النزوع العجائبي ورهانات العمل الواقعي

النزوع العجائبي ورهانات العمل الواقعي

تستدعي‭ ‬الكتابة‭ ‬الواقعية‭ ‬بما‭ ‬تفترضه‭ ‬من‭ ‬لصوق‭ ‬بمنجزات‭ ‬السائد،‭ ‬وتماه‭ ‬بمقولات‭ ‬اليومي،‭ ‬ومقررات‭ ‬العادي،‭ ‬إشكالا‭ ‬جوهريا‭ ‬ينبع‭ ‬مما‭ ‬يقتضيه‭ ‬النزوع‭ ‬العجائبي‭ ‬من‭ ‬تشكيك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنجزات،‭ ‬واقتحام‭ ‬لها‭ ‬وسعي‭ ‬دائب‭ ‬نحو‭ ‬اختراقها‭ ‬وتجاوزها،‭ ‬فبعكس‭ ‬الرواية‭ ‬الرومانسية‭ ‬المعتمدة‭- ‬كأي‭ ‬فرع‭ ‬من‭ ‬فروع‭ ‬الفن‭ ‬الرومانسي‭ - ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬الخيال،‭ ‬وشطحات‭ ‬الذات،‭ ‬وميولها‭ ‬الإلحافية‭ ‬نحو‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬القوانين،‭ ‬والمواضعات،‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬الواقعية‭ ‬والفن‭ ‬الواقعي‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬إنما‭ ‬يستقيان‭ ‬أهميتهما‭ ‬من‭ ‬مدى‭ ‬اتصالهما‭ ‬بالواقع،‭ ‬أي‭ ‬بالمألوف،‭ ‬وبمدى‭ ‬تعبيرهما‭ ‬عنه،‭ ‬واستيعابهما‭ ‬لمختلف‭ ‬إشكالاته،‭ ‬ولا‭ ‬نعني‭ ‬بضرورة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الالتباسات‭ ‬اليومية‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬العمل‭ ‬انعكاسا‭ ‬للخارج،‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬بليدة،‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬مهمة‭ ‬الكاتب‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬ما‭ ‬يراه،‭ ‬وما‭ ‬يسمعه،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬أو‭ ‬جهد‭ ‬صادق‭ ‬للارتفاع‭ ‬بأدواته‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬الببغائية،‭ ‬والنقل‭ ‬الحرفي‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬التحليل‭ ‬والإضافة،‭ ‬أو‭ ‬التحديق‭ ‬في‭ ‬الإشكالات‭ ‬القائمة،‭ ‬وإضافة‭ ‬إشكالات‭ ‬جديدة‭ ‬عليها،‭ ‬غايتها‭ ‬فهم‭ ‬جميع‭ ‬الأسئلة‭ ‬المحدقة‭ ‬بوجودنا،‭ ‬والسعي‭ ‬نحو‭ ‬تلمس‭ ‬طريق‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬تداعياتها،‭ ‬وأثقالها‭.‬

وهنا‭ ‬يتضخم‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬أبرز‭ ‬أدوات‭ ‬الكاتب‭ ‬الواقعي‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬لهذه‭ ‬المهمات‭: ‬هل‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬التشبث،‭ ‬وفي‭ ‬معانقة‭ ‬جميع‭  ‬سياقات‭ ‬الواقع،‭ ‬والوفاء‭ ‬النمطي‭ ‬لجميع‭ ‬إجراءاته؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التصدي‭ ‬لن‭ ‬ينجح‭ ‬إلا‭ ‬بابتكار‭ ‬أدوات‭ ‬جديدة‭ ‬أشد‭ ‬مضاء،‭ ‬وبسلوك‭ ‬طرق‭ ‬بكر،‭ ‬غير‭ ‬مطروقة،‭ ‬سمتها‭ ‬الأولى‭ ‬أنها‭ ‬التباسية،‭ ‬وغامضة،‭ ‬ومتمنعة‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬محاولات‭ ‬الحصر‭ ‬والتكهن،‭ ‬وهنا‭ ‬يمثل‭ ‬أمام‭  ‬أذهاننا‭ ‬الحل‭ ‬العجائبي،‭ ‬الحل‭ ‬الذي‭ ‬يعلي‭ ‬من‭ ‬طاقات‭ ‬الحلم‭ ‬والخيال،‭ ‬ويشحذها‭ ‬سلاحا‭ ‬يخترق‭ ‬تبلد‭ ‬العادي،‭ ‬ويتحدى‭ ‬جفافه،‭ ‬بل‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬دون‭ ‬مبالغة‭ ‬إن‭ ‬حاجة‭ ‬الكاتب‭ ‬الواقعي‭ ‬لجرعات‭ ‬الخارق‭ ‬والعجيب‭ ‬تفوق‭ ‬بكثير‭ ‬حاجة‭ ‬الرومانسي،‭ ‬وتفيض‭ ‬عليها،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬حالة‭ ‬التوحد‭ ‬التام‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والفن،‭ ‬والتماثل‭ ‬المطلق‭ ‬بين‭ ‬مضامينها‭ ‬وموضوعاتهما‭ ‬باتت‭ ‬من‭ ‬ضرورات‭ ‬أي‭ ‬مغامرة‭ ‬إبداعية‭ ‬تروم‭ ‬تحديث‭ ‬تشكلاتها‭ ‬الفنية،‭ ‬واقتحام‭ ‬مجالات‭ ‬تلقّ‭ ‬جديدة،‭ ‬تتطلب‭ ‬أدوات‭ ‬قرائية‭ ‬جريئة،‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬الأدوات‭ ‬الثابتة‭ ‬القديمة‭.‬

 

عوالم‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة

وتتفاوت‭ ‬تجربة‭ ‬الكاتب‭ ‬الواقعي‭ - ‬ونعني‭ ‬تحديدا‭ ‬الكتّاب‭ ‬المندرجين‭ ‬ضمن‭ ‬اتجاه‭ ‬الواقعية‭ ‬النقدية‭ ‬أو‭ ‬النقدية‭ ‬الأم‭ ‬المتزامنة‭ ‬تاريخيا‭ ‬وحضاريا‭ ‬مع‭ ‬تبلور‭ ‬الاتجاه‭ ‬الرومانسي‭ - ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ارتكازه‭ ‬على‭ ‬اعتماد‭ ‬الإجراء‭ ‬العجائبي،‭ ‬أو‭ ‬محافظته‭ ‬على‭ ‬التشكيلات‭ ‬القديمة،‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تلجأ‭ ‬فيه‭ ‬إميلي‭ ‬برونتي‭ ‬المعروفة‭ ‬بتأثرها‭ ‬بعوالم‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬ضئيل‭ ‬لهذا‭ ‬العنصر‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬الوحيدة‭ ‬‮«‬مرتفعات‭ ‬وذرينغ‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬طيف‭ ‬البطلة‭ ‬كاترين‭ ‬لينتون‭ ‬المتوفاة‭ ‬منذ‭ ‬عشرين‭ ‬عاما،‭ ‬والذي‭ ‬يقلق‭ ‬راحة‭ ‬أحد‭ ‬ضيوف‭ ‬حبيبها‭ ‬السابق‭ ‬هيثكليف،‭ ‬ويأتي‭ ‬ذريعة‭ ‬تروي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬مدبرة‭ ‬المنزل‭ ‬قصة‭ ‬كاترين‭ ‬وغرامها‭ ‬اليائس‭ ‬بربيب‭ ‬أبيها‭ ‬هيثكليف،‭ ‬وما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬زواجها‭ ‬بشاب‭ ‬آخر،‭ ‬وموتها‭ ‬ساعة‭ ‬إنجابها‭ ‬طفلة‭ - ‬حملت‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه‭: ‬كاترين‭ - ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬واقعية،‭ ‬تنصب‭ ‬بؤرة‭ ‬النقد‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬محيط‭ ‬التفاوت‭ ‬الطبقي،‭ ‬وما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬قلوب‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬وحقد،‭ ‬لا‭ ‬يلتهم‭ ‬لهيبه‭ ‬الآخر‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬الذات‭ ‬نفسها،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬أحداث‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتروى،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لتستعاد‭ ‬لولا‭ ‬ذلك‭ ‬الطارئ‭ ‬العجائبي،‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬ثغرة‭ ‬في‭ ‬أنسجة‭ ‬الأحداث،‭ ‬لم‭ ‬تلتئم‭ ‬إلا‭ ‬بموت‭ ‬هيثكليف،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬طيف‭ ‬ثان،‭ ‬يرافق‭ ‬طيف‭ ‬الحبيبة‭ ‬كاترين،‭ ‬ويثيران‭ ‬معا‭ ‬رعب‭ ‬العابرين،‭ ‬وتوجساتهم‭.‬

ويبدو‭ ‬العجائبي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬عنصرا‭ ‬طارئا‭ ‬غير‭ ‬مقصود‭ ‬لذاته،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬تأثير‭ ‬مفصلي‭ ‬في‭ ‬سيرورة‭ ‬الأحداث‭ ‬وتطوراتها‭.‬

 

معطف‭ ‬غوغول

ونجد‭ ‬هذا‭ ‬النزوع‭ ‬الذرائعي‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب‭ ‬الروسي‭ ‬نيكولاي‭ ‬غوغول‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬قصته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬المعطف‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬إعجاب‭ ‬دستويفسكي‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬‮«‬جميع‭ ‬الروايات‭ ‬الروسية‭ ‬إنما‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬معطف‭ ‬غوغول‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬يتضخم‭ ‬فيها‭ ‬اتجاه‭ ‬نقدي‭ ‬لاذع‭ ‬يصبه‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬المتنفذين‭ ‬في‭ ‬بلده،‭ ‬ويجعل‭ ‬من‭ ‬بطله‭ ‬أكاكي‭ ‬أكاكيفيتش‭ ‬قربانا‭ ‬رمزيا،‭ ‬يلتهمه‭ ‬البريد‭ ‬والصقيع‭ ‬بعد‭ ‬سرقة‭ ‬معطفه‭ ‬الوحيد،‭ ‬وتنكر‭ ‬رجال‭ ‬السلطة‭ ‬له،‭ ‬وعدم‭ ‬إقدامهم‭ ‬على‭ ‬ملاحقة‭ ‬المذنب،‭ ‬ويتحول‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القصة‭ ‬إلى‭ ‬طيف‭ ‬يهاجم‭ ‬العابرين،‭ ‬ويسلبهم‭ ‬معاطفهم،‭ ‬مكرسا‭ ‬بهذا‭ ‬مبدأ‭ ‬أخلاقيا‭ - ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬رومانسيا‭ ‬أساسه‭ ‬حتمية‭ ‬انتصار‭ ‬الخير،‭ ‬وبلوغ‭ ‬الحكاية‭ ‬غايتها‭ ‬الوعظية،‭ ‬ومغزاها‭ ‬الإصلاحي‭.‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نلاحظه‭ ‬ولكن‭ ‬بشكل‭ ‬مغاير‭ ‬على‭ ‬قصة‭ ‬أخرى‭ ‬له،‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬الأنف‮»‬،‭ ‬تبدأ‭ ‬أحداثها‭ ‬بفجوة‭ ‬لا‭ ‬معقولة،‭ ‬هي‭ ‬حادثة‭ ‬عثور‭ ‬الحلاق‭ ‬إيفان‭ ‬ياكوفليفيتش‭ ‬على‭ ‬أنف‭ ‬بشريّ‭ ‬في‭ ‬قطعة‭ ‬خبز‭ ‬حار،‭ ‬اتضح‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أنه‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مساعد‭ ‬مستشار‭ ‬ذي‭ ‬مركز‭ ‬اجتماعي‭ ‬مرموق‭ ‬هو‭ ‬الميجور‭ ‬كوفاليوف،‭ ‬وتزداد‭ ‬جرعة‭ ‬العجب‭ ‬واللامعقول‭ ‬حين‭ ‬يصادف‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬أنفه‭ ‬مرتديا‭ ‬سترة‭ ‬رسمية‭ ‬محاكة‭ ‬بالذهب،‭ ‬بياقة‭ ‬كبيرة‭ ‬منتصبة،‭ ‬يتجول‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬عديدة،‭ ‬متقمصا‭ ‬دور‭ ‬سيد‭ ‬رفيع‭ ‬المستوى،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬الميجور‭ ‬من‭ ‬تفسير‭ ‬لهذا‭ ‬الحدث‭ ‬الغريب‭ ‬والمأساوي‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭ ‬سوى‭ ‬تفسير‭ ‬سحري،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬زوجات‭ ‬الضباط‭ ‬اللواتي‭ ‬يعرفهن،‭ ‬والتي‭ ‬رفض‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬ابنتها،‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬دبر‭ ‬له‭ ‬مكيدة‭ ‬تشويهه‭ ‬وإخفاء‭ ‬أنفه‭ ‬بنية‭ ‬الانتقام،‭ ‬وتنتهي‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬والتخمينات‭ ‬اللامعقولة‭ ‬نهاية‭ ‬لا‭ ‬معقولة‭ ‬أيضا،‭ ‬هي‭ ‬عودة‭ ‬الأنف‭ ‬إلى‭ ‬مكانه‭ ‬الطبيعي‭ ‬بين‭ ‬خدي‭ ‬صاحبه،‭ ‬ليثير‭ ‬باختفائه‭ ‬وعودته‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬التأويلات‭ ‬حول‭ ‬المغزى‭ ‬العميق‭ ‬لاختيار‭ ‬الكاتب‭ ‬ذي‭ ‬التوجه‭ ‬الواقعي‭ ‬المعروف‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬الفانتازية،‭ ‬ونسجه‭ ‬أحداث‭ ‬قصته‭ ‬كلها‭ ‬حولها،‭ ‬مع‭ ‬ملاحظة‭ ‬ما‭ ‬امتلأت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جرعات‭ ‬سخرية‭ ‬مريرة،‭ ‬أتت‭ ‬لتؤجج‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬جدوى‭ ‬اختيار‭ ‬الأنف‭ ‬دون‭ ‬بقيّة‭ ‬أعضاء‭ ‬الجسم‭ ‬ليؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬الدور‭ ‬الخارق،‭ ‬وينفصل‭ -‬‭ ‬ولو‭ ‬مؤقتا‭ - ‬عن‭ ‬جسد‭ ‬وكيان‭ ‬صاحبه،‭ ‬مكونا‭ ‬لنفسه‭ ‬كيانا‭ ‬خاصا،‭ ‬ومجسدا‭ ‬حضورا‭ ‬انفصاميا،‭ ‬مستقلا،‭ ‬ولعلنا‭ ‬لا‭ ‬نجانب‭ ‬الصواب‭ ‬إن‭ ‬ربطنا‭ ‬بين‭ ‬الأنف‭ ‬عضوا‭ ‬حيويا‭ ‬وجماليا‭ ‬بارزا‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬معان‭ ‬أخلاقية‭ ‬وحضارية‭ ‬يرتبط‭ ‬أغلبها‭ ‬بمعاني‭ ‬العزة،‭ ‬والكرامة،‭ ‬و«الأنفة‮»‬،‭ ‬والكبرياء،‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬يعلي‭ ‬قيمة‭ ‬الذات،‭ ‬ويصعّد‭ ‬طاقاقتها،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬تموقعه‭ ‬وسط‭ ‬مساحة‭ ‬جسدية‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬خالص‭ ‬من‭ ‬الأهمية،‭ ‬هي‭ ‬الوجه،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬صورة‭ ‬الكائن،‭ ‬وموطن‭ ‬هويته‭ ‬الفردية،‭ ‬وتميزه‭ ‬الفيزيقي،‭ ‬يمتلك‭ ‬حظوة‭ ‬تمثيل‭ ‬الجسد،‭ ‬والتواصل‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬فكأنما‭ ‬افتقاد‭ ‬كوفاليوف‭ ‬لأنفه‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬افتقاد‭ ‬لجميع‭ ‬هذه‭ ‬المعاني،‭ ‬والقيم‭ ‬السامية،‭ ‬بل‭ ‬لعله‭ ‬افتقاد‭ ‬لإنسانيته‭ ‬نفسها،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يهدرها‭ ‬تعسف‭ ‬الآخرين‭ ‬وقسوتهم‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬بطل‭ ‬المعطف،‭ ‬بل‭ ‬أهدرتها‭ ‬طباعه‭ ‬السيئة،‭ ‬وعاداته‭ ‬القبيحة،‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الخسة،‭ ‬والسطحية،‭ ‬والتعجرف‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭: ‬هل‭ ‬بعودة‭ ‬ذاك‭ ‬الأنف‭ ‬تغير‭ ‬هذا‭ ‬الميجور؟‭ ‬وتعلم‭ ‬من‭ ‬أخطائه‭ ‬السابقة؟‭ ‬فتكون‭ ‬الإجابة‭: ‬كلا؛‭ ‬لم‭ ‬يتغير،‭ ‬بل‭ ‬بقي‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬تافها،‭ ‬متغطرسا،‭ ‬مغرورا‭.‬

 

مسخ‭ ‬كافكا

وهنا‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬العنصر‭ ‬العجائبي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصة،‭ ‬إنما‭ ‬أتى‭ ‬لإضفاء‭ ‬قيمة‭ ‬رمزية‭ ‬ذات‭ ‬سمة‭ ‬أخلاقية،‭ ‬بها‭ ‬ومن‭ ‬خلالها‭ ‬يتأكد‭ ‬المغزى‭ ‬التأويلي‭ ‬العميق‭ ‬للحكاية،‭ ‬الذي‭ ‬تخفى‭ ‬وراء‭ ‬أقنعة‭ ‬التشويه،‭ ‬والامتساخ‭ ‬الجسدي‭ ‬ليعكس‭ ‬حالة‭ ‬أقسى‭ ‬من‭ ‬التشوه‭ ‬الروحي‭ ‬والانفعالي،‭ ‬وهو‭ ‬المغزى‭ ‬الذي‭ ‬نلمسه‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب‭ ‬التشيكي‭ ‬الشهير‭: ‬فرانز‭ ‬كافكا‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬المسخ‮»‬‭ ‬أو‭ ‬التحول‭ ‬حسب‭ ‬بعض‭ ‬الترجمات،‭ ‬الذي‭ ‬يرصد‭ ‬كذلك‭ ‬امتساخا‭ ‬جسديا‭ ‬هو‭ ‬امتداد‭ ‬لامتساخ‭ ‬روحي‭ ‬أشد‭ ‬هولا‭ ‬وفداحة،‭ ‬يبدو‭ ‬معه‭ ‬عنصر‭ ‬المباغتة‭ ‬متسيدا‭ ‬سيرورة‭ ‬الأحداث،‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بتحول‭ ‬مرعب،‭ ‬وغير‭ ‬معقول‭ ‬يطرأ‭ ‬على‭ ‬البطل‭ ‬غريغور‭ ‬سامسا‭ ‬الذي‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬وقد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬حشرة‭ ‬ضخمة،‭ ‬فجأة،‭ ‬ودون‭ ‬أي‭ ‬مقدمات،‭ ‬يطرأ‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬أو‭ ‬المسخ‭ ‬الرهيب،‭ ‬ويرافقنا‭ ‬غريغور‭ ‬طيلة‭ ‬فصول‭ ‬الرواية،‭ ‬هو‭ ‬حشرة‭ ‬لا‭ ‬تلقى‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ - ‬عدا‭ ‬أخته‭ - ‬سوى‭ ‬التهميش‭ ‬والاحتقار،‭ ‬ولا‭ ‬تنتهي‭ ‬سلسلة‭ ‬الأحداث‭ ‬اللامعقولة‭ ‬إلا‭ ‬بنهاية‭ ‬معقولة‭ ‬واحدة،‭ ‬هي‭ ‬موت‭ ‬غريغور‭ ‬الحشرة‭ ‬المرفوض‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬والديه‭.‬

وتبدو‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬هيكلها‭ ‬الظاهري‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬الشبه‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬غوغول‭ ‬الآنفة‭ ‬الذكر،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬عنصر‭ ‬المباغتة،‭ ‬واللامعقول،‭ ‬وامتساخ‭ ‬جزء‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬الجسد،‭ ‬أو‭ ‬امتساخ‭ ‬الجسد‭ ‬كله،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الهوة‭ ‬واسعة‭ ‬جدا‭ ‬بين‭ ‬العملين،‭ ‬والبعد‭ ‬العجائبي‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬كافكا‭ ‬يبدو‭ ‬أشد‭ ‬فداحة،‭ ‬وقسوة،‭ ‬وغموضا،‭ ‬ويتجلى‭ ‬إلغازه‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خنوع‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬الكافكاوي،‭ ‬ومعاملة‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬يعرفونه‭ ‬له‭ ‬كحشرة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬حالة‭ ‬التهميش‭ ‬والاحتقار‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬طارئة‭ ‬على‭ ‬غريغور‭ ‬فور‭ ‬تحوله،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬ملازمة‭ ‬له‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭: ‬فهو‭ ‬حشرة‭ ‬قبل‭ ‬التحول‭ ‬وحشرة‭ ‬بعده،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أسرته‭ ‬حين‭ ‬تكتشف‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬وجود‭ ‬الحشرة‭ ‬الهائلة‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬لا‭ ‬يساورها‭ ‬أدنى‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الوحش‭ ‬قد‭ ‬قضى‭ ‬على‭ ‬غريغور،‭ ‬بل‭ ‬تدرك‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحشرة‭ ‬هي‭ ‬غريغور‮»‬،‭ ‬والأفظع‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬غريغور‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يهتز‭ ‬لهذا‭ ‬الحادث‭ ‬المريع‭ ‬الذي‭ ‬يعتريه،‭ ‬ولا‭ ‬يني‭ ‬يتساءل‭ ‬بقلق‭ - ‬وهو‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحال‭ - ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬بمقدوره‭ ‬اللحاق‭ ‬بقطار‭ ‬الخامسة‭ ‬صباحا،‭ ‬وعما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬تحوله‭ ‬ذاك‭ ‬مسوّغا‭ ‬كافيا‭ ‬لتأخره‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬غياب‭ ‬الصدمة‭ ‬أو‭ ‬الاحتجاج‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬غريغور‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬الاعتيادية‭ ‬الفزعة‭ ‬للحدث‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يصوغ‭ ‬مأساويته،‭ ‬ولا‭ ‬معقوليته‭ ‬النابعة‭ ‬أساسا‭ ‬من‭ ‬تكريس‭ ‬الكاتب‭ ‬أغلب‭ ‬إبداعاته‭ - ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬جارودي‭- ‬لنبش‭ ‬موضوع‭ ‬الاغتراب،‭ ‬وشقاء‭ ‬الإنسان،‭ ‬وعذاباته‭ ‬الوجودية‭ ‬الأزلية،‭ ‬فعالم‭ ‬كافكا‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬الغربة،‭ ‬عالم‭ ‬النزاع،‭ ‬عالم‭ ‬الإنسان‭ ‬المزدوج،‭ ‬وهو‭ ‬أيضا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يفقد‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬وعيه‭ ‬بذلك‭ ‬الازدواج‭ ‬فيستسلم‭ ‬للسبات،‭ ‬ولذا‭ ‬فإن‭ ‬قوام‭ ‬العالم‭ ‬الداخلي‭ ‬لكافكا‭ ‬هو‭ ‬الإحساس‭ ‬بانتمائه‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الغربة،‭ ‬وانغماسه‭ ‬فيه،‭ ‬ورغبته‭ ‬المتأججة‭ ‬في‭ ‬إيقاظ‭ ‬النيام‭ ‬ليعرفوا‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية‮»‬‭.‬

وعليه‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬موضوعة‭ ‬المسخ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬إنما‭ ‬أتت‭ ‬لأداء‭ ‬وظيفة‭ ‬إيحائية،‭ ‬ترتبط‭ ‬أوشج‭ ‬الترابط‭ ‬بهاجس‭ ‬الوعي‭ ‬بالذات،‭ ‬ولا‭ ‬معقولية‭ ‬الوجود،‭ ‬اللذين‭ ‬يلاحقان‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬الكافكاوي،‭ ‬وينسجان‭ ‬مأساة‭ ‬حياته‭ ‬العبثية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ينهها‭ ‬سوى‭ ‬موته،‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬وحده‭ ‬تحل‭ ‬اللاجدوى،‭ ‬وتنتفي‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مناطحة‭ ‬الواقع،‭ ‬ومحاولة‭ ‬تفكيك‭ ‬منجزاته،‭ ‬أو‭ ‬التعالي‭ ‬عليها‭.‬

وقريبا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المعنى،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬يعنينا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬ليس‭ ‬بالوعي‭ ‬الوجودي‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وعي‭ ‬أخلاقي،‭ ‬وشعور‭ ‬عميق‭ ‬بوطأة‭ ‬الإثم،‭ ‬وضرورة‭ ‬القصاص،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬داخليا،‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬الإثم‭ ‬وضميره،‭ ‬ويستثمر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الكاتب‭ ‬أبرز‭ ‬مقولات‭ ‬فرويد‭ ‬عن‭ ‬اللاشعور،‭ ‬واللاوعي،‭ ‬والعقد،‭ ‬والمكبوتات،‭ ‬أم‭ ‬خارجيا،‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬إرادة‭ ‬فوقية‭ ‬عليا‭ ‬تسلط‭ ‬لعنتها‭ - ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬عنصر‭ ‬العجيب‭ ‬والخارق‭ - ‬على‭ ‬المذنب،‭ ‬وتعاقبه‭ ‬بها،‭ ‬ومن‭ ‬خلالها‭.‬

 

الشارة‭ ‬القرمزية‭ ‬وأجواء‭ ‬ماكبث

ولعل‭ ‬النموذج‭ ‬الأبرز‭ ‬على‭ ‬النوع‭ ‬الأول‭ - ‬الإثم‭ ‬الداخلي‭ - ‬هو‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الشارة‭ ‬القرمزية‮»‬‭ ‬لناثانيل‭ ‬هوثورن‭ ‬التي‭ ‬يشبّه‭ ‬أبتر‭ ‬جوها‭ ‬النفسي‭ ‬الثقيل‭ ‬بجو‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬ماكبث‮»‬‭ ‬لشكسبير‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬العرض‭ ‬الرائع‭ ‬للمسألة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخيال‭ ‬الذي‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬تخوم‭ ‬الفنتازيا‮»‬،‭ ‬فالقس‭ ‬آرثر‭ ‬ديسمدال‭ ‬الذي‭ ‬ارتكب‭ ‬خطيئة‭ ‬الجسد،‭ ‬ولم‭ ‬يتكبد‭ ‬أمام‭ ‬الناس‭ ‬أي‭ ‬عقوبة‭ ‬ملموسة‭ ‬لها،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬شريكته‭ ‬‮«‬هستر‭ ‬براين‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحملت‭ ‬بشجاعة‭ ‬عجيبة‭ ‬القصاص‭ ‬كله‭ ‬وحدها،‭ ‬وأجبرت‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬شارة‭ ‬قرمزية‭ ‬على‭ ‬صدرها،‭ ‬لا‭ ‬يني‭ - ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬فرويد‭ - ‬لا‭ ‬شعوره‭ ‬يؤنبه،‭ ‬ولا‭ ‬يلبث‭ ‬التكفير‭ ‬أن‭ ‬يرتسم‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬ندوبا‭ ‬غائرة‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬الشارة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تصم‭ ‬صدر‭ ‬هستر‭.‬

ويمكننا‭ ‬إن‭ ‬شئنا‭ ‬اتباع‭ ‬السبيل‭ ‬التودورفيّ‭ ‬في‭ ‬تأويلها‭ ‬أن‭ ‬نفسرها‭ ‬تفسيرا‭ ‬طبيعيا،‭ ‬فننسبها‭ ‬إلى‭ ‬احتمال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬وشم‭ ‬هذه‭ ‬الندوب‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬جلد‭ ‬هذا‭ ‬الأخير،‭ ‬أو‭ ‬كيّه،‭ ‬متعمدا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬الشارة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تصم‭ ‬ثوب‭ ‬شريكته،‭ ‬فتندرج‭ ‬عندها‭ ‬ضمن‭ ‬دائرة‭ ‬الغريب،‭ ‬أو‭ ‬نفسرها‭ ‬تفسيرا‭ ‬خارقا،‭ ‬فوق‭ ‬طبيعي،‭ ‬وننسبها‭ ‬إلى‭ ‬قوى‭ ‬ماورائية‭ ‬غامضة،‭ ‬فتندرج‭ ‬عندها‭ ‬ضمن‭ ‬دائرة‭ ‬العجيب،‭ ‬وترددنا‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬التفسيرين‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬ما‭ ‬يشكل‭ ‬بؤرة‭ ‬العجائبي،‭ ‬ويصنع‭ ‬تأثيره‭. ‬غير‭ ‬أننا‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مضطرين‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التأويل‭ ‬يمكننا‭ ‬الاستناد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حفل‭ ‬به‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬غموض‭ ‬والتباس‭ ‬ونزوع‭ ‬ارتيابي،‭ ‬يرجح‭ ‬حتما‭ ‬الحل‭ ‬السحري،‭ ‬ويرجح‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الندوب‭ ‬انتقاما‭ ‬إلهيا،‭ ‬وعقابا‭ ‬دنيويا،‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬ماورائي،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التدخلات‭ ‬الفوقية‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬البشر‭ ‬وعوالمهم‭ ‬لا‭ ‬تتم‭ ‬دائما‭ - ‬إذا‭ ‬استثنينا‭ ‬عهود‭ ‬المعجزات‭ ‬والكرامات‭ - ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬السافر‭ ‬والعلني،‭ ‬فإنها‭ ‬تعد‭ ‬خرقا‭ ‬واضحا‭ ‬لمواضعات‭ ‬الطبيعي،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬تشكل‭ ‬عنصرا‭ ‬حدثيا‭ ‬عجائبيا،‭ ‬يتوازى‭ ‬مع‭ ‬واقعية‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬ويتعاضد‭ ‬مع‭ ‬طابعها‭ ‬المألوف،‭ ‬وفكرتها‭ ‬المتداولة‭.‬

أما‭ ‬النموذج‭ ‬الثاني‭ - ‬المشار‭ ‬إليه‭ ‬آنفا‭ - ‬نموذج‭ ‬الإثم‭ ‬الخارجي،‭ ‬فيمكن‭ ‬التمثيل‭ ‬له‭ ‬برواية‭ ‬‮«‬تاييس‮»‬‭ ‬للكاتب‭ ‬الفرنسي‭ ‬أناتول‭ ‬فرانس‭ ‬التي‭ ‬ترصد‭ ‬ببراعة‭ ‬فداحة‭ ‬الإثم،‭ ‬وقتامة‭ ‬ما‭ ‬تختزنه‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬ظلام‭ ‬وسواد،‭ ‬ورغبات‭ ‬آثمة‭ ‬مكبوتة،‭ ‬ومتخفية‭ ‬خلف‭ ‬قناع‭ ‬الفضيلة‭ ‬والتزهد،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفاجئنا‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الراهب‭ ‬التقي‭ ‬بافنوس‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تغالبه‭ ‬الغواية،‭ ‬ويتسرب‭ ‬من‭ ‬أعماقه‭ ‬شيء‭  ‬من‭ ‬فحيحها،‭ ‬حتى‭ ‬تشرع‭ ‬صومعته‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬في‭ ‬الامتلاء‭ ‬ببعض‭ ‬من‭ ‬بنات‭ ‬آوى،‭ ‬يتضاعف‭ ‬عددها‭ ‬تدريجيا‭ ‬حتى‭ ‬تمتلئ‭ ‬بها‭ ‬جميع‭ ‬الأركان‭ ‬ولا‭ ‬يكاد‭ ‬هذا‭ ‬المتعبد‭ ‬يجد‭ ‬حتى‭ ‬موطئا‭ ‬لقدميه‭.‬

وغير‭ ‬خاف‭ ‬ما‭ ‬يرمز‭ ‬إليه‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬من‭ ‬معان‭ ‬سحرية‭ ‬كثيرة،‭ ‬نذكر‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬القزويني‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الدجاج‭ ‬إذا‭ ‬رأته‭ ‬سقطت‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬مئة،‭ ‬ولم‭ ‬تبق‭ ‬واحدة‭ ‬إلا‭ ‬رمت‭ ‬نفسها‭ ‬إليه،‭ ‬وأن‭ ‬لسانه‭ ‬إذا‭ ‬ترك‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬وقعت‭ ‬الخصومة‭ ‬بين‭ ‬أهله‭.‬

وهنا‭ ‬نقطة‭ ‬الانفصام‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬سلوك‭ ‬هذا‭ ‬الراهب،‭ ‬ونوازع‭ ‬نفسه،‭ ‬وبين‭ ‬ضميره‭ ‬الظاهر‭ ‬وتكوينه‭ ‬الباطن،‭ ‬فيأتي‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬رمزا‭ ‬عجائبيا،‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬مسخية‭ ‬أولى،‭ ‬هي‭ ‬مرحلة‭ ‬تلوث‭ ‬نفسه‭ ‬العذراء‭ ‬بهلاوس‭ ‬الرغبة‭ ‬ووساوسها،‭ ‬ولا‭ ‬تني‭ ‬مساحة‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬تتضخم،‭ ‬وتتمدد‭ ‬حتى‭ ‬تستولي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬مساحات‭ ‬البياض‭ ‬والنقاء،‭ ‬فيهجر‭ ‬بافنوس‭ ‬صومعته،‭ ‬وصحراءه،‭ ‬ويرتد‭ ‬ناكصا‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬هداها‭ ‬سابقا‭ - ‬تاييس‭ - ‬وهي‭ ‬في‭ ‬النزع‭ ‬الأخير،‭ ‬محاولا‭ ‬اقتناص‭ ‬شيء‭ ‬مما‭ ‬فاته‭ ‬من‭ ‬مسرات،‭ ‬ومباهج،‭ ‬ويباغت‭ ‬عندئذ‭ ‬بمسخه‭ ‬وطواطا،‭ ‬شنيع‭ ‬الخلقة‭.‬

وغير‭ ‬خاف‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬العجائبي‭ ‬من‭ ‬معان‭ ‬وعظية،‭ ‬تلتقي‭ ‬مع‭ ‬العمل‭ ‬السابق‭ - ‬الشارة‭ ‬القرمزية‭ - ‬في‭ ‬سمة‭ ‬إعلاء‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬أبتر‭ ‬بالوعي‭ ‬الأخلاقي‭ ‬‮«‬الذي‭ ‬يتسع‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬الخجل‭ ‬والذنب،‭ ‬ليصل‭ ‬حد‭ ‬الرعب،‭ ‬والذي‭ ‬تتم‭ ‬التجارب‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الإشارات‭ ‬إلى‭ ‬الجن،‭ ‬والأشباح،‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬الفنتازيا‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬أفضل‭ ‬الأنواع‮»‬‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬المعنى‭ ‬العجائبي‭ ‬المستصفى‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأنواع‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الرعب،‭ ‬والانقباض،‭ ‬والشعور‭ ‬المربك‭ ‬بالغموض،‭ ‬واللااستقرار‭. ‬وهي‭ ‬معان‭ ‬أو‭ ‬انطباعات‭ ‬وجدت‭ ‬مرتعها‭ ‬الخصب‭ - ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ - ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬فرويد،‭ ‬التي‭ ‬أثبت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬‮«‬أن‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬العقلية‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬‮«‬العقل‮»‬‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الجانب‭ ‬غير‭ ‬المعقول‭ ‬فيها‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬المعقول،‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الواقعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬واقعيا،‭ ‬ووجب‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يتجاوز‭ ‬الواقع‮»‬‭ ‬ليعبّر‭ ‬عن‭ ‬مكنونات‭ ‬عقله‭ ‬الباطن‭ ‬بطريقة‭ ‬تشبه‭ ‬الأحلام‮»‬‭.‬

 

الواقعية‭ ‬السحرية

ومن‭ ‬الممكن،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬مغاير‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬فروع‭ ‬الاتجاه‭ ‬الواقعي،‭ ‬فرع‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالواقعية‭ ‬السحرية،‭ ‬التي‭ ‬ازدهرت‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وكان‭ ‬الكاتب‭ ‬الكولومبي‭ ‬ماركيز‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬ممثليها،‭ ‬وفي‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نال‭ ‬بفضلها‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬سنة‭ ‬1982،‭ ‬والتي‭ ‬تعد‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬النماذج‭ ‬الروائية‭ ‬المخترقة‭ ‬بنية‭ ‬الواقع،‭ ‬والمتمردة‭ ‬عليها،‭ ‬مما‭ ‬يكسبها‭ ‬طاقات‭ ‬التباسية،‭ ‬وأبعادا‭ ‬تأويلية،‭ ‬تتأبى‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المحاولات‭ ‬القرائية‭ ‬المسطحة،‭ ‬وتبني‭ ‬لنفسها‭ ‬عوالم‭ ‬غامضة،‭ ‬يمتزج‭ ‬فيها‭ ‬الواقعي‭ ‬بالسحري،‭ ‬واليومي‭ ‬بالخارق‭ ‬تمازجا‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالتخوم،‭ ‬بل‭ ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬الأعماق،‭ ‬ويضيع‭ ‬في‭ ‬الالتباس،‭ ‬‮«‬فالواقع‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬واقعيا،‭ ‬لقد‭ ‬صار‭ ‬الواقع‭ ‬نفسه‭ ‬سحرا،‭ ‬أي‭ ‬إيهاما‭ ‬بالواقع،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فالواقعية‭ ‬السحرية‭ ‬تقوم‭ ‬بوظيفتين‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭: ‬الأولى‭ ‬زرع‭ ‬الغموض‭ ‬والسحر‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬والثانية‭ ‬تبديد‭ ‬هذا‭ ‬السحر‭ ‬والغموض،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يتحول‭ ‬السحر‭ ‬من‭ ‬وسيلة‭ ‬سردية‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الكرنفالي‭ ‬إلى‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬مستترة،‭ ‬يتم‭ ‬تسريبها‭ ‬وإخفاؤها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬ما‭ ‬تبطنه‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‮»‬‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬تعجيبي‭ ‬واقعي‭ ‬تتلمسه‭ ‬منذ‭ ‬فصولها‭ ‬الأولى،‭ ‬التي‭ ‬تنبجس‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عجيبة‭ ‬محتملة،‭ ‬هي‭ ‬عجيبة‭ ‬أو‭ ‬نبوءة‭ ‬ميلاد‭ ‬إنسان‭ ‬بذيل‭ ‬خنزير،‭ ‬تليها‭ ‬سلسلة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬العجائب،‭ ‬كقدوم‭ ‬إحدى‭ ‬الشخصيات‭: ‬‮«‬ربيكا‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬الموت‭ ‬ولا‭ ‬المقابر‭ ‬أبدا‭ (‬ماكوندو‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬كطيران‭ ‬إحدى‭ ‬الحفيدات‭ ‬‮«‬ريميدوس‭ ‬الجميلة‮»‬‭ ‬واختفائها‭ ‬فجأة،‭ ‬وهي‭ ‬تنشر‭ ‬الغسيل،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭.‬

ولا‭ ‬يرى‭ ‬سعيد‭ ‬الغانمي‭ ‬أي‭ ‬اختلاف‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬اختراق‭ ‬لعالم‭ ‬الواقع،‭ ‬وما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬مثلا‭ ‬من‭ ‬اختراقات‭ ‬مشابهة،‭ ‬فطيران‭ ‬ريميدوس‭ ‬الجميلة‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬وسيلة‭ ‬سردية‭ ‬عن‭ ‬طيران‭ ‬الحسن‭ ‬البصري‭ ‬وميلاد‭ ‬صبي‭ ‬بذيل‭ ‬خنزير‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬تحول‭ ‬إنسان‭ ‬إلى‭ ‬كلب‭ ‬أو‭ ‬حمار‭,‬‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬حكايات‭ ‬الليالي،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يختلف‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬تحول‭ ‬غريور‭ ‬سامسا‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬كافكا‭ - ‬الآنفة‭ ‬الذكر‭ - ‬إلى‭ ‬حشرة‭.‬

وقد‭ ‬لا‭ ‬نوافق‭ ‬الأستاذ‭ ‬الغانمي‭ ‬تماما‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬تطابق‭ ‬عوالم‭ ‬ماركيز‭ ‬مع‭ ‬عوالم‭ ‬الليالي،‭ ‬لأن‭ ‬جرع‭ ‬الواقع‭ ‬وجرع‭ ‬الأفكار‭ ‬والتوجهات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬صارخة‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬أجواء‭ ‬الثاني،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يعنينا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬هو‭ ‬ذاك‭ ‬التوجه‭ ‬الملح‭ ‬من‭ ‬اتجاه‭ ‬اعتدنا‭ ‬لصوقه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬يومي‭ ‬ودارج‭ ‬نحو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سحري‭ ‬وخارق،‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬تفسيره‭ ‬إلا‭ ‬بعدم‭ ‬جدوى‭ ‬الإجراءات‭ ‬المهادنة‭ ‬القديمة،‭ ‬وضرورة‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬إجراءات‭ ‬ارتجاجية‭ ‬جديدة،‭ ‬قوامها‭ ‬الخرق‭ ‬المباغت‭ ‬لجميع‭ ‬المواضعات‭ ‬والقوانين‭.‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أهمية‭ ‬النزوع‭ ‬التعجيبي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الواقعية‭ ‬سبيلا‭ ‬تجريبيا،‭ ‬يشق‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الكاتب‭ ‬طرقا‭ ‬إيحائية‭ ‬خصبة،‭ ‬وقناعا‭ ‬تمويهيا،‭ ‬تتخفى‭ ‬خلفه‭ ‬مقاصده‭ ‬الذاتية‭ ‬الحميمة،‭ ‬وميولاته‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الصريحة،‭ ‬ليطالعنا‭ ‬بخطاب‭ ‬إبداعي‭ ‬جديد،‭ ‬جوهره‭ ‬الالتباس،‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬وتأويل‭ ‬‭.