جون ترُمبُل إعلان الاستقلال

بمواصفاتها الفنية والجمالية، لا يمكن القول إن هذه اللوحة هي تحفة عصرها. فتركيبها العام تقليدي ومألوف، ورسم وجوه كل هؤلاء الرجال بألوان ومنهجية موحّدة يجعلهم أقرب إلى تماثيل الشمع.
الإضاءة المتساوية على كل الوجوه تتناقض مع الإضاءة المركزة داخل القاعة.. ومع ذلك، فإن هذه اللوحة تدخل في عداد أهم ما أنجبه تاريخ الفن في أمريكا، وتستحق عن جدارة مكان عرضها الدائم في القاعة المركزية بمبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن.. فلماذا؟
الرسام هو جون ترمبل المولود عام 1756م، الذي عايش عن قرب الكثير من فصول حرب الاستقلال الأمريكية، ليس فقط بصفته العسكرية حيث كان مساعدًا لجورج واشنطن نفسه ومشاركًا في معركة بانكر هيل، بل أيضًا بكونه فنان الثورة ورسام الكثير من أحداث تلك الفترة المصيرية من تاريخ أمريكا.
في العام 1777م استقال ترمبل من الجيش، وسافر لاحقًا مرتين إلى إنجلترا لدراسة الفن عند بنجامين وست، الذي نصحه برسم لوحات صغيرة حول الحرب الاستقلالية الأمريكية وصور شخصية صغيرة أيضًا. وكان لهذه النصيحة سببان: أولهما أن الفنان يعرف عن قرب وأكثر من غيره الأحداث التاريخية تلك، وثانيهما أن الفنان كان يميل إلى التركيز الشديد على التفاصيل الصغيرة، بسبب فقدانه لإحدى عينيه في حادث يعود إلى أيام الطفولة.
وفي عام 1784م سافر ترمبل إلى باريس، حيث التقى توماس جيفرسون الذي كان آنذاك سفيرًا لأمريكا في العاصمة الفرنسية. وبمساعدة هذا الأخير، رسم «إعلان الاستقلال» في لوحة صغيرة موجودة اليوم في متحف جامعة «يال».
اللوحة التي نحن بصددها هنا هي نسخة أو صيغة جدارية أكبر بكثير من النسخة الأولى. رسمها الفنان على مدى ثلاث سنوات من 1817 وحتى 1819م. ونرى فيها 42 نائبًا في الكونجرس من أصل 56 نائبًا وقعوا على وثيقة الاستقلال، يتصدرهم وقوفًا الخمسة الذين صاغوا نص الوثيقة، وهم يقدمونها للرئيس.
ويقال إن الفنان كان في البدء حريصًا على أن يرسم النواب الستة والخمسين. ولكن عدم تمكنه من الحصول على ملامحهم الحقيقية (بسبب الوفاة أو غير ذلك) جعله يركّب اللوحة وكأن الرجال الواقفين يحجبون رؤية الأربعة عشر نائبًا المغيّبين.. الأمر الذي يؤكد مستوى غير مسبوق من الأمانة في رسم صور كل هذه الشخصيات في لوحة واحدة بما يطابق ملامحها الحقيقية.
إذن، نحن أمام لوحة تستمد أهميتها الكبرى من قيمة الموضوع الذي تمثله وأيضًا من قيمتها الوثائقية.. ولكن عن أي «وثائقية» نتحدث؟
معروف أن «الإعلان» ظل موضع نقاش لسنوات عديدة، والفترة التي تطلبها جمع التواقيع الستة والخمسين شهدت أيضا تبدل الكونجرس. أي أن النواب الظاهرين في هذه اللوحة لم يلتقوا أبدًا جميعًا ودفعة واحدة في هذه القاعة. إنها «الوثائقية» كما تراها عبقرية فنان كان فعلًا ابن بيئته ومجتمعه وعصره .