وديع الصافي ... كبير المطربين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين

وديع الصافي ...  كبير المطربين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين

اسمه الحقيقي وديع فرنسيس، أما اسمه الفني الذي اشتهر به وحمله من بعده أولاده، فقد اقترحه عليه الموسيقار حليم الرومي، عندما كان مسؤولاً موسيقياً في الإذاعة اللبنانية. ولد في قرية نيحا الشوف، وهناك بدأ يعب على يد جده «أبوبشارة» كل فنون الفولكلور اللبناني والمشرقي، بمختلف ألوانه، قبل أي نوع آخر من الموسيقى والغناء. ثم تفتحت أذناه على الموسيقى الكنسية المشرقية، ذات الأصول المشتركة موسيقياً مع الإنشاد الديني الإسلامي، في هذه المنطقة من العالم.

بعد ذلك يصف لنا وديع الصافي بنفسه المرحلة التالية في تكونه السمعي الأول، قبل أن يتحول إلى احتراف العزف على العود ثم الغناء، فيقول: كنت أستمع من المذياع بشغف كبير إلى أغنيات محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، ثم يردف بعد صمت قصير: وأسمهان.
هكذا اكتملت مراحل التكون السمعي الأصيل لهذا الفنان الذي حباه الله قبل كل شيء، أي حتى قبل مرحلة التكون، حنجرة استثنائية سنكتشف مميزاتها تدريجياً، بعد أن تحول إلى احتراف الغناء مع اقتراب القرن العشرين من منتصفه.
في بداياته الأولى، وقبل أن يصبح مشهورا، جرَّب وديع الصافي حظه في الالتحاق بموسم الهجرة إلى القاهرة، التي كانت آنذاك عاصمة الفن العربي، غناء ومسرحا وإذاعة وسينما، ملتحقا برفيقاته المهاجرات اللبنانيات مثل لور دكاش وصباح ونور الهدى، ثم سعاد محمد ونجاح سلام، ورفيقيه محمد سلمان ومحمد البكار.
وكانت رحلة وديع الصافي في منتصف أربعينيات القرن العشرين، حيث ذهب إلى مقابلة مباشرة مع الموسيقار محمد عبدالوهاب وأسمعه مطلع أغنيته الشهيرة «الفن» (الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها)، حيث دهش عبدالوهاب مرتين، مرة لسماع الجرس الجميل لحنجرة وديع الصافي، ومرة ثانية لبراعته في التصرف بأداء بعض الجمل اللحنية، في هذه الأغنية الكلاسيكية الرائعة لعبدالوهاب.
وكان أحد أهم مغريات الهجرة إلى القاهرة في تلك الحقبة بالذات، تجربة الحظ بالظهور في أفلام السينما الغنائية، التي بدأت على أيدي عبدالوهاب وأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد وفريد الأطرش ومحمد فوزي، تغزو العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وتجلب لمن يسجل نجاحا فيها شهرة واسعة وسريعة، تفوق بكثير شهرة الاكتفاء بالغناء على إسطوانات.
ومع أن كلا من صباح ونور الهدى، كانتا على رأس من سجل نجاحا جماهيريا باهرا في مجال السينما، فإن وديع الصافي كان، على روعة صوته، من الفاشلين سينمائيا، وله تفسير شخصي لهذا المصير، فنسبه إلى فشله الذريع في التمثيل.
ويبدو أن هذا الفشل المبكر في مجال السينما الغنائية (ظهر في مشهد قصير لفيلم واحد فقط)، كان المقدمة التي ستفتح أمام هذا الفنان ذي الحنجرة الاستثنائية، أبواب المجد الغنائي من أوسع أبوابه.
لكن البداية الغنائية الأولى لوديع الصافي اتخذت من دنيا المغتربين اللبنانيين مسرحا لها، حيث ذهب في رحلة طويلة إلى البرازيل بالذات، والدول المجاورة، يغني للمغتربين اللبنانيين عن وطنهم الأم لبنان، ويحثهم على الرجوع إليه.
بعد ذلك عاد إلى الوطن في مطلع الخمسينيات فوجد حال الغناء العربي عموما قد تغيرت، حيث تراجعت شهرة الأغنيات الكلاسيكية الطويلة لعبدالوهاب وأم كلثوم، وبدأت تروج أغنيات سينمائية خفيفة على نمط أغنية «يا عواذل فلفلوا» لفريد الأطرش، من فيلم «آخر كذبة»، فانصرف هو الآخر إلى إطلاق أغنيات خفيفة لكنها ذات روح شعبية واضحة، مثل أغنيته الشهيرة «عاللوما» ومثيلاتها.
غير أن قدرا فنيا آخر كان ينتظر هذا المطرب العظيم بعد أن تبلورت إمكاناته الفنية، حتى ذلك الوقت. ذلك أن عقد الخمسينيات كان عقد ظهور كوكبة الموسيقيين والمطربين والمطربات الذين تكونت على أكتافهم نهضة موسيقية - غنائية عارمة، لتبدأ  نهضة لبنانية تمثل كل أرجاء المشرق العربي، وتعم العالم العربي، على أيدي ملحنين مثل زكي ناصيف والأخوين رحباني وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي وعفيف رضوان وسواهم، ومطربين مثل صباح وفيروز ونصري شمس الدين، الذين ما لبث وديع الصافي أن اتخذ له موقعا في طليعتهم، بسبب إمكاناته الهائلة، ونضج تجربته الغنائية في مراحله الأولى، وقوة تكوينه الفني وصلابته.
هنا، بدأت تظهر لدى وديع الصافي، - إلى جانب موهبة الغناء - موهبة التلحين، فبدأ يغني من ألحان كبار الملحنين اللبنانيين آنفي الذكر، لكنه انغمس في منافستهم في التلحين لحنجرته، بأغنيات كانت تتراوح قيمتها اللحنية بين الممتاز والمتوسط.

حنجرته وأداؤه
تمتع وديع الصافي بما حباه به الله من مواصفات استثنائية في تكوين حنجرته الصوتية. تبدأ هذه المزايا بسعة هائلة في المساحات الصوتية، من الأشد انخفاضا إلى الأشد ارتفاعا، مع معدن صوتي ثبت أنه الأجمل في الغناء العربي قاطبة في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن قيمة هذه المساحات الصوتية الشاسعة، ارتفاعا وانخفاضا، كانت تصل إلى ذروة فنية عالية، عندما توضع على محك أسلوب وديع الصافي المذهل في الأداء. فالمعلوم أن الصوت البشري، يزداد حدة، كلما ارتفعت طبقاته إلى أعلى، إلا صوت الصافي الذي كان يزداد رقة وحنانا وعذوبة، كلما ارتفعت إلى الطبقات الغنائية العليا. يضاف إلى ذلك إحساس كامل بكل مكونات الموسيقى العربية ومقاماتها، بحساسية مرهفة قلَّ نظيرها، حتى أن جماهيرية وديع كمطرب متميز قد تجاوزت حدود المستمعين العاديين، فأصبح المطرب المفضل لدى كبار المطربين مثل عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وكبار الملحنين. وأصبح صوت الصافي مقصدا لهؤلاء، فلحن له رياض السنباطي ومحمد عبدالوهاب وبليغ حمدي ورياض البندك وفريد الأطرش. وهناك قصص تروى عن حالة الذهول الطربي التي كانت تسيطر على كبار أهل الفن، وهم يستمعون إلى غناء وديع الصافي في جلساتهم الخاصة.

موقعه التاريخي
من المتعارف عليه أن الوطن العربي المعاصر قد عرف في القرن العشرين نهضتين موسيقيتين كبيرتين، أطلق الأولى في القاهرة سيد درويش،  استكمالا لنهضة القرن التاسع عشر، وأكملها من بعده خلفاؤه من العباقرة، وقد استمر تدفق هذه النهضة حتى ثلاثة أرباع القرن العشرين. أما النهضة الثانية فكان لبنان مسرحا لها في الربع الثالث من القرن العشرين.
وقد كان صوت الصافي، إلى جانب إسهامه في التلحين، في موقع متميز في طليعة هذه النهضة الموسيقية الغنائية، التي عمت كل أرجاء الوطن العربي. أما وديع، فقد كانت له مرتبة متقدمة في هذه النهضة اللبنانية المشرقية، لم تتوقف حدودها عند أهل المشرق وحدهم، بل أصبح كل كبار الفنانين العرب، يشيرون إليه بلا تردد، إذا سألتهم عن مطربهم المفضل >