ثلاثيةُ المنفى والمرأةِ والرُّوح نظرٌ في ديوان «دم العاشق» لـ «سماء عيسى»

ثلاثيةُ المنفى والمرأةِ والرُّوح نظرٌ في ديوان «دم العاشق» لـ «سماء عيسى»

لـ «سماء عيسى» تجارب في الكتابة متنوّعة، يتفاعل مع اللّغة، تحويه وتضمّ وجْدَه وشوقه، يحتمي بها فتحمي لهيبه وتحوّله ناراً وهدياً، يكتب سماء عيسى شعراً أشبه بالنثر ونثراً أشبه بالشعر، فيُخلص أحياناً لجوهر الكون ولروحه اليافعة، فينطق شعرا، ويميل أحياناً إلى العقل والحبك فيكتب نثراً أشبه ما يكون بالقصص، وهو بين هذا وذاك واجِدٌ من الشعر مأخذاً ومن النثر نسقاً وفكراً، فيخرج المعنى من بين جنباته شعراً أو نثراً، أو جمعاً بينهما، فالمعنى يخرج منه بأشكال مختلفة، ولا ضرر في ذلك فهو مجرّب من أنماط الكتابة ما به يكون ويتحقّق، وكيفما خرج المعنى فتلكم هي الواسطة الأمثل.

لـ «سماء عيسى» مسار من التجربة متنوع وثريّ، وله من روح الفنّان ما به يُقيم عالما من الخيال، يقلب الحقّ باطلا ويقلب الباطل حقّا، وحسب الفنّان أن يمسك من الخيال ناصيته وأن يتفاعل مع وجوده وأن يرى الحقّ في من يتمثّل الحقّ وأن يخوض من تجارب الواقع وأن يقرأ التاريخ والتراث وأن يخوض رحلة الروح تسافر فتتعمّق غربتها.

«القمر أكثر صفاء كحزن الأنبياء
وروحي التي حملها اللّه
على طيف من النار
هل تعيدها إليّ
عصافير البحر
أسمعها تناديني
كأرملة ذوى الدهر بها في الهجير»
هي روح الشاعر تظلّ أبدا في حال السفر والتنقّل، لا تهجع ولا يقرّ لها قرار، تظلّ أبدا هائمة كالماء يفاعته في حركته فإن استقرّ ركد وفسد.
كتب سماء عيسى الواقع كما استشعره ووقع في نفسه، وعبّر عن وجودٍ انغمس فيه بتفاصيله، بحياته وموته، بإرثه وثقل حمولته، وبواقعه ومرارة مذاقه، فكان واعيا بعمقه المحلّي، منفتـــحـــــا على حداثـــته، ولعمري إنّه لمن العسير أن يُزاوج شاعرّ بين امتلائه بمفردات التراث وفكره، والوعي بالواقع ومحدثاته. 
تسمّى سماء بما اختاره من الأسماء لنفسه ولامتداده في الوجود الحقّ وفي الوجود القولي، واستعار اسما يساوق ما هو داخل فيه من حياة قائمة على المجاز، على التعبير عن الأشياء بغير ما اصطلح العامّة على أسمائها، فاسمه الحقّ في غير أرضه الشعريّة هو عيسى بن حمد بن عيسى الطائي من مواليد مسقط سنة 1945، ومنذ بداياته الأولى اختار أن يكون من العصبة الشعرية المرفوضة، أن يكتب الشعر الحرّ، وأن يكتب قصيدة النثر، ولعلّه أوّل من كــــتب هذا النمـــط من الشعر في عمان، وخطّ بصحـــبة نخبـــة نيّرة من الشعراء طريقا صعبا وجدته الأجيال اللّاحــقة ممهّدا، وخاصّة في مواجهــــة أنصــار القصيدة العمودية وهم كثر ذائقةً وكتابةً ومواقفَ لحدّ اليوم.
يعيـــــش الــــشاعر كمـــا أغـــلب الشـــعراء حالة المنفى، حقيقــــة وتـــجوّزا، ومَن من المثقّفيـــن الحقيقيين لا يعيش حالة النفــــي وحال الغربة في أرضه، منفيّ وهو في وطنه، غريب وهو بين أهله، ويعبّر الشاعر عن هذا الاغتراب الذي نراه في حال الشوق إلى الوطن، وفي البكاء على الدمـــن، وفـــي الدخول في حال من التصحّر لا أوبة بعــــدها، وفــــي سفر الروح، تفارق مرابضـــها ولا تجـــــد لها منتهى، ولعلّ ذلك ما يعلّل دخول الشاعر في تجربة العرفان، وإثبات عجز اللّغة عن تحمّل جليل المعاني، كما الجسد ينوء بحمل الروح.

«عندما في الرمال
يواجهنا اللاّشيء»
اللاّشيء: وردة المنفى» (دم العاشق. ص 7)
فيعانق الشاعر المطلق، ويبحث عن معنى يتقفّاه الشعراء ولا يدركـــونه حياتَهم، يُقلّب في اللّغة عقله وقلبه، يصير اللاّشــيء شيئا ومعنى، هو وردة بما تحملـــه من دلالات العبق والأمل والتفتّح والإزهار، اللّاشيء أجمل ما في المنفى. فليست الرمال رمالا، وليســـت اللّغة لغةً بما تُعــــلن وتبـــوح، يــــحوّل الأشياء إلى رموز، وتفقد اللّغة وضعيّتها وتوافقها، ليصنع من إجرائه لها أبعادا دلالية جديـــدة وليدة. 
المنفى يستدعي ضديده وهو الوطن، والمنفى هو خروج قسري وإن كان إراديّا من وطن ضاق بصاحبه، أو من وطن ضاق بحبّ صاحبه.

«ظلّلي 
يا نجوم المنفى
رفات أنبيائنا
ظلّلينا»
إنّ التحوّل في إجراء ضمائـــر المخاطبــــة، من مخاطبة الهـــو الآخر المختلف، إلى مخاطبة الأنا، يـــشكّل التفاتا مهماً، في بيان منزلة الشعراء القريبة من منزلة الأنبياء في كونهم يمثّلــــون ضمائر الوجود وعمق إحســاسه، يذكّـــــرنا بمنزلة الشاعر عند العرب، إذ لم يكـــونوا يحتـــــفـــلون إلاّ بنبي يظهر أو شاعر ينبغ. يقول ابن رشيق في كتاب العمدة «كانـــت القــــبيلة من العرب إذا نبغ فيــهــــا شاعر أتت القـــــبائل فهــــنّأتها فصــنـــعت الأطعــمـــة ويتــباشر الرجال والولدان لأنّه حماية لأعراضهم وذبّ عن أحسابهم»، وتذكّرنا ببيت لأبي الطيّب جرّ عليه مــا جرّ من أقوال وأفعال:

«ما مقامي بأرض نخلة إلاّ
كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمّة تداركها اللّـ
ـه غريب كصالح في ثمود»
منفى الشاعر وهو في وطنه اغتراب في وجود يُحسن تصويره بقوله «لا شيء سوى الموتى يتحدّثون عن الموتى» (دم العاشق. ص 24)
للمنفى ولصلة الشاعر بوطنه منزلة رفيعة في ما كتبه سماء عيسى، وجب على الدارسين تتبّع آثاره في الصور التي يستدعيها، وفي المعجم الذي يجريه، في إدارة المواضيع عليه، وكأنّه أصل من أصول كتابة الشعر في مسيرته. الشاعر يرغب في الجريان، وينفر الركود، إذا ما استقرّ واطمأن وهنئ وحسنت إقامته فسد شعره.

«ربّما تكون المياه قد جفّت
فلا نستطيع العودة ثانية
إلى أكواخنا
هل كانت الأرض لنا أمّا
حتّى تتّسع الرياح
لإيواء أراملنا» (29)
ذاك موضوع مولّد لأفعال الموت، والتصحّر والغياب، ومحور غرضــــي أصـــــليّ يُنجــــب الموت الذي كثيرا ما كان حاضرا في شعر الشاعر، يُخصب دخول متاهة الصحراء المكان المُفْقِد المميت في ما اختار له الشاعر من دلالة.

«وكما يندلق العمر من الكأس
يندلق القلب من البين
وتكبر أشجار المنفى.
هل كنّا حين نزفنا كأس الأيّام
ما أعطته لنا فيضانات الماء
بكينا...
حملتنا الريح إلى صحراء الموتى
ذرفنا من أعيننا دم الأطفال
بكينا كأرامل في العشرين
غابتْ من ولدتنا، أكلتها
نار الموتى وأجراس المنسيين» (دم العاشق. ص 27-28)
 يولّد الاغتراب المرأة، أمّا وحبيبةً وصورةً ترافق متخيّل الشاعر يلجأ إليها في كلّ معنى يتقصدّه، غير أنّها صورة موصولة في أغلب الأحيان بالألم والجرح والأثر السلبي للدهر، فلا تتجلّى المرأة في صورتها المشرقة، وإنّما هي تمام الجرح وعمق الألم في واقعٍ يحمل جروح الماضي.
تحضر المرأة في شعر سماء عيسى، وفي حضورها نبرة من الحزن، وصدى لألم ضارب في التاريخ، المرأة صورة الماضي، والحاضر تتسربل بهالة من الأسى تُستَقى من كمّ الألم الذي تحمله بين جنباتها.
«ذهبت إلى البريّة، لنشرب من كرم الحبّ.... لكنّها كانت تقول لي وهي تصعد إلى السماء، إنّني امرأة حزينة الروح» (دم العاشق. ص 149)
هذه المرأة الباكية دوما، المتقطّعة أبدا، المكلومة في مختلف صورها، المقبلة على الموت، المؤسّسة لصور تدخل في حقل الألم «وكسحابة دم تعود بها الرياح إلينا كلّ عام، كنّا نرنو إلى السماء، ومعنا النسوة الباكيات الحاضنات رعشة الحبّ إلى الصحراء» (دم العاشق. ص141) 

«يهيم وحده في الأرض
تتبعه امرأة حبلى
بدم الآلهة
في دمه أنثى
تدفعه إلى الموت» (دم العاشق. ص 55-56)
قد تأخذ المرأة صورتهــــا الحقّ التي وُضعـــت لها، وقد تُفارق أصلَ وضعها، لتُداخل مجالات دلاليّة مجانبة لها، لتكون وطنا، ولا جِدّة في ذلك فكثيرا ما دعا الشعراء أوطانهم بالأمّ.

«أيّتها الأمّ 
سليلة أمّهات الليل والندم والهجعة الأولى
أيقظينا، أيقظي فينا رغبة أن نموت
بين ذراعيك ونبكي...» (دم العاشق. ص 138)
المرأة هي الصورة الملهمة، هي المشبّه به، هي الصورة الجاثمة في متخيّل الشاعر، تسوق مسار المعنى، حيث توصَل بالرواء، وكثيرا ما اتّصلت صورة المرأة في الشعر العربي بالرواء، والإخصاب.

«وروتنا 
امرأة
بمياه الذكرى» (دم العاشق. ص 77)
غير أنّ المرأة عموما تتمحّض للدلالة على الأمّ الحزينة الفاقدة لأعضائها، الفاقدة لأبنائها، وكأنّها الوطن الذي يتآكل ويأكل أبناءه الخُلّص، الأمّ رمز الخصوبة والإنجاب، تُقطّع أوصالها مُمِدّة الحياة.

«ولأمّهات مقطوعات
الأثداء
ينزفن دما
على الأرصفة» (دم العاشق. ص 78)
أمّا ثالث المحاور الدلالية التي يُداخلها الشاعر فهو تجربة الروح المؤسّسة لفضاء الحبّ والموت والإشارة الإلهيّة، هي تجربة عرفانيّة تستوعب التراث الصوفي وتعمل على التواصل معه، وقد تبيّنّا ذلك في ما يجريه الشاعر من صور، وفي ما يؤسّسه من معجم يُداخل عوالم التصوّف.

«متى لروحي أن تشرب روحك
وتسكب الآلهة
كأس الحبّ الصافي
على جسدينا» (دم العاشق. ص 66)
فيحتفي بالروح وتحوّلها عن الجسد، ويبحث في كون الغيب عن لذّة باقية، صافية لا كدر فيها، يعمل على وصل الروح بأصلها وإعادتها إلى جوهرها الحقّ.

«خرج من الجسد
إلى فضاء الروح
نظر إلى خالقه
لم يره
إذ ذاك
تذكّر رحم أمّه
وبكى...» (دم العاشق. ص 127)
يحتفي بالروح وأشكال فنائها ومعانقتها للمطلق، مستدعيا صورة المسيح في انتشاره بين عُبّاده والمؤمنين به، وصورة الحلاّج في صلبه، ليعرج إلى الشمس صعودا من الأرض إلى السماء، فتحوّله رمادا يُذرى على الأرض، وتتوزّع روحه على الأرواح. 

«روحي تحلّق في فضاء الأشياء
متّجهة من الأرض إلى السماء
حتّى أقترب من الشمس
يجرفني شعاعها
ثمّ يتبعثر رمادي
في الأرض» (دم العاشق. ص 134)
يُدرك سماء عيسى ما يكتب ويتلبّس موضوعه، ولذلك فإنّ لفظة المنفى وما يحيل عليها مثّلت موتيفا متعاودا في مجمل قصائد الديوان، وكذا الأمر بالنسبة إلى صورة المرأة المقرونة بالألم والدم، وهو الأمر نفسه في انسيابه وموتيف الروح المقرون بالموت وبالموروث.
ولعلّ القصيدة التي رقّاها لتكون عنوان مجموعته الشعريّة «دم العاشق» تعكس هذه المحاور الدلالية التي اقترنت بفعل ندم متعاود، ظاهر، يبين حالا شعريّة ملحوظة، فعل الندم المبنيّ على التحسّر وسوء التقدير حوّله الشاعر في حركةِ عدول إلى فعل إيجابي، شعريّ.
يحـــاور الشاعر في القصيدة الأرض فتعيده إلى دهشة الطفل الأولى، هي دهشة كثيرا ما عبّر عنها الفلاسفة، دهشة السؤال، ويُعمل الشاعر في قصيدته معانيه، ومرجعيّاته المتعدّدة، عليّ بن أبي طالب، المسيح، الإمام عزان بن قيس، الإمام عزان بن تميم، ليقيم عالمه الحاضر في اللّغة الموصول بالماضي.
لسماء عيسى أفعالٌ في اللّغة ومساحات يجول فيها دون حدّ أو ضيق، يُدوّن من إرثه اللّغوي المحليّ، ما به يسعى إلى السموّ، ولعمري ما مِن كونيّة لشاعر تحقّقت إلاّ صدورا عن محليّته، ألفاظ وأشكال وألوان وأمّهات ونساء وعناصر من الموروث وآلام الحاضر والماضي، وحالات الاغتراب، وأشياء يعسر حصرها، هي مكوّنات الشعر عند سماء عيسى.
يتواصل سماء عيسى مع ماضيه بتفاصيله، وآلامه، ويُجري معجما يدور في فلك الماضي بعناصره المختلفة. ليس للشاعر وجه يركن إليه في حال الفجيعة القادمة توجّسَ أنبياء الشعر سوى اللّغة يحتمي بها وخيالات الشعراء يجيل فيها أوهامه.

«كأنّ كلّ شيء يُنذر بفجيعة ما 
حشرجات الطير، براكين الكواكب، شجر
الصمت انحنى، جفّ، ذبُل، نذير مخلوقات بائسة تأتي من رماد الشمس».
يعسر أن نلمّ في وجيز من القول بشعر شاعر، كتب قصيدة التفعيلة، وباشر قصيدة النثر في بداياتها، وارتحل في تراثه المحلّي والعربي يفكّكه ويعمل على فهمه واستثماره، وعايش واقعه بعناصره المهزومة والمأزومة، حيث لا فــــرح يبدو في الأفق، وكتب نثرا خالصا وساهم في تشكيل المشهد السينمائي. 
سماء عيسى روحٌ ثابتة ومكوّن أساس من مكوّنات الثقافة العمانية، وعتبة وجب على دارس الأدب العماني أن يقف عليها مديدا، ليُدرك فعل الماضي في الحاضر وفعل الحاضر في الماضي، وليفقه سمات هذا الأدب وخواصّه .