الغناء اللبناني في القرن العشرين

الغناء اللبناني في القرن العشرين

الغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬وأجمل‭ ‬ما‭ ‬غنّى‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬وقد‭ ‬امتاز‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬بالحرص‭ ‬على‭ ‬الأصالة‭ ‬والحداثة‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬فجمع‭ ‬بينهما‭. ‬انفتح‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الفولكلوري‭ ‬للبنان‭ ‬وبقية‭ ‬بلاد‭ ‬الشام،‭ ‬ونهل‭ ‬منه‭ ‬وأحياه‭ ‬بنكهة‭ ‬عصرية‭ ‬وتوزيع‭ ‬موسيقي‭ ‬جديد‭. ‬ولكن‭ ‬جهد‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬إحياء‭ ‬التراث،‭ ‬والتنويع‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬ابتدع‭ ‬فنونًا‭ ‬لم‭ ‬يتطرق

إليها‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬آخر‭. 

من‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬‮«‬المسرحية‭ ‬الغنائية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬اشتهر‭ ‬بها‭ ‬الرحابنة،‭ ‬التي‭ ‬تشتمل‭ ‬على‭ ‬موسيقى‭ ‬وغناء‭ ‬فردي‭ ‬وجماعي‭ ‬ورقص،‭ ‬وقصة،‭ ‬وتاريخ،‭ ‬وتضارع‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬لدى‭ ‬الغربيين‭ ‬منها،‭ ‬فيشيد‭ ‬بها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الغربيون،‭ ‬كما‭ ‬يشيد‭ ‬العرب‭ ‬سواء‭ ‬بسواء‭. ‬فها‭ ‬هو‭ ‬علي‭ ‬الراعي،‭ ‬أحد‭ ‬عُمُد‭ ‬المسرح‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬مرة‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬حققه‭ ‬اللبنانيون‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬‮«‬المسرح‭ ‬الغنائي‮»‬‭ ‬لم‭ ‬ينجزه‭ ‬المصريون‭ ‬ولا‭ ‬أي‭ ‬شعب‭ ‬عربي‭ ‬آخر‭. ‬وكان‭ ‬علي‭ ‬الراعي‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬معدّدًا‭ ‬إنجازات‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬اللبناني‭,‬‭ ‬فيقول‭ ‬إنه‭ ‬مسرح‭ ‬‮«‬هادف‮»‬‭ ‬أيضًا‭ ‬يلتزم‭ ‬فيه‭ ‬مبدعوه‭ ‬بهدف‭ ‬وطني‭ ‬أو‭ ‬اجتماعي‭ ‬أو‭ ‬أخلاقي،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬مسرح‭ ‬عابث‭ ‬أو‭ ‬فكاهي‭ ‬يتقصد‭ ‬الترفيه‭ ‬وما‭ ‬إليه‭.‬

وقد‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬المعاصر‭ ‬مع‭ ‬إطلالة‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬وتداخل‭ ‬فيه‭ ‬المصري‭ ‬واللبناني‭. ‬فها‭ ‬هو‭ ‬ديوان‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬يتضمن‭ ‬غزلية‭ ‬قالها‭ ‬شوقي،‭ ‬كما‭ ‬يرد‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬القصيدة‭,‬‭ ‬في‭ ‬مطربة‭ ‬لبنانية‭ ‬اسمها‭ ‬ليلى‭ ‬لزمي،‭ ‬كان‭ ‬شوقي‭ ‬يتقاسم‭ ‬الإعجاب‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬شاعر‭ ‬القطرين‭ ‬خليل‭ ‬مطران‭. ‬مطلع‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬يغنيها‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭:‬

رُدّت‭ ‬الروحُ‭ ‬على‭ ‬المضنى‭ ‬معَكْ

أحسنُ‭ ‬الأيام‭ ‬يوم‭ ‬أرجَعكْ

مرّ‭ ‬من‭ ‬بُعدِكَ‭ ‬ما‭ ‬روّعني

أتُرى‭ ‬يا‭ ‬حلوُ‭ ‬بُعدي‭ ‬روّعكْ

تاريخ‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الشوقيات‮»‬‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1911،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬مائة‭ ‬عام‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬التفاعل‭ ‬الفني‭ ‬والغنائي‭ ‬بين‭ ‬القطرين‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكرة‭. ‬ولا‭ ‬نعرف‭ ‬بالضبط‭ ‬لون‭ ‬الغناء‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تغنّيه‭ ‬ليلى‭ ‬لزمي‭. ‬الأرجح‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬بـ«المصري‮»‬‭ ‬لا‭ ‬بـ«اللبناني‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬بعد‭ ‬حدود‭ ‬الجبل‭ ‬اللبناني،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الغناء‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬نهوض‭ ‬يومها،‭ ‬مع‭ ‬أبوالعلا‭ ‬محمد‭ ‬وسيد‭ ‬درويش‭ ‬ورفاقهما‭.‬

ولكن‭ ‬إذا‭ ‬ثبت‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المطربة‭ ‬اللبنانية‭ ‬غنّت‭ ‬بـ«المصري‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬الغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬كان‭ ‬يغزو‭ ‬مصر‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬تجاري‭. ‬فالذين‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬الأديبة‭ ‬اللبنانية‭ ‬المتمصرة‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ ‬صاحبة‭ ‬الصالون‭ ‬الأدبي‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬العشرينيات‭ ‬والثلاثينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬يروون‭ ‬أن‭ ‬مي‭ ‬كانت‭ ‬تستبقي‭ ‬بعد‭ ‬انفضاض‭ ‬هذا‭ ‬الصالون،‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬كانت‭ ‬تغني‭ ‬لهم‭ ‬أغاني‭ ‬لبنانية‭ ‬تراثية‭ ‬ذكروا‭ ‬منها‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬عالروزنا‭ ‬الروزانا‭.. ‬كل‭ ‬الهنا‭ ‬فيها‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬إن‭ ‬دل‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬فيدل‭ ‬على‭ ‬بداية‭ ‬التلاقي‭ ‬الفني‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬اللذين‭ ‬ستلقي‭ ‬الأقدار‭ ‬عليهما‭ ‬معا‭ ‬مسئولية‭ ‬قيادة‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬وتطويره‭ ‬ونشره‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صقع‭ ‬عربي‭.‬

 

شخصية‭ ‬مستقلة

على‭ ‬أن‭ ‬الغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬لا‭ ‬يُذكر‭ ‬الآن‭ ‬إلا‭ ‬بشخصيته‭ ‬الخاصة‭ ‬المستقلة‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬المصري،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الوشائج‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬تربطه‭ ‬به‭. ‬فهو‭ ‬غناء‭ ‬خاص‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬مسائل‭ ‬كثيرة‭ ‬منها‭ ‬اللغة،‭ ‬أو‭ ‬اللهجة‭ ‬المعتمدة‭ ‬في‭ ‬الغناء،‭ ‬على‭ ‬الأصح‭. ‬فالغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬يعتمد‭ ‬اللهجة‭ ‬اللبنانية‭ ‬مبدئيًا،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يتنكر‭ ‬للعربية‭ ‬الفصحى‭. ‬أما‭ ‬اللهجة‭ ‬المصرية‭ ‬فقد‭ ‬غزت‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬المراحل،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬قدميه‭ ‬ويؤكد‭ ‬استقلاليته‭. ‬كان‭ ‬المغني‭ ‬اللبناني‭ ‬يغني‭ ‬بالمصرية‭ ‬في‭ ‬مرابع‭ ‬لبنان‭ ‬ولياليه،‭ ‬إما‭ ‬مقلّدا‭ ‬لأغنيات‭ ‬مصرية‭ ‬مشهورة،‭ ‬أو‭ ‬موضوعًا‭ ‬له،‭ ‬ومن‭ ‬قبل‭ ‬مؤلفين‭ ‬مصريين‭ ‬أو‭ ‬لبنانيين،‭ ‬نصوصًا‭ ‬بالمصرية‭.‬

ولكن‭ ‬الخمسينيات‭ ‬شهدت‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الانقلاب‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬تقصّدته‭ ‬جهات‭ ‬فنية‭ ‬لبنانية،‭ ‬كمؤسسة‭ ‬الرحابنة‭ ‬على‭ ‬الخصوص‭. ‬كانت‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬هذه‭ ‬الجهات‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬لزوم‭ ‬لتقليد‭ ‬المغنين‭ ‬المصريين‭ ‬في‭ ‬لهجتهم،‭ ‬فكما‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬حقهم‭ ‬أن‭ ‬يغنّوا‭ ‬بلهجتهم،‭ ‬من‭ ‬حقنا‭ - ‬نحن‭ ‬اللبنانيين‭ - ‬أن‭ ‬نغني‭ ‬بلهجتنا‭. ‬وشكّل‭ ‬هذا‭ ‬التوجه،‭ ‬كما‭ ‬أشرنا،‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬انقلاب‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬نتائجه‭ ‬الخطيرة‭ ‬لاحقًا‭.‬

وقد‭ ‬نجح‭ ‬هذا‭ ‬الانقلاب‭ ‬‮«‬اللغوي‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬نجاحًا‭ ‬مذهلاً،‭ ‬فالأغنية‭ ‬اللبنانية،‭ ‬شكلاً‭ ‬وموضوعًا،‭ ‬تجاوزت‭ ‬حدود‭ ‬الإقليم‭ ‬اللبناني،‭ ‬وأصبحت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬لسان‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬والمغرب‭ ‬وتونس‭ ‬والخليج‭ ‬والعراق‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬نفسها‭. ‬وقد‭ ‬ساعد‭ ‬الأغنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬هذه‭ ‬توافر‭ ‬مناخ‭ ‬لبناني‭ ‬ملائم،‭ ‬وبيئة‭ ‬حاضنة،‭ ‬ومؤسسات‭ ‬تُعنى‭ ‬عناية‭ ‬منهجية‭ ‬بنمو‭ ‬وتطور‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭. ‬فـ«الماكينة‮»‬‭ ‬الرحبانية‭ ‬لم‭ ‬توجد‭ ‬ماكينة‭ ‬مماثلة‭ ‬أو‭ ‬مشابهة‭ ‬لها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬مع‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالوهاب‭. ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬باتت‭ ‬فيروز‭ ‬تُقرن‭ ‬بأم‭ ‬كلثوم‭ ‬سيدة‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬وتُحسب‭ ‬في‭ ‬مصافها‭. ‬وكانت‭ ‬الرحبانية‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬أمرها‭ ‬حزبًا‭ ‬فنيًا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬نصوصًا‭ ‬وألحانًا‭ ‬وغناء‭. ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الرحبانية‮»‬‭ ‬أخوان‭ ‬ملهمان‭ ‬موهوبان‭ ‬هما‭ ‬عاصي‭ ‬ومنصور‭ ‬الرحباني،‭ ‬اللذان‭ ‬كانا‭ ‬مجموعة‭ ‬مواهب‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬شخصين‭: ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬منهما‭ ‬كان‭ ‬شاعراً‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬ملحنًا‭ ‬وموزعًا‭ ‬موسيقيًا‭.‬‭ ‬وقد‭ ‬وجدا‭ ‬أنه‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬لتحرير‭ ‬الأغنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬من‭ ‬اللهجة‭ ‬المصرية‭ ‬وإطلاقها‭ ‬كأغنية‭ ‬لها‭ ‬مواصفاتها‭ ‬ومميزاتها‭ ‬الخاصة‭.. ‬وهكذا‭ ‬كان‭.‬

 

ربيع‭ ‬لا‭ ‬تصنعه‭ ‬سنونوة‭ ‬واحدة

يمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يعدد‭ - ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬المبالغة‭ - ‬فضائل‭ ‬الحركة‭ ‬الرحبانية‭ ‬هذه‭ ‬وما‭ ‬قدّمته‭ ‬للأغنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬والأغنية‭ ‬العربية‭. ‬ولكن‭ ‬الربيع‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬لا‭ ‬تصنعه‭ ‬سنونوة‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬زهرة‭ ‬واحدة،‭ ‬وإنما‭ ‬تصنعه‭ ‬سنونوات‭ ‬وأزهار‭ ‬بلا‭ ‬حصر‭. ‬فالرحابنة‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬وحدهم،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مطربون‭ ‬وملحنون‭ ‬وموسيقيون‭ ‬ومؤلفون‭ ‬كثيرون‭ ‬شاركوا‭ ‬جميعًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النشيد‭ ‬الفني‭ ‬العظيم‭. ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬‮«‬الرحبانية‮»‬‭ ‬بالذات،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬آخرون‭ ‬غير‭ ‬رحابنة‭ ‬منهم‭ ‬شعراء‭ ‬كسعيد‭ ‬عقل‭ ‬وسواه‭ ‬كتبوا‭ ‬لفيروز،‭ ‬وملحنون‭ ‬لحّنوا‭ ‬لها‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬نفسه‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬إطار‭ ‬‮«‬الرحبانية‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬جهد‭ ‬كبير‭ ‬لفنانين‭ ‬كبار‭ ‬منهم‭ ‬وديع‭ ‬الصافي‭ ‬وصباح‭ ‬ونور‭ ‬الهدى‭ ‬ونصري‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬ونجاح‭ ‬سلام‭ ‬وسميرة‭ ‬توفيق‭ ‬وسهام‭ ‬رفقي‭ ‬وزكية‭ ‬حمدان‭ ‬وآخرون‭. ‬فالحركة‭ ‬الغنائية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أشعّت‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الأربعينيات‭ ‬والخمسينيات‭ ‬شملت‭ ‬الرحابنة،‭ ‬كما‭ ‬شملت‭ ‬غير‭ ‬الرحابنة‭. ‬ولكن‭ ‬لأننا‭ ‬اعتدنا‭ ‬الاختزال،‭ ‬فقد‭ ‬جرى‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬فيروز‭ ‬والرحابنة‭ ‬وإهمال‭ ‬الآخرين‭. ‬الرحابنة‭ ‬كانوا‭ ‬عنوانًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬هذه‭ ‬النهضة‭ ‬العظيمة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬وحدهم‭.‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬توكيد‭ ‬ذلك‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬مهم‭ ‬لعبه‭ ‬وديع‭ ‬الصافي‭ ‬الذي‭ ‬رحل‭ ‬حديثًا،‭ ‬والذي‭ ‬يعود‭ ‬إليه‭ ‬فضل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬إحياء‭ ‬‮«‬البلدي‮»‬‭ ‬اللبناني‭. ‬قبل‭ ‬وديع،‭ ‬كان‭ ‬البلدي‭ ‬منظورًا‭ ‬إليه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬غناء‭ ‬أهل‭ ‬الجبل‭ ‬والريف‭. ‬أما‭ ‬المدينة،‭ ‬أو‭ ‬الحاضرة،‭ ‬فلها‭ ‬غناء‭ ‬آخر‭. ‬تجاهل‭ ‬وديع‭ ‬الصافي‭ ‬هذا‭ ‬النظر،‭ ‬أو‭ ‬رفضه‭ ‬على‭ ‬الأصح،‭ ‬معتبرًا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العتابا‭ ‬والميجانا‭ ‬وأبو‭ ‬الزلف‭ ‬والمواويل‭ ‬والمعنى‭ ‬والشروقي‭ ‬وبقية‭ ‬هذه‭ ‬الألوان‭ ‬اللصيقة‭ ‬بتراثنا‭ ‬وأفراحنا‭ ‬هي‭ ‬لكل‭ ‬لبنان،‭ ‬لا‭ ‬لناحية‭ ‬أو‭ ‬جهة‭ ‬فيه‮»‬‭. ‬فهي‭ ‬ألوان‭ ‬من‭ ‬الغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬كله‭ ‬لا‭ ‬ألوان‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الشوف‭ ‬أو‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬أنحاء‭ ‬الجبل‭. ‬وقد‭ ‬ساعد‭ ‬وديع‭ ‬في‭ ‬مهمته‭ ‬هذه‭ ‬صوته‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬صوت‭ ‬‮«‬الكروان‮»‬‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬قوته‭ ‬وأثره،‭ ‬كما‭ ‬ساعدته‭ ‬محبة‭ ‬الجمهور‭ ‬لهذا‭ ‬اللون‭ ‬واحتضانه‭ ‬له‭. ‬أخذت‭ ‬الأغنية‭ ‬الريفية‭ ‬تنتشر‭ ‬منذ‭ ‬هبط‭ ‬وديع‭ ‬الصافي‭ ‬من‭ ‬قريته‭ ‬نيحا‭ ‬إلى‭ ‬بيروت،‭ ‬وبدأ‭ ‬المسئولون‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬ينظرون‭ ‬نظرة‭ ‬مختلفة‭ ‬إليها‭. ‬وكان‭ ‬وديع‭ ‬الصافي‭ ‬هو‭ ‬حامل‭ ‬راية‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬الأول‭ ‬والمبشّر‭ ‬بها،‭ ‬والذي‭ ‬تجرّأ‭ ‬أولا‭ ‬على‭ ‬النزول‭ ‬بشرواله‭ ‬الجبلي‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ ‬مفتخرًا‭ ‬بتراثه‭ ‬ومعتزًا‭ ‬به‭. ‬ومن‭ ‬يومها‭ ‬بدأ‭ ‬مسار‭ ‬الأغنية‭ ‬العربية‭ ‬يتعدّل‭. ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬ممثلها‭ ‬الشرعي‭ ‬الوحيد‭ - ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير‭ - ‬هو‭ ‬الغناء‭ ‬المصري‭. ‬أصبح‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يزاحم‭ ‬هذا‭ ‬الغناء،‭ ‬وهذا‭ ‬المزاحم‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬مزاحمته‭ ‬على‭ ‬قطر‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬العرب،‭ ‬بل‭ ‬شملت‭ ‬وتشمل‭ ‬كل‭ ‬قطر‭.‬

وكان‭ ‬لآخرين‭ ‬دورهم‭ ‬وإسهامهم‭ ‬في‭ ‬شيوع‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬اللبناني‮»‬‭,‬‭ ‬حيث‭ ‬يقتضي‭ ‬الإنصاف‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬المطربة‭ ‬الكبيرة‭ ‬صباح‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موزعة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معًا‭ ‬على‭ ‬‮«‬اللبناني‮»‬‭ ‬وعلى‭ ‬‮«‬المصري‮»‬‭. ‬تغني‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بالمصرية‭ ‬وفي‭ ‬لبنان‭ ‬باللبنانية،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تجمع‭ ‬بينهما‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الذين‭ ‬غنّوا‭ ‬باللهجتين‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬اسمها‭ ‬أو‭ ‬صوتها‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬يرنّ‭ ‬كالذهب‭. ‬وقد‭ ‬استمر‭ ‬شهر‭ ‬العسل‭ ‬قويًا‭ ‬بين‭ ‬الساحة‭ ‬المصرية‭ ‬وهاتين‭ ‬المطربتين‭ ‬حتى‭ ‬قيام‭ ‬ثورة‭ ‬23‭ ‬يوليو‭ ‬عام‭ ‬1952،‭ ‬التي‭ ‬تركت‭ ‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬على‭ ‬إثرها‭ ‬مصر‭ ‬وعادت‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تأخرت‭ ‬عنها‭ ‬صباح‭ ‬سنوات‭ ‬عدة‭.‬

 

بين‭ ‬البدوي‭ ‬والبغدادي

على‭ ‬أن‭ ‬الغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬عرف‭ ‬فنونًا‭ ‬غنائية‭ ‬كثيرة‭ ‬غير‭ ‬‮«‬اللبناني‮»‬‭ ‬التقليدي،‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬ازدهارًا‭ ‬واسعًا‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬الغناء‭ ‬البدوي،‭ ‬كالغناء‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تغنيه‭ ‬سهام‭ ‬رفقي‭ ‬وغنته‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬سميرة‭ ‬توفيق‭.‬

ومن‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬المواويل‭ ‬المسمّاة‭ ‬‮«‬بغدادية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬اشتهر‭ ‬بها‭ ‬مطربون‭ ‬تخصصوا‭ ‬بها‭ ‬مثل‭ ‬إيليا‭ ‬بيضا‭ ‬الذي‭ ‬اغترب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬ومات‭ ‬في‭ ‬مغتربه‭.‬

وقد‭ ‬بقيت‭ ‬الأغنية‭ ‬بالفصحى‭ ‬تغنّى‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬وتلقى‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬ربع‭ ‬أو‭ ‬ثلث‭ ‬ما‭ ‬غنته‭ ‬فيروز‭ ‬مكتوب‭ ‬باللغة‭ ‬الفصحى‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬جرى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مواجد‭ ‬العرب‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬ومناسباتهم‭ ‬وأيامهم‭. ‬غنى‭ ‬اللبنانيون‭ ‬للقدس‭ ‬ولفلسطين‭ ‬ولدمشق‭ ‬وسورية‭ ‬ولمكة‭ ‬ويثرب‭ ‬ولمصر‭ ‬ولسوى‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭ ‬العربية‭ ‬أغاني‭ ‬لاتزال‭ ‬تتردّد‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬كما‭ ‬غنّوا‭ ‬للفقراء‭ ‬والمظلومين‭ ‬التائقين‭ ‬إلى‭ ‬العدالة‭ ‬والإنصاف‭. ‬فالغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬نشيد‭ ‬للقلب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬أيضًا‭ ‬نشيدًا‭ ‬للحق‭ ‬والعدالة‭ ‬والعروبة‭.‬

وقد‭ ‬أحيا‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬رموز‭ ‬الشعر‭ ‬اللبناني‭ ‬سواء‭ ‬بالفصحى‭ ‬أو‭ ‬بالعامية‭. ‬أعيد‭ ‬إحياء‭ ‬رشيد‭ ‬نخلة‭ ‬وشحرور‭ ‬الوادي‭ ‬والأخطل‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬حصة‭ ‬وافرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭. ‬وعندما‭ ‬التفتت‭ ‬صباح‭ ‬إلى‭ ‬تراث‭ ‬شحرور‭ ‬الوادي،‭ ‬وهو‭ ‬عمّها،‭ ‬تذكّر‭ ‬الناس‭ ‬جوقة‭ ‬الشحرور‭ ‬الذائعة‭ ‬الصيت‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬والتي‭ ‬كانت،‭ ‬مع‭ ‬سواها،‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬الفولكلور‭ ‬الشعبي‭ ‬اللبناني‭ ‬وبواكيره‭ ‬الأولى‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬الذين‭ ‬أنعم‭ ‬عليهم‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬سعيد‭ ‬عقل،‭ ‬الذي‭ ‬غنّت‭ ‬له‭ ‬فيروز‭ ‬حوالي‭ ‬عشرين‭ ‬قصيدة‭ ‬ذات‭ ‬نفس‭ ‬شامي‭ ‬وعروبي،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬إعادة‭ ‬الروح‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬سجن‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬معتقل‭ ‬‮«‬الفينيقية‮»‬،‭ ‬فإذا‭ ‬بالرحابنة‭ ‬ينتشلونه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المعتقل‭ ‬ويهبونه‭ ‬للحرية‭ ‬والهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬وينشرون‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭.‬

وغنّت‭ ‬فيروز‭ ‬للشاعر‭ ‬السوري‭ ‬الكبير‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬قصيدته‭ ‬الخالدة‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬خالقة‮»‬‭ ‬ومطلعها‭:‬

من‭ ‬نعمياتِكِ‭ ‬لي‭ ‬ألفٌ‭ ‬منوّعةٌ

وكلُّ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬دنيا‭ ‬من‭ ‬النورِ

فوهبت‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬ما‭ ‬يستحقه‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬لم‭ ‬يُولِهِ‭ ‬إياه‭ ‬المطربون‭ ‬الآخرون‭.‬

ووجد‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬وهارون‭ ‬هاشم‭ ‬رشيد،‭ ‬الشاعران‭ ‬الفلسطينيان،‭ ‬سبيلهما‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭ ‬اللبناني،‭ ‬بواسطة‭ ‬فيروز‭ ‬أو‭ ‬بواسطة‭ ‬سواها،‭ ‬فأثبت‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬انتماءه‭ ‬إلى‭ ‬أمته‭ ‬العربية‭ ‬وقضاياها‭ ‬العادلة‭. ‬إنه‭ ‬غناء‭ ‬صادر‭ ‬من‭ ‬لبنان،‭ ‬ولكنه‭ ‬مثل‭ ‬لبنان،‭ ‬عربي‭ ‬الهوى‭ ‬والهوية‭.‬

قد‭ ‬يتساءل‭ ‬البعض‭ ‬عن‭ ‬جذور‭ ‬هذه‭ ‬النهضة‭ ‬الغنائية‭ ‬والفنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬ولماذا‭ ‬أعطي‭ ‬للبنان‭ ‬مجد‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بها‭ ‬وعبئها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬ولم‭ ‬يُعْط‭ ‬لسواها‭ ‬من‭ ‬العواصم‭ ‬والأقطار‭ ‬المجاورة‭ ‬لها؟‭ ‬إن‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬تقتضي‭ ‬الإحاطة‭ ‬بالنهضة‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والفكرية‭ ‬والعمرانية‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬بيروت،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لبنان،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬ازدهرت‭ ‬مدينة‭ ‬بيروت‭ ‬أيما‭ ‬ازدهار،‭ ‬وتحوّلت‭ ‬بفضل‭ ‬ظروف‭ ‬كثيرة،‭ ‬منها‭ ‬الحرية‭ ‬والانفتاح،‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬صغيرة‭ ‬ذات‭ ‬شأن‭ ‬محدود،‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬كبرى‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬نفوذها‭ ‬الثقافي‭ ‬والحضاري‭ ‬عن‭ ‬أثينا‭ ‬أو‭ ‬سواها‭ ‬من‭ ‬حواضر‭ ‬هذا‭ ‬البحر،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬حواضر‭ ‬العالم‭ ‬الكبرى‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬لهذا‭ ‬الازدهار‭ ‬اللبناني‭ ‬أن‭ ‬يشمل‭ ‬الأدب‭ ‬والشعر‭ ‬والفن‭ ‬والغناء،‭ ‬لأن‭ ‬رياح‭ ‬الحداثة‭ ‬والتغيير‭ ‬والتنوير‭ ‬هبّت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ناحية‭ ‬من‭ ‬نواحي‭ ‬الحياة‭ ‬اللبنانية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬لولا‭ ‬تلك‭ ‬النهضة‭ ‬لما‭ ‬حصل‭ ‬هذا‭ ‬الازدهار‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬وفي‭ ‬الغناء،‭ ‬ولبقيت‭ ‬رموزهما‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬إطارهما‭ ‬الضيق‭ ‬السابق،‭ ‬فالغناء‭ ‬اللبناني‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬تراث‭ ‬لبنان‭ ‬ومروّياته‭ ‬وحكاياته‭ ‬وأزجاله‭ ‬المحلية،‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬نتاج‭ ‬هذه‭ ‬النهضة‭ ‬اللبنانية‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬نعمها‭ ‬وبركاتها‭ ‬إلى‭ ‬مجالات‭ ‬كثيرة،‭ ‬منها‭ ‬الفن‭ ‬والغناء‭. ‬لقد‭ ‬عملت‭ ‬وسائل‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الفن‭ ‬والغناء،‭ ‬ولكن‭ ‬الفن‭ ‬والغناء‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بإمكانهما‭ ‬أن‭ ‬يعطيا‭ ‬هذا‭ ‬الحصاد‭ ‬الوفير،‭ ‬لولا‭ ‬إحياؤهما‭ ‬للتراث‭ ‬الشعبي‭ ‬وإعادة‭ ‬نشره‭. ‬أحيا‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬اللبناني‭ ‬الجميل‭ ‬عند‭ ‬المتلقي،‭ ‬وأحيا،‭ ‬بوجه‭ ‬خاص،‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نُطلق‭ ‬عليه‭ ‬تجوّزا،‭ ‬حضارة‭ ‬القرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬الغابرة،‭ ‬وهي‭ ‬حضارة‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬منها‭ ‬شيء‭ ‬تقريبًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬إذ‭ ‬سقطت‭ ‬تحت‭ ‬سنابك‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة،‭ ‬ولكنها‭ ‬لاتزال‭ ‬تنبض‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬اللبناني‭ ‬وتثير‭ ‬فيه‭ ‬أعظم‭ ‬المشاعر‭ ‬والأحاسيس‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يعود‭ ‬لحضارة‭ ‬القرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬الصديقة‭ ‬هذه‭ ‬فضل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬ازدهار‭ ‬الأغنية‭ ‬اللبنانية‭. ‬وعندما‭ ‬تعاونت‭ ‬مناخات‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬القديمة‭ ‬مع‭ ‬صوت‭ ‬عبقري‭ ‬كصوت‭ ‬فيروز‭ ‬وألحان‭ ‬فائقة‭ ‬الجودة‭ ‬للأخوين‭ ‬رحباني،‭ ‬أمكننا‭ ‬أن‭ ‬نفسّر‭ ‬أحد‭ ‬الأسباب‭ ‬الرئيسة‭ ‬لنجاح‭ ‬وازدهار‭ ‬الأغنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬‭.