة‭ ‬

للشعر‭.. ‬نظرة‭ ‬نقدية

أهم‭ ‬سمات‭ ‬هذه‭ ‬الدراسات‭ ‬هي‭ ‬أنها‭ ‬تنحو‭ ‬منحى‭ ‬شكليا‭ ‬في‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬القصيدة،‭ ‬حيث‭ ‬تعتبر‭ ‬الأساس‭ ‬هو‭ ‬المادة‭ ‬اللغوية‭ ‬بوصفها‭ ‬الوسيلة‭ ‬والغاية‭ ‬معًا‭: ‬جاكوبسون،‭ ‬كوهين‭. ‬وهي‭ ‬تنحو‭ ‬منحى‭ ‬شموليا‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬ثنائية‭ ‬المعنى‭/ ‬الصوت،‭ ‬والشاعر‭/ ‬القارئ‭ (‬تودوروف،‭ ‬أبوديب‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والكلام‭ (‬عند‭ ‬سوسور‭) ‬وإلى‭ ‬ما‭ ‬تسميه‭ ‬الوظيفة‭ ‬الشعرية‭ ‬للغة‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬الانزياح‭ (‬كوهين‭) ‬والفجوة‭ (‬أبوديب‭) ‬ويسميها‭ ‬‮«‬مساحة‭ ‬التوتر‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬هذه‭ ‬النظريات‭ ‬هو‭ ‬نظرتها‭ ‬للشعر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬استعمال‭ ‬خاص‭ ‬متفرد‭ ‬ومفاجئ‭ ‬للغة‮»‬‭.‬

لا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬المطروح‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬اللغويين‭ ‬والألسنيين‭ ‬هو‭ ‬التالي‭: ‬هل‭ ‬الشعر‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬ظاهرة‭ ‬صوتية‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬التردد‭ ‬بين‭ ‬الصوت‭ ‬والمعنى؟‭ ‬أي‭ ‬بين‭ ‬ثنائية‭ ‬البعد‭ ‬السيميائي‭ ‬والبعد‭ ‬الدلالي‭ ‬للنص‭ (‬في‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬كلام‭) ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الجرْس‭ ‬والمضمون‭ ‬أو‭ ‬الدال‭ ‬والمدلول؟

لاريب‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تبسيطا‭ ‬للشعر‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬واختزالا‭ ‬للقصيدة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.. ‬فالملاحظ‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬ميلا‭ ‬عاما‭ ‬للخلط‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والقصيدة،‭ ‬لقد‭ ‬فعل‭ ‬العرب‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الإجمال،‭ ‬كما‭ ‬فعله‭ ‬الغربيون‭. ‬وهنا‭ ‬من‭ ‬الحَسَن‭ ‬اعتبار‭ ‬الشعر‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬القصيدة،‭ ‬وشموله‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬كأسلوب‭ ‬وطريقة‭ ‬وجود،‭ ‬ففي‭ ‬الشجرة‭ ‬شعر‭ ‬وفي‭ ‬الطائر‭ ‬والمرأة‭ ‬والهاوية‭ ‬والبحر‭ ‬والمسرحية‭ ‬والرواية‭ ‬واللوحة‭ ‬المصورة‭.. ‬إلخ‭. ‬أما‭ ‬القصيدة،‭ ‬فهي‭ ‬المعطى‭ ‬التقني‭ ‬الوحيد‭ ‬للشعر‭ ‬في‭ ‬اللغة‭.‬

والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬اعتبار‭ ‬الشعر‭ (‬والمقصود‭ ‬القصيدة‭) ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬التردد‭ ‬بين‭ ‬مفردات‭ ‬الطباق‭ ‬والجناس‭ ‬اللغويين‭ ‬للكلمات‭: ‬صوت‭/‬معنى،‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الحقيقة‭ ‬الشعرية‮»‬،‭ ‬هو‭ ‬اعتبار‭ ‬ظاهري‭ ‬محض،‭ ‬فالقصيدة‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬المعادل‭ ‬الفيزيائي‭ ‬لهذه‭ ‬الثنائية‭ ‬اللغوية،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الصوت‭ ‬يمتُّ‭ ‬بصلة‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الإيقاع‭ ‬والموسيقى‭ ‬والسماع،‭ ‬ويتجلى‭ ‬عند‭ ‬الكلاسيكيين‭ ‬بالوزن،‭ ‬وعند‭ ‬المحدثين‭ ‬بالإيقاع‭ (‬الداخلي‭) ‬فإن‭ ‬بيتهوفن‭ ‬نفسه‭ ‬يرى‭ ‬الموسيقى‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬تمظهر‭ ‬حسي‭ ‬لجوهر‭ ‬غير‭ ‬حسي،‭ ‬والجاحظ‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬المعاني‭ ‬خفية‭ ‬وخافية‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬ولا‭ ‬تظهر‭ ‬إلا‭ ‬بالكلمات‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الكلمات‭ ‬غير‭ ‬المعاني‭ ‬ثنائية‭ ‬صوت‭/ ‬معنى،‭ ‬أو‭ ‬دال‭ ‬ومدلول‭ ‬ثنائية‭ ‬قديمة‭. ‬تكلّم‭ ‬عنها‭ ‬المفكرون‭ ‬والنقاد‭ ‬العرب‭ ‬القدامى‭ ‬من‭ ‬الجاحظ‭ ‬للتوحيدي‭ ‬لحازم‭ ‬القرطاجني‭.. ‬واستطردوا‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬ثنائية‭ ‬أخرى‭ ‬ملازمة‭ ‬للأبحاث‭ ‬هي‭ ‬شعر‭/ ‬نثر‭. ‬وأبوحيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬يشير‭ ‬في‭ ‬‮«‬المقابسات‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬‮«‬الإطراب‮»‬‭ ‬أي‭ ‬لذة‭ ‬الوقوع‭ ‬الصوتي‭ ‬في‭ ‬السمع،‭ ‬أما‭ ‬المعنى‭ ‬فيقع‭ ‬في‭ ‬النفس‭.. ‬إذن‭ ‬دائما‭ ‬هناك‭ ‬ثنائية‭.‬

والاستدراك‭ ‬الجوهري‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬يقوم‭ ‬حول‭ ‬إمكان‭ ‬تهديم‭ ‬ثنائية‭ ‬صوت‭/ ‬معنى‭ ‬وشعر‭/ ‬نثر،‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وتعميق‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الإيقاع،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية‭. ‬ولمثل‭ ‬هذه‭ ‬الوحدة،‭ ‬نماذج‭ ‬في‭ ‬الإرث‭ ‬الديني‭ ‬واللغوي‭ ‬معا،‭ ‬فإن‭ ‬كلمة‭ ‬الكينونة‭ ‬‮«‬كُنْ‮»‬‭ ‬في‭ ‬الذكر‭ ‬الحكيم،‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬النطق‭ ‬والفعل‭ ‬‭{‬إنما‭ ‬أمره‭ ‬إذا‭ ‬أراد‭ ‬شيئا‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬كن‭ ‬فيكون‭}‬‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الكلمة‮»‬‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭ ‬هي‭ ‬الروح،‭ ‬أي‭ ‬جوهر‭ ‬الوجود‭ ‬‮«‬في‭ ‬البدء‭ ‬كان‭ ‬الكلمة‮»‬‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬الفنون‭ ‬نزوعًا‭ ‬نحو‭ ‬جواهر‭ ‬الأشياء‭ ‬أي‭ ‬جواهر‭ ‬الكلمات،‭ ‬ولعل‭ ‬المساحة‭ ‬بين‭ ‬الصوت‭ ‬والمعنى‭ ‬مساحة‭ ‬افتراضية،‭ ‬أو‭ ‬وهمية،‭ ‬فحين‭ ‬يتغير‭ ‬الصوت‭ ‬يتغير‭ ‬المعنى‭ ‬بالتأكيد‭. ‬إن‭ ‬من‭ ‬الأجدر‭ ‬الكلام‭ ‬تجاه‭ ‬لغة‭ ‬الشعر،‭ ‬عن‭ ‬الصوت‭/ ‬الصمت‭.‬

هنا‭ ‬نتخلص‭ ‬من‭ ‬التشريح‭ ‬الألسني‭ ‬المضجر‭ ‬للقصيدة،‭ ‬ونغوص‭ ‬على‭ ‬عمق‭ ‬صمت‭ ‬القلب،‭ ‬فالشعر‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬هذا‭ ‬الصمت‭. ‬يسهل‭ ‬تفسير‭ ‬الصوت‭ ‬باعتباره‭ ‬النطق،‭ ‬لكن‭ ‬الصمت‭ ‬صعب‭ ‬ومحيّر‭. ‬النطق‭ ‬كلام‭ ‬أما‭ ‬الصمت‭ ‬فلاكلام‭. ‬مالارميه‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬الكلمات‭ ‬وظلالها،‭ ‬لكن‭ ‬المسألة‭ ‬كما‭ ‬نرى،‭ ‬أبعد‭ ‬وأخطر‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬الصمت‭ ‬هو‭ ‬ظل‭ ‬النطق‭.‬

الصمت‭ ‬هو‭ ‬عينه‭ ‬النطق‭ ‬الداخلي‭ ‬للكلمات‭. ‬هو‭ ‬نطق‭ ‬المخيلة‭.‬

 

الإيقاع

يصعب‭ ‬تعريف‭ ‬الإيقاع‭ ‬كما‭ ‬يصعب‭ ‬تعريف‭ ‬الشعر‭ ‬نفسه‭. ‬النظرة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬للشعر‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬أرسطو‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬اعتبرته‭ ‬تلاحم‭ ‬المخيلة‭ (‬المحاكاة‭) ‬مع‭ ‬الوزن‭. ‬أما‭ ‬الوزن‭ ‬فهو‭ ‬توالي‭ ‬حركات‭ ‬وسكونات‭ ‬محدودة‭ ‬رتيبة‭ ‬وجامدة،‭ ‬تنتهي‭ ‬بقافية‭. ‬وقد‭ ‬أخذ‭ ‬الفلاسفة‭ ‬العرب‭ ‬والنقّاد‭ ‬هذه‭ ‬الحدود‭ ‬للشعر‭ ‬عند‭ ‬الإغريق،‭ ‬وطبقوها‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬كابن‭ ‬سينا‭ ‬والفارابي‭ ‬وابن‭ ‬رشد‭ ‬وابن‭ ‬قتيبة‭ ‬وابن‭ ‬الأثير‭ ‬والطباطبائي‭ ‬في‭ ‬‮«‬عيار‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬وصولا‭ ‬لحازم‭ ‬ومن‭ ‬تلاه‭. ‬وقد‭ ‬استعملوا‭ ‬الوزن‭ ‬للشعر،‭ ‬والإيقاع‭ ‬للموسيقى‭ ‬والغناء،‭ ‬ما‭ ‬خلا‭ ‬ابن‭ ‬سينا،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬الإيقاع‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬وزنه‭ ‬حين‭ ‬ينتظم‭ ‬في‭ ‬الحروف‭ ‬والكلمات‭ ‬بنسق‭ ‬محدد‭ ‬ومعاد‭.‬

الإيقاع‭ ‬صعب‭. ‬وهو‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬النقر‭ ‬الموسيقي‭ ‬أو‭ ‬التناسب‭ ‬أو‭ ‬التناوب،‭ ‬لكنه‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬الميتافيزيقيا‭ ‬كأنه‭ ‬رنين‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‭. ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬الدراسات‭ ‬الموسيقية‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬الإيقاع‭ ‬إشارات‭ ‬واضحة‭ ‬أو‭ ‬ضمنية‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬إلهي‭ ‬أو‭ ‬سماوي‭ ‬أو‭ ‬هابط‭ ‬من‭ ‬السماء‭. ‬هو‭ ‬كالشعر،‭ ‬وحي،‭ ‬إلهام،‭ ‬هبة‭ ‬عليائية‭.. ‬إلخ‭ (‬ينظر‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬الإيقاع‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬للدكتور‭ ‬علوي‭ ‬الهاشمي،‭ ‬المؤسسة‭ ‬العربية‭ ‬للدراسات‭ ‬والنشر‭ ‬بالتشارك‭ ‬مع‭ ‬وزارة‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬2006،‭ ‬ص28‭).‬

وكما‭ ‬يصعب‭ ‬تعريف‭ ‬واحد‭ ‬للشعر،‭ ‬يصعب‭ ‬تعريف‭ ‬واحد‭ ‬للإيقاع،‭ ‬برغم‭ ‬استيعاب‭ ‬أصله‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬من‭ ‬‮«‬ريتم‮»‬‭ ‬Rhythm‭ ‬باللاتينية‭. ‬فإن‭ ‬ت‭.‬س‭.‬إليوت‭ ‬مثلا،‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬اعتبار‭ ‬الإيقاع‭ ‬‮«‬موسيقى‭ ‬خيال‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬أوسع‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ (‬Metre‭)‬،‭ ‬لأن‭ ‬له‭ ‬مستويات‭ ‬متعددة‭ ‬خارجية‭ ‬وداخلية،‭ ‬بعضها‭ ‬بصري‭ ‬وبعضها‭ ‬فكري‭ ‬فلسفي،‭ ‬وبعضها‭ ‬سمعي‭.. ‬وربما‭ ‬امتدت‭ ‬مساحة‭ ‬الإيقاع‭ ‬لتشمل‭ ‬جميع‭ ‬الحواس‭ ‬وتشمل‭ ‬جميع‭ ‬الكائنات‭ ‬والفنون‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬وتجاربه‭ ‬الحديثة،‭ ‬فثمة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬الشعر‭ ‬الملموس،‭ ‬والمباشر،‭ ‬والقصيدة‭ ‬الخرساء‭.. ‬ولعل‭ ‬الرجع‭ ‬الصوتي‭ ‬أو‭ ‬الترجيع‭ ‬الصوتي‭ ‬كائن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سماه‭ ‬أوكتافيو‭ ‬باث‭ ‬‮«‬ترددات‭ ‬الهارمونية‭ ‬الكونية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬شبه‭ ‬القصيدة‭ ‬بالمحارة‭ ‬التي‭ ‬تصدح‭ ‬فيها‭ ‬موسيقى‭ ‬العالم‭. ‬وما‭ ‬القوافي‭ ‬والأوزان‭ ‬إلا‭ ‬ترددات‭ ‬وأصداء‭ ‬لهذه‭ ‬الهارمونية‭. ‬للإيقاع‭ ‬البصري‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬تجليات‭ ‬عديدة‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬رسوم‭ ‬وأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬أبولينير‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬الصورية‭ ‬Figuristes،‭ ‬وقد‭ ‬تكلم‭ ‬رمبو‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مشهورة‭ ‬له‭ ‬هي‭ ‬‮«‬أحرف‭ ‬المد‮»‬‭ ‬على‭ ‬ألوان‭ ‬الحروف‭: ‬A‭ ‬سوداء،‭ ‬E‭ ‬بيضاء،‭ ‬I‭ ‬حمراء،‭ ‬V‭ ‬خضراء،‭ ‬O‭ ‬زرقاء‭.. ‬‮«‬يا‭ ‬أحرف‭ ‬المدّ‭ ‬سأتحدث‭ ‬يوما‭ ‬عن‭ ‬ولاداتك‭ ‬الخفية‮»‬‭ ‬فللحروف‭ ‬‮«‬تنفس‭ ‬ومدى‮»‬‭ (‬هـ‭. ‬زغيب،‭ ‬لغات‭ ‬اللغة،‭ ‬دار‭ ‬الساقي‭ ‬2011‭ ‬ص28‭).‬

كما‭ ‬عوّل‭ ‬بعض‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬حاسة‭ ‬الشم‭ ‬وإيقاعه،‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭. ‬يقول‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬سرحان‭ ‬يشرب‭ ‬القهوة‭ ‬في‭ ‬الكافيتيريا‮»‬‭: ‬‮«‬ورائحة‭ ‬البنّ‭ ‬جغرافيا‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬السياب‭ ‬فيتحسس‭ ‬المعنوي‭ ‬والمتخيل‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬أثمر‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يثمر‭/ ‬بتين‭ ‬من‭ ‬الذكرى‮»‬‭: ‬تمر‭ ‬الصمت‭ ‬وتين‭ ‬الذكرى‭. ‬هذه‭ ‬الأمثلة‭ ‬وسواها‭ ‬في‭ ‬التجريب‭ ‬الشعري‭ ‬الحديث،‭ ‬تتجاوز‭ ‬بكثير‭ ‬مسألة‭ ‬الوزن‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬لتجعل‭ ‬من‭ ‬الإيقاع‭ ‬المتنوع‭ ‬جوهرًا‭ ‬من‭ ‬جواهر‭ ‬القصيدة،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ ‬أبعد‭ ‬وأعمق‭ ‬وأكثر‭ ‬كثافة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬السمع‭ ‬في‭ ‬الكلمات،‭ ‬وفي‭ ‬ترتيب‭ ‬الصائت‭ ‬والصامت‭ ‬في‭ ‬متوالياتها‭. ‬إنه‭ ‬كما‭ ‬نرى،‭ ‬يضرب‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬الصمت‭. ‬هذه‭ ‬الهوّة‭ ‬الغامضة‭ ‬والخلاّقة‭ ‬للشعر‭.‬

 

اللحظة‭ ‬الشعرية‭: ‬المتعة‭ ‬اللغوية

إن‭ ‬الإمساك‭ ‬باللحظة‭ ‬الشعرية‭ ‬عمل‭ ‬ممتع‭ ‬حقا‭. ‬ثمة‭ ‬بالتأكيد‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬المتعة‭ ‬اللغوية‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬صياد‭ ‬للحظة‭ ‬الشعرية‭ ‬ملزم‭ ‬بأن‭ ‬يرهف‭ ‬حواسه‭ ‬جميعًا‭ ‬وقلبه‭ ‬للموسيقى‭ ‬المنبعثة‭ ‬من‭ ‬الكائنات،‭ ‬من‭ ‬النملة‭ ‬الدابة‭ ‬على‭ ‬التراب،‭ ‬إلى‭ ‬المحراب‭.. ‬فلكل‭ ‬شيء‭ ‬لغة،‭ ‬واللغة‭ ‬هنا‭ ‬تتجاوز‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬والقاموسي،‭ ‬لتندرج‭ ‬في‭ ‬السيمياء‭. ‬اللغة‭ ‬إشارة،‭ ‬سيمولوجيا،‭ ‬وبمقدار‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬اللحظة‭ ‬الشعرية‭ ‬لحظة‭ ‬إشارة،‭ ‬برقيّة،‭ ‬سمعية،‭ ‬بصرية‭ ‬مشمومة‭ ‬مذاقة‭ ‬ملموسة‭.. ‬إلخ،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه‭ ‬بارقة‭ ‬في‭ ‬الروح‭. ‬بارقة‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬تتدخل‭ ‬فيها‭ ‬الفلسفة‭ ‬ومفهوم‭ ‬الزمان‭ ‬الذي‭ ‬يتحرك‭ ‬في‭ ‬الأبدية‭. ‬وبالتالي‭ ‬لعل‭ ‬في‭ ‬الإشراق‭ ‬الذي‭ ‬تكلم‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬المتصوفة‭ ‬كالسهروردي‭ ‬وابن‭ ‬عربي،‭ ‬ما‭ ‬يخدم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭. ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬عقد‭ ‬قرانه‭ ‬على‭ ‬نجوم‭ ‬السماء‮»‬‭ (‬رسائل‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭)‬،‭ ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬بريغوجين‭ (‬نوبل‭ ‬للكيمياء‭ ‬1977‭) ‬المتوفى‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2003‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬بين‭ ‬الزمن‭ ‬والأبدية‮»‬‭ ‬يصح‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬صحته‭ ‬على‭ ‬العلم‭: ‬‮«‬إنّ‭ ‬الكون‭ ‬ينتج‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬استقرار‭ ‬خلاق‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتكرر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية،‭ ‬وهنا‭ ‬نرى‭ ‬الأبدية‮»‬‭. ‬يقول‭ ‬سعيد‭ ‬عقل‭: ‬‮«‬لوقعُكِ‭ ‬فوق‭ ‬السرير‭ ‬مهيب‭ / ‬كوقع‭ ‬الهنيهة‭ ‬في‭ ‬المطلق‮»‬‭.‬

مع‭ ‬التطور‭ ‬تغدو‭ ‬علاقة‭ ‬القصيدة‭ ‬باللغة‭ ‬أكثر‭ ‬تنوعا‭ ‬وخصبا‭. ‬هذا‭ ‬التطوّر‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬اللحظة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬للعالم،‭ ‬لحظة‭ ‬الإنترنت‭ ‬والشبكة‭ ‬الوهمية،‭ ‬الإشارة‭ ‬والبارقة‭ ‬والرقم‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الفنون‭ ‬قلقا،‭ ‬والشعراء‭ ‬أحيانا‭ ‬معزولين‭ ‬ككائنات‭ ‬مضطرة‭ ‬للانسحاب‭ ‬إلى‭ ‬عزلات‭ ‬تحت‭ ‬ثقل‭ ‬الآلة‭ ‬الصُّنعية‭ ‬وفي‭ ‬رمل‭ ‬الرقم‭ ‬والإشارة‭. ‬وما‭ ‬نشهده‭ ‬اليوم‭ ‬حقا‭ ‬هو‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬اللغة‭ ‬وانتقالها‭ ‬من‭ ‬البلاغة‭ ‬إلى‭ ‬برق‭ ‬الإشارة،‭ ‬ومن‭ ‬مفهوم‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬إلى‭ ‬متاهة‭ ‬الإيقاع،‭ ‬حيث‭ ‬يختلط‭ ‬الكلام‭ ‬باللاكلام،‭ ‬والنثر‭ ‬بالشعر،‭ ‬والنسق‭ ‬بالفوضى،‭ ‬والشاعر‭ ‬بالمتلقي،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬باحثا‭ ‬هو‭ ‬نبيل‭ ‬علي‭ ‬اقترح‭ ‬تغيير‭ ‬اسم‭ ‬المتلقي‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬المتلكي‮»‬‭. ‬ونشأت‭ ‬مع‭ ‬التطور‭ ‬الإلكتروني‭ ‬قصائد‭ ‬الفيسبوك‭ ‬والقصيدة‭ ‬الفورية،‭ ‬ونص‭ ‬الموبايل،‭ ‬والنص‭ ‬الجماعي،‭ ‬والنص‭ ‬الرقمي‭ ‬المحض‭ ‬التفاعلي‭ ‬أو‭ ‬الهايبرتكست‭.. ‬هي‭ ‬تجارب‭ ‬كثيرة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬تحاول‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬تغير‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬ارتباط‭ ‬القصيدة‭ ‬باللغة،‭ ‬والوزن،‭ ‬والإيقاع،‭ ‬وهو‭ ‬ارتباط‭ ‬تاريخي‭ ‬وثني‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬كبيرة‭.. ‬وتسعى‭ ‬لاعتبار‭ ‬الشعر‭ ‬هباء‭ ‬الإشارة‭ ‬الإلكترونية‭.‬ إنها‭ ‬تحاول‭..