التصرّف باللغة لأدنى قرينة
يجتهد بعض المتسرّعين في الاستدراك على العبارات والمصطلحات المستعملة، إمّا باجتزاء النصوص أو بإِخطاء المجاز أو بجهل اللغة، ومن ذلك مصطلح: «الكاتِب العَدْل»، الذي حلا لعدد من العاملين في مجال القانون الاستعاضة منه بعبارة «الكاتِب بالعَدْل»، وذلك اعتمادًا على الآية القرآنيّة المعروفة: {وَلْيَكْتُبْ بِيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْلِ}. فحقًّا أنّ المفسّرين اختلفوا في تعلّق الباء، أبفعلِ «يَكتب» أم بـ«كاتِب»، لكنّ الرأي الأوّل هو المرجّح؛ يقول القرطبيّ في تفسير الآية: «الباء في قوله تعالى: {بالعَدْلِ}، متعلّقة بقوله: {ولْيكتبْ}، وليست متعلّقة بـ«كاتِب»، لأنّه كان يلزم ألاّ يَكتب وثيقةً إلاّ العدْلُ في نفسه (...) قال مالك رحمه الله: لا يكتب الوثائق بين الناس إلاّ عارف بها عدْل في نفسه مأمون». وأيًّا كان الوجه فإنّ مصطلح «الكاتب العدْل» مستقرّ في الاستعمال، ومن التعسّف والتحذلق تبديله؛ وكلمة «عَدْل» فيه مصدر استُعمل استعمال الصفة، وصارت العبارة تعني: الكاتِب العادل. وقد استخدمت العرب كثيرًا من المصادر صفات، مثل الحقّ، كالذي في قول الآية الكريمة: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ومثل الثِّقة، كما في عبارة: راوٍ ثقةٌ؛ وتُستعمل الكلمة، في ما تستعمل، في علم الجَرْح والتعديل؛ ومثل رِضا، كما في قول زُهَيْر:
مَتى يَشْتَجِرْ قَومٌ يَقُلْ سَرَواتُهُمْ:
هُمُ بَيْنَنا، فَهُمُ رِضًا، وهُمُ عَدْلُ
ومثل الغَمّ، كقولهم: لَيْلٌ غَمٌّ؛ والغَوْر، كقول الآية الكريمة: {أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا}.. إلخ.
وعَدْل، بعد، من المصطلحات الفقهيّة التي تعني: المحدِّث المتّصف بالعدالة؛ وقد ألمحنا إلى معنى العدالة في مقالة سابقة، ونبيّن هنا، بما يسمّيه المنطقيّون تعريفًا بالنفي، أنّها، بالإجمال، انتفاء الريبة عن المحدِّث؛ ولانتفائها شرط عامّ هو صحّة النَقْل؛ وشروط تفصيليّة منها: الإسلام والحريّة والبلوغ وصحّة العَقْل واجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر والاتّصافُ بالمروءة. وقد جعل ابن المقفّع من صفات الرجل العدْل صحّة الحواس واستقامة الخُلق وغلبة الصلاح واجتناب الظلم. ونشأ علم «الجرح والتعديل» في ميدان الحديث النبويّ الشريف للحكم على عدالة رواته إمّا بتزكيتهم أو بالطعن عليهم، والحكم بالتالي على الأحاديث التي يروونها من حيث الصحّة والضعف، إلخ.
ومِن تسرّع بعض معاصرينا استعمالهم فعل «الْتَأَمَ» بمعنى اجتمعَ؛ فيقولون مثلًا: التأمَ مجلسُ النواب. وهي صورة فاسدة. وأقرب الشروح لفعل «التأمَ»، في رأينا، هو ما قاله الجوهريّ، مع أنّ فيه تعريفًا للشيء بنفسه، وهو: لأمْتَ الجرحَ والصدعَ إذا شددتَه فالتأم. ونحن نرى قرابة بين التأمَ والْتحمَ؛ فالْتأَمَ الجرحُ، يعني التصق لَحمُ جانبيه بعضه ببعض وبرئ، ومثله التأَمَ الكسرُ؛ فالالتئام يلي الشَقّ أو الكسر. يقول الأعشى:
فبانَتْ وفي الصدْرِ صَدْعٌ لها
كصدْع ِالزُّجاجةِ ما يلتَئِمْ
ويقول المتنبّي:
هُمْ لأَموالِهِمْ ولَسْنَ لَهُمْ
والعارُ يَبقى والجُرحُ يَلتئمُ
وقد فسّر الشرّاح يلتئم بيلتحم. ومن ذلك المعنى الأصليّ أُخذت، على ما يبدو، معان مجازيّة كالإصلاح والوفاق. ولا بدّ، في هذه المعاني المجازيّة، من معنى التلاصق أو الاتصال أو التوافق بعد خصام، ولا يجوز تصوّر معنى الاجتماع المجرّد فيها. ولذلك تبدو عبارة «التأمَ المجلسُ» وأشباهها مغلوطة، إلاّ إذا سبقها ما يدلّ على نزاع في ذلك المجلس أفضى إلى انفضاضه ثم توافُقِ رئيسه وأعضائه على العودة للاجتماع، كأن نقول: انفضّ المجلس بسبب شجار بين أعضائه، ثم عاد فالتأم. أما في ما عدا ذلك وأمثاله فينبغي استعمال فعل اجتمعَ.
وبعض محطات التلفزة تقول: في الأثناء، بدلًا من: في هذه أو تلك الأثناء، أو أثناءَ ذلك؛ وهو تصرّف غير مقبول، لأنّ المخبِر يتكلّم على حدث جرى في زمن معيّن، أو وقتَ الإِخبار، ثم يردف أنّه في الزمن نفسه حدث شيء آخر؛ أي هو يشير إلى زمن معروف، فلا بد من اسم الإشارة، وبدونه ترتبك الجملة. صحيح أنّ الفرنسيّين، مثلًا، يستعملون لعبارة: في هذه الأثناء، كلمة واحدة هي alors، وأصل معناها: في الساعة، بحذف عبارة «المشار إليها» لكثرة الاستعمال، لكنّهم يقولون أيضًا: في تلك الآونة، وفي ذلك الوقت، إلخ.
وقد استعملتُ في بعض مقالاتي المنشورة في الصحف اللبنانية عبارة «ومن حقّ مؤيّديه أن ينصحوا له»، فما كان من مدقّق الصحيفة، أو محرّرها، إلاّ أن استدرك على العبارة بكلمة «ينصحوه»، مبرهنًا بذلك على تسرّع وقلّة معرفة؛ فالاستعمال الأقوى لهذا الفعل هو تعديته باللام، وإن كان يصحّ عدم تعديته بها؛ ففي القرآن الكريم: {ونَصَحْتُ لَكُمْ}، وفيه: {إذا نَصَحوا للهِ ورَسولِهِ}؛ وقد ورد هذا الفعل واسم الفاعل منه في القرآن إحدى عشرة مرة بصيغة: نَصَحَ لَهُ، ولم يرد قط بصيغة: نصَحَه. وفي كتب السُنّة النبويّة عشرات الأحاديث بالصيغة نفسها، منها: «وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ»، و «إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ». أمّا صيغة «نَصَحَهُ» فنادرة فيها، ومنها: «وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ»؛ وقد روى الجاحِظ وصيّة الخليفة عمر بن الخطاب للخليفة من بعده، وفيها: «ونَصَحْتُ لَكَ، أَبْتَغي بذلكَ وجهَ اللهِ»؛ وفي لسان العرب: «ويقال: نَصَحَهَ و(نَصَحَ) لَهُ (...) وباللام أَفْصَحُ (...) ويقال: نَصَحْتُ لَهُ نَصيحتي»؛ ومثل ذلك: شكَرَ له وشَكَرَه، لكن يقال: حَمِدَه، وقلّما يقال: حمِدَ له.
ويزيد الساسةُ اللغةَ كلّ يوم عُجمة على عجمة، ومن عجمتهم المستحدثة، هم ومن تابعهم، عبارة: «بالنِّصفِ زائدًا واحدًا»، في الكلام على نصاب مجلس النواب اللبنانيّ عند انتخاب رئيس الجمهوريّة. والحقيقة أنّ فعل «زادَ» عندما يُستعمل متعديًّا، إنّما يتعدى بحرف الجرّ «على» وليس بنفسه، وعبارة «بالنصف زائدًا واحدًا»، ليست من قبيل «رَبِّ زِدْني عِلْمًا»؛ فـ«عِلْمًا» تمييز ويعني: مِنَ العِلم، والزيادة على النصف ليست جزءًا من الواحد؛ وواحد ليس محوّلًا عن فاعل أو مفعول أو مبتدأ، كقول الآية: {وفَجَّرْنا الأَرْضَ عُيونًا} ومعناها: وفجّرنا عيونَ الأرض، وما شابهها من تمييز النسبة؛ وليس يشبه الحال، كما في قولنا: أَكْرِمْ بفلانٍ قائدًا؛ بل هو يعني أنّه يزاد على نصف النواب واحدٌ، ولذلك يجب الرفع، فنقول: بالنصفِ زائدًا عليه واحدٌ؛ على أنّ «زائدًا» حال، والأحسن: بالنصف مَزيدًا عليه واحدٌ، أي يُزاد عليه واحد. والعبارة المغلوطة محاولة لتفصيح العاميّة: «النصّ (أي النصف) زائدْ واحدْ»، والعاميّة أصح لأنها لم تنصب، وهي قلّما تنصب على كل حال. فنصب كلمة «واحد» لا مسوّغ له.
وعلى الجملة، ينبغي عدم تبديل المصطلحات والاستدراك على العبارات لأدنى قرينة، ولا بدّ من دراسة كافية قبل الإقدام على مثل ذلك، وترك الأمر لعلماء اللغة، أو استشارتهم على الأقلّ .