يوسف سامي اليوسف ومركزيّة الــــشـــعـــر الـجاهليّ فخري صالح*

يوسف سامي اليوسف ومركزيّة الــــشـــعـــر الـجاهليّ  فخري صالح*

ظلم تاريخ النقد العربي المعاصر اسم الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف (1938- 2013)، كما ظلمته الجغرافيا؛ بل ربما كان ظلم من كتبوا عن النقد العربي المعاصر لليوسف أكثر فداحةً وتجاهلاً ونسياناً؛ فهو ناقدٌ يمتلك رؤية ونظرة عميقتين إلى الأدب والثقافة العربيين.

 وهو، إضافةً إلى عودته لقراءة الشعر العربي القديم قراءةً جديدة، لم يتوانَ عن وضع الظواهر الثقافية العربية المعاصرة موضعَ البحث والمساءلة، جاعلاً الشعرَ العربيّ في بؤرة تفكيره النقدي، لأن الشعر من وجهة نظره هو النوع الأبرز والأهمّ في إنتاج العرب قديماً وحديثاً. ولعل ذلك يدفعنا إلى إعادة الاعتبار لناقد دفعته الانكسارات الكبرى إلى الانزواء بعيداً خلال العقدين الماضيين، كاتباً مذكرات تشردّه ومنفاه الشخصي والعامّ كفلسطيني تميد الأرض دوماً من تحت قدميه. لقد ظلمت الجغرافيا اليوسف مرتين، الأولى عندما هُجّر مع عائلته عام 1948 إلى  لبنان ثم إلى سورية، والثانية عندما اضطر إلى مغادرة مخيم اليرموك في دمشق، نتيجة  المعارك  التي وجد أبناء المخيم أنفسهم في وسطها أواخر السنة الماضية. في المرّة الأولى كافح اليوسف مع عائلته لينجو من كارثة محو هويّته وهوية شعبه. 
لكن الرحيل الثاني في اتجاه مخيّم نهر البارد في لبنان كسر قلبه. لقد أيقن أن الرحيل والتشرد هما قدر الفلسطيني والعلامة الفارقة التي تنطبع على جسده، فآثر مغادرة هذا العالم الظالم شديد القسوة يوم الثالث من مايو هذا العام.

التأسيس لأنثروبولوجيا نقدية عربية
يسعى يوسف سامي اليوسف،  في معظم ما كتبه، إلى صياغة رؤية نقدية عربية تجد أساساً لها في نوع من الأنثروبولوجيا الثقافية التي تقرأ المنجز الأدبي العربي، ماضياً وحاضراً، كصورة وتعبير عمّا يسميه اليوسف «الروح العربي». وهو يستخدم، للتوصّل إلى هذه الرؤية، أو لنَقُلْ هذه القراءة الأنثروبولوجية، أدوات وتقنيات تحليلية وتصورات نظرية مستقاة تارةً من النقد الأسطوري، وتارةً ثانية من علم النفس الفرويدي أو اليونغي (نسبةً إلى عالم النفس السويسري كارل جوستاف يونج)، وتارةً ثالثة من فلسفة المفكر الألماني جورج ويلهيلم فريدريش هيجل المثاليّة التي تبدو فاعلةً في خلفيّة نصّه النقدي، فهو يستقي واحدةً من المقولات الهيجلية الكبرى، أقصد مقولة «الروح» التي يؤسس عليها اليوسف قراءاته للشعر الجاهلي والغزل العذريّ والشعر العربي المعاصر، وكذلك لأدب غسان كنفاني وقصص سميرة عزام وشعر فدوى طوقان. كما أنه يرى أن الشعر العظيم لا يكون عظيما إلا إذا صدر عن روح عظيمة أو نفسٍ تطلب السموّ، فـ «أعمق ما في الإنسان»، كما يقول، هو «وجدان العَلَيان، وجدان الرفعة والكمال والعيش في الحقيقة الكونية الدائمة الخضرة والازهرار». (ما الشعر العظيم؟، ص: 47).
يؤسس اليوسف لرؤيته الأنثروبولوجية الخاصة بالوجود العربي من خلال العودة إلى العصر الجاهلي، الذي يرى أنه من دون فهمه يصعب علينا أن نفهم ما تلا هذا العصر من حقب وعصور. إنه من المتعذر «قيام أنثربولوجيا عربية دون الانطلاق من الحقبة الجاهلية، وذلك بوصف هذه الحقبة تجسيداً للبدائية العربية التي وصلتنا عنها نصوص مكتوبة. فالجاهلية، إذن، قطرة ضوء ممتازة تنكشف فيها الأنْسَنَة وبدايات الوعي المتحضر والمتجاوز للمرحلة الوحشية من مراحل التطور البشري بأشواط مديدة... ولذا بات من المتعذر علينا فهم العصر الراهن، فضلاً عن العصور الخالية، من دون استيعاب الحقبة الجاهلية استيعاباً شمولياً عميقاً، وذلك لحلول الغابر في الراهن، ولأن كل حلقة من حلقات التحوّل الصاعد تحمل في ذاتها إيجابيات الحلقات السابقة لها. فالحاضر هو جملة الانطفاءات التي لا تترمّد إلا كي تتجدد. صحيحٌ أن الماضي تحوّل إلى رماد، إلا أن في منطويات هذا الرماد تكمن جذوةٌ تسهم في إضاءة الحاضر وتحريكه» (مقالات في الشعر الجاهلي، ص: 17).
يتحدد مشروع اليوسف النقدي بوضوح في الاقتباس السابق، فهو يسعى إلى مقاربة الثقافة العربية، في عصورها المختلفة، استناداً إلى هذه الرؤية التي ترى الماضي مقيماً في الحاضر، مؤثراً بصورة عميقة في تشكيل رؤية الذات للعالم، وصانعاً لـ «روح عربيّ» يلهم الذات القومية العربية. لا غنى - انطلاقاً من هذا المنظور - عن إعادة قراءة الشعر الجاهلي للتأسيس لقراءة الشعر العربي، وغيره من منتوجات «الروح العربي»، في الحقب والعصور اللاحقة. إن التجربة الجاهلية شديدة الأهميّة من أجل إتمام هذا المشروع، بل إنها تمثل «مَحْرَقاً» أساسياً تتأسس فيه الذات العربية، لكونها وصلت إلى «درجة معينة من درجات ارتقاء الروح، من جهة، ومرحلة معينة من مراحل التشكّل الاجتماعي - الاقتصادي، من جهة أخرى» (ص: 17). هذا التصور هو ما يفتتح به اليوسف كتابه المتفرّد، العميق ونافذ البصيرة، «مقالات في الشعر الجاهلي»: «حين تحاول الذات القومية أن تعي ذاتها وأن تبحث عنها، لا كمعطى تاريخي تحدد مرة وانطفأ، بل كحضور يتشكل على الدوام ويقبل الاندراج في صيرورة المستقبل، فإن بحثها ومحاولتها لمعرفة ما ستكونه لا يخوّلانها حق التغاضي عن ما كانته ذات يوم» (ص: 5). وهو وإن كان لا يغفل عن كون الشعر العربي المعاصر قد تخطّى الأدب الجاهلي، إلا أنه يرى هذا الأدب كعنصر تكوينيّ مؤسس في تجربة الشعراء العرب المعاصرين. إنه يدعو إلى إحداث نوعٍ من تهجين الأصالة بالمعاصرة، أو بتعبيره الأثير إلى نفسه، إلى إنجاز نوع من «مَلْغَمَة» العناصر المتحدّرة من الماضي مع العناصر التي هي نتاجُ التفاعل مع الآخر ومع التجربة الكيانيّة للإنسان العربي في الوقت الراهن.
 
الروح التاريخي 
ما يهمّنا في هذا السياق من ربط اليوسف بين الشعر الجاهليّ والمعاصر هو تشديده على مقولة «الروح التاريخي»، التي يرى أنها نتاج استمرارية الحقبة الجاهلية في حاضر العرب المعاصرين. وتقيم هذه الاستمرارية في كون التطور التاريخي للذات العربية لا يستنفد التجربة الجاهلية لأنها «من نتاج البدائية، التي تظل، رغم كل ارتقاء، العنصر - النواة في بنية الروح، فضلاً عن أن الشعر الجاهلي لا يتصف بشمولية الواقع فقط، أعني بشمولية اللحظة الجاهلية، بل هو يحيط بما هو متأصل في الحياة، كما يشمل ثوابت الكيان النفسي» (ص: 18).
هكذا يصبح تحليل الشعر الجاهلي وسيلةً للكشف عن خصائص الأنسنة التي تميز عرب الجاهلية عن غيرهم من الشعوب والأقوام والأمم. إن ما يهدف إليه اليوسف هو «الكشف عن ردود فعل النفس البدائية - التي تحاول أن تتخطى البربرية إلى الحضارة - إزاء ظواهر بيئية معيّنة، وعن الكيفية التي استطاعت بها هذه البيئة أن تصوغ النفس وتصنعها» (ص: 18). فاللحظة الطللية، على سبيل المثال، هي «توليف اندغامي للحظات ثلاث: التهدّم الحضاري والقمع الجنسي وقحل الطبيعة» (ص: 19). كذلك هي تراجيديّة القصيدة الجاهلية التي يتوحّد فيها الإنسان مع الوحش بسبب يباس الطبيعة الصحراوية والاستلاب الذي تمارسه على الإنسان والوحش معاً (ص: 20). إن «الشاعر الجاهلي يعيش الحياة كمأساة» (ص:23)، كما أن الإنسان الجاهلي «حيوان يمارس مشروع تأنُّسه» (ص: 43). 
يمكن لنا أن نتبيّن من هذه الاقتباسات، التي أوردناها للتدليل على المنهجية التي يتبعها اليوسف في تحليل الشعر الجاهلي، الدورََ المحوريّ، بل الوسواسيّ، الذي تلعبه «لاميّة العرب» للشنفرى في تشكيل وعي اليوسف بالشعر الجاهلي، بل إننا قد نجاوز ذلك إلى القول إنها تحدد إطار رؤيته، وتفضيلاته، للشعر والأدب العظيمين، ماضياً وحاضراً، في الثقافة العربية كما في جميع الثقافات. فلاميّة العرب تمثل «أرقى وأنصع تجلٍّ لشعور الشاعر بمأساويّة الحياة» (ص: 46). وهو يستخدم التصور الرؤيوي ذاته في مقاربته للشعر العربي المعاصر. إنه يؤمن إيماناً قاطعاً بأن ما يؤسس أهمية القصيدة العربية التفعيليّة هو قدرتها على تأمل الفاجعة واستغوارِ أعماقها. وهو برغم تركيزه في مواضع كثيرة من كتابه «الشعر العربي المعاصر» على أهمية الصورة المكثفة المتوترة واللغة الدراميّة المشحونة، التي تتميّز بها القصائد الجديدة، فإن مدارَ حكمه على أهمية الشاعر وعظمته يتجلى في قدرة ذلك الشاعر على تجسيد البعد الفجائعي المأساوي الذي يسمى تجربة الوجود المعاصر. لقد «ولدت القصيدة الجديدة... لكيما تتمكن من معانقة الذات وشرطها المحدد لماهيتها العميقة، ولكيما تتمكن من أن تعكس التحولات الناشطة في عالم مقلقل كالح ومحموم. فكان النمط الجديد من الشعر خير نهج للتعبير عن التمزق والاقتلاع، عن الانشطار الدرامي» (الشعر العربي المعاصر، ص: 23)، لهذا لا يصمد تحت معول اليوسف النقدي سوى عدد محدود من الشعراء العرب المعاصرين: بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس ومحمود درويش ويوسف الخال؛ فالأول يعبر في شعره عن الإحساس بالبؤس والشقاء البشريين، على صعيد التاريخ والوجود، والثاني يحشد شعره بالصور القاتمة التي تعكس «الدمار والتقزز وخواء الوجود وقحل المجتمع العربي المهزوم أمام قوى الحضارة العالمية العاتية»، كما يمثل «التعبير عن التضاد الحامل لحركة الولادة الثانية» محورَ عمل الثالث (ص: 23 - 24)، فيما يشخّص الرابع «الإحساس بالفجيعة وتصوير الشعور المأساوي» (ص: 264) (وهو الأمر نفسه الذي يجسده أدب غسان كنفاني الذي صور «القلق والتمزق والضجر وعقدة الذنب والنزق الواقع على تخوم العصاب» (غسان كنفاني: رعشة المأساة، ص: 22)، أما الخامس والأخير فـ«يوحّد بين المطلق والمحدود، بين الآني والأبدي، بين الكائن البشري ومشروعه الوجودي» (الشعر العربي المعاصر، ص: 58). 

الشعر والفاجعة
لا يخفف من هذا التركيز الوسواسي على الفاجعة والبعد المأساوي في الشعر العربي المعاصر خاصة، والأدب العربي عامة، كلامُ اليوسف عن البعد التموزي والانبعاث القومي في شعر كبار مجددي القصيدة العربية في القرن العشرين. صحيحٌ أنه يشير، في مواضع عديدة من كتابه «الشعر العربي المعاصر» وفي بعض مقالاته، إلى أثر نكبة فلسطين وانبعاث الروح القوميّ في تحوّلات القصيدة العربية في نهاية أربعينيات القرن الماضي. لكنه لا يرى في هذه الشروط الخارجية مؤثرا فعليّاً وحافزاً على بلوغ الشعر العربي المعاصر المنزلةَ التي بلغها الشعر الأوربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، فـ «القصيدةُ العربية المعاصرة تفتقر إلى شمولية الرؤية، كليّتِها، كونيتها، تنقصها رؤية المعنى الواحد وهو يتنفس في كائنات الوجود برمتها. ولهذا لا يملك شاعرنا أن يُنطق الماهيّةَ الجوهرية بسَكينة نبويةٍ مطبقة، وبالتالي لا يملك الروحُ أن يتعرّف على ذاته في لغته» (الشعر العربي المعاصر، ص: 282- 283).     
يمكن القول إن اليوسف اتجه إلى الأدب الجاهلي ليرى عناصرَ التجربة الكيانيّة الوجودية في هذا الأدب. وقد ميّز أسسَ هذه التجربة الوجودية الكبرى في معلقات شعراء الجاهلية، ولاميّة الشنفرى، والغزل العذريّ. لكنه لم يكتف بدراسة الشعر القديم، بل انطلق في دراسة ظاهرةَ الشعر العربي المعاصر من رؤية كيانيّة، مركّزا بصورة أساسية على شعر السياب وأدونيس، إضافة إلى دراسة عن تطور الشعر الفلسطيني المقاوم. والمتأمل لهذه الدراسات يجد أنها طالعةٌ من رؤيته الشاملة للشعر والأدب والثقافة، ولا تنفصل عن قراءته للشعر العربي القديم. فالأدب بالنسبة له هو تعبير عميق عن مأساة الوجود الكبرى، وهو ما عبّر عنه في دراسة مكثّفة عن غسان كنفاني معنونا كتابه صغير الحجم بـ «رعشة المأساة». 
الرؤية نفسها تقيم في أساس كتابه «ما الشعر العظيم؟» الذي يؤكد فيه أن الشعر تعبيرٌ عن التجربة الكليّة للوجود. وهو يشنّ في هذا الكتاب حملةً شرسة على ماديّة العصر ونزعة التسليع والاستهلاك فيه، داعياً إلى إعادة النظر في نظرية الشعر ونظرية الفن اللتين تنتميان إلى الغرب الماديّ المعاصر. وهو من ثمّ يدعو إلى العودة إلى جذور الشعر والفن المركزية والنصوصِ الكبرى التي تتصل بمنابع الوجود، وعلى رأسها نصوصُ المتصوّفة وأشعارُهم .