التخلّي عن الأعمال الأولى! أُدونيس ومحمود درويش نموذجًا

التخلّي عن الأعمال الأولى! أُدونيس ومحمود درويش نموذجًا

يبدو أن العرب مسبوقون في مسألة التخلّي عن الأعمال الإبداعيّة الأولى؛ فالشاعر الفرنسي رينه شار، مثلاً، حذف أشعاره الأولى. ومن يتتبع مسيرة المبدعين العرب المعروفين – في الأقلّ – ويتحرّاها لا يعدم أن يجد أمثلة لها، وأنّها جعلت تنشط رويدًا رويدًا. فثمّة شعراء تخلّوا، بعد أن غدوا مشهورين وذوي أسماء لامعة معروفة في دولة الشعر، عن أعمالهم الشعريّة الأولى وتنكّروا لها، في حين أنّها جذر إبداعهم وأساسه، وأنّها التي حملتهم على المواصلة والاستمرار بدافع الموهبة والكفاءة والاستعداد، فولدوا – كما يقول محمود درويش – بـ«التقسيط» وليس «دفعة واحدة» شأن طرفة بن العبد في التراث العربي، و«رامبو» في التراث العالمي.

أُدونيس (علي أحمد سعيد) جعل يتململ من أعماله الأولى حتّى تجلّى التململ تخليًّا من خلال أعماله الشعريّة الكاملة (الطبعة الخامسة. دار العودة – بيروت 1988)، حيث يقول معترفًا ومعلّلاً في مقدمة الجزء الأول (ص5): «كلّ ما لم أثبته في هذه الطبعة الجديدة من أعمالي الشعريّة الكاملة أتخلّى عنه. إنّني أَعدّ كلّ ما كتبته نوعًا من التهيؤ لما أحاول أن أُحقّقه. وكما أن الشخص لا يبقى فيه من حياته ذاتها، داخل نفسه ذاتها، إلاّ ما يُشكِّل بنيتها العميقة، فالأحرى ألا يبقى من نتاجه إلاّ ما يرتبط به جوهريًّا بهذه البنية». لكنّه احتفظ من القصائد الأولى بما نظمه بين العامين 1947 و1955 في حين أبقى في طبعة (دار المدى – دمشق 1996) على ما نظم منها بين العامين  1949 و1955!
لم يقف الأمر بأُدونيس عند هذا، إنّما جازه إلى التّخلي عن الترتيب الزّمني لشعره في طبعة «دار المدى»، حيث جعل القصائد القصيرة في مجلد، والطويلة في مجلد، والنصوص غير الموزونة في مجلد، بحجة الوفاء «لتتابع البنية والإيقاع. إنّه ترتيب ينحاز إلى السّياق التشكيليّ الفنيّ الذي يتأسّس فيه النّص، وليس إلى تسلسل زمن كتابته أو نشره. هكذا تقطع (ربما تتقاطع) هذه الطبعة كليًّا مع الطبعات السابقة من هذه الأعمال، إضافة إلى أنّها تنسخها، وهي، إذن، المعتمدة وحدها».
أمّا محمود درويش، فاعترف بأشياء من هذا القبيل، ولاسيّما في حوار عبده وازن الطويل معه في كتابه «محمود درويش...الغريب يقع على نفسه» (رياض الرّيس للكتب والنشر – بيروت 2006)، حيث يقول (ص62): «حين أضطر إلى قراءة أعمالي الأولى من أجل تصحيح الأخطاء الطباعيّة، استعدادًا لطبعة جديدة وليس من قبيل تطوري الشّعريّ أو مراقبة ماضيّ الشعري، أشعر بكثير من الحرج. أي أنّني لا أنظر إلى ماضيَّ برضا، وأتمنى عندما أقرأ هذه الأعمال ألاّ أكون قد نشرتها كلّها، أو لا أكون نشرت جزءًا كبيرًا منها».
لقد تخلّى، لهذا، عن أوّل دواوينه «عصافير بلا أجنحة» فحذفه من أعماله الشعريّة، وقال: «مجموعتي الشّعريّة الأولى حذفتها كليًّا، ولا أعترف بها البتّة!، وكانت صدرت في فلسطين أيام الفُتوّة، وهي عبارة عن قصائد مراهقة شخصيّة وشعريّة. وأنا أتمنى أن أواصل الحذف» (ص65). علمًا بأنه كان – كما يقول – يعيد قراءة كلّ ديوان قبل طباعته عشرات المرّات، وينقّحه عشرات المرّات إلى أن يشعر بأنّه أصبح قابلاً للنشر (ص71)، كما أكّد أنّه ما كان يمكن أن يتطوّر لولا التراكم الشعري الكبير على مدى سنوات طويلة، لأن الشعر يتطور بتطور مراحل العمر.
ممّا لا مرية فيه أن من حقّ الشاعر – أي شاعر – بل عليه أن يهذّب شعره وينقّحه ويحذف منه أو يحذفه قبل أن يظهره على الملأ، كما كان يفعل محمود درويش نفسه، وكما فعل إبراهيم طوقان الذي تعهّد – قبل وفاته – ديوانه بنفسه، فعدّل وحذف واصطفى وأبقى، فكانت النسخة التي نشرها أخوه أحمد. وقديمًا جدًّا أصرّ الشاعر الروماني هوراس صاحب القصيدة النقديّة «فن الشّعر» على «ازدروا قصيدة لم تتناولها الأيّام الطّوال والإصلاح المتوالي بالصّقل عشرات المرّات، ولم تُهذّب كظُفْرٍ قصّ قصًّا محكمًا». وهكذا كان شأن شعرائنا من «عبيد الشعر» في عصر ما قبل الإسلام.
ومن حقّ الشاعر، أيضاً، أن يفيد من مفهوم «المعاودة» النقدي، فيعيد النّظر إعادةً لا تخليًّا، يغيّر ويبدّل في عناوين القصائد والألفاظ والأبيات لأسبابٍ فنيّة وغير فنيّة كما فعل، مثلاً، عبدالمنعم الرّفاعي في عدد من قصائد ديوانه «المسافر»، وإبراهيم ناجي في كثير من شعره، وفدوى طوقان في قصائد نشرت في الصحف والمجلاّت، بدءًا قبل أن تسلكها في دواوينها، وهو ما يحسب للشاعر في تاريخه الشعري وتطوره شاعريّةً وشعريّةً في آن.
أنّى ولد الشاعر كبيرًا ومهمًّا مرةً واحدة؟ أَوليس هو في الفنّ والإبداع نفسه في الحياة ولادة وحَبْوًا ثم مشيًا واكتمالاً؟ أَوليست أعماله من أوّلها إلى آخرها هي التي تمثّله في طفولته الإبداعيّة وتدرجها وتطورها ونضجها؟ أيحقّ له، بعد هذا، أن يهدم الأساس الذي لولاه لما نهض البنيان وأُحكم؟!
أُدونيس يعدّ التخلي حقًّا أكيدًا، لأن العمل كان مقدمة لما أراد أن يحقّقه تاليًا. أليس فصل المقدمّة عن النتيجة بترًا لما بينهما من آصرة وثيقة العُرى. أمّا التخلي عن ترتيب الدواوين والقصائد الزّمني بحجة السياق التشكيلي الفنيّ، فهو فتٌّ في عضُد هذا التشكيل الذي بُني على التّدرج والتجريب وفْقًا لمقتضيات الأحوال الشعريّة التي تجابه الشعراء عادة؛ فلولاها ولولا تتابع الأعمال الإبداعيّة من الألف إلى الياء لما اهتُدي إلى مسيرة الشاعر الإبداعيّة الحقيقيّة من السّفح إلى القمّة. أخال أن الدّارسين والنّقاد مازال يغمرهم الأسف لعدم وصول قصائد الشعراء القدامى إلينا مؤرخة. ولو وصلت هكذا لاختلفت الأمور في دراساتهم ونقدهم، وكانت أدقّ في التتبع والنتائج والأحكام.
أمّا محمود درويش فعدّه حقًّا، كذلك، دون أن يزعم أن رأيه هو الصّواب لأنه لم ينسَ رأي القارئ، متلقيًّا وناقدًا، إذ قال: «من حقّ الشاعر أن يحذف ما يشاء من شعره. لكن السؤال هو: هل رأيه هو الصّواب أم لا؟ هناك رأي القارئ أيضًا» (ص65)، وقال: «عندما يصدر الديوان أتحرّر منه كليًّا ويصبح ملك غيري، ملك النقد وملك القارئ» (ص71) .