راصداً الموت والعشق... والأمكنة الشاعر سماء عيسى إذ يطل من «شرفة على أرواح أمهاتنا»

راصداً الموت والعشق... والأمكنة الشاعر سماء عيسى  إذ يطل من «شرفة على أرواح أمهاتنا»

كأنه زاهد يمضي صوب مغارته البعيدة، لا يكتب إلا الموت إذ يرصد الحياة، تشعر بدبيب حروفه على صخر جبال أمامه. جبال داخلة، صامت لولا تلك الكلمات التي يكتب بها عن الموت معبّرا عن العشق، مترادفان في قلبه، كتلازمهما في نصوصه التي (ربما) لا تباغت قارئها قدر ما تدهشه، لأن صوت الإنسان فيها يكاد يكون معروفا، إنما صخب الجمال في نصوصه كفيل وحده بفلق صخر الشعور ليتدفق الإحساس بكلماته.

سماء عيسى لا يبدو زاهدا فقط في حياته اليومية، أو لنقل حياته برمّتها، بل يكتب زهده على أبجديات المكان، حيث تحمل سائر نصوصه ذلك الحنين العذب، لكنه الموجع، تذيب الحياة في مقطع شعري، نثري / شعري، فتكون بفجيعة الحرائق والاحتراق، فالموت ليس إلا وسيلة أخرى للحب، المعادل الدائم للعشق، كما يبدو جليا في مجموعته النثرية «شرفة على أرواح أمهاتنا» الصادرة عن دار مسعى (2014).
إطلالة الشاعر العماني سماء عيسى على أرواح الأمهات تنبجس عبر ثقوب يصنعها الموت الذي يتحول إلى كائن حسي يكاد يدّعي الكاتب أنه صديقه الذي يحرر به كائناتها الأثيرة من وجع الحياة، لا يأتي كنهاية صادمة، حتى مع الحزن الذي يلف المرء بعد الفقد، فالمفردات التي يصنع منها سماء عيسى نصوصه كالموت والحزن والوجع لا يتعامل معها إلا باعتبارها بضاعة الأمهات التي يجب استحسان محبتها، لأنها تذكرنا دوما بأمهاتنا، هنّ يتوجعن، أو هنّ يتحررن من هذا الوجع بالموت، تاركات الحزن لنا لنجلي به أرواحنا كلما صدأت بفعل تقادم الأيام.
منذ المفتتح الأول يقدم سماء عيسى «شرفته» إلى ثلاث أمهات، ثريا وجوخة وأسماء، ومن سطر الحكاية الأولى، يرسم لقارئه حدود العلاقة بين الموت والحب «لأني مدرك أنه كلما عشقنا اقترب الموت منا»، حيث «كان كل شيء في ملامح وجهها ينطق بكل شيء، يقودنا إلى الاثنين معا: الحب والموت، مصرّحا «كأن العشق هو الموت، كأن الموت هو العشق» ويرى أن الاثنين ارتبطا بندم غريب، «كلاهما ارتبطا بخطيئة الحياة»، حيث الصدفة هي التي قادتنا إلى هذا الكوكب الغريب.
 هذه المعالجة الدائمة للثنائية يمضي سماء عيسى لتأكيدها كحالة لا تقبل الشك، رابطا بين قدرة أمهاتنا على الحياة، وأيضا قدرتهن على السير نحو الموت بهدوء كأنه استراحة المحارب بعد طول عناء، ملمحا دوما إلى حالة النضال التي تعرفها الأمهات «العمانيات»، إذ يواجهن المواجع من حولهن بهدوء، كأنهن يترقبن ساعة الخلاص من كل ذلك، أو ليلحقن بأطفالهن وأزواجهن الذين سبقوهن، وعليهن مواصلة العشق لتكتمل الرحلة بالرحيل، فهذه الأرض «دون عشق تقبلنا»، وعندما جئناها لم تكشف لنا الطفولة «غير تلك الابتسامة التي تفتح لنا أبواب عمر لم نعشه، غير تلك الدموع التي ترحل بنا، إلى ينابيع وأنهار روتها أشجار الحب في قمم الجبال وفي تراب الصحراء». (ص10).
يمزج سماء عيسى بين رؤيته للموت ومفردات الطبيعة «العمانية» من حوله، ليبدو السارد يخاطب الأمهات الراحلات، الموت، الجبال، الأودية، الأشجار، بذات الحنين والتوجع، بل في لحظات ما يعتبر الموت هو القادم القريب، بينما سفح الجبل بعيد، فالأول يسكن داخلنا، بينما مفردات الطبيعة متخيلة في كثير من الأحيان، وخاصة لشاعر يتوحد مع لغته يتحدث بها من زاويته عن هواجسه القلقة، يستدعي عشق الأمهات ومناخات الموت ليبقي على أمله في الحلم.
عين الشاعر مأخوذة بالنظر نحو السماء، ترسم أحلامها على بياض سحابة وعلى غصن شجرة يقاوم فعل الموت، الأوراق تساقطت فبان العري، يخاطب أمه بتوجع محرق، «وحيدة في الحب ووحيدة في الموت» في بكائية تنساب بلغة صافية وواضحة، أمه في السماء، ابتعدت بأحلامها عن الأرض، لكنه (المؤلف / السارد) لا يحتاج إلى أقنعة أسلوبية ليتحدث عن توجعه، التشظي بالغ، والروح منهكة، والعمر الذي يدخل خريفه يذكرنا بمن سبقونا إلى 
الـ (هناك)، تاركين لنا أحزانا تكبر مع كل فقد، ويغدو الفقد صديقا قريبا نستشعر مروره في كل سانحة... الموت الذي يلاحق كل من نحبهم، الموت الذي تأتى يتبع موتا سبقه، والحنين يقود دوما إلى القرية، كأنما الموت هناك ينتظر، أو هي العودة إلى التربة الأولى للاندماج معها في أحد قبورها، وبجملة لا لبس فيها، وهي المحملة بالدلالات، لكنها لا تحتمل التعميم، يقول المؤلف/ السارد: «مضى من أحب إلى الموت».
في هذا المعنى يورد المؤلف موت «الغنمة» التي كانت بمنزلة أخته بعد أن ماتت أخته الحقيقية وتبعتها «الغنمة» التي كلما تأخرت عن السرح واتته نوبة بكاء وخوف من أن تموت هي الأخرى، ويقرر دون حاجة إلى تكرار المعنى الذي بدا جليا «إنها الألفة، إنه تجلي العشق»، ويتمثل بحكايات جانبية عن تأثيرات العشق، حكاية الرجل وجمله، والعاشق الذي جنّ، والأم التي ضحّت بحياتها.
يضم سماء عيسى بين دفتي «شرفة على أرواح أمهاتنا» نثريات توزعت على أكثر من مسار، فهو السارد «الأنا» في القسم الأول الذي حمل عنوان الكتاب، يظهر بصفته «سماء عيسى» بصورة واضحة متحدثا عن أمهاته، بصريح العبارة «أتحدث عن أمي» (ص15)، يقارب بينها وفلسفته العامة في سائر النصوص، كل شيء يعيده إلى الحزن، يكتب عنها بعد أن ماتت: «لم أجدها يوما ما تضحك أو حتى تبتسم، إلا والحزن الدفين يغطي في عذوبة نادرة ملامح وجهها الريفي الهادئ»، بهذا التكثيف اللغوي يختصر سماء عيسى على قارئه صورة الأم، العلاقة مع الحزن، علاقتها مع المكان، مرورا على الأمكنة التي أغوت الشاعر كثيرا، فبدت في تجلياته حالة صوفية تَسِمُ بنية نصوصه، مبنى ومعنى.
العشق في ذهنية الشاعر قادر على التحليق بنا والابتعاد «إلى الحلم» لنتحول إلى «عصافير أو فراشات تعبر الأرض خلسة بهدوء وخفة دون ضجيج وصراخ». (ص10).
لا يكف سماء عيسى عن تتبع العلاقة بين الموت والحب / العشق في أكثر من متاهة، فجائعية متواصلة تعبر بها النصوص وتعبّر بالدم النازّ في عروق تجلياته، إذ يكتب عن أمهاته محاولا استعادتهن عبر بوابة الموت، ومن خلال دموع تتكاثر في نصوصه وتتكاثف، يتبتل في حضرة المكان يعيد السيرة مرة إثر أخرى، السارد، الباكي، المتألم، الفاقد، المسكون بالحنين إلى الطفولة، وما عرفه فيها.
فعل الموت لدى سماء عيسى ليس شكلا واحدا يأتي متجردا (يشبه العشق) لينهي أوجاع الحزانى، بل تتسع الدائرة، وهو يمضي في حواريته مع الموت، لتتجلّى مفردات أخرى من نوع القاتل والقتلة والمقابر الجماعية، خروج من الشخصي إلى العام، من الحزن الذاتي صوب مدائن للموت أوسع، مع شعرية اللغة التي تتفصد حزنا في وصف العلاقة بين الأمكنة والبشر الهائمين في أوهامهم، رثاء متواتر للأمومة، والحنين إلى الطفولة، باعتبارها حالة الحب الخالصة في العلاقة مع الأمهات، قبل أن يكبرن ونكبر، ويرحلن ونحزن، يكبر المعنى في نص شجرة في صحراء، إذ يتمنى أن يصبح «وحيدا كشجرة في صحراء»، وفي النص التالي «رحيل» يصف بكاء شجرة.. تلك الوحيدة في الدار، بجوار الطفلة التي تبكي أيضا.
بين أمكنته يتنقل بخفة لا يمكن معها تبيّن رؤى محددة، فالقرية هي العشق، لكنها الموت أيضا، تذكره بكل ما هو / من هو ميت، وفي حواريات أخرى هي الحياة التي يريد العودة عبرها إلى النهايات الحتمية، وتبرز المدينة شرسة لكنها لا تخلو من قدرة على جذب الإنسان إليها، وهي خاوية «لم يبق بها إلا الموت».. ذاته الساكن قريته القريبة البعيدة، مؤمنا «لم يكن عمري غير الجفاف، ولم يعد ما بقي لي غير الجفاف»، تستوي أمامه في لحظات عدة القرية، المدينة، الأرض على اتساعها الكوني... وضيقها أمام عينيه... والصحراء المتسعة على جفاف هائل «لأنني من الصحراء أتيت، وإلى الصحراء أعود، وفي الصحراء يكون موتي، وقبري هناك ينتظرني» وبمقاربة وجودية لها مدلولاتها يكمل الحكاية «ينتظرني الرمل، ينتظرني المجهول، وينتظرني النكران»، في موقع آخر يقدم الصحراء كمعادل للوحشة والهجر، فالصحراء تسلم إلى صحراء أخرى. 
بين مقاربات واضحة المعنى، وأخرى تقدم بكائياته الفلسفية عبر أمكنة متخيلة، ومشاهد حلمية تختلط فيها المشاهد كما تتخالط الدلالات، أو المقاصد، يحمّل نصه، وإن كان عبر مشهديات الموت والفقد، رؤاه الأخرى المختلفة عن مناخات حديثه على شرفة أرواح أمهاته، ليتداخل الذاتي بالعام، والإنساني بالسياسي، كأنما الغياب كما هو التغييب، فيظهر أحيانا في حديثه عن شخصيات حقيقية وفاعلة كسالم بن سيف الفرعي، وعزان بن قيس.
 ينوّع سماء عيسى سرده بين الكتابة (إلى) والكتابة (عن)، محاولا عبر مقطع آخر الحديث عن سيرة الطفل الذي كانه، إذ يسترجع العلاقة القديمة، مخاوفها، ولكن ليس ببعيد عن مقارباته الأثيرة، إذ إن مرض الملاريا يشرف به على حافة الموت، راصدا العلاقة بين الموت من جهة، والأم من جهة أخرى، وهو بينهما، ومعهما، يناور في القرية ويخاتل الحب والموت معا، محتفيا بحضور الأم، يطلب في الاقتراب منها عبر النص مناخاته الروحية والوجودية، كأنما لا مناص أمام البشر، خاصة من نحب... سوى انتظار النهاية.
تحتل تقاسيم القسم الأول المعنونة بـ «شرفة على أرواح أمهاتنا» نصف الكتاب تقريبا، ويمضي بتنويعاته، وصولا إلى الابن، يهدي المقطع إلى «ناصر المنجي» الكاتب الآخر الذي نستشعره معادلا أيضا للبنوّة التي يخاتلها الموت بفعله الاعتيادي، فيما يبدأ القسم الثاني من الكتاب في عناوين سريعة، يعطي «جرار» مساحة أوسع، وبعدها عشرة نصوص نثرية تجتمع حول ذات الثيمة، الموت بوصفه غيابا، مع دلالة الفخار على الإنسان، من صلصال جاء إلى الدنيا، فيما تجمع عظام الموتى في جرار فخارية أيضا لدى بعض الأمم، تحرس عظام الموتى أو تسجنها.
في هذه النصوص تبدو قدرة الشاعر سماء عيسى على كتابة النص القصصي بذات علو قدمه في كتابة النص الشعري، وهي تقدم الحدث بلغة الشاعر ورؤيته، فتعززت روح الحكاية بجمالية القصيدة، ورمزية الجرة القادرة على حفظ الأسرار «لا تجهر الجرة بأسرارها»... مستودع فيها متبقيات الأجساد فيما الروح لا تتسع لها الجرار، الموت (في نصوصه) أكثر أبدية من الحياة، ولذلك يأتي الاحتفاء به واسعا، على امتداد جميع تفاصيل النصوص، اقتربت من الشعر، أو وقفت على حوافه، فالخلاصة أن الموت هو الخلاص، كأنما الحياة ذاتها تحتاج إلى مخلص منها، ورغم الفقد فإن الحزن يجمّل الحياة، خاصة إذا وقعت بين أسطر تتشكل بحروف شاعر.
 تتجلى قدرة الشاعر على القص في نص النقاب، كأنما أراد سماء عيسى أن يرسخ حضوره كقاص أيضا في الذاكرة الثقافية العمانية المعاصرة، وهو المحسوب على أنه واحد من رواد قصيدة النثر في عمان إن لم يكن في منطقة الخليج، كما أن له إسهاماته المسرحية، وتضم مجموعته هذه مجموعة من النصوص القصصية الجميلة كضي القناديل والقتيل وغزاة كفافي، يستقر فيها صوت الحكاية على أبعاد فنية خاصة بفن القصة، دون ذلك الحضور المدوي لصوت السارد / المؤلف الذي يظهر في نصوص أخرى كسارد لذاتيات وتجليات. 
يأتي نص النقاب باذخا بالجمال الفني، فهو يبحث في ما وراء النقاب، كما أن مرتدية النقاب تفتش هي الأخرى عما وراءه على الجانب الآخر، من خلف السواد تفتش عن نور، والرجلان معها في المطعم يقارعان السياسة، والأوضاع المحلية، محتفيا كعادته في نصوص المجموعة بالأمهات العمانيات، تجوع من أجل أن يشبع الرجل (الزوج / الابن)، واللائذة بالصمت حتى وهي تعيد اللثام إلى وجهها «ثم تبعتهما منكسة الرأس ولربما مغمضة العينين، حتى لا تفتح عينيها ثانية إلا على عالم الدواخل الصامتة المكبوتة حتى الموت». (ص43)، وبنفس المستوى يتجلى حضور المرأة إزاء الرجل في نص «الراعية التي أنجبت عصفورا» بمخيال سردي هائل الدلالة، ينتهي إلى قول المرأة «إنها لفكرة رائعة حقا أن أمارس الحب مع طير يمنحني عصفورا ملائكيا عوضا أن أمنح جسدي رجلاً غبياً كهذا». (ص48).
كان الشاعر / القاص سماء عيسى متجليا كزاهد ينظر للحياة بمراس المحارب الذي أنهكته الطواحين المتحركة في صحراء موحشة، مفتوحة على الجفاف والفقد، يطل حكيما في مواقع كثيرة، حكمة لها دلالاتها «لقد نكس الجميع رؤوسهم، فأخطأت السيوف رقابهم وضربت الهواء، وعندما ترفع رأسك يا بني، سيقطع السياف رأسك، سيتدحرج في الأرض درسا وعبرة، لكل من يحاول السير مرفوع الرأس مرة أخرى» (ص28)، وهو لا يريد الخروج عن سماء عيسى الشاعر، إذ يكتب نصه (القصصي) الأخير على وقع شكل القصيدة ولغتها، يقول في نص «الفاشست»:
«تراجع سم الثعبان كقوة قاتلة في القرون الأخيرة
وحل محله رصاص الفاشست
قال الضابط الفاشي مبررا
قتله الأطفال والأزهار والطيور
قررت التخلص منها باكراً
قبل أن تصل عدوى المظاهرات إليها» .