الشعر.. ذلك الترجيع بين صوت اللغة وصمتها

في البحث عن ماهية الشعر، تعترض الباحث احتمالات عدة، فإن كان الباحث شاعرا في الوقت عينه، يزداد حرجه كباحث، إذ يضاف إلى التعارضات التي قد يجمع بينها، عنصر ذاتي ينحاز فيه الشاعر لطريقته في الشعر، فيغدو كل بحث في الشعر والقصيدة، وجهة نظر ذاتية، وهو أمر لا مفر منه بكل حال، كما أنه لا مفر من أن يكون في داخل كل باحث في الشعر، نواة شاعر، والعكس صحيح. فيصبح البحث في الشعر، كالشعر نفسه، إشكالية مفتوحة.
الشعر كإشكالية
من الصحيح القول مثلا، إن الشعر هو مجموعة ما كتبه الشعراء، وهذا القول يغلق المسألة بمقدار ما يفتحها، فهو إذ ينوّع الاحتمالات على امتداد مروحة لا نهائية من القصائد المتحققة بالفعل، وتلك التي يحتمل تحققها مع الوقت، فإنه يحيل الجدال في «الكيف» إلى تجميع «للكم». وربما أفلت منه جوهر الشعر، إذ هو كَيْفُ القول بامتياز، أكثر مما هو كَمُّه.
سيكون من الممتع حقا، وربما الصحيح، البداية من التناقضات، في مسألة محيّرة بمقدار ما هي حاضرة، وعصية على الحصار بمقدار ما هي بديهية، بل لعلني سأضيف أمرًا خطيرًا مفاده أنه على الرغم من تعاطينا اليومي بل اللحظوي مع الشعر، فإن ضجرا مؤكدا ينتابنا من هذه الفتنة الغامضة، ولعله ضجر قريب من الضجر من الحياة نفسها، ولعل نزعة مرضية تلحق بالبعض منا، فيعلن كرهه للشعر، أو رغبته في قتله، وقد يسميه كما سماه الماغوط «الجيفة الخالدة»، أو يسأل كما سأل أنسي الحاج: «ومتى كان الشاعر يكتب شعرًا؟»، لكن المفارقة هنا، هي أن الشاعر يهجو الشعر بالشعر. يقول نزار قباني:
«أكرهها وأشتهي وصلها
وإنني أحب كرهي لها».
وفي المسألة، كما نلاحظ، نكد مؤكد، وهو نكد أشار إليه الأقدمون بالاسم، فقد قال الأصمعي: «الشعر نكد بابه الشر فإن دخل في الخير ضعف». أما فيكتور هوجو فيقول بعد ألف عام من موت الأصمعي، متأسفا على عصر الكلاسيكية الآفل،: «ألقيت بالنظم النبيل إلى كلاب النثر السوداء».
قلنا إن الشعر إشكالية مفتوحة، وهذا هو سر بقائه وتجدده، فالشعر لا يصنعه اسمه، بل ربما تجعله التسمية أسيرا ومستهدفا.
والحال أن كثيرين من شعراء الحداثة وما بعد الحداثة، تأثروا بالأسئلة الشكاكة، بل التدميرية حول الشعر، وكان أول من فجّرها في العصور الحديثة، الفيلسوف الألماني «هيجل»، في كتابه «علم الجمال» 1832م، فهو قد دمّر الشعر تدميرًا فلسفيًا، معتبرا أنه، كأداة من أدوات البرهان الفلسفي أو تحقيق الروح في ذاتها (Geist)، قد انتهى دوره، مات وحلّ محله «التفكير في الشعر» وحفظ الشعر في الأرشيف.
وقد أصبح ذلك في ما بعد، بمنزلة قدّاس جنائزي امتدّ من أواسط القرن التاسع عشر ولاتزال تقرع أجراسه حتى اليوم.
نرى هنا بالذات، عمق نظرة الأصمعي كردّ مبكّر عظيم على «هيجل» الذي نظر للشعر نظرة أخلاقية وظيفية. الرد الغربي بالطبع على هيجل جاء من ناحية الشعراء أنفسهم، مهّد لهم «مالارميه» في ديوانه «رمية نرد» بقوله: «ضربة نرد أبدًا لا تهدم المصادفة»، معتبرًا المصادفة اللامسئولة، غير المدبرة العشوائية، هي التي تصنع الجمال وليس العقل. والأقسى كان «بودلير» في كتابه «سبلينغ دي باري» (سويداء باريس) الذي دعا فيه إلى العبث المرعب بكل عناصر الجمال السابقة وهلهلة المسلّمات الجمالية والفلسفية.
ستتدحرج الكرة بعد ذلك، يدحرجها الشعر بمقدار ما تدحرجها الفلسفة، إلى حد قول «بول لا فارغ» في كتابه «الحق بالكسل» 1880م، بمفهوم «اللاشيء»، تأسيسًا على قول «لايبنز»: «لماذا يوجد شيء ولا يوجد لا شيء؟». تبعًا لذلك، لماذا يوجد شعر ولا يوجد «لا شعر»؟ فأمام القصيدة هناك «اللاقصيدة».
عربيًا، يقول حسن نورالدين: «إن صديقي هذا يكره لون الشعر وصوت الشعراء/ منذ تزحلق في أول قافية ألقاها/ من مجموعته اللاشعرية». لكنّ الأبدع في الإشكالية، يظل يرشح من قول ابن عربي في رسالة «حقيقة الحقائق، إنه «عَبَد ميزابا رآه في مدينة فاس، وعبد ظله، وفتاة صغيرة».. ولهذه الظهورات حديث آخر.
الشعر: سلطة اللغة
«لفا» في ابن منظور، تكلَّم، والكَلْم الجرح، والكلمة جرح المعنى لإظهار ما فيه.. أما اللغة فهي اللسْنُ، وهي أصوات يعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم، والجمع لغات ولغون.
لكنّ لسان العرب لم يستنفد أغراض اللغة، ولم يتبع مآلاتها وسلطاتها إلى النهاية، فاللغة التي بدأت حاجة لدى الإنسان، انتهت إلى أن تصبح سلطة من أهم السلطات، دينية وسياسية وعلمية وشعرية أخيرًا وهمية عنكبوتية. كانت قبل الأديان السماوية سلطة من سلطات السحر والكهانة، ومع نزول القرآن، توسع معنى اللغة توسيعا فذا، فقد اعتبر القرآن (قبل الألسنيين والحداثيين في الغرب)، الإشارة أو العلامة (Signe) شكلا من أشكال اللغة، فتكلّم على لغة الطير التي يعرفها سليمان النبي، ولغة النمل، وأن للعناصر ومظاهر الكون لغات تنطق بعظمة الخالق. وجاء بعد ذلك في مؤلفات الجاحظ (المحاسن والأضداد، البخلاء..) حكايات حول قدرة اللغة على الرفع والخفض والإضحاك والإبكاء والبسط والقبض، وصولا إلى حدود تتجاوز العقل والمنطق في الحق والباطل والموت والحياة.. كلمة تحيي وكلمة تميت، وخطأ نحوي يضيع الحق من أهله، وكلمة بليغة تنقذ من العقاب.. حتى كأن اللغة ميزان قائم فوق العدالة وفوق الحق والباطل.
هل الشعر لغة؟
الشعر لغة. هل هذا يكفي؟ هل هذا صحيح؟ وكيف؟
لا شك، تاريخيًا، وحتى اليوم، في اعتبار علماء اللغة وفقهائها مرجعيات جوهرية للشعر، من «ابن جنّي» حتى العلايلي. وعلاقة الشعر باللغة والشاعر باللغة، علاقة شديدة التعقيد، ولعلّ فيها مسائل مستترة قابلة للتأويل ومسائل أخرى تستعصي على الشرح، مع رسوخ الاعتقاد بحقيقتها. أهم ما قام به العلاّمة العلايلي في العصور الحديثة، الكشف عن الأسرار الفلسفية في شعر «المعرّي» في كتابه «المعري ذلك المجهول»، لقد فتّت العلايلي من خلال تقصيه اللغوي لأشعار فيلسوف المعرّة، النواة اللغوية لدى هذا الشاعر (بعبارة مارون عبّود عن العلايلي اللغوي)، بقراءته قراءة لغوية تأويلية. فالمعري عقل تأويلي كبير، عقل مستتر رامز وغامض، والفلسفة اللغوية هي مفتاح أشعاره وأفكاره، فهو يسلك مسلكا حرفيا رمزيا يفسّر الوجود بحساب الحروف، من خلال ما يسميه «التنكيس»، وهو أسلوب من أساليب «إخوان الصفا».
يقول: «نشهد المعري في بدايته يحيا في عالم لغوي، من كل أرجائه، مثل الرباني الذي يَسْبح في عالم لا نهائي من الأعداد، يحيا في العدد ويحيا فيه العدد..». وقد جذبه إلى اللغة انطفاء حاسة البصر لديه، فاللغة هي الرمز المجرد الذي عوّض به عن المحسوسات والمرئيات التي يثبتها البصر، كما عوّض بها عن المكان غير المتميز لديه بسبب العمى. فاللغة في شعر المعري هي سر الكون وأساسه، وقيمتها قيمة فلسفية وعددية مطلقة، واللغز الكوني يُحل بالعدد، واللغة هي العدد:
«فيا أَلِفَ اللفظ لا تأملي
حراكًا فما لك غير السكون».
والشاعر الفيلسوف الكامل هو شاعر اللغة العربية، لأن العربية هي اللغة الكاملة، والكون كله كون لغوي:
«هذي حروف اللفظ سطر واحد
منها يؤلَّف للكلام بحار».
تبعا لذلك، يصبح الكون لديه بيتًا من الشعر، قافيته الإنسان، أو منظومة لغوية، وحين يشعر المعري بإخفاق هذا التوحد في العالم، فإنه يقول بفساد العالم، واليأس من التناسل:
«تواصل حبل النسل ما بين آدم
وبيني ولم يوصَلْ بلامِيَ باء».
يرى العلايلي أن كثيرًا من التفسيرات وردت في هذا البيت الذي أعجز الشارحين، وعنده أن في البيت إيماء لعلم الحرف الذي يقول به «إخوان الصفا»، وفيه أن حرف الباء هوائي وحرف اللام ترابي، وهو بهذا يرمز إلى أن وجوده الفنائي الترابي لم توصل به نسمة هوائية. لا شك في أننا هنا أمام عبقريتين متداخلتين، واحدة في الشعر وواحدة في اللغة، ويصحّ أن نقول إن الشعر لغة بهذه المقاييس، لكن يصح أن نقول أيضا إن النثر بدوره لغة، فما الفارق؟
السؤال قديم ومتجدد ولا ينفد مداده، وإشكالياته. يكفي على سبيل المثال، استبدال كلمة بكلمة في سياق ما، لكي ينفجر نبع آخر للكلام، كما في عنوان رواية أحلام مستغانمي «عابر سرير»، فهي استبدلت كلمة بكلمة في جملة معروفة «عابر سبيل» لتقدم معنى جديدا وموحيا. هل هذا شعر؟.. إذن، ستمحى هنا الحدود بين الشعر والنثر لناحية ضم الكلمات.. وتكاد تكون - من القديم حتى اليوم - القواعد الفنية للشعر هي عينها قواعد النثر الفني: من الومضة إلى العمارة إلى الرمز إلى الإيقاع. وعلى الإيقاع يعوّل كثيرًا. فبمقدار ما يكمن فيه سلك جامع بين النثر الفني (بأجلى مظاهره في قصية النثر وهي نوع جديد ومستحدث من الشعر)، والشعر الموزون، يكمن خط فاصل بين الشعر والنثر. وكما الشعر هو «لغة في اللغة» (بتعبير فاليري في مقدمة ديوانه «غوايات» المنشور سنة 1922)، كذلك النثر الفني هو «لغة في اللغة». هل طريقة استعمال اللغة تحدد الفرق؟ هل الاستعارات هي «شمس الشعر» (نيرودا)؟ ولكن في النثر أيضًا استعارات. هل الصورة؟ هل هو «معنى المعنى» (الجرجاني)؟
ولكن أيضًا نجد ذلك كله وأكثر منه في النثر الفني. هل الأشكال الجيومترية للقصيدة، الأبعاد، المسافات، الانتظام الصوتي (التفعيلي) هو الفارق؟ أم أن ثمة روحا خفية، تستعصي على الرصد وربما على التفسير، وتتجاوز اللغة بجميع مظاهرها، هي التي تصنع القصيدة؟
العودة للأصول
في الإمكان هنا، وبين مزدوجين، فتح باب واسع للنقاش. سنجد حتى بين عتاة المجددين الحداثيين في الشعر، والما بعد.. من غربيين وعرب، من يوصي بالأصول، تلافيا لمتاهة خطيرة ليس فيها من وصول. ربّ معترض يقول: لم لا تكون المتاهة؟ الشعر متاهة. ومع ذلك، فإن ناظم حكمت مثلا، الذي اشتغل طويلا بشعر خارج على الأصول، عاد إليها في آخر حياته صارخًا: «أوصيكم بالأصول».. كذلك بول إيليوار ومثله أراجون وسواهما من مؤسسي الحداثة الشعرية في فرنسا، وأدونيس الذي طالما شرّق وغرّب، عاد إلى هذه النظرة، أو ما يشبهها. لكن الملاحظ أن جميع هؤلاء الشعراء المجربين، خاضوا الحداثة وخرجوا على الأصول طويلا، قبل الرجوع لبيت الطاعة. لعلهم خافوا أن يلعبوا لعبة الشعر، كما يلعب لاعب كرة المضرب بلا شبكة، على قول روبرت فروست.
النظرية العربية الحديثة
الجهد النظري العربي اليوم، في الشعرية، وارتباط الشعر باللغة، قليل. الأقدمون كانوا أهم بما لا يقاس، وسبقوا النظريات الغربية بمراحل. في الثمانينيات من القرن الفائت وضع كمال أبوديب نظرية تشبه نظرية الانزياح لدى كوهين، سماها «شعرية الفجوة»، وهي قائمة على شبكة من العلاقات المتشكلة في البنية الكلية للنص، ويركّز على المادة الصوتية للقصيدة، هذه المادة التي تشكل وجودها الفيزيائي الملموس، مستبعدًا الأبعاد الميتافيزيقية عن النص (الجوانب الخفية) كما يقول (في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية ط1/1987، ص13 - 14). تبعًا لذلك فالشعر خصيصة نصية لا ميتافيزيقية. لكن أبوديب ناقض نفسه بعد ذلك، حين تطرق للعلاقة بين الحضور والغياب بقوله: «النص تجسيد لغوي لكائن، وانفتاح خارج اللغة على كينونة الغياب» (ص19).
سمات الدراسات الألسنية الحديثة
للشعر.. نظرة نقدية
أهم سمات هذه الدراسات هي أنها تنحو منحى شكليا في تعاملها مع القصيدة، حيث تعتبر الأساس هو المادة اللغوية بوصفها الوسيلة والغاية معًا: جاكوبسون، كوهين. وهي تنحو منحى شموليا يستند إلى ثنائية المعنى/ الصوت، والشاعر/ القارئ (تودوروف، أبوديب)، وهي تستند إلى التمييز بين اللغة والكلام (عند سوسور) وإلى ما تسميه الوظيفة الشعرية للغة المؤسسة على نظرية الانزياح (كوهين) والفجوة (أبوديب) ويسميها «مساحة التوتر»، لكن ما يجمع هذه النظريات هو نظرتها للشعر على أنه «استعمال خاص متفرد ومفاجئ للغة».
لا ريب في أن السؤال المطروح على جميع اللغويين والألسنيين هو التالي: هل الشعر ينتهي إلى كونه ظاهرة صوتية تتمثل في التردد بين الصوت والمعنى؟ أي بين ثنائية البعد السيميائي والبعد الدلالي للنص (في ما هو كلام) أو بين الجرْس والمضمون أو الدال والمدلول؟
لاريب أن في ذلك تبسيطا للشعر من ناحية، واختزالا للقصيدة، في الوقت نفسه.. فالملاحظ أن ثمة ميلا عاما للخلط بين الشعر والقصيدة، لقد فعل العرب ذلك على الإجمال، كما فعله الغربيون. وهنا من الحَسَن اعتبار الشعر أوسع من القصيدة، وشموله لكل شيء في الوجود كأسلوب وطريقة وجود، ففي الشجرة شعر وفي الطائر والمرأة والهاوية والبحر والمسرحية والرواية واللوحة المصورة.. إلخ. أما القصيدة، فهي المعطى التقني الوحيد للشعر في اللغة.
والملاحظ أن اعتبار الشعر (والمقصود القصيدة) هو هذا التردد بين مفردات الطباق والجناس اللغويين للكلمات: صوت/معنى، على أنه هو «الحقيقة الشعرية»، هو اعتبار ظاهري محض، فالقصيدة ليست هي المعادل الفيزيائي لهذه الثنائية اللغوية، فإذا كان الصوت يمتُّ بصلة إلى عالم الإيقاع والموسيقى والسماع، ويتجلى عند الكلاسيكيين بالوزن، وعند المحدثين بالإيقاع (الداخلي) فإن بيتهوفن نفسه يرى الموسيقى في الشعر ليست سوى تمظهر حسي لجوهر غير حسي، والجاحظ يرى أن المعاني خفية وخافية في النفس ولا تظهر إلا بالكلمات. أي أن الكلمات غير المعاني ثنائية صوت/ معنى، أو دال ومدلول ثنائية قديمة. تكلّم عنها المفكرون والنقاد العرب القدامى من الجاحظ للتوحيدي لحازم القرطاجني.. واستطردوا منها إلى ثنائية أخرى ملازمة للأبحاث هي شعر/ نثر. وأبوحيان التوحيدي يشير في «المقابسات» إلى ما يسميه في الشعر «الإطراب» أي لذة الوقوع الصوتي في السمع، أما المعنى فيقع في النفس.. إذن دائما هناك ثنائية.
والاستدراك الجوهري على هذه الأفكار يقوم حول إمكان تهديم ثنائية صوت/ معنى وشعر/ نثر، في اللغة، من ناحية، وتعميق البحث في مسألة الإيقاع، من ناحية ثانية. ولمثل هذه الوحدة، نماذج في الإرث الديني واللغوي معا، فإن كلمة الكينونة «كُنْ» في الذكر الحكيم، تعني في وقت واحد، النطق والفعل {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}. كما أن «الكلمة» في العهد القديم هي الروح، أي جوهر الوجود «في البدء كان الكلمة». قد يكون الشعر هو أكثر الفنون نزوعًا نحو جواهر الأشياء أي جواهر الكلمات، ولعل المساحة بين الصوت والمعنى مساحة افتراضية، أو وهمية، فحين يتغير الصوت يتغير المعنى بالتأكيد. إن من الأجدر الكلام تجاه لغة الشعر، عن الصوت/ الصمت.
هنا نتخلص من التشريح الألسني المضجر للقصيدة، ونغوص على عمق صمت القلب، فالشعر يقع في عمق هذا الصمت. يسهل تفسير الصوت باعتباره النطق، لكن الصمت صعب ومحيّر. النطق كلام أما الصمت فلاكلام. مالارميه كتب عن الكلمات وظلالها، لكن المسألة كما نرى، أبعد وأخطر من كون الصمت هو ظل النطق.
الصمت هو عينه النطق الداخلي للكلمات. هو نطق المخيلة.
الإيقاع
يصعب تعريف الإيقاع كما يصعب تعريف الشعر نفسه. النظرة الكلاسيكية للشعر المؤسسة على كتاب أرسطو في الشعر، اعتبرته تلاحم المخيلة (المحاكاة) مع الوزن. أما الوزن فهو توالي حركات وسكونات محدودة رتيبة وجامدة، تنتهي بقافية. وقد أخذ الفلاسفة العرب والنقّاد هذه الحدود للشعر عند الإغريق، وطبقوها على الشعر العربي، كابن سينا والفارابي وابن رشد وابن قتيبة وابن الأثير والطباطبائي في «عيار الشعر» وصولا لحازم ومن تلاه. وقد استعملوا الوزن للشعر، والإيقاع للموسيقى والغناء، ما خلا ابن سينا، فقد اعتبر أن الإيقاع في الشعر هو وزنه حين ينتظم في الحروف والكلمات بنسق محدد ومعاد.
الإيقاع صعب. وهو يبدأ في النقر الموسيقي أو التناسب أو التناوب، لكنه ينتهي إلى الميتافيزيقيا كأنه رنين بلا نهاية. في أكثر الدراسات الموسيقية التي تتناول الإيقاع إشارات واضحة أو ضمنية إلى أنه إلهي أو سماوي أو هابط من السماء. هو كالشعر، وحي، إلهام، هبة عليائية.. إلخ (ينظر كتاب «فلسفة الإيقاع في الشعر العربي» للدكتور علوي الهاشمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالتشارك مع وزارة الإعلام في البحرين، 2006، ص28).
وكما يصعب تعريف واحد للشعر، يصعب تعريف واحد للإيقاع، برغم استيعاب أصله في اللغة، من «ريتم» Rhythm باللاتينية. فإن ت.س.إليوت مثلا، ينتهي إلى اعتبار الإيقاع «موسيقى خيال» وهو أوسع بكثير من الوزن (Metre)، لأن له مستويات متعددة خارجية وداخلية، بعضها بصري وبعضها فكري فلسفي، وبعضها سمعي.. وربما امتدت مساحة الإيقاع لتشمل جميع الحواس وتشمل جميع الكائنات والفنون بما في ذلك الشعر وتجاربه الحديثة، فثمة ما يسمى الشعر الملموس، والمباشر، والقصيدة الخرساء.. ولعل الرجع الصوتي أو الترجيع الصوتي كائن في ما سماه أوكتافيو باث «ترددات الهارمونية الكونية»، حيث شبه القصيدة بالمحارة التي تصدح فيها موسيقى العالم. وما القوافي والأوزان إلا ترددات وأصداء لهذه الهارمونية. للإيقاع البصري في القصيدة الحديثة تجليات عديدة على صورة رسوم وأشكال مختلفة، كما فعل أبولينير الفرنسي في قصائده الصورية Figuristes، وقد تكلم رمبو في قصيدة مشهورة له هي «أحرف المد» على ألوان الحروف: A سوداء، E بيضاء، I حمراء، V خضراء، O زرقاء.. «يا أحرف المدّ سأتحدث يوما عن ولاداتك الخفية» فللحروف «تنفس ومدى» (هـ. زغيب، لغات اللغة، دار الساقي 2011 ص28).
كما عوّل بعض الشعر على حاسة الشم وإيقاعه، وأثره في الذاكرة. يقول محمود درويش في قصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا»: «ورائحة البنّ جغرافيا»، أما السياب فيتحسس المعنوي والمتخيل فيقول: «لقد أثمر الصمت الذي كان يثمر/ بتين من الذكرى»: تمر الصمت وتين الذكرى. هذه الأمثلة وسواها في التجريب الشعري الحديث، تتجاوز بكثير مسألة الوزن التقليدية في الشعر، لتجعل من الإيقاع المتنوع جوهرًا من جواهر القصيدة، هو في المحصلة أبعد وأعمق وأكثر كثافة من أن يبقى على حدود السمع في الكلمات، وفي ترتيب الصائت والصامت في متوالياتها. إنه كما نرى، يضرب في حدود الصمت. هذه الهوّة الغامضة والخلاّقة للشعر.
اللحظة الشعرية: المتعة اللغوية
إن الإمساك باللحظة الشعرية عمل ممتع حقا. ثمة بالتأكيد ما نسميه «المتعة اللغوية»، لكن كل صياد للحظة الشعرية ملزم بأن يرهف حواسه جميعًا وقلبه للموسيقى المنبعثة من الكائنات، من النملة الدابة على التراب، إلى المحراب.. فلكل شيء لغة، واللغة هنا تتجاوز المفهوم التقليدي والقاموسي، لتندرج في السيمياء. اللغة إشارة، سيمولوجيا، وبمقدار ما هي اللحظة الشعرية لحظة إشارة، برقيّة، سمعية، بصرية مشمومة مذاقة ملموسة.. إلخ، إلا أنها في الوقت عينه بارقة في الروح. بارقة ميتافيزيقية تتدخل فيها الفلسفة ومفهوم الزمان الذي يتحرك في الأبدية. وبالتالي لعل في الإشراق الذي تكلم عليه بعض المتصوفة كالسهروردي وابن عربي، ما يخدم في هذه المسألة. يقول ابن عربي إنه «عقد قرانه على نجوم السماء» (رسائل ابن عربي)، ولعل ما كتبه بريغوجين (نوبل للكيمياء 1977) المتوفى في العام 2003 في كتابه «بين الزمن والأبدية» يصح على الشعر صحته على العلم: «إنّ الكون ينتج عن حالة عدم استقرار خلاق يمكن له أن يتكرر إلى ما لا نهاية، وهنا نرى الأبدية». يقول سعيد عقل: «لوقعُكِ فوق السرير مهيب / كوقع الهنيهة في المطلق».
مع التطور تغدو علاقة القصيدة باللغة أكثر تنوعا وخصبا. هذا التطوّر الذي يصل اليوم إلى اللحظة العنكبوتية للعالم، لحظة الإنترنت والشبكة الوهمية، الإشارة والبارقة والرقم وما إلى ذلك، ما يجعل الشعر من أكثر الفنون قلقا، والشعراء أحيانا معزولين ككائنات مضطرة للانسحاب إلى عزلات تحت ثقل الآلة الصُّنعية وفي رمل الرقم والإشارة. وما نشهده اليوم حقا هو التحول في مفهوم اللغة وانتقالها من البلاغة إلى برق الإشارة، ومن مفهوم الوزن والقافية إلى متاهة الإيقاع، حيث يختلط الكلام باللاكلام، والنثر بالشعر، والنسق بالفوضى، والشاعر بالمتلقي، حتى أن باحثا هو نبيل علي اقترح تغيير اسم المتلقي الحديث إلى «المتلكي». ونشأت مع التطور الإلكتروني قصائد الفيسبوك والقصيدة الفورية، ونص الموبايل، والنص الجماعي، والنص الرقمي المحض التفاعلي أو الهايبرتكست.. هي تجارب كثيرة على كل حال، تحاول اليوم أن تغير في مفهوم ارتباط القصيدة باللغة، والوزن، والإيقاع، وهو ارتباط تاريخي وثني إلى حدود كبيرة.. وتسعى لاعتبار الشعر هباء الإشارة الإلكترونية. إنها تحاول..