عندما كتَبَ شيخُ الأزهر غنَّت أم كلثوم

عندما كتَبَ شيخُ الأزهر غنَّت أم كلثوم

عندما‭ ‬كانت‭ ‬الأغنية‭ ‬فناً‭ ‬أدبياً‭ ‬راقياً‭ ‬كتبها‭ ‬شيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬أبو‭ ‬أحمد‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الشبراوي‭ (‬1681م‭-‬1757م‭)‬،‭ ‬وغنتها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬سيدة‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬القصائد‭ ‬الغنائية،‭ ‬العاطفية‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬الغزلية‭ ‬أو‭ ‬الوطنية‭ ‬أحد‭ ‬شيوخ‭ ‬الأزهر‭ ‬الأجلاء‭ ‬مادامت‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬وافر‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬الأدبي‭ ‬الراقي،‭ ‬ولا‭ ‬تتطرق‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬الابتذال‭ ‬في‭ ‬الأداء،‭ ‬

أو‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السذاجة‭ ‬في‭ ‬المعاني‭. ‬

قبل‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬للشيخ‭ ‬أبو‭ ‬أحمد‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الشبراوي‭ ‬الذى‭ ‬اختير‭ ‬شيخا‭ ‬للأزهر‭ ‬عام‭ ‬1724م،‭ ‬لعلنا‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬ممن‭ ‬كتبوا‭ ‬قصائد‭ ‬شعرية‭ ‬ذات‭ ‬مستوى‭ ‬رفيع‭ ‬غناها‭ ‬كبار‭ ‬المطربين‭ ‬والمطربات،‭ ‬واستمتعت‭ ‬بها‭ ‬الجماهير‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أقطار‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ولمن‭ ‬يرجع‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬من‭ ‬الغناء،‭ ‬وكيف‭ ‬حقق‭ ‬النجاح‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الانتشار،‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬النجاح‭ ‬مقترناً‭ ‬بالقيم‭ ‬والمبادئ؟

الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬قصائد‭ ‬شعرية‭ ‬غناها‭ ‬المطربون‭ ‬والمطربات‭ ‬يتقدمهم‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬قصائد‭ ‬غنتها‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬ومنها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬قصيدة‭ ‬الهمزية‭ ‬النبوية،‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

وُلد‭ ‬الهدى‭ ‬فالكائنات‭ ‬ضياء

وفم‭ ‬الزمان‭ ‬تبسم‭ ‬وثناء

الروح‭ ‬والملأ‭ ‬الملائك‭ ‬حوله

للدين‭ ‬والدنيا‭ ‬به‭ ‬بشراء

وقصيدة‭ ‬غنتها‭ ‬عن‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

من‭ ‬أي‭ ‬عهد‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬تتدفق

وبأي‭ ‬كف‭ ‬في‭ ‬المدائن‭ ‬تغدق

ومن‭ ‬السماء‭ ‬نزلت‭ ‬أم‭ ‬فجرت‭ ‬من

عليا‭ ‬الجنان‭ ‬جداولا‭ ‬تترقرق

ولغير‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬غنت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬لشعراء‭ ‬كثيرين،‭ ‬منهم‭ ‬شاعر‭ ‬النيل‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬الذي‭ ‬غنت‭ ‬له‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬مصر‮»‬‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

وقف‭ ‬الخلق‭ ‬ينظرون‭ ‬جميعا

كيف‭ ‬أبني‭ ‬قواعد‭ ‬المجد‭ ‬وحدي

وبناة‭ ‬الأهرام‭ ‬في‭ ‬سالف‭ ‬الدهر

كفوني‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬عند‭ ‬التحدي

أنا‭ ‬تاج‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬مفرق‭ ‬الشرق

ودراته‭ ‬فرائد‭ ‬عقدي

وكذلك‭ ‬غنت‭ ‬لشاعر‭ ‬العروبة‭ ‬والإسلام‭ ‬علي‭ ‬الجارم‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬الحب‭ ‬والحرب‮»‬،‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

ما‭ ‬لي‭ ‬فتنت‭ ‬بلحظك‭ ‬الفتاك

وسلوت‭ ‬كل‭ ‬مليحة‭ ‬إلاك

يسراك‭ ‬قد‭ ‬ملكت‭ ‬زمام‭ ‬صبابتي

ومضلتي‭ ‬وهداتي‭ ‬في‭ ‬يمناك‭ ‬

فإذا‭ ‬وصلت‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬باسم

وإذا‭ ‬هجرت،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬باك

وغنت‭ ‬لشاعر‭ ‬الأطلال‭ ‬الدكتور‭ ‬إبراهيم‭ ‬ناجي‭ ‬قصيدة‭ ‬الأطلال،‭ ‬ومن‭ ‬أبياتها‭:‬

يا‭ ‬فؤادي‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬الهوى

كان‭ ‬صرحا‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬فهوى

اسقني‭ ‬وأشرب‭ ‬على‭ ‬أطلاله

وارْوِ‭ ‬عني‭ ‬طالما‭ ‬الدهر‭ ‬روى

وغنت‭ ‬لشاعر‭ ‬الشباب‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬والوطنية‭ ‬منها‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬مطلعها‭:‬

مصر‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬خاطري‭ ‬وفي‭ ‬فمي

أحبها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬روحي‭ ‬ودمي

‭ ‬وهناك‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬لعملاق‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ ‬قام‭ ‬بغنائها‭ ‬مطربون‭ ‬ومطربات‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬منها‭ ‬قصائد‭ ‬غنتها‭ ‬مطربة‭ ‬زمانها‭ ‬نادرة‭ ‬مطلع‭ ‬إحداها‭:‬

فــــي‭ ‬الــهـــــــــوى‭ ‬زورق‭ ‬يـــــجـــــــري

أين‭ ‬يمضي‭ ‬لي‭ ‬نهره‭ ‬الخمري

وقصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

ياحبيــبي‭ ‬أنــــت‭ ‬ريُ

ليس‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬نظيره

يا‭ ‬حبيبي‭ ‬أنت‭ ‬ظل

ليس‭ ‬للروض‭ ‬عبيره

ولجاحظ‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬الشاعر‭ ‬مصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعي‭ ‬قصيدة‭ ‬غنتها‭ ‬المجموعة‭ ‬مطلعها‭:‬

اسلمي‭ ‬يا‭ ‬مصر‭ ‬إنني‭ ‬الفدا

ذي‭ ‬يدي‭ ‬إن‭ ‬مدت‭ ‬الدنيا‭ ‬يدا‭ 

وللشاعر‭ ‬عزيز‭ ‬أباظة‭ ‬قصيدة‭ ‬جميلة‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬أنات‭ ‬حائرة‮»‬‭ ‬غناها‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

يا‭ ‬منية‭ ‬النفس‭ ‬ما‭ ‬نفسي‭ ‬بنادية

وقد‭ ‬عطفت‭ ‬بها‭ ‬نأياً‭ ‬وهجرانا

لم‭ ‬نعتنق‭ ‬والهوى‭ ‬يغري‭ ‬جوانحنا

وقد‭ ‬تعانق‭ ‬روحانا‭ ‬وقلبانا

ولعميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬قصائد‭ ‬غزلية‭ ‬اختار‭ ‬منها‭ ‬المطرب‭ ‬كامل‭ ‬الخلعي‭ ‬قصيدة‭ ‬غناها‭ ‬مطلعها‭:‬

أنا‭ ‬لولاك‭ ‬كنت‭ ‬ملاكاً

غير‭ ‬مسموح‭ ‬أن‭ ‬أهوى‭ ‬سواك

وللشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬بشارة‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬الخوري‭ (‬الأخطل‭ ‬الصغير‭) ‬قصائد‭ ‬غناها‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬منها‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬جفنه‭ ‬علم‭ ‬الغزل‮»‬‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

جفنه‭ ‬علَّم‭ ‬الغزل

ومن‭ ‬الحب‭ ‬ما‭ ‬قتل

فحرقنا‭ ‬نفوسنا

في‭ ‬جحيم‭ ‬من‭ ‬القبل

  ‬وللشاعر‭ ‬التونسي‭ ‬أبي‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬أشهرها‭ ‬قصيدة‭ ‬الشعب‭ ‬التي‭ ‬غنتها‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

إذا‭ ‬الـــــــشــــعــــــب‭ ‬يـــــــومـــا‭ ‬أراد‭ ‬الـــــحـــــــــيـــاة

فلابد‭ ‬أن‭ ‬يستجيب‭ ‬القدر

ولابد‭ ‬لليل‭ ‬أن‭ ‬ينجلي‭ ‬

ولابد‭ ‬للقيد‭ ‬أن‭ ‬ينكسر

ومن‭ ‬لم‭ ‬يعانقه‭ ‬شوق‭ ‬الحياة

تبخر‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬واندثر

وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬لكبار‭ ‬الأدباء‭ ‬التي‭ ‬غناها‭ ‬عشرات‭ ‬المطربين‭ ‬والمطربات‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وأقطار‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الجندول‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬طه‭ ‬التي‭ ‬غناها‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬أغداً‭ ‬ألقاك‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬الهادي‭ ‬آدم‭ ‬التي‭ ‬غنتها‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬قارئة‭ ‬الفنجان‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السوري‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬والتي‭ ‬غناها‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‮»‬‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬سمراء‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السعودي‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالله‭ ‬الفيصل‭ ‬التي‭ ‬غناها‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭... ‬وغيرها‭.‬

 

القصيدة‭ ‬والأغنية

والحق‭ ‬أن‭ ‬الاتجاه‭ ‬إلى‭ ‬القصيدة‭ ‬الأدبية‭ ‬الراقية‭ ‬المستوى‭ ‬في‭ ‬الأغنية‭ ‬بمصر،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭ ‬يرجع‭ ‬الفضل‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ولعلنا‭ ‬بذلك‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬الأغنية‭ ‬وتاريخها‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ومقارنة‭ ‬ذلك‭ ‬بحال‭ ‬الأغنية‭ ‬بعد‭ ‬ظهورها‭ ‬لنوضح‭ ‬ونتعرف‭ ‬على‭ ‬الدور‭ ‬الحقيقي‭ ‬لهذه‭ ‬الفنانة‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬اتجاه‭ ‬الأغنية‭ ‬المصرية‭ ‬والعربية‭ ‬من‭ ‬الأغانى‭ ‬الساذجة‭ ‬
والمبتذلة‭,‬‭ ‬إلى‭ ‬الأغانى‭ ‬الأدبية‭ ‬الراقية‭.‬

كان‭ ‬المغني‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬قبل‭ ‬زمن‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬يجذب‭ ‬الناس‭ ‬ويطربهم‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬الخفيفة‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬الهنك‭ ‬والرنك‮»‬‭ ‬ومعناهما‭ ‬الميوعة‭ ‬والطراوة‭ ‬في‭ ‬الغناء‭. ‬وهو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬ابتكره‭ ‬الفنان‭ ‬محمد‭ ‬عثمان‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الخديو‭ ‬إسماعيل‭ ‬وحفلاته‭ ‬الباذخة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬كان‭ ‬المغني‭ ‬يقضي‭ ‬ساعات‭ ‬طوالاً‭ ‬وهو‭ ‬يتلاعب‭ ‬بصوته‭ ‬مردداً‭ ‬جملة‭ ‬واحدة،‭ ‬أو‭ ‬شطراً‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬قصيدة،‭ ‬ويكرر‭ ‬ذلك‭ ‬مستغرقاً‭ ‬في‭ ‬تكراره‭ ‬وترديده‭ ‬ليلة‭ ‬كاملة،‭ ‬والمستمعون‭ ‬له‭ ‬يرددون‭ ‬وراءه‭ ‬هذه‭ ‬الجملة،‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الشطر‭ ‬في‭ ‬استمتاع‭. ‬وكانت‭ ‬منيرة‭ ‬المهدية‭ ‬أو‭ ‬سلطانة‭ ‬الطرب‭ ‬في‭ ‬زمانها‭,‬‭ ‬رائدة‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬من‭ ‬الغناء،‭ ‬فتردد‭ ‬وتكرر‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬ذات‭ ‬الإيحاءات‭ ‬الجنسية،‭ ‬فتثير‭ ‬حواس‭ ‬المستمعين‭ ‬من‭ ‬علية‭ ‬القوم،‭ ‬فيعجبون‭ ‬بها‭ ‬ويصفقون‭ ‬لها،‭ ‬خاصة‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬صوتها‭ ‬‮«‬بحة‮»‬‭ ‬تشبه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬‮«‬بحة‮»‬‭ ‬الأغاني‭ ‬التي‭ ‬يؤديها‭ ‬الأمريكيون‭ ‬في‭ ‬الأغاني‭ ‬الراقصة‭. ‬

أما‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬فقد‭ ‬غنت‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬العاديين‭ ‬البسطاء‭ ‬وليس‭ ‬لعلية‭ ‬القوم‭ ‬من‭ ‬الأثرياء‭ ‬والأعيان‭ ‬على‭ ‬طبيعتها‭ ‬وسجيتها،‭ ‬غنت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استخدام‭ ‬هذه‭ ‬الإيحاءات‭ ‬المبتذلة‭ ‬في‭ ‬الصوت‭ ‬أو‭ ‬الحركة‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬أطلقت‭ ‬صوتها‭ ‬معبراً‭ ‬عما‭ ‬تحس‭ ‬به‭ ‬إحساساً‭ ‬حقيقياً‭ ‬بلا‭ ‬تأثير‭ ‬بأسلوب‭ ‬الأغاني‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬وقتئذ،‭ ‬غنت‭ ‬بلا‭ ‬خضوع‭ ‬لأمزجة‭ ‬الأعيان‭ ‬والأثرياء،‭ ‬فأطلقت‭ ‬صوتها‭ ‬على‭ ‬طبيعته‭ ‬وكأنها‭ ‬تغني‭ ‬لنفسها‭ ‬أمام‭ ‬مرآتها‭. ‬وإذا‭ ‬بالمستمعين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع،‭ ‬وليس‭ ‬البسطاء‭ ‬وحدهم‭ ‬يستجيبون‭ ‬لها‭ ‬ويتجاوبون‭ ‬معها‭ ‬ويطربون‭ ‬لسماعها،‭ ‬والأكثر‭ ‬يكتشفون‭ ‬في‭ ‬صوتها‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬والانطلاق‭ ‬اللذين‭ ‬يتمنونهما‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬العامة‭ ‬المنكوبة‭ ‬وقتئذ‭ ‬بالاحتلال‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬والفساد‭ ‬الداخلي‭. ‬وهكذا‭ ‬تجاوب‭ ‬صوتها‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬المستمعين‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسياسية،‭ ‬حتى‭ ‬ملكت‭ ‬مفاتيح‭ ‬قلوبهم،‭ ‬وهو‭ ‬عين‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬وتميزت‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬عنها‭: ‬‮«‬إنها‭ ‬ترسل‭ ‬الغناء‭ ‬إرسالاً‭ ‬دون‭ ‬تقطيعه‭ ‬إلى‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬الطرب‭ ‬المعروفة‭ ‬وقتئذ‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمهد‭ ‬سبيل‭ ‬النغم‭ ‬للمطرب‭ ‬أو‭ ‬المطربة‮»‬‭.‬

 

بين‭ ‬صوتين

وهكذا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬سلطانة‭ ‬الطرب‭ ‬منيرة‭ ‬المهدية‭ ‬يستخدم‭ ‬أسلوب‭ ‬الجنس‭ ‬في‭ ‬نطق‭ ‬الكلمات‭ ‬ومعانيها‭ ‬وحركات‭ ‬الجسد‭ ‬والاصطناع‭ ‬والتكلف‭... ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬طبيعي‭ ‬جاد،‭ ‬ينطق‭ ‬الكلمات‭ ‬سليمة‭ ‬بلا‭ ‬عوج‭ ‬أو‭ ‬التواء،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬خلوه‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬صنعة‭ ‬التكلف‭ ‬والتلاعب‭ ‬بالصوت‭ ‬وترديد‭ ‬الكلمات‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬معناها‭.... ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬رحب‭ ‬المستمعون‭ ‬بأم‭ ‬كلثوم‭ ‬لاهتمامها‭ ‬بالمعاني‭ ‬التي‭ ‬تؤديها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬مستوى‭ ‬عقلية‭ ‬جمهورها‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬تغني‭ ‬لهم‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الأفراح‭ ‬والموالد،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬اتفق‭ ‬مع‭ ‬عقلية‭ ‬الطبقة‭ ‬المتوسطة‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬والتجار‭ ‬وغيرهم‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬لهم‭ ‬يوم‭ ‬إجازة‭ ‬فيه‭ ‬يستطيعون‭ ‬أن‭ ‬يستمعوا‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬الغناء‭ ‬الذي‭ ‬يحترم‭ ‬عقولهم‭. ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬أساس‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬وهذا‭ ‬الجمهور‭ ‬من‭ ‬المستمعين‭ ‬شيئاً‭ ‬يشبه‭ ‬الصفقة،‭ ‬فأم‭ ‬كلثوم‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أن‭ ‬تغني‭ ‬بصوتها‭ ‬الجميل‭ ‬الأغاني‭ ‬الهادفة‭ ‬بحسب‭ ‬المناسبات‭ ‬الوطنية‭ ‬والدينية‭ ‬والعاطفية،‭ ‬والجمهور‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬المقابل‭ ‬المال‭ ‬والتقدير‭ ‬الذي‭ ‬تستحقه‭ ‬صاحبة‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬الغناء‭.‬

    ‬وهكذا‭ ‬فرضت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬صوتها‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الغنائية،‭ ‬وأصبح‭ ‬من‭ ‬حقها‭ ‬السيطرة‭ ‬والتحكم‭ ‬في‭ ‬اللحن،‭ ‬أي‭ ‬لحن‭ ‬للقصبجي‭ ‬أو‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭ ‬أو‭ ‬السنباطي،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬الحق‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تغنيها،‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬تعديلها‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يؤلف‭ ‬أغانيها‭ ‬شوقي‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬حافظ‭ ‬أو‭ ‬بيرم‭ ‬أو‭ ‬ناجي‭ ‬أو‭ ‬رامي‭.. ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬تلحين‭ ‬وتأليف‭ ‬أغانيها‭. ‬وذلك‭ ‬بما‭ ‬أحدثته‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬تعديلات‭ ‬مختلفة‭.‬

ومن‭ ‬الأقوال‭ ‬التي‭ ‬قالتها‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬عن‭ ‬فنها،‭ ‬إنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تهتم‭ ‬بالمال،‭ ‬بل‭ ‬غامرت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬سعيها‭ ‬في‭ ‬بداياتها‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬الراقي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أشارت‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬أجراه‭ ‬معها‭ ‬الكاتب‭ ‬الراحل‭ ‬فتحي‭ ‬غانم،‭ ‬حيث‭ ‬قالت‭: ‬‮«‬غامرت‭ ‬بالمال‭ ‬يوم‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أغني‭ ‬المعاني‭ ‬الدينية‭ ‬والوطنية،‭ ‬وغامرت‭ ‬به‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أفضل‭ ‬أشعار‭ ‬كبار‭ ‬الأدباء‭ ‬على‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأشعار‭ ‬رغبة‭ ‬مني‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬مستوى‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬أغنيها‭ ‬وألتقي‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬الذين‭ ‬يستمعون‭ ‬لي،‭ ‬وقد‭ ‬نصحني‭ ‬كثيرون‭ ‬بأن‭ ‬أعدل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬من‭ ‬الغناء،‭ ‬معتقدين‭ ‬أن‭ ‬الجمهور‭ ‬لا‭ ‬يهتم‭ ‬إلا‭ ‬بالأغاني‭ ‬الخفيفة‭ ‬التي‭ ‬يكتبها‭ ‬البعض‭ ‬لدغدغة‭ ‬مشاعر‭ ‬وأحاسيس‭ ‬المستمعين،‭ ‬ولكني‭ ‬صممت‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬أشعار‭ ‬كبار‭ ‬الأدباء،‭ ‬ومنها‭ ‬أشعار‭ ‬شوقي‭ ‬منها‭ ‬‮«‬ريم‭ ‬على‭ ‬القاع‭ ‬بين‭ ‬البان‭ ‬والعلم‮»‬‭ ‬وفيها‭ ‬‮«‬الاشتراكيون‭ ‬أنت‭ ‬إمامهم‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬معانى‭ ‬وألفاظ‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬معان‭ ‬وألفاظ‭ ‬‮«‬تعال‭ ‬يا‭ ‬شاطر‭ ‬نروح‭ ‬القناطر‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬الخفيفة‭ ‬والأخرى‭ ‬المبتذلة‭.. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬لجمهوري‭ ‬من‭ ‬المستمعين‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬قيما‭ ‬دينية‭ ‬ووطنية‭ ‬وثقافية،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬ألا‭ ‬أنجح‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬هذا‭ ‬الجمهور‭ ‬بأن‭ ‬يستمع‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأغاني،‭ ‬ولكنني‭ - ‬والحمد‭ ‬لله‭ - ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬وكم‭ ‬كنت‭ ‬سعيدة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الليالي‭ ‬وأنا‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬مطعم‭ ‬بالشاطبي‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‭ ‬فسمعت‭ ‬صوتا‭ ‬يغني‭ ‬‮«‬أبا‭ ‬الزهراء‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬الأغنية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أغنيها‭ ‬عن‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وكان‭ ‬الصوت‭ ‬صادراً‭ ‬من‭ ‬كباريه‭ ‬على‭ ‬الكورنيش‭. ‬لقد‭ ‬أحسست‭- ‬ساعتها‭ ‬ذ‭ ‬أن‭ ‬وصول‭ ‬هذه‭ ‬المعاني‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬بالذات‭ ‬وانتشارها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ارتقاء‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬يتصور‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬أن‭ ‬تنتشر‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬غير‭ ‬الأغاني‭ ‬الخفيفة‭ ‬أو‭ ‬المبتذلة‮»‬‭.‬

 

مشاعر‭ ‬حقيقية

‭ ‬ومما‭ ‬يؤكد‭ ‬ما‭ ‬قالته‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬أنها‭ ‬استجابت‭ ‬في‭ ‬غنائها‭ ‬إلى‭ ‬مشاعرها‭ ‬الحقيقية‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬اتفقت‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬مع‭ ‬محبة‭ ‬الكلمة‭ ‬الأدبية‭ ‬الراقية،‭ ‬وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬كتبوه‭ ‬عنها‭ ‬عندما‭ ‬ظهرت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬حيث‭ ‬كتب‭ ‬أحدهم‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬صوتها‭ ‬بأنها‭: ‬‮«‬ترسل‭ ‬الغناء‭ ‬إرسالا‭ ‬بغير‭ ‬تقطيعه‭ ‬إلى‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬الطرب‭ ‬تمهد‭ ‬لها‭ ‬سبيل‭ ‬أنغام‭ ‬الطرب‮»‬‭.‬

وقال‭ ‬آخر‭: ‬‮«‬وزيادة‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬الصوت‭ ‬ورخامته،‭ ‬يوجد‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ ‬الفن‭ ‬الملتزم‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تحرص‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬اختيارها‭ ‬للكلمة‭ ‬واللحن‮»‬‭.‬

وقال‭ ‬ثالث‭: ‬‮«‬إن‭ ‬في‭ ‬صوتها‭ ‬جفافاً،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬ميوعة‭ ‬فيه،‭ ‬فما‭ ‬تكاد‭ ‬تنفرج‭ ‬شفتاها،‭ ‬وما‭ ‬يكاد‭ ‬الإنسان‭ ‬يحس‭ ‬النغمة‭ ‬تتكون‭ ‬في‭ ‬مرورها‭ ‬مع‭ ‬الأوتار‭ ‬حتى‭ ‬تنفلت‭ ‬من‭ ‬الأذن‭ ‬ليخفق‭ ‬بها‭ ‬القلب‭ ..‬‮»‬‭.‬

 

بعث‭ ‬وإحياء

وليس‭ ‬غريباً‭ ‬والأمر‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬تختار‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬الغريبة‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬زمانها‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬الغناء،‭ ‬وأن‭ ‬تتمسك‭ ‬بها‭ ‬ولا‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تتعلم‭ ‬أو‭ ‬تتأثر‭ ‬بطرق‭ ‬الغناء‭ ‬السائدة‭ ‬وقتئذ‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬الفنية،‭ ‬والسبب‭ ‬هو‭ ‬تكوينها‭ ‬الفني‭ ‬المتصل‭ ‬بتكوين‭ ‬المصريين،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬طبيعتهم‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬ينادي‭ ‬فنان‭ ‬الشعب‭ ‬الشيخ‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭.‬

    ‬وليس‭ ‬غريباً‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬تغني‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لشيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬أبوأحمد‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الشبراوي‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬كلماتها‭ ‬قد‭ ‬اتفقت‭ ‬مع‭ ‬طبيعتها‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬سرها‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬كلمات‭ ‬الأغاني‭ ‬نفسها،‭ ‬والتدقيق‭ ‬ما‭ ‬أمكنها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬أحياناً‭ ‬تعدل‭ ‬وتغير‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬القصائد‭ ‬الشعرية‭ ‬حتى‭ ‬لكبار‭ ‬الشعراء‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬تذوق‭ ‬رفيع‭ ‬المستوى‭ ‬للكلمة‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تواجه‭ ‬بها‭ ‬جمهورها‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬الشيخ‭ ‬الشبراوي‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الكبار،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬اختارت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬منها‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬وأعجبت‭ ‬بها‭ ‬مثلما‭ ‬اختارت‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬شوقي‭ ‬أو‭ ‬حافظ‭ ‬أو‭ ‬غيرهما‭ ‬من‭ ‬الرواد،‭ ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬طول‭ ‬القامة‭ ‬الفنية‭ ‬لشوقي‭ ‬أو‭ ‬حافظ،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬يمثلون‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬الشعر‭ ‬المصري‭ ‬هي‭ ‬بالتحديد‭ ‬المرحلة‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬البعث‭ ‬والإحياء‭ ‬الشعري،‭ ‬حيث‭ ‬برع‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬الجليل‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬والأدب‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬براعته‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬والدين،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مؤلفاته‭ ‬القيمة‭ ‬‮«‬شرح‭ ‬الصدر‭ ‬فى‭ ‬غزوة‭ ‬أهل‭ ‬بدر‮»‬‭ ‬و«ديوان‭ ‬مفاتيح‭ ‬الألطاف‭ ‬في‭ ‬مدائح‭ ‬الأشراف‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نشرته‭ ‬المطبعة‭ ‬المحمودية‭ ‬ببولاق‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1314‭ ‬هجرية،‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬بما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬المائة‭ ‬والخمسين‭ ‬عاماً‭. ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬مؤرخ‭ ‬مصر‭ ‬الحديثة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الجبرتي‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬بأنه‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬غزليات‭ ‬وأشعار‭ ‬ومقطوعات‭ ‬غنائية‭ ‬أخذها‭ ‬مطربو‭ ‬زمانه‭ ‬ولحنوها‭ ‬وغنوها،‭ ‬واشتهرت‭ ‬هذه‭ ‬الأغاني،‭ ‬ونسي‭ ‬صاحبها‭ ‬الشيخ‭ ‬الشبراوي‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬الغنائية‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬اختارتها‭ ‬وغنتها‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭:‬

وحقك‭ ‬أنت‭ ‬المنى‭ ‬والطلب

وأنت‭ ‬المراد‭ ‬وأنت‭ ‬الأرب

ولي‭ ‬فيك‭ ‬يا‭ ‬هاجري‭ ‬صبوة

تحيَّر‭ ‬في‭ ‬وصفها‭ ‬كل‭ ‬صب

أبيت‭ ‬أسامر‭ ‬نجم‭ ‬السما

إذا‭ ‬لاح‭ ‬لـــي‭ ‬فــي‭ ‬الـــدجــى‭ ‬أو‭ ‬غرب

متى‭ ‬يا‭ ‬جميل‭ ‬المحيا‭ ‬أرى

رضاك‭ ‬ويذهب‭ ‬هذا‭ ‬الغضب؟

أشاهد‭ ‬فيك‭ ‬الجمال‭ ‬البديع

فيأخذني‭ ‬عند‭ ‬ذاك‭ ‬الطرب

ويعجبني‭ ‬منك‭ ‬حسن‭ ‬القوام

ولين‭ ‬الكلام‭ ‬وفرط‭ ‬الأدب

وأنبت‭ ‬في‭ ‬الخد‭ ‬روض‭ ‬الجمال

ولكن‭ ‬سقاه‭ ‬بماء‭ ‬اللهب

لئن‭ ‬جئت‭ ‬أو‭ ‬جرت‭ ‬أنت‭ ‬المراد

وما‭ ‬لي‭ ‬سواك‭ ‬مليح‭ ‬يُحَب

إلى‭ ‬آخر‭ ‬أبيات‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬الغنائية‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬قصائد‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬رقة‭ ‬ورشاقة‭ ‬وإبداعا،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬مع‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬ضمها‭ ‬ديوانه‭ ‬وصفه‭ ‬الجبرتي‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬الشيخ‭ ‬الفقيه،‭ ‬والإمام‭ ‬المحدث،‭ ‬والأصولي‭ ‬المتكلم‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كونه‭ ‬الشاعر‭ ‬الأديب‭ ‬والفنان‭ ‬المبدع‭ ‬أبو‭ ‬أحمد‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الشبراوي،‭ ‬وأنه‭ ‬ذ‭ ‬والكلام‭ ‬للجبرتي‭ ‬ذ‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬الأعاظم،‭ ‬ذا‭ ‬جاه‭ ‬ومنزلة‭ ‬عند‭ ‬رجال‭ ‬الدولة‭ ‬والأمراء،‭ ‬ونفذت‭ ‬كلمته،‭ ‬وقبلت‭ ‬شفاعته،‭ ‬وصارت‭ ‬له‭ ‬مهابة‭ ‬ومقام‭ ‬عند‭ ‬أهل‭ ‬العلم،‭ ‬وأقبل‭ ‬عليه‭ ‬أمراء‭ ‬المماليك‭ ‬وهادوه‭ ‬بأنفس‭ ‬ما‭ ‬عندهم،‭ ‬وسكن‭ ‬دارا‭ ‬عظيمة‭ ‬على‭ ‬بركة‭ ‬الأزبكية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬حي‭ ‬الرويعي،‭ ‬وكان‭ ‬يقتني‭ ‬الطرائف‭ ‬واللطائف‭ ‬والتحائف‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬والكتب‭ ‬المكلفة‭ ‬النفيسة‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالخط‭ ‬الحسن‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬المختارة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الجبرتي‭ ‬في‭ ‬تأريخه‭ ‬لهذا‭ ‬الشيخ‭ ‬الجليل‭ ‬ما‭ ‬يوحي‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬بالفعل‭ ‬فناناً‭ ‬عظيماً‭ ‬وأديباً‭ ‬مبدعاً،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كونه‭ ‬فقيها‭ ‬معتبراً،‭ ‬ومحدثاً‭ ‬بارعاً‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬قصائده‭ ‬كانت‭ ‬تغني‭ ‬في‭ ‬زمانه‭ ‬بدليل‭ ‬أنها‭ ‬وصلت‭ ‬إلينا‭ ‬ملحنة،‭ ‬فيبدو‭ ‬أن‭ ‬شعراء‭ ‬مصر‭ ‬وقتئذ‭ ‬كانوا‭ ‬يقرنون‭ ‬دائماً‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭ ‬لاعتقادهم‭ ‬بأن‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يغنى‭ ‬يفقد‭ ‬الموسيقى،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تصبح‭ ‬له‭ ‬موسيقى‭ ‬خشنة‭ ‬جامدة،‭ ‬وليست‭ ‬ناعمة‭ ‬مرنة‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬موزونة،‭ ‬وربما‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬للشيخ‭ ‬الشبراوي‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وأعجبت‭ ‬بكلماتها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬كاتبها‭ ‬هو‭ ‬شيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬أبوأحمد‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الشبراوي‭ ‬فغنتها‭ ‬لا‭ ‬لسبب‭ ‬إلا‭ ‬لكونها‭ ‬تمثل‭ ‬فناً‭ ‬أدبياً‭ ‬رفيعاً‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬طبيعتها‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجيد‭ ‬اختيار‭ ‬الكلمة‭ ‬الأدبية‭ ‬الراقية‭.‬

ولهذا‭ ‬ولغيره‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬من‭ ‬الغناء‭ ‬الذي‭ ‬يحترم‭ ‬عقل‭ ‬ووجدان‭ ‬المستمع‭ ‬وليس‭ ‬مزاجه‭ ‬وغرائزه،‭ ‬والذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الكلمة‭ ‬الأدبية‭ ‬الراقية‭ ‬البعيدة‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬الإسفاف‭ ‬والسطحية‭ ‬والابتذال،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬أو‭ ‬اللحن‭ ‬أو‭ ‬الحركة‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬وذلك‭ ‬بالنسبة‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬تؤديه‭ ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬بوجه‭ ‬خاص،‭ ‬أو‭ ‬بالنـسبة‭ ‬للأغنية‭ ‬العربية‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭ ‬‭.