أغنية الاتحاد الاشتراكي

أغنية الاتحاد الاشتراكي
        

          الحق أنني مدين وقراء أمل دنقل إلى الشاعر شعبان يوسف بالكشف عن قصيدتين مجهولتين لأمل دنقل، أولاهما «أغنية للاتحاد الاشتراكي» التي نشرها في مجلة «صباح الخير» القاهرية بتاريخ 28 أبريل 1966م وثانيتهما «اعتراف»، المنشورة في مجلة «الآداب» البيروتية في عدد أكتوبر 1964، وسأقصر حديثي في هذا العدد على قصيدة «أغنية للاتحاد الاشتراكي»، التي تكمن أهميتها في أمرين، أولهما تأثره البالغ بشعر أحمد حجازي الذي جعله أنبَه َتلاميذه الذين بدأوا منه، ووازوه عندما اشتد عودهم واكتملت تجربتهم الشعرية وثانيهما كشف القصيدة عن بعض تقلبات الموقف السياسي لأمل دنقل وعلاقته بالناصرية التي لم تخل من تضاد.

          معروف أن عبدالناصر أصدر «الميثاق القومي» في مايو سنة 1962م، وقام بإقراره المؤتمر الوطني لقوى الشعب العاملة، وقد أظهر الميثاق نضج عبدالناصر السياسي، وانحيازه النهائي إلى الخط الثوري الذي يقوم على الالتزام بالاشتراكية والقومية. وقد أعلن جمال عبدالناصر في هذا المؤتمر نظام الاتحاد الاشتراكي العربي الذي حل محل الاتحاد القومي الذي تأسس سنة 1957م، وقد حل بدوره محل هيئة التحرير التي أنشئت سنة 1952م.

          وقد أكد الميثاق، وبعده الاتحاد الاشتراكي العربي، عدم التخلي عن الفكر القومي العربي، خصوصا في جوانبه التقدمية، وعن الانحياز إلى الطريق الاشتراكي بوصفه طريقاً واعداً بالعدل الاجتماعي الذي يقترن بمجتمع الرفاهية، وإلى التقدم الذي لا يغفل خصوصية الهوية العربية وميراثها الحضاري.

          ومن هنا جاء إلحاح عبدالناصر على تسمية «الاتحاد الاشتراكي العربي» تأكيداً للخصوصية العربية بين التجارب الاشتراكية العالمية، وهو الأمر الذي دفعه إلى الذهاب في هذا السياق إلى أن «الاشتراكية» واحدة، ولكن تطبيقاتها تختلف حسب السياقات التاريخية للأوطان التي تنحاز إليها، ولذلك استخدم تعبير «التطبيق العربي للاشتراكية» بدل اصطلاح «الاشتراكية العربية».

          وكان واضحاً أن الانحياز إلى الاشتراكية قد أرضى فصائل اليسار العربي التي ظلت منطوية على تضاد فكري عاطفي إزاء عبدالناصر، خصوصا من حيث هو زعيم وطني، اكتسب صفة التقدمية عندما انحاز إلى حتمية الحل الاشتراكي. وفي هذا السياق وقف صلاح اهين وكتب ما غنّاه عبدالحليم حافظ على رأس «بستان الاشتراكية».

هجرة حجازي

          وكتب عبدالمعطي حجازي «أغنية للاتحاد الاشتراكي» سنة 1965م التي غير عنوانها - مع الأسف - في الأعمال الكاملة التي أصدرتها «دار سعاد الصباح» في القاهرة، فأصبح عنوانها «أغنية لحزب سياسي» وكان ذلك ضمن تخلي حجازي عن التوجه القومي الناصري الذي أعلن هجره له في قصيدة «مرثية للعمر الجميل» وأصبح ليبرالياً إنسانياً بعد أن كان ناصرياَّ قومياَّ، مؤمنا بالتوجه الاشتراكي في ذلك الزمن الجميل، مغنياً للاتحاد الاشتراكي بالأبيات التالية:

          كن لي عائلة
          يا حصن الفلاحين الفقراء
          فأنا لا أسرة لي
          إلا الإنسان.. بلا أسماء
          كن لي عاصمة
          يا بلد العمال الغرباء
          فأنا لا موطن لي 
          منذ تركت الأرض الخضراء
          كن لي ملحمة
          أرويها للبسطاء
          نركب فيها الخيل، ونفتح مدن الحب
          ونحرر فيها السجناء

          وعلى هذا النحو يمضي حجازي في أغنيته التي أبقيت على كلماتها الأصلية، متجنباً الكلمات الجديدة التي استبدلها حجازي بكلماته القديمة، لأن القصيدة في صياغتها الأولى هي الأصل الذي تأثر به أمل دنقل في أغنيته التي مضت على الدرب نفسه.

          ويمكن أن نلاحظ في هذا السياق أن قصيدة حجازي تعتمد على التكرار البسيط لمقاطع من الوزن نفسه، يختص كل مقطع بصفة مجازية، أو أكثر، تتكرر موازياتها بعد فعل الأمر «كن» في أربعة مقاطع، فالاتحاد الاشتراكي «عائلة» و«عاصمة» و«ملحمة» و«سيفا وحصانا ونشيدا»، ويأتي المقطع الخامس والأخير موجها إلى أبناء الوطن الشرفاء الذين تسلموا علم الوطن، وهو أمر يدعو إلى استخدام فعل الأمر ثانية في السطرين اللذين يختمان القصيدة:

          فلتكن القامات الصلبة ساريه العالي
          ولتكن الأعين أنجمه الخضراء

          والإشارة دالة في البيت الأخير على تحويل نجوم علم الوطن بأعينه الخضراء إلى نجوم حارسة، في موازاة تحويل القامات الصلبة للأحرار الذين امتلكوا وطنهم إلى سارية صلبة، ترفع علم الوطن فوق كل الهامات. ولعلي في حاجة إلى التذكير بالنبرة الخطابية للقصيدة، من حيث هي قصيدة وطنية تنبني على خصائص بلاغية لا تفارق «الإنشاء» الذي يعتمد في بنيته على تكرار أفعال الأمر وصيغ النداء، مع التشبيهات البسيطة التي تمتد في شكل مجازات بسيطة، تتضافر مع ضمير المخاطب الذي يغدو موضوعا للخطاب في هذا النوع من القصائد.

          اللافت للانتباه حقا أن أمل دنقل الذي أخذ يجذب الانتباه إليه بقصيدته «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» التي كتبها من منظور يساري معادٍ لما كان يسمى «ديكتاتورية عبدالناصر»، بيد أنه قد غيّر موقفه مع تبني الناصرية للتوجه الاشتراكي في الميثاق سنة 1962م، وما بدا واضحا من أن الناصرية أدركت حتمية التحول الاشتراكي، وما يعنيه من عدالة اجتماعية للفقراء - معذبي الأرض - الذين تحمس لهم أمل دنقل إلى آخر أيام حياته، ولذلك ينشر أمل قصيدته «أغنية للاتحاد الاشتراكي» في 28 أبريل 1966م في العدد نفسه الذي سبقت قصيدته تحقيقات صحفية عن التطور الصناعي الواعد بالحلم الاشتراكي الذي أخذ يتحقق.

صعود الحلم الاشتراكي

          وفي الصفحتين اللتين تحتلهما القصيدة نجد «عموداً» بتوقيع محمود ذهني عن اللقاء السابع عشر بين تيتو وعبدالناصر، وبعده بصفحات كاريكاتير عن «يد من يعمل السد»، وفي هذا السياق الذي يعكس صعود الحلم الاشتراكي الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، تأتي قصيدة أمل التي تبدأ على النحو التالي:

          غدنا نجمة
          إن لم يلقطها منقارك يا نسر القمة
          غابت في بحر الظلمات 
          ريشك ينمو
          يشتاق إلى الخفقان
          لا بد وأن تتعثر في الجولات الأولى
          حتى يشتد جناحك في الطيران
          دع أردية الحجّاب الرسمية
          ومآدب الاستقبال
          فلقد أفسحت لخطوك في بيتي
          قاعات الصمت ومكتبة الأطفال 
          في غبشات الفجر
          نترقب أن تأتي في المركبة الذهبية
          لتشد الشمس - إلى الأفق الخاوي - 
          من شرنقة الخدر
          نحن صغار في مدرسة الكلمة
          غايتنا أن نتعلم حرف هجاء
          فلتأمر أن تقطع ألسنة الضوضاء
          حتى تستمع إلى الحكمة

                              ***

          كن سيف الحق وكن فمه
          واحذر أن يعلوه صدأ الصمت، فيثلمه
          فاغمسه، يوما في ماء النيل،
          ويوما في عرق العمال

                              ***

          يا صوتي الأول
          يا ميلادي الثاني
          من حولك تتهاوى النجمات
          ساحبة ذيل النور الغارب، 
          ملقاة الرايات
          لا تجفل لا تترك فرسك يجفل
          كم فرس أجفل ألقى فارسه تحت الأرجل
          أنصارك جاءوك فكن لهم الصدر الحاني
          باركهم، والعرق المتفصد فوق الجبهات
          وانشر ظل عباءتك الخضراء إذا القيظ تلظّى
          وافتح خيمتك الواسعة إذا الليل تسلل
          وكما كان البسطاء
          أمناء
          فليكن الأمناء
          بسطاء

          والقصيدة دالة على متانة اللحمة التي كانت تربط بين أمل وحجازي بوجه عام، وقصيدته «أغنية للاتحاد الاشتراكي» بوجه خاص، فهناك فكرة التشبيه «غدنا نجمة» التي يقوم المجاز بتوسيعها في دائرة توسيع التشبيه، وتحويله إلى استعارة، في الإشارة إلى إمكان ضياع النجمة إن لم يلقطها منقار نسر القمة، الذي أصبح رمزا للاتحاد الاشتراكي وكلنا يعلم كيف أن «صقر قريش» تحول إلى رمز لدولة عبدالناصر الاشتراكية القومية.

          والتلميح واضح إلى أن هذا الغد متعدد الاحتمال يمكن أن يضيع إذا لم يلتقطه منقار النسر ليصعد به إلى الآفاق العليا ويتحول الغد النجمة إلى فرخ ينمو، ويقوى ريشه، فيتحرق شوقا إلى الطيران قد يتعثر في الخطوات أو المحاولات الأولى، ولكنه سوف يصل إلى عنان السماء ولم لا؟! فقد كان كل شيء في أبريل 1966م ينبئ بوعود الصعود، واشتداد جناحي النسر في الطيران، ويأتي المقطع اللاحق بتحديد هوية هذا النسر الذي ينحاز إلى الثوار الفقراء، الذين يتطلعون - في غبشات الفجر - إلى صعود شمسهم في أفق المستقبل بعد طول تكاسل، ويأتي المقطع اللاحق بما يريد تذكيرنا بقصيدة الأستاذ حجازي، حين نلحظ فعل الأمر الذي يستهل الجملة «كن سيف الحق، وكن فمه» فنتذكر قول حجازي «كن لي سيفا، وحصانا، ونشيدا» والصلة غير بعيدة عن «فم الحق» و«نشيد الحق»، لكن مجاز «فم الحق» يضيف السيف الذي يُخشى عليه من أن يعلوه صدأ الصمت فيثلمه، ويغدو غير قاطع، لذلك فالحل هو شحذ السيف بوضعه يوما في ماء النيل، حيث سر الخلود المصري وديمومة الروح الخلاقة، ويوما في «عرق العمال» الذين هم صناع المستقبل، وبناة «السد العالي» الذي يجمع بين النيل والعمال في حلم المستقبل الواعد.

تحت عباءة خضراء

          ويستهل المقطع الأخير تداعياته بحرف النداء الذي يجر إلى تحويل «السد النجمة» إلى أعلى النجمات وأكثر صعودا، الأمر الذي يؤدي إلى تداعيات السيف والفرس وكلاهما تيمة من تيمات حجازي، تذكرنا بها قصيدته «دفاع عن الكلمة» (1958):

          فرسي لا يكبو
          وحسامي قاطع
          وأنا ألج الحلبة
          مختالا، ألج الحلبة، أثنى عِطْفي
          أتلاعب بالسيف
          لا أرتجف أمام الفرسان
          وقصيدته «تموز» (61):
          هذا حصاني.. ولا أخليه
          حتى يلوح الشمالُ.. عاليه

          وهي تيمة تجعلنا على ذكر من الرموز العربية القومية التي أغوى بها حجازي أمل، فانطلق إلى مدى أبعد. وهي رموز تكملها قصيدة أمل عندما يتحدث عن النجم الذي تحول إلى فارس فيما يبدو إشارة إلى عبدالناصر الذي تحلّق حوله أنصاره، فكان لهم الصدر الحاني كالفارس الذي يبارك صحبه، وينشر عليهم - كالنيل - ظل عباءته الخضراء رمز الخصب الذي يكتمل بالإشارة إلى «الخيمة»، التي تتسع للجميع لأنها تمتد من المحيط إلى الخليج، وتأتي الأسطر الختامية مكررة فعل الأمر «انشر، وافتح، فليكن »الذي يناقل سياقه ما بين الأمناء البسطاء والبسطاء الأمناء.

          ولا أظن أن هناك أوضح من هذه القصيدة وأصرحها في اتّباع أمل لخطى حجازي على نحو بالغ الوضوح، وأظن أن هذا هو سبب إسقاطها من ديوانه الأول «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» (1969) أولا : لأنها فاقعة الدلالة على جانبي التقلب والاتباع، وثانيا: لأن أهم قصائد الديوان الأول مكتوبة من منظور الغضب على هزيمة 1967م والسخط على عبدالناصر لأنه كان السبب فيها، فيما رأى أمل.

          ولذلك غلبت الصورة السلبية لعبدالناصر فأصبح «قيصر الصقيع» القامع الذي كسر ثورة الفقراء التي تزعمها سبارتاكوس، وأصبح لا يختلف عن أثرياء عبس الذين قادوا فقراءهم الذين أصبحوا عبيدهم إلى الموت المذل المهين، وكانت النتيجة اختفاء صورة عبدالناصر الفارس الذي غنى له حجازي، في سياق انتصاره في حرب 1956م وتحوله إلى زعيم العرب، وهو السياق الذي فيه قصيدة حجازي «عبدالناصر» التي تبدأ بقوله:

          فلتكتبوا يا شعراء إنني هنا
          أمر تحت قوس نصر
          مع الجماهير التي تعانق السنى
          تشد شعر الشمس، تلمس السماء
          كأنها أسراب طيرْ
          تفتحت أمامها نوافذ الضياء

          وكان ذلك في لحظة مجد عبدالناصر الذي خرج قائدا للأمة العربية كلها بعد هزيمة العدوان الثلاثي سنة 1956م وهي لحظة لا سبيل إلى المقارنة بينها وبين لحظة الانكسار بعد هزيمة 1967م، حين تشظى الحلم القومي البهيج، وأصبح على الشاعر القومي أن يقطع ما بينه وبين البطل الذي رأى فيه الأمل والخلاص، خصوصا بعد أن اكتشف أن حلمه العظيم لم يكن سوى خديعة كبرى، أما المغني أو الشاعر الذي أوجعته الهزيمة التي تطاولت، فلم يعد أمامه سوى أن يكتب «مرثية للعمر الجميل» التي بدأها حجازي بقوله:

          هذه آخر الأرض
          لم يبق إلا الفراق
          سأسوّي هنالك قبرا
          وأجعل شاهده مزقة من لوائك
          ثم أقول سلاما،
          زمن الغزوات مضى، والرفاق
          ذهبوا، ورجعنا يتامى
          هل سوى زهرتين أضمهما فوق قبرك
          ثم أمزق عن قدمي الوثاق

          والمؤكد أن حجازي الشاعر الإنسان كان من الصعب عليه تمزيق القيد الذي ربطه بحلم عبدالناصر، فقد كان الأمر قاسيا بحكم المشاعر المتضادة إزاء الزمن الجميل الذي اقترن به، ولم يكن الأمر كذلك عند أمل دنقل الذي غلبت عليه مشاعر السلب إزاء عبدالناصر وزمنه، الذي كانت روح التمرد في أمل تدفعه إلى التركيز على الجوانب السلبية من التجربة الناصرية، والذي كان حماسه لها أقل من تمرده عليها وربما كان ذلك بسبب السنوات الخمس التي تفصل بين ميلاد حجازي سنة 1935 وميلاد أمل سنة 1940.

--------------------------------

سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُّلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ

نازك الملائكة

 

جابر عصفور