النزوع العجائبي ورهانات العمل الواقعي
تستدعي الكتابة الواقعية بما تفترضه من لصوق بمنجزات السائد، وتماه بمقولات اليومي، ومقررات العادي، إشكالا جوهريا ينبع مما يقتضيه النزوع العجائبي من تشكيك في هذه المنجزات، واقتحام لها وسعي دائب نحو اختراقها وتجاوزها، فبعكس الرواية الرومانسية المعتمدة- كأي فرع من فروع الفن الرومانسي - على سلطة الخيال، وشطحات الذات، وميولها الإلحافية نحو التحرر من جميع القوانين، والمواضعات، فإن الرواية الواقعية والفن الواقعي بشكل عام، إنما يستقيان أهميتهما من مدى اتصالهما بالواقع، أي بالمألوف، وبمدى تعبيرهما عنه، واستيعابهما لمختلف إشكالاته، ولا نعني بضرورة التعبير عن تلك الالتباسات اليومية أن يصبح العمل انعكاسا للخارج، أو امرأة بليدة، لا تزيد مهمة الكاتب فيها على نقل ما يراه، وما يسمعه، دون أي محاولة أو جهد صادق للارتفاع بأدواته من مستوى الببغائية، والنقل الحرفي إلى مستوى التحليل والإضافة، أو التحديق في الإشكالات القائمة، وإضافة إشكالات جديدة عليها، غايتها فهم جميع الأسئلة المحدقة بوجودنا، والسعي نحو تلمس طريق الخلاص من قسوة تداعياتها، وأثقالها.
وهنا يتضخم السؤال عن أبرز أدوات الكاتب الواقعي في التصدي لهذه المهمات: هل هي في التشبث، وفي معانقة جميع سياقات الواقع، والوفاء النمطي لجميع إجراءاته؟ أم أن هذا التصدي لن ينجح إلا بابتكار أدوات جديدة أشد مضاء، وبسلوك طرق بكر، غير مطروقة، سمتها الأولى أنها التباسية، وغامضة، ومتمنعة على جميع محاولات الحصر والتكهن، وهنا يمثل أمام أذهاننا الحل العجائبي، الحل الذي يعلي من طاقات الحلم والخيال، ويشحذها سلاحا يخترق تبلد العادي، ويتحدى جفافه، بل يمكننا القول دون مبالغة إن حاجة الكاتب الواقعي لجرعات الخارق والعجيب تفوق بكثير حاجة الرومانسي، وتفيض عليها، ذلك أن حالة التوحد التام بين الواقع والفن، والتماثل المطلق بين مضامينها وموضوعاتهما باتت من ضرورات أي مغامرة إبداعية تروم تحديث تشكلاتها الفنية، واقتحام مجالات تلقّ جديدة، تتطلب أدوات قرائية جريئة، مختلفة عن الأدوات الثابتة القديمة.
عوالم ألف ليلة وليلة
وتتفاوت تجربة الكاتب الواقعي - ونعني تحديدا الكتّاب المندرجين ضمن اتجاه الواقعية النقدية أو النقدية الأم المتزامنة تاريخيا وحضاريا مع تبلور الاتجاه الرومانسي - من حيث ارتكازه على اعتماد الإجراء العجائبي، أو محافظته على التشكيلات القديمة، ففي الوقت الذي تلجأ فيه إميلي برونتي المعروفة بتأثرها بعوالم ألف ليلة وليلة إلى توظيف ضئيل لهذا العنصر في روايتها الوحيدة «مرتفعات وذرينغ» من خلال ما ورد في بداية العمل من إشارة إلى ظهور طيف البطلة كاترين لينتون المتوفاة منذ عشرين عاما، والذي يقلق راحة أحد ضيوف حبيبها السابق هيثكليف، ويأتي ذريعة تروي من خلالها مدبرة المنزل قصة كاترين وغرامها اليائس بربيب أبيها هيثكليف، وما حدث من زواجها بشاب آخر، وموتها ساعة إنجابها طفلة - حملت الاسم نفسه: كاترين - وما إلى ذلك من أحداث واقعية، تنصب بؤرة النقد فيها على محيط التفاوت الطبقي، وما تنطوي عليه قلوب كثير من البشر من قسوة وحقد، لا يلتهم لهيبه الآخر فحسب، بل يمتد إلى الذات نفسها، أي أن أحداث هذا العمل لم تكن لتروى، ولم تكن لتستعاد لولا ذلك الطارئ العجائبي، الذي فتح ثغرة في أنسجة الأحداث، لم تلتئم إلا بموت هيثكليف، الذي لم يلبث أن تحول إلى طيف ثان، يرافق طيف الحبيبة كاترين، ويثيران معا رعب العابرين، وتوجساتهم.
ويبدو العجائبي في هذه الرواية عنصرا طارئا غير مقصود لذاته، وإن كان ذا تأثير مفصلي في سيرورة الأحداث وتطوراتها.
معطف غوغول
ونجد هذا النزوع الذرائعي لدى الكاتب الروسي نيكولاي غوغول في نهاية قصته الشهيرة «المعطف»، التي بلغ من إعجاب دستويفسكي بها أن قال إن «جميع الروايات الروسية إنما خرجت من معطف غوغول»، والتي يتضخم فيها اتجاه نقدي لاذع يصبه هذا الأخير على المتنفذين في بلده، ويجعل من بطله أكاكي أكاكيفيتش قربانا رمزيا، يلتهمه البريد والصقيع بعد سرقة معطفه الوحيد، وتنكر رجال السلطة له، وعدم إقدامهم على ملاحقة المذنب، ويتحول في نهاية القصة إلى طيف يهاجم العابرين، ويسلبهم معاطفهم، مكرسا بهذا مبدأ أخلاقيا - يكاد يكون رومانسيا أساسه حتمية انتصار الخير، وبلوغ الحكاية غايتها الوعظية، ومغزاها الإصلاحي.
وهو ما يمكن أن نلاحظه ولكن بشكل مغاير على قصة أخرى له، عنوانها «الأنف»، تبدأ أحداثها بفجوة لا معقولة، هي حادثة عثور الحلاق إيفان ياكوفليفيتش على أنف بشريّ في قطعة خبز حار، اتضح في ما بعد أنه يعود إلى مساعد مستشار ذي مركز اجتماعي مرموق هو الميجور كوفاليوف، وتزداد جرعة العجب واللامعقول حين يصادف هذا الأخير أنفه مرتديا سترة رسمية محاكة بالذهب، بياقة كبيرة منتصبة، يتجول في أماكن عديدة، متقمصا دور سيد رفيع المستوى، ولا يجد الميجور من تفسير لهذا الحدث الغريب والمأساوي في وقت واحد سوى تفسير سحري، هو أن واحدة من زوجات الضباط اللواتي يعرفهن، والتي رفض الزواج من ابنتها، هي من دبر له مكيدة تشويهه وإخفاء أنفه بنية الانتقام، وتنتهي هذه الأحداث والتخمينات اللامعقولة نهاية لا معقولة أيضا، هي عودة الأنف إلى مكانه الطبيعي بين خدي صاحبه، ليثير باختفائه وعودته كثيرا من التأويلات حول المغزى العميق لاختيار الكاتب ذي التوجه الواقعي المعروف مثل هذه الفكرة الفانتازية، ونسجه أحداث قصته كلها حولها، مع ملاحظة ما امتلأت به من جرعات سخرية مريرة، أتت لتؤجج السؤال حول جدوى اختيار الأنف دون بقيّة أعضاء الجسم ليؤدي ذلك الدور الخارق، وينفصل - ولو مؤقتا - عن جسد وكيان صاحبه، مكونا لنفسه كيانا خاصا، ومجسدا حضورا انفصاميا، مستقلا، ولعلنا لا نجانب الصواب إن ربطنا بين الأنف عضوا حيويا وجماليا بارزا وبين ما يرتبط به من معان أخلاقية وحضارية يرتبط أغلبها بمعاني العزة، والكرامة، و«الأنفة»، والكبرياء، وما إلى ذلك مما يعلي قيمة الذات، ويصعّد طاقاقتها، فضلا عن تموقعه وسط مساحة جسدية على قدر خالص من الأهمية، هي الوجه، الذي يعد صورة الكائن، وموطن هويته الفردية، وتميزه الفيزيقي، يمتلك حظوة تمثيل الجسد، والتواصل بين الناس، فكأنما افتقاد كوفاليوف لأنفه إنما هو افتقاد لجميع هذه المعاني، والقيم السامية، بل لعله افتقاد لإنسانيته نفسها، التي لم يهدرها تعسف الآخرين وقسوتهم كما هي الحال مع بطل المعطف، بل أهدرتها طباعه السيئة، وعاداته القبيحة، القائمة على الخسة، والسطحية، والتعجرف.
ولنا أن نتساءل: هل بعودة ذاك الأنف تغير هذا الميجور؟ وتعلم من أخطائه السابقة؟ فتكون الإجابة: كلا؛ لم يتغير، بل بقي كما هو تافها، متغطرسا، مغرورا.
مسخ كافكا
وهنا يمكننا القول إن العنصر العجائبي في هذه القصة، إنما أتى لإضفاء قيمة رمزية ذات سمة أخلاقية، بها ومن خلالها يتأكد المغزى التأويلي العميق للحكاية، الذي تخفى وراء أقنعة التشويه، والامتساخ الجسدي ليعكس حالة أقسى من التشوه الروحي والانفعالي، وهو المغزى الذي نلمسه لدى الكاتب التشيكي الشهير: فرانز كافكا في عمله الشهير «المسخ» أو التحول حسب بعض الترجمات، الذي يرصد كذلك امتساخا جسديا هو امتداد لامتساخ روحي أشد هولا وفداحة، يبدو معه عنصر المباغتة متسيدا سيرورة الأحداث، التي تبدأ بتحول مرعب، وغير معقول يطرأ على البطل غريغور سامسا الذي يجد نفسه ذات صباح وقد تحول إلى حشرة ضخمة، فجأة، ودون أي مقدمات، يطرأ هذا التحول أو المسخ الرهيب، ويرافقنا غريغور طيلة فصول الرواية، هو حشرة لا تلقى من بقية أفراد الأسرة - عدا أخته - سوى التهميش والاحتقار، ولا تنتهي سلسلة الأحداث اللامعقولة إلا بنهاية معقولة واحدة، هي موت غريغور الحشرة المرفوض من الجميع حتى من والديه.
وتبدو هذه الرواية في هيكلها الظاهري قريبة من الشبه من قصة غوغول الآنفة الذكر، من حيث عنصر المباغتة، واللامعقول، وامتساخ جزء مهم من الجسد، أو امتساخ الجسد كله، غير أن الهوة واسعة جدا بين العملين، والبعد العجائبي في عمل كافكا يبدو أشد فداحة، وقسوة، وغموضا، ويتجلى إلغازه الأكبر من خلال خنوع هذا البطل الكافكاوي، ومعاملة جميع من يعرفونه له كحشرة، أي أن حالة التهميش والاحتقار لم تكن طارئة على غريغور فور تحوله، بل كانت ملازمة له منذ البداية: فهو حشرة قبل التحول وحشرة بعده، حتى أن «أسرته حين تكتشف في النهاية وجود الحشرة الهائلة في غرفته لا يساورها أدنى شك أن الوحش قد قضى على غريغور، بل تدرك على الفور أن تلك الحشرة هي غريغور»، والأفظع من هذا أن غريغور نفسه لا يهتز لهذا الحادث المريع الذي يعتريه، ولا يني يتساءل بقلق - وهو في تلك الحال - عما إذا كان بمقدوره اللحاق بقطار الخامسة صباحا، وعما إذا كان تحوله ذاك مسوّغا كافيا لتأخره عن العمل، أي أن «غياب الصدمة أو الاحتجاج من جانب غريغور هو ما يؤكد الاعتيادية الفزعة للحدث» وهو ما يصوغ مأساويته، ولا معقوليته النابعة أساسا من تكريس الكاتب أغلب إبداعاته - حسب ما يراه جارودي- لنبش موضوع الاغتراب، وشقاء الإنسان، وعذاباته الوجودية الأزلية، فعالم كافكا هو عالم الغربة، عالم النزاع، عالم الإنسان المزدوج، وهو أيضا العالم الذي يفقد فيه الإنسان وعيه بذلك الازدواج فيستسلم للسبات، ولذا فإن قوام العالم الداخلي لكافكا هو الإحساس بانتمائه إلى عالم الغربة، وانغماسه فيه، ورغبته المتأججة في إيقاظ النيام ليعرفوا الحياة الحقيقية».
وعليه يمكن القول إن موضوعة المسخ في هذا العمل إنما أتت لأداء وظيفة إيحائية، ترتبط أوشج الترابط بهاجس الوعي بالذات، ولا معقولية الوجود، اللذين يلاحقان هذا البطل الكافكاوي، وينسجان مأساة حياته العبثية، التي لم ينهها سوى موته، الذي به وحده تحل اللاجدوى، وتنتفي الحاجة إلى مناطحة الواقع، ومحاولة تفكيك منجزاته، أو التعالي عليها.
وقريبا من هذا المعنى، وإن كان الوعي الذي يعنينا في هذا السياق ليس بالوعي الوجودي بقدر ما هو وعي أخلاقي، وشعور عميق بوطأة الإثم، وضرورة القصاص، سواء أكان هذا الشعور داخليا، ينبع من ذات الإثم وضميره، ويستثمر من خلاله الكاتب أبرز مقولات فرويد عن اللاشعور، واللاوعي، والعقد، والمكبوتات، أم خارجيا، ينبع من إرادة فوقية عليا تسلط لعنتها - التي تمثل عنصر العجيب والخارق - على المذنب، وتعاقبه بها، ومن خلالها.
الشارة القرمزية وأجواء ماكبث
ولعل النموذج الأبرز على النوع الأول - الإثم الداخلي - هو رواية «الشارة القرمزية» لناثانيل هوثورن التي يشبّه أبتر جوها النفسي الثقيل بجو مسرحية «ماكبث» لشكسبير من حيث العرض الرائع للمسألة الأخلاقية عن طريق الخيال الذي يقترب من تخوم الفنتازيا»، فالقس آرثر ديسمدال الذي ارتكب خطيئة الجسد، ولم يتكبد أمام الناس أي عقوبة ملموسة لها، على عكس شريكته «هستر براين» التي تحملت بشجاعة عجيبة القصاص كله وحدها، وأجبرت على حمل شارة قرمزية على صدرها، لا يني - على حد تعبير فرويد - لا شعوره يؤنبه، ولا يلبث التكفير أن يرتسم على جسده ندوبا غائرة على شكل الشارة نفسها التي تصم صدر هستر.
ويمكننا إن شئنا اتباع السبيل التودورفيّ في تأويلها أن نفسرها تفسيرا طبيعيا، فننسبها إلى احتمال أن يكون هذا البطل هو من وشم هذه الندوب على جسده عن طريق جلد هذا الأخير، أو كيّه، متعمدا أن تكون على شكل الشارة نفسها التي تصم ثوب شريكته، فتندرج عندها ضمن دائرة الغريب، أو نفسرها تفسيرا خارقا، فوق طبيعي، وننسبها إلى قوى ماورائية غامضة، فتندرج عندها ضمن دائرة العجيب، وترددنا بين هذين التفسيرين هو وحده ما يشكل بؤرة العجائبي، ويصنع تأثيره. غير أننا ودون أن نكون مضطرين إلى مثل هذا التأويل يمكننا الاستناد إلى ما حفل به العمل الأدبي نفسه من غموض والتباس ونزوع ارتيابي، يرجح حتما الحل السحري، ويرجح فكرة أن تكون هذه الندوب انتقاما إلهيا، وعقابا دنيويا، من عالم ماورائي، وبما أن مثل هذه التدخلات الفوقية في دنيا البشر وعوالمهم لا تتم دائما - إذا استثنينا عهود المعجزات والكرامات - بهذا الشكل السافر والعلني، فإنها تعد خرقا واضحا لمواضعات الطبيعي، مما يجعلها تشكل عنصرا حدثيا عجائبيا، يتوازى مع واقعية هذه الرواية، ويتعاضد مع طابعها المألوف، وفكرتها المتداولة.
أما النموذج الثاني - المشار إليه آنفا - نموذج الإثم الخارجي، فيمكن التمثيل له برواية «تاييس» للكاتب الفرنسي أناتول فرانس التي ترصد ببراعة فداحة الإثم، وقتامة ما تختزنه النفس الإنسانية من ظلام وسواد، ورغبات آثمة مكبوتة، ومتخفية خلف قناع الفضيلة والتزهد، وهذا ما يفاجئنا في شخصية الراهب التقي بافنوس الذي ما إن تغالبه الغواية، ويتسرب من أعماقه شيء من فحيحها، حتى تشرع صومعته شيئا فشيئا في الامتلاء ببعض من بنات آوى، يتضاعف عددها تدريجيا حتى تمتلئ بها جميع الأركان ولا يكاد هذا المتعبد يجد حتى موطئا لقدميه.
وغير خاف ما يرمز إليه ابن آوى من معان سحرية كثيرة، نذكر من بينها ما ذكره القزويني من أن الدجاج إذا رأته سقطت حتى لو كانت مئة، ولم تبق واحدة إلا رمت نفسها إليه، وأن لسانه إذا ترك في بيت وقعت الخصومة بين أهله.
وهنا نقطة الانفصام الأولى بين سلوك هذا الراهب، ونوازع نفسه، وبين ضميره الظاهر وتكوينه الباطن، فيأتي ابن آوى رمزا عجائبيا، يحيل إلى مرحلة مسخية أولى، هي مرحلة تلوث نفسه العذراء بهلاوس الرغبة ووساوسها، ولا تني مساحة هذه الأخيرة تتضخم، وتتمدد حتى تستولي على جميع مساحات البياض والنقاء، فيهجر بافنوس صومعته، وصحراءه، ويرتد ناكصا إلى تلك التي هداها سابقا - تاييس - وهي في النزع الأخير، محاولا اقتناص شيء مما فاته من مسرات، ومباهج، ويباغت عندئذ بمسخه وطواطا، شنيع الخلقة.
وغير خاف ما يحمله هذا الحدث العجائبي من معان وعظية، تلتقي مع العمل السابق - الشارة القرمزية - في سمة إعلاء ما يسميه أبتر بالوعي الأخلاقي «الذي يتسع خارج نطاق الخجل والذنب، ليصل حد الرعب، والذي تتم التجارب من خلاله عن طريق الإشارات إلى الجن، والأشباح، أو عن طريق التحليل النفسي، وهذا في الفنتازيا الحديثة التي تعد أفضل الأنواع». أي أن المعنى العجائبي المستصفى من مثل هذه الأنواع إنما هو الرعب، والانقباض، والشعور المربك بالغموض، واللااستقرار. وهي معان أو انطباعات وجدت مرتعها الخصب - في ما بعد - في نظرية فرويد، التي أثبت من خلالها «أن حياة الإنسان العقلية لا تقوم على «العقل» وحده، بل إن الجانب غير المعقول فيها أكبر بكثير من الجانب المعقول، وعلى ذلك أصبح من غير الواقعي أن يكون المرء واقعيا، ووجب أن «يتجاوز الواقع» ليعبّر عن مكنونات عقله الباطن بطريقة تشبه الأحلام».
الواقعية السحرية
ومن الممكن، وفي سياق مغاير الحديث عن أحد فروع الاتجاه الواقعي، فرع ما يعرف بالواقعية السحرية، التي ازدهرت خلال القرن العشرين، وكان الكاتب الكولومبي ماركيز واحدا من أبرز ممثليها، وفي روايته «مائة عام من العزلة» التي نال بفضلها جائزة نوبل سنة 1982، والتي تعد واحدة من أبرز النماذج الروائية المخترقة بنية الواقع، والمتمردة عليها، مما يكسبها طاقات التباسية، وأبعادا تأويلية، تتأبى على جميع المحاولات القرائية المسطحة، وتبني لنفسها عوالم غامضة، يمتزج فيها الواقعي بالسحري، واليومي بالخارق تمازجا لا يكتفي بالتخوم، بل يغوص في الأعماق، ويضيع في الالتباس، «فالواقع لم يعد واقعيا، لقد صار الواقع نفسه سحرا، أي إيهاما بالواقع، ومن هنا فالواقعية السحرية تقوم بوظيفتين في وقت واحد: الأولى زرع الغموض والسحر في الواقع، والثانية تبديد هذا السحر والغموض، وبالتالي يتحول السحر من وسيلة سردية كما في الأعمال ذات الطابع الكرنفالي إلى أيديولوجيا مستترة، يتم تسريبها وإخفاؤها في وقت واحد».
ولا يخفى على القارئ ما تبطنه رواية «مائة عام من العزلة» من نفس تعجيبي واقعي تتلمسه منذ فصولها الأولى، التي تنبجس من خلالها عجيبة محتملة، هي عجيبة أو نبوءة ميلاد إنسان بذيل خنزير، تليها سلسلة طويلة من العجائب، كقدوم إحدى الشخصيات: «ربيكا» إلى قرية لم تعرف الموت ولا المقابر أبدا (ماكوندو)، أو كطيران إحدى الحفيدات «ريميدوس الجميلة» واختفائها فجأة، وهي تنشر الغسيل، وغير ذلك.
ولا يرى سعيد الغانمي أي اختلاف بين ما جاء في الرواية من اختراق لعالم الواقع، وما جاء في «ألف ليلة وليلة» مثلا من اختراقات مشابهة، فطيران ريميدوس الجميلة لا يختلف من حيث هو وسيلة سردية عن طيران الحسن البصري وميلاد صبي بذيل خنزير لا يختلف أيضا عن تحول إنسان إلى كلب أو حمار, كما ورد في كثير من حكايات الليالي، بل لا يكاد يختلف أيضا عن تحول غريور سامسا في رواية كافكا - الآنفة الذكر - إلى حشرة.
وقد لا نوافق الأستاذ الغانمي تماما على فكرة تطابق عوالم ماركيز مع عوالم الليالي، لأن جرع الواقع وجرع الأفكار والتوجهات الأيديولوجية صارخة في أجواء الأول على عكس أجواء الثاني، غير أن ما يعنينا في هذا المقام هو ذاك التوجه الملح من اتجاه اعتدنا لصوقه بكل ما هو يومي ودارج نحو كل ما هو سحري وخارق، هذا التوجه الذي لا يمكننا تفسيره إلا بعدم جدوى الإجراءات المهادنة القديمة، وضرورة الانفتاح على إجراءات ارتجاجية جديدة، قوامها الخرق المباغت لجميع المواضعات والقوانين.
وهو ما يؤكد أهمية النزوع التعجيبي في الرواية الواقعية سبيلا تجريبيا، يشق من خلاله الكاتب طرقا إيحائية خصبة، وقناعا تمويهيا، تتخفى خلفه مقاصده الذاتية الحميمة، وميولاته الأيديولوجية الصريحة، ليطالعنا بخطاب إبداعي جديد، جوهره الالتباس، والانفتاح على أكثر من قراءة وتأويل .