ســرُّ الـمــرسَــمْ

أيامي السابقة مضت. الأيام لا تقف. تبقى تمرّ وتترك آثارها عليّ. صرت إنسانًا آخر. الشخص الذي كان يلبسني انخلع عني. صرت ألبس ثوبًا جديدًا.
هي الأيام الأخيرة التي مازالت سارية عليّ وعلى صمتي وحواري مع ذاتي، والتفاتي إلى ظلّي المرافق لوحدتي.
أرسم اللامعقول، تاركًا لإحساسي قيادة يدي وألواني الباحثة عن نور بين الظلال هي تتخبّط في طريق فروعه. تتشابك مع خطوط وأشكال وألوان تضعها فراشيّ، لا تصمد طويلاً، تختفي تحت لون وشكل جديدين، يذوبان من لطشة الفرشاة الحاملة خليطًا من ألوان مزجتها الصدف. هذا المزيج من النقط الملوّنة والخطوط والبقع التي نادرًا ما تنسجم، وإن جاور اللون الأزرق لونًا أخضر أو البرتقالي والأصفر والليلكي والأحمر.
***
صرت إنسانًا آخر، البحث عن الذات هو الطريق الموصل إلى الوحدة التي تصل وتوصل إلى الحرية بالتصاقها بالعمل الفني، بجوارها مع الألوان التي تتسابق على المساحة البيضاء لونًا بعد لون، وكأن الأحمر هو البادئ، يتبعه الأزرق، ثم تتلاحق لطشات الفراشي، فتختلط الألوان، وكأن لونًا ينادي الآخر، ها هو الأصفر يطل وكأن عصفورًا ظهر على غصن مزغردًا، ثم الأخضر، وبعــدهــــا تهدأ الألوان ثم تعود بقوّة، تقترب الفرشاة من الأسود وكأن حادثًا وقع في اللوحة. يأخذ الأسود مكانًا وتبدو بقية الألوان عندئذ كلها ناصتة إليه، ساجدة لجبروته مع كونها سعيدة بجواره، ثم ترتمي الفراشي على الأرض، فأقوم من على كرسيٍّ وأبتعد قليلاً عن اللوحة لأرى ماذا حقّق إحساسي وماذا يقول في حواره مع الألوان، لكني لا أرى شيئًا، فأقع في حالة كئيبة قريبة من اليأس.. فلا أرى مفرًا إلا بالخروج، ولكن إلى أين؟ وهل أستطيع أن أهرب من نفسي؟ وإن حاولت الابتعاد عنها فهي كالظل، أركض في الشارع وظلّي يسبقني، أقف فيقف معي.
***
لمَ خلق الله لكل مخلوق ظـــلاً؟ وهل هي رأفة بالإنسان لئلا يشعر بالوحشة؟ وأنا.. أنا هارب من كل شيء، من كل ألواني وأحلامي، أنا ذاهب إلى وحدتي، مَن يســتطيع أن يُمسك بظلّي لأنطــــلق بعــــيدًا وحــدي؟.. أســير وأدور حول الشوارع وفـــــي الأزقـــة كأني أبحث عن أحد أو عن شيء، أنا أعلم أن السبيل الوحيد للتخلّص من ضياعي وبحثي عن لا شيء هو العودة إلى المرسم، أدخله وقد هدأت ثورتي، أفتح النافذتين اللتيـــن تؤتيــــاني بالنــور وتقرّباني من الطبيعة، أجلس على كرسيّ وأفتح عينيّ، أنظر إلى اللوحة، أكـــتشف أنها تحرّرت مـــــن أحاسيــــسي وألواني، وأصبحـــت مؤهلة لأن تكون لها حياتها الخاصة، شعرت كأن ابتسامة ترتسم على وجهي. بقيت أنظر وأتفحّص اللوحة، خطوطها، أشكالها الملوّنة وانسجام الأشياء الظاهرة فيها مع أشكالها الباطنة.
***
عندما أمسك بفراشيَّ وألواني متوسلاً إعطاء بعض من الحياة إلى اللون، أكون عندئذ ساعيًا إلى الحياة، منشدًا لها أنغامًا ملوّنة تحكي عن الراحة والفرح .