عندما كتَبَ شيخُ الأزهر غنَّت أم كلثوم

عندما كانت الأغنية فناً أدبياً راقياً كتبها شيخ الأزهر أبو أحمد جمال الدين الشبراوي (1681م-1757م)، وغنتها بعد ذلك سيدة الغناء العربي أم كلثوم، ولم يكن غريباً أن يكتب القصائد الغنائية، العاطفية منها أو الغزلية أو الوطنية أحد شيوخ الأزهر الأجلاء مادامت تنطوي على قدر وافر من الفن الأدبي الراقي، ولا تتطرق إلى أي لون من الابتذال في الأداء،
أو أي نوع من السذاجة في المعاني.
قبل التوقف عند هذه القصيدة للشيخ أبو أحمد جمال الدين الشبراوي الذى اختير شيخا للأزهر عام 1724م، لعلنا نشير إلى بعض من رواد الأدب العربي في العصر الحديث ممن كتبوا قصائد شعرية ذات مستوى رفيع غناها كبار المطربين والمطربات، واستمتعت بها الجماهير في كل أقطار العالم العربي، ولمن يرجع الفضل في انتشار هذا اللون من الغناء، وكيف حقق النجاح بعد هذا الانتشار، وهل كان هذا النجاح مقترناً بالقيم والمبادئ؟
الأدباء الذين كتبوا قصائد شعرية غناها المطربون والمطربات يتقدمهم أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كتب أكثر من عشر قصائد غنتها أم كلثوم ومنها على سبيل المثال قصيدة الهمزية النبوية، من أبياتها:
وُلد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
وقصيدة غنتها عن النيل من أبياتها:
من أي عهد في القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من
عليا الجنان جداولا تترقرق
ولغير أمير الشعراء غنت أم كلثوم لشعراء كثيرين، منهم شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي غنت له قصيدة عنوانها «مصر» من أبياتها:
وقف الخلق ينظرون جميعا
كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الدهر
كفوني في الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشرق
ودراته فرائد عقدي
وكذلك غنت لشاعر العروبة والإسلام علي الجارم قصيدة عنوانها «الحب والحرب»، من أبياتها:
ما لي فتنت بلحظك الفتاك
وسلوت كل مليحة إلاك
يسراك قد ملكت زمام صبابتي
ومضلتي وهداتي في يمناك
فإذا وصلت فكل شيء باسم
وإذا هجرت، فكل شيء باك
وغنت لشاعر الأطلال الدكتور إبراهيم ناجي قصيدة الأطلال، ومن أبياتها:
يا فؤادي رحم الله الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
اسقني وأشرب على أطلاله
وارْوِ عني طالما الدهر روى
وغنت لشاعر الشباب أحمد رامي قصائد كثيرة عن الحب والوطنية منها قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها:
مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبها من كل روحي ودمي
وهناك قصائد كثيرة لعملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد قام بغنائها مطربون ومطربات في مصر والسودان منها قصائد غنتها مطربة زمانها نادرة مطلع إحداها:
فــــي الــهـــــــــوى زورق يـــــجـــــــري
أين يمضي لي نهره الخمري
وقصيدة أخرى من أبياتها:
ياحبيــبي أنــــت ريُ
ليس في الماء نظيره
يا حبيبي أنت ظل
ليس للروض عبيره
ولجاحظ العصر الحديث الشاعر مصطفى صادق الرافعي قصيدة غنتها المجموعة مطلعها:
اسلمي يا مصر إنني الفدا
ذي يدي إن مدت الدنيا يدا
وللشاعر عزيز أباظة قصيدة جميلة في ديوانه «أنات حائرة» غناها محمد عبدالوهاب من أبياتها:
يا منية النفس ما نفسي بنادية
وقد عطفت بها نأياً وهجرانا
لم نعتنق والهوى يغري جوانحنا
وقد تعانق روحانا وقلبانا
ولعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قصائد غزلية اختار منها المطرب كامل الخلعي قصيدة غناها مطلعها:
أنا لولاك كنت ملاكاً
غير مسموح أن أهوى سواك
وللشاعر اللبناني بشارة عبد الله الخوري (الأخطل الصغير) قصائد غناها محمد عبدالوهاب منها قصيدة بعنوان «جفنه علم الغزل» من أبياتها:
جفنه علَّم الغزل
ومن الحب ما قتل
فحرقنا نفوسنا
في جحيم من القبل
وللشاعر التونسي أبي القاسم الشابي قصائد كثيرة أشهرها قصيدة الشعب التي غنتها المجموعة من أبياتها:
إذا الـــــــشــــعــــــب يـــــــومـــا أراد الـــــحـــــــــيـــاة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخر في جوهرها واندثر
وغير ذلك من القصائد لكبار الأدباء التي غناها عشرات المطربين والمطربات في مصر وأقطار الوطن العربي، منها على سبيل المثال لا الحصر قصيدة «الجندول» للشاعر علي محمود طه التي غناها محمد عبدالوهاب، وقصيدة «أغداً ألقاك» للشاعر السوداني الهادي آدم التي غنتها أم كلثوم، وقصيدة «قارئة الفنجان» للشاعر السوري نزار قباني والتي غناها عبدالحليم حافظ» وقصيدة «سمراء» للشاعر السعودي الأمير عبدالله الفيصل التي غناها عبدالحليم حافظ... وغيرها.
القصيدة والأغنية
والحق أن الاتجاه إلى القصيدة الأدبية الراقية المستوى في الأغنية بمصر، بل وفي غيرها من الأقطار العربية يرجع الفضل فيه إلى أم كلثوم، ولعلنا بذلك نشير إلى شيء من حال الأغنية وتاريخها في مصر قبل ظهور أم كلثوم، ومقارنة ذلك بحال الأغنية بعد ظهورها لنوضح ونتعرف على الدور الحقيقي لهذه الفنانة في تغيير اتجاه الأغنية المصرية والعربية من الأغانى الساذجة
والمبتذلة, إلى الأغانى الأدبية الراقية.
كان المغني في مصر قبل زمن أم كلثوم يجذب الناس ويطربهم بنوع من الأغاني الخفيفة اسمه «الهنك والرنك» ومعناهما الميوعة والطراوة في الغناء. وهو نوع من الأغاني ابتكره الفنان محمد عثمان في عصر الخديو إسماعيل وحفلاته الباذخة. وفي هذا النوع كان المغني يقضي ساعات طوالاً وهو يتلاعب بصوته مردداً جملة واحدة، أو شطراً واحداً من قصيدة، ويكرر ذلك مستغرقاً في تكراره وترديده ليلة كاملة، والمستمعون له يرددون وراءه هذه الجملة، أو هذا الشطر في استمتاع. وكانت منيرة المهدية أو سلطانة الطرب في زمانها, رائدة هذا الاتجاه من الغناء، فتردد وتكرر بعض الكلمات ذات الإيحاءات الجنسية، فتثير حواس المستمعين من علية القوم، فيعجبون بها ويصفقون لها، خاصة وقد كان في صوتها «بحة» تشبه إلى حد كبير «بحة» الأغاني التي يؤديها الأمريكيون في الأغاني الراقصة.
أما أم كلثوم فقد غنت مع الناس العاديين البسطاء وليس لعلية القوم من الأثرياء والأعيان على طبيعتها وسجيتها، غنت من دون استخدام هذه الإيحاءات المبتذلة في الصوت أو الحركة على المسرح، أطلقت صوتها معبراً عما تحس به إحساساً حقيقياً بلا تأثير بأسلوب الأغاني التي كانت سائدة وقتئذ، غنت بلا خضوع لأمزجة الأعيان والأثرياء، فأطلقت صوتها على طبيعته وكأنها تغني لنفسها أمام مرآتها. وإذا بالمستمعين من كل فئات المجتمع، وليس البسطاء وحدهم يستجيبون لها ويتجاوبون معها ويطربون لسماعها، والأكثر يكتشفون في صوتها تعبيراً عن الحرية والانطلاق اللذين يتمنونهما في حياتهم العامة المنكوبة وقتئذ بالاحتلال الإنجليزي، والفساد الداخلي. وهكذا تجاوب صوتها مع حالة المستمعين النفسية والاجتماعية والسياسية، حتى ملكت مفاتيح قلوبهم، وهو عين ما فعلته في بدايتها وتميزت به عن غيرها حتى قيل عنها: «إنها ترسل الغناء إرسالاً دون تقطيعه إلى قطع من الطرب المعروفة وقتئذ تلك التي كانت تمهد سبيل النغم للمطرب أو المطربة».
بين صوتين
وهكذا في الوقت الذي كان صوت سلطانة الطرب منيرة المهدية يستخدم أسلوب الجنس في نطق الكلمات ومعانيها وحركات الجسد والاصطناع والتكلف... كان صوت أم كلثوم طبيعي جاد، ينطق الكلمات سليمة بلا عوج أو التواء، فضلاً عن خلوه تماماً من صنعة التكلف والتلاعب بالصوت وترديد الكلمات بصرف النظر عن معناها.... ومن هنا رحب المستمعون بأم كلثوم لاهتمامها بالمعاني التي تؤديها، وهو ما يتفق مع مستوى عقلية جمهورها من الناس البسطاء الذين كانت تغني لهم قبل ذلك في الأفراح والموالد، ثم بعد ذلك اتفق مع عقلية الطبقة المتوسطة من الموظفين والتجار وغيرهم الذين كانوا لهم يوم إجازة فيه يستطيعون أن يستمعوا إلى هذا اللون الجديد من الغناء الذي يحترم عقولهم. حتى كان أساس العلاقة بين أم كلثوم وهذا الجمهور من المستمعين شيئاً يشبه الصفقة، فأم كلثوم عليها من ناحية أن تغني بصوتها الجميل الأغاني الهادفة بحسب المناسبات الوطنية والدينية والعاطفية، والجمهور عليه من ناحية أخرى أن يدفع المقابل المال والتقدير الذي تستحقه صاحبة هذا اللون الجديد من الغناء.
وهكذا فرضت أم كلثوم صوتها على الساحة الغنائية، وأصبح من حقها السيطرة والتحكم في اللحن، أي لحن للقصبجي أو زكريا أحمد أو السنباطي، كما كان لها الحق الأول والأخير في اختيار القصائد التي تغنيها، والحق في تعديلها مهما كان الشاعر الذي يؤلف أغانيها شوقي كان أو حافظ أو بيرم أو ناجي أو رامي.. حتى قيل بأنها كانت تشارك في تلحين وتأليف أغانيها. وذلك بما أحدثته فيها من تعديلات مختلفة.
ومن الأقوال التي قالتها أم كلثوم عن فنها، إنها لم تكن تهتم بالمال، بل غامرت به في سبيل سعيها في بداياتها إلى الفن الراقي، وهو ما أشارت إليه بعد ذلك في حديث أجراه معها الكاتب الراحل فتحي غانم، حيث قالت: «غامرت بالمال يوم قررت أن أغني المعاني الدينية والوطنية، وغامرت به حين كنت أفضل أشعار كبار الأدباء على غيرها من الأشعار رغبة مني في تحسين مستوى الكلمة التي أغنيها وألتقي بها مع الذين يستمعون لي، وقد نصحني كثيرون بأن أعدل عن هذا اللون من الغناء، معتقدين أن الجمهور لا يهتم إلا بالأغاني الخفيفة التي يكتبها البعض لدغدغة مشاعر وأحاسيس المستمعين، ولكني صممت على تقديم أشعار كبار الأدباء، ومنها أشعار شوقي منها «ريم على القاع بين البان والعلم» وفيها «الاشتراكيون أنت إمامهم» وهي معانى وألفاظ تختلف من معان وألفاظ «تعال يا شاطر نروح القناطر» وغيرها من الأغاني الخفيفة والأخرى المبتذلة.. إن ما قدمته لجمهوري من المستمعين كان يحمل قيما دينية ووطنية وثقافية، وكان من الممكن ألا أنجح في إقناع هذا الجمهور بأن يستمع لمثل هذه الأغاني، ولكنني - والحمد لله - نجحت في ذلك، وكم كنت سعيدة في إحدى الليالي وأنا خارجة من مطعم بالشاطبي في الإسكندرية فسمعت صوتا يغني «أبا الزهراء» وهي الأغنية التي كنت أغنيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصوت صادراً من كباريه على الكورنيش. لقد أحسست- ساعتها ذ أن وصول هذه المعاني إلى ذلك المكان بالذات وانتشارها على هذا النحو، دليل على ارتقاء الغناء في مصر، فما كان أحد يتصور منذ زمن أن تنتشر بين الناس غير الأغاني الخفيفة أو المبتذلة».
مشاعر حقيقية
ومما يؤكد ما قالته أم كلثوم أنها استجابت في غنائها إلى مشاعرها الحقيقية تلك التي اتفقت بشكل أو بآخر مع محبة الكلمة الأدبية الراقية، وليس أدل على ذلك مما كتبوه عنها عندما ظهرت لأول مرة في القاهرة، حيث كتب أحدهم في وصف صوتها بأنها: «ترسل الغناء إرسالا بغير تقطيعه إلى قطع من الطرب تمهد لها سبيل أنغام الطرب».
وقال آخر: «وزيادة على حسن الصوت ورخامته، يوجد شيء اسمه الفن الملتزم في صوت أم كلثوم الذي كانت تحرص عليه في اختيارها للكلمة واللحن».
وقال ثالث: «إن في صوتها جفافاً، أي لا ميوعة فيه، فما تكاد تنفرج شفتاها، وما يكاد الإنسان يحس النغمة تتكون في مرورها مع الأوتار حتى تنفلت من الأذن ليخفق بها القلب ..».
بعث وإحياء
وليس غريباً والأمر كذلك أن تختار أم كلثوم بعد ذلك هذه الطريقة الغريبة ذ على زمانها ذ في الغناء، وأن تتمسك بها ولا تحاول أن تتعلم أو تتأثر بطرق الغناء السائدة وقتئذ في بدايتها الفنية، والسبب هو تكوينها الفني المتصل بتكوين المصريين، وهي أن طبيعتهم في الغناء أقوى من أي شيء آخر، كما كان ينادي فنان الشعب الشيخ سيد درويش.
وليس غريباً أيضاً أن تغني أم كلثوم هذه القصيدة لشيخ الأزهر أبوأحمد جمال الدين الشبراوي إذا كانت كلماتها قد اتفقت مع طبيعتها الفنية التي كان من سرها القدرة على اختيار كلمات الأغاني نفسها، والتدقيق ما أمكنها في هذا الاختيار إلى درجة أنها كانت أحياناً تعدل وتغير من كلمات القصائد الشعرية حتى لكبار الشعراء كما ذكرنا من قبل، وهو أمر ينطوي على تذوق رفيع المستوى للكلمة الأدبية التي كانت تواجه بها جمهورها.
وقد كان الشيخ الشبراوي واحداً من الشعراء الكبار، وكان من أصحاب القصائد التي اختارت أم كلثوم منها هذه القصيدة وأعجبت بها مثلما اختارت من أشعار شوقي أو حافظ أو غيرهما من الرواد، صحيح أنه لم يكن في طول القامة الفنية لشوقي أو حافظ، إلا أنه من الشعراء الذين يمثلون مرحلة من مراحل الشعر المصري هي بالتحديد المرحلة السابقة على حركة البعث والإحياء الشعري، حيث برع هذا الشيخ الجليل في الفن والأدب إلى جانب براعته في العقيدة والدين، فكان من بين مؤلفاته القيمة «شرح الصدر فى غزوة أهل بدر» و«ديوان مفاتيح الألطاف في مدائح الأشراف» الذي نشرته المطبعة المحمودية ببولاق في سنة 1314 هجرية، بعد وفاته بما يقرب من المائة والخمسين عاماً. وقد ذكر مؤرخ مصر الحديثة عبدالرحمن الجبرتي هذا الديوان في تاريخه بأنه يحتوي على غزليات وأشعار ومقطوعات غنائية أخذها مطربو زمانه ولحنوها وغنوها، واشتهرت هذه الأغاني، ونسي صاحبها الشيخ الشبراوي هذه القصائد الغنائية التي منها قصيدته التي اختارتها وغنتها أم كلثوم والتي من أبياتها:
وحقك أنت المنى والطلب
وأنت المراد وأنت الأرب
ولي فيك يا هاجري صبوة
تحيَّر في وصفها كل صب
أبيت أسامر نجم السما
إذا لاح لـــي فــي الـــدجــى أو غرب
متى يا جميل المحيا أرى
رضاك ويذهب هذا الغضب؟
أشاهد فيك الجمال البديع
فيأخذني عند ذاك الطرب
ويعجبني منك حسن القوام
ولين الكلام وفرط الأدب
وأنبت في الخد روض الجمال
ولكن سقاه بماء اللهب
لئن جئت أو جرت أنت المراد
وما لي سواك مليح يُحَب
إلى آخر أبيات هذه القصيدة الغنائية التي تعتبر من أجمل قصائد الشعر العربي رقة ورشاقة وإبداعا، والتي من أجلها مع غيرها من قصائد ضمها ديوانه وصفه الجبرتي بأنه «الشيخ الفقيه، والإمام المحدث، والأصولي المتكلم إلى جانب كونه الشاعر الأديب والفنان المبدع أبو أحمد جمال الدين الشبراوي، وأنه ذ والكلام للجبرتي ذ صار من أعظم الأعاظم، ذا جاه ومنزلة عند رجال الدولة والأمراء، ونفذت كلمته، وقبلت شفاعته، وصارت له مهابة ومقام عند أهل العلم، وأقبل عليه أمراء المماليك وهادوه بأنفس ما عندهم، وسكن دارا عظيمة على بركة الأزبكية بالقرب من حي الرويعي، وكان يقتني الطرائف واللطائف والتحائف من كل شيء، والكتب المكلفة النفيسة المكتوبة بالخط الحسن».
ولعل في هذه السطور المختارة من تاريخ الجبرتي في تأريخه لهذا الشيخ الجليل ما يوحي بأنه كان بالفعل فناناً عظيماً وأديباً مبدعاً، إلى جانب كونه فقيها معتبراً، ومحدثاً بارعاً. ومن المؤكد أن قصائده كانت تغني في زمانه بدليل أنها وصلت إلينا ملحنة، فيبدو أن شعراء مصر وقتئذ كانوا يقرنون دائماً بين الشعر والغناء لاعتقادهم بأن الشعر الذي لا يغنى يفقد الموسيقى، أو حتى على الأقل تصبح له موسيقى خشنة جامدة، وليست ناعمة مرنة حتى وإن كانت موزونة، وربما تكون هذه الأغنية للشيخ الشبراوي قد وصلت إلى أم كلثوم، وأعجبت بكلماتها دون أن تعرف أن كاتبها هو شيخ الأزهر أبوأحمد جمال الدين الشبراوي فغنتها لا لسبب إلا لكونها تمثل فناً أدبياً رفيعاً يتفق مع طبيعتها الفنية التي كانت تجيد اختيار الكلمة الأدبية الراقية.
ولهذا ولغيره من الأسباب نرى أن أم كلثوم كان لها دور كبير في انتشار هذا اللون من الغناء الذي يحترم عقل ووجدان المستمع وليس مزاجه وغرائزه، والذي يعتمد على الكلمة الأدبية الراقية البعيدة كل البعد عن الإسفاف والسطحية والابتذال، سواء في المعنى أو اللحن أو الحركة على المسرح، وذلك بالنسبة لما كانت تؤديه من الأغاني بوجه خاص، أو بالنـسبة للأغنية العربية بوجه عام .