ذكريات سويدية
أخذت إقامتي في ڤينجرين سنتر Vingerin Center بــــمــديــــنة استكهولم تزداد متعة مع رحيل الشتاء ومقدم الربيع، بل أخذ جمال المبنى نفسه في الظهور، وخصوصا بين الورد والأشجار التي تحيط به، وحمام السباحة المستطيل الذي كان يواجه غرفة مكتبي، محاطا بالزهور متعددة الألوان والأشكال. وتعلمت عادة أن أجلس في مواجهة هذا الجمال الباذخ في الأيام التي أخلو فيها من التدريس؛ فأواصل العمل منذ الصباح، إلى أن أشعر بالجوع، فأتزود بما يشبعني كي أعاود العمل في كتابي عن طه حسين. وقد عثرت في مكتبات استكهولم على كتاب بيير كاكيا عن طه حسين باللغة الإنجليزية، فأفدت منه بعض المعلومات التي كانت تنقصني. أما الكتاب نفسه فلم يكن فيه كبير غناء من النواحي المنهجية الجديدة التي جذبتني إليها. وكنت إذا مللت من العمل في كتابي تركته لأقرأ في ما أخذت أعرفه عن الأدب السويدي.
لم أكن أعرف عن السويد قبل أن أذهب إليها سوى أديبها الأشهر أوجست سترندبرج (1849-1912). وطبعًا كنت قد قرأت نماذج من مسرحياته الطبيعية، مثل «الآنسة جوليا» و«الأب» وغيرهما، وكنت أعرف عداءه لليهود السويديين، إذ كان يرى فيهم نموذجًا للاستغلال البشع. وقد جرّ عليه هذا العداء ويلات كثيرة، أولها تهمة العداء للسامية. وقد فوجئت بأن هذا الأديب العظيم الذي تُذكر السويد عندما يذكر اسمه لم يحصل على جائزة نوبل للآداب. وقد توفي سترندبرج سنة 1912، بينما منحت جائزة نوبل الأولى للآداب سنة 1901 للشاعر الفرنسي رينيه سولي برودوم، وأذكر أن إحدى تلميذاتي السويديات أهدتني واحدة من روايات سترندبرج المترجمة إلى الإنجليزية، فعرفت أنه كتب الرواية إلى جانب الشعر. وكانت الرواية عن عائلة تعمل بالصيد. وقد تعلمت من هذه الرواية أن الأسرة السويدية القديمة تجتمع، عادة، في المطبخ بالقرب من نار الموقد أو حوله. ولاأزال أذكر الحوارات الكثيرة التي كانت تدور حول نار الموقد في رواية سترندبرج. وقد حاولت أن أقرأ للكتَّاب السويديين الذين حصلوا على جوائز نوبل في الأدب، مثل سلمى لاجرلوف، التي حصلت على نوبل سنة 1909. وقد تخرجت في جامعة أوبسالا سنة 1907، وتركت روايات عديدة، منها «شبح العربة» و«ملحمة جوستا بيرلنج» وغيرهما من الأعمال المترجمة إلى الإنجليزية، لكني لم أشعر بحماسة للاستمرار في القراءة. وهو الأمر نفسه الذي انتهيت إليه مع هايد نشتام، الذي حصل على نوبل سنة 1916، أو إريك أكسل كارلفلت، الذي نال نوبل 1931، وبعده بار لاجيركفيست سنة 1951، ونيل زاكس سنة 1966 الذي أتذكره، لأنه حصل على «نوبل» مع يوسف عجنون الكاتب الإسرائيلي. وظني أن إيفند جونسون وهاري مارتنسون هما آخر من حصلا على الجائزة مناصفة من أدباء السويد سنة 1974. وتبقى إستريد لندجرين أشهر كاتبة أطفال في السويد، ربما إلى اليوم. وكان أغلب إنتاجها مترجما إلى الإنجليزية، وقد اشتريت عددا من قصصها لابنتي سها (رحمها الله)، فقد كانت في العاشرة من عمرها في ذلك الوقت، وتدرس في مدرسة عالمية.
ولا أنسى يوما من أيام الربيع، خرجت فيه سائرا على قدمي في شارع «إسڤيا ڤيجن» الذي ينتهي في الميدان المركزي لوسط المدينة، فلاحظت أن جميع محال بيع الكتب، على امتداد الطريق، تزين واجهاتها الزجاجية بزخارف شتى، بهيجة الألوان، وتملأ الڤاترينات نسخ من كتاب واحد، كان واضحا أنه موضع احتفال وطني. وقادني الفضول لمعرفة الكتاب الذي هو سبب الاحتفال، فإذا بالكتاب هو رواية «البحث عن الزمن المفقود» للكاتب الفرنسي الأشهر مارسيل بروست بأجزائه السبعة التي كانت تتراص في ألق باهر وراء زجاج ڤاترينات كل مكتبات استكهولم، التي كانت مؤسساتها الثقافية تحتفل باكتمال الترجمة إلى اللغة السويدية سنة 1982 وصدورها في سبعة مجلدات، أصبحت موضع احتفال السويد كلها. وظللت أسمع عن اكتمال هذه الترجمة كأنها حدث قومي باعث على الفخر والاحتفال. ولا أنكر أنني بقدر ما شاركت في هذا الاحتفال وفرحت به، بوصفي مثقفا يعرف قيمة هذه الرواية العظيمة في تاريخ الآداب العالمية، لم تفارقني الحسرة على الأوضاع الثقافية في البلاد العربية عامة، ومصر خاصة. وسألت نفسي: ترى هل نال الرجل العظيم حسن عثمان شيئا من العرفان على ترجمته «الكوميديا الإلهية» لدانتي بأجزائها الثلاثة (الجحيم، المطهر، الفردوس)؟ أعرف أن سليمان البستاني عندما فرغ من ترجمة إلياذة هوميروس شعرا، مع مقدمة مسهبة، بالغة الطول والفائدة، سنة 1904، احتفلت الأوساط الثقافية معه - في مطلع القرن الماضي - احتفالاً كبيرًا بصدور «الإلياذة» بلغة الضاد، وقام الناشر بجمع الكلمات التي ألقيت في الحفلات، والمقالات التي نشرتها الصحف العربية، في كتاب بعنوان «هدية الإلياذة». أما «البحث عن الزمن المفقود» فلم أسمع لها عن ترجمة عربية كاملة إلى سنة 1982. وقد أسهم القسم الثقافي الفرنسي في استكمال ترجمتها إلى العربية مع دار نشر شرقيات المصرية، بعد أن كانت وزارة الثقافة السورية قد نشرت مجلدات ثلاثة منها، ترجمها المترجم السوري إلياس بديوي، ولكن دون احتفال كبير أو صغير، على الرغم من أن جرهام جرين الكاتب الأمريكي وصف مارسيل بروست بأنه «أعظم مؤلف في القرن العشرين»، ووصف الروائي البريطاني سومرست موم الرواية بأنها «أعظم عمل قصصي».
أما عن المترجمة السويدية التي رأيت الجميع يحتفلون بها احتفالا قوميا فهي جونيل ڤالكوست Gunnel Vallquist. وقد جعلت منها الترجمة عضوا في الأكاديمية الملكية، أو الملكية السويدية، تحية لها على استمرارها في الترجمة والصبر عليها؛ فقد نشر الجزء الأول من الترجمة سنة 1964، وواصلت العمل في دأب إلى أن أكملت العمل سنة 1982. وقد أخبرتني صديقتي مارينا ستاج بأن جونيل ڤالكوست مولودة سنة 1918، وأنها أسن أعضاء الأكاديمية، فهى في الخامسة والتسعين تقريبا، حسب ما كتبته لي مارينا على الـ E.Mail. وقد استطردت قائلة إن اثنين من أعضاء الأكاديمية استقالا، احتجاجا على الاستجابة اللينة لفتوى الخميني بإهدار دم سلمان رشدي، في أعقاب ضجة روايته «آيات شيطانية».
ولايزال منصبهما شاغرا، لن يشغله أحد إلا بموتهما. وظني أن ما رأيته من احتفالات بترجمة رواية بروست التي كتبها في مطلع القرن العشرين، ضمن حركة الحداثة الأولى، قد تسربت إلى قاع الوعي مني، وظلت حية فيه، ويبدو أنها كانت أحد العوامل التي دفعتني إلى التفكير في إنشاء مركز قومي للترجمة. وبالفعل بدأت تحقيق هذا الحلم سنة 1994 مع صدور الكتاب الأول المترجم من المشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، ثم افتتاح المركز القومي للترجمة بالقاهرة سنة 2006.
والحق أن عملي في كتاب طه حسين، فضلا عن التدريس، لم يمنعني من الاستمتاع بمباهج السويد الثقافية، وخصوصًا في مدينة استكهولم التي كانت تتيح لى أن أتعرف على الأوجه الإبداعية والثقافية للحياة في السويد. وكنت أعرف مكانة السينما السويدية من قبل، وإن كانت عدم معرفتي للغة السويدية حالت بيني وبين الذهاب إلى المسرح. ومن المؤكد أنني لم أترك متحفا مهمَّا في المدينة دون أن أذهب إليه، مصحوبا - في العادة - بمن كانوا خير دليل لي، سواء في متاحف الفن أو التاريخ، أو العلوم. أما عن السينما، فمن المعروف أن السويد أهم الدول الإسكندنافية في صناعة السينما، وهي معروفة بأفلامها المهمة في تاريخ السينما، فضلا عن أعلام المخرجين العالميين، وعلى رأسهم إنجمار برجمان Ingmar Bergman (وينطقها السويديون إنيمار بريمان، فالجيم تنطق ياء في اللغة السويدية). وكنت مفتونا بفيلمه الأخير «برسونا» 1966، حيث تختفي العلاقة بين الواقع الفعلي والأحاسيس الداخلية للشخصية عنه، أو رؤيتها الخاصة له. أعني المشاعر الداخلية التي تتأرجح بين السعادة الجارفة والإحباط واليأس. وقد حرصت على رؤية «برسونا» في نسخته السويدية، وتركت نفسي أستمتع بتقلب الانفعالات النفسية التي تنعكس أصداؤهـــا على المشاهد، بواسطة الضوء وتعتيم الصورة. وقد عرفت أن هذا الفيلم الذي لاأزال أمتلك نسخة منه قد حصل على ثلاث جوائز أوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين. وقد عرفت أن لبرجمان العديد من الأفلام التي أسهمت في تحويل مجرى هذا الفن من مثل «لعبة الصيف» و «مونيكا». وقد اعتبر فيلم «لعبة الصيف» - على وجه التحديد- الملهم لحركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، حيث تألقت أفلام فرانسوا تروفو وجان لوك جودار وكلود شابرول وغيرهم. وقد عرفت أن برجمان بعد أن قدم أفلامه العلامات، عاد إلى المسرح حبه الأول. ولكني لم أر مسرحا له، فحسبي ما رأيت من أفلامه التي حفرت له مكانا متميزا في تاريخ السينما العالمية. وأظنه في الخامسة والتسعين من عمره المديد الآن.
ولا يمكن أن تُذكر السينما السويدية دون أن أذكر معها نجمات ونجوم هوليوود من السويديات والسويديين. ولم أكن معاصرا لأفلام جريتا جاربو المولودة في مدينة استكهولم سنة 1905. ولكن أذكر على نحو باهت فيلمها الشهير نينوتشكا. غير أني أعرف إنجريد برجمان الساحرة التي كانت بطلة فيلم «كازابلانكا» مع همفري بوجارت في الأربعينيات، ومع ذلك لايزال له سحره المتجدد. وقد ولدت إنجريد برجمان في استكهولم مثل سابقتها جريتا جاربو، ولكن بعدها بسنوات. وحصلت على ثلاث جوائز أوسكار في ما قرأت عنها. ولا يُنسى دورها في فيلم «دكتور هيجل ومستر هايد»، وكذلك دورها في فيلم «لمن تدق الأجراس» رواية إرنست هيمنجواي، فضلا عن بطولتها فيلم «انستاسيا». وأذكر لها «عربة الرولز رويس الصفراء» مع عمر الشريف. وبالطبع، لا يمكن نسيان بيبي أندرسون التي قامت بتمثيل «برسونا»، أو أنيتا إكبرج بطلة فيلم «الحياة الحلوة» للمخرج الإيطالى الشهير فيديريكو فيلليني. وقد رأيت صورا لها في شيخوختها بمدينة استكهولم التي شهدت شبابها في فيلم فيلليني، فتعجبت من قسوة الزمن وما يفعله بالبشر بعد الثمانين.
والحق أنني لم أكن أترك الأفلام الأمريكية التي كنت أسمع عن تميزها، فأذهب مع الأصدقاء لمشاهدتها، ولا أنسى من هذه الأفلام فيلمين على وجه التحديد. أما أولهما، فكان «حمر» وهو فيلم ملحمي من إنتاج العام 1981، وقد شارك في كتابته وإخراجه وإنتاجه الممثل الأمريكي وارين بيتي. ويدور حول حياة الصحفي الأمريكي جون ريد، الذي سجل يوميات الثورة الروسية في شهر أكتوبر سنة 1917، في كتابه الشهير «عشرة أيام هزت العالم». وتولى البطولة إلى جانب وارين بيتي دايان كيتون في دور لويز بريانت وجاك نيكلسون الذي قام بدور الكاتب المسرحي الأمريكي يوجين أونيل. وينطوي الفيلم على شهادات لمعاصري جون ريد ومعارفه، مثل الناشط السياسي سكوت نيرنج ودوروثي فوكس وروجر بالدوين وهنري ميللر. وقد حصل وارين بيتي على جائزة أوسكار أفضل مخرج. وكان الفيلم منافسا لفيلم «عربات النار» الذي نال الجائزة نفسها. وأذكر أنني دعوت صديقي حسن حنفي إلى مشاهدة الفيلم، فقد كان في زيارة لي، قادما من أحد الأقطار الإسكندنافية. وكان الجانب التاريخي جاذبا لنا في مشاهدة الفيلم، وخصوصا تصوير أحداث الأيام العشرة التي هزت العالم من منظور الصحفي الأمريكي اليساري جون ريد الذي لم أكن أعرف ذ في ذلك الوقت - أن المخرج الروسي العظيم سيرجي أيزنشتاين قد أخرج فيلمه «أكتوبر» (عشرة أيام هزت العالم) سنة 1928، مستغلا إمكانات السينما الصامتة في صياغة ملحمة شعرية لا علاقة لها بالدعاية. غير أن الذي يبقى من فيلم وارين بيتي هو كشفه للأوساط اليسارية في داخل الولايات المتحدة، واستجاباتها المختلفة إلى الثورة الروسية التي يدين العالم كله لواحد من هذه الأوساط، هو جون ريد، الذي قام بتسجيل أهم عشرة أيام في تاريخ الثورة، وذلك في كتابه العلامة.
أما الفيلم الثاني الذي يقترن في ذهني بأصدقاء استكهولم، فهو فيلم «مفيستو»، المنتج سنة 1981، والذي لايزال إحدى كلاسيكيات السينما العالمية. ومفيستو عنوان الفيلم مأخوذ من رواية كلاوس مان «مفيستو»، وأخرجه ستيفنز نيفان زباتو، وبطولة كلاوس ماريا براندور في دور هندريك هوفجن. والفيلم إنتاج مشترك لشركات سينما في ألمانيا الغربية وهنجاريا والنمسا. وحبكة الفيلم مأخوذة من قصة مفيستو والدكتور فاوست، وذلك بالتركيز على شخصية هندريك هوفجن الذي يتخلى عن ضميره، مرتميا في أحضان الحزب النازي، وذلك في سبيل أن يبقى في عمله ممثلا، ويرتقي في مكانته الاجتماعية. وتقوم المفارقة الساخرة في الفيلم على مرارة تنبع من أقصى أماني البطل في أن يقوم بتمثيل دور مفيستو، ولكنه لكي يحصل على الدور، كان عليه أن يبيع روحه، فلا يدرك إلا متأخرا أنه - في حقيقة الأمر - فاوست. ويقوم قائد نازي بدور رئيس في الفيلم (مجسدا شخصية هيرمان جورنج) بوصفه مفيستو أو الشيطان الحقيقي. وقد أدّى كلاوس براندور دوره ببراعة نادرة. وكان الإخراج ذكيا إلى أبعد حد، تعينه الموسيقى والمؤثرات الصوتية. ولذلك كان من الطبيعي أن يحصل على أوسكار أحسن فيلم أجنبي، بعد أن دفعت به الأكاديمية الهنجارية إلى مسابقة الأوسكار سنة 1981. وفي العام نفسه، حصل الفيلم على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان. وما أكثر ما انفعلت بهذا الفيلم! وأنا أشاهده مع أصدقاء سويديين. وكنت أرى في شخص هندريك هوفجن نموذجا لهؤلاء الذين باعوا من زملائي وبعض أساتذتي شرفهم الجامعي الوطني، إرضاء للسادات وصلحه مع العدو الإسرائيلي وتحالفه مع الجماعات الإسلامية سامحه وسامحهم الله.
هكذا، كنت أقضى أيامي في استكهولم التي أحببت ربيعها وصيفها، ولم أستسغ - قط - شتاءها، فهو أقسى شتاء واجهته في حياتي. أما صيفها وربيعها فلهما عبق في ذاكرتي لن أنساه ما حييت. ومن الطريف أنني ظللت حوالي شهر أحكي عن المشاهد التي فتنتني في فيلم «مفيستو»، الذي لم أستطع أن أحصل على نسخة منه، رغم التقدم المذهل للوسائط المعرفية تكنولوجيا. ولكني قبل أن أترك جامعة استكهولم، رأيت نموذجا مصريا لهندريك هوفجن، فقد أبلغني عطية عامر بضرورة أن أذهب معه إلى مدير مكتبة الجامعة لنكون معه في استقبال ممثلي السفارة العراقية التي سوف تهدي الجامعة عددا كبيرا من الكتب باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية. وذهبت معه باعتباره رئيسا لقسم اللغة العربية، وأنا أستاذ في القسم. وانتظرنا المسئول العراقي الذي جاء بصحبة عدد كبير من الكراتين مملوءة بالكتب. وما إن فتحنا الكراتين حتى وجدنا بداخلها نسخا مكررة من كتاب واحد كبير الحجم عن صدام حسين باللغة العربية تأليفا وباللغتين الإنجليزية والفرنسية ترجمة.
وكان المؤلف أمير إسكندر الكاتب المصري الذي كنت أعرفه ماركسيا، هاجر من مصر إلى العراق أيام السادات، حيث وقع في الفخ كما وقع هندريك هوفجن. وتصفحت النسخة العربية الفاخرة فوجدت العنوان «صدام حسين.. مناضلا ومفكرا وإنسانا» والمؤلف الدكتور أمير إسكندر. وحاولت قدر الإمكان تمالك أعصابي حتى لا أسبب حرجا لجامعة استكهولم، فممثل دولة عربية ذات سيادة يأتيها بكتاب عن حاكم بلده. والكاتب دكتور في ما يقول العنوان، فوضعت قناعا على وجهي، وتسلمت نسخة باللغة العربية وأخرى باللغة الإنجليزية. وعرفنا أنه ستذهب النسخ الأخرى إلى مكتبة القسم. وكظمت غيظي إلى أن انتهى الأمر، وعدت وعطية عامر إلى مكتبة القسم. ولا أذكر ماذا قلت له غاضبا، لكني أذكر أن عطية عامر ظل يضحك من الكيفية التي كانت عليها ملامح وجهي، فلم أملك في النهاية سوى أن أضحك معه. ولكنه كان ضحكا مرا، فقد كنا نرى هندريك هوفجن باسم مصري. وبعد أن أنهينا أعمالنا في القسم حملت معي الكتاب إلى مسكني، وكلي شوق لتصفحه، وظللت أسأل نفسي طوال الطريق: متى حمل أمير إسكندر درجة الدكتواره، وعهدي به في مصر بلا دكتوراه؟ وماذا سيقول عن نفسه هذا الرجل الذي كنت أعجب بما يكتب عن فكر صدام حسين؟
وأخيرا، وصلت إلى المسكن، وأخذت في تصفح الكتاب، وأقرأ ما يضحك عن فكر صدام حسين الذي بدا كما لو كان قد غاص إلى قرارة قرار الماركسية والوجودية والفكر القومي العربي. ولم أستطع أن أكمل، فنحيت الكتاب إلى أبعد ما يمكن عن الكتب، وقررت أن أمحو الكتاب من ذاكرتي. ولكن عطية عامر في اليوم التالى أبى إلا أن يذكرني، وأخذ يسألني أسئلة هزلية عن كم من الأموال حصل عليها الدكتور أمير إسكندر بعد تأليف الكتاب وطباعته؟! وكم من أموال الشعب العراقي تكلفتها الترجمة الفرنسية والإنجليزية؟! وهنا دخل صديق لنا عراقي، يعمل في الجامعة، ومعه الجنسية السويدية، وظل يحكي ما يشبه الأساطير عن الأرقام التي تقاضاها أمير إسكندر على تأليف هذا الكتاب الذي لن يمحو الزمن فضيحته، وفي النهاية استغرقنا في الضحك الساخر من أمثال هندريك هوفجن. وأخيرا، خرجنا إلى الغداء في مطعم الجامعة.
وقد أصبح من عاداتنا التي لاأزال أذكرها الذهاب إلى مطعم الجامعة. والحق أنه كان هناك مطعمان، واحد للطلاب رخيص الثمن، عبارة عن بوفيه مفتوح. أما الثانى فهو للأساتذة، وهو أغلى ثمنا، وأكثر راحة لمن يريد الدردشة ساعة الغداء التي تبدأ من الثانية عشرة ظهرا إلى الساعة الواحدة، وكانت تصحبنا أحيانا الصديقة العزيزة مارينا ستاج، وكانت تعمل في أطروحتها الأولى عن يوسف إدريس، وتعمل موظفة إدارية بالقسم في الوقت نفسه، ولا أنسى أنها أسهمت في تبديد وحشة الأيام الأولى بأن أقامت لنا عشاء بهيجا، وتعمقت صداقتنا بسبب إعجابنا المشترك بيوسف إدريس الذي كان كلانا يرى فيه أديبا عالميا، يستحق جائزة نوبل بالتأكيد. وقد عرفت - بعد استقراري - أن جامعة استكهولم إحدى الجامعات السويدية التي كان يطلب منها الترشيح لجائزة نوبل في مجالاتها المختلفة، لا تختلف في ذلك عن غيرها من الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية أو الأدبية على امتداد العالم. وقد أخبرني عطية عامر أنه كتب باسم القسم ترشيحا لنجيب محفوظ، وأصبح الترشيح بالطبع ترشيح الجامعة، ومرت سنوات على ذلك.
وعندما وصلت إلى جامعة استكهولم، كان عطية عامر غاضبا على نجيب محفوظ لبعض تصريحات له، اعتبرها نوعا من «التطــــبيع» الذي كان يرفضه كلانا، فتحمس عام 1982 لترشيح يوسف إدريس، ولم أعارضه، فقد كان رأيي - ولايزال - أن يوسف إدريس عبقرية نادرة لا نظير لها في كتابة القصة القصيرة، وذلك بقدر نجيب محفوظ الذي كان هو - بدوره - عبقرية نادرة لا نظير لها في كتابة الرواية. وأذكر أنني عندما عدت إلى القاهرة أخبرت يوسف إدريس بأن جامعة استكهولم قد قامت بترشيحه لجائزة نوبل. وقد فرح يوسف- رحمه الله - فرحا شديدا. وأخبرني في حماسة فرحته أن بعض الأساتذة السويديين في جامعات سويدية أخرى قد قاموا بترشيحه. ولم أرد أن أفسد فرحته بأن أقول له إن عشرات الجامعات والمؤسسات تقوم بالترشيح، واكتفيت بمشاركته الفرحة وحسب، ومضينا في سهرتنا التي كان يتوسطها دائما أمل دنقل، الذي يرجع إليه فضل توثيق علاقتي بيوسف إدريس حتى على المستوى العائلي. وما أكثر ما ضم مجلسنا منزلي في القاهرة أو منزل يوسف الذي كان نبيلا شهما في موقفه عندما علم بنقلي من الجامعة. ولن أنسى الكلمة البديعة في حزنها وشاعريتها التي ألقاها عندما أقمنا حفل تأبين لأمل دنقل الذي توفي في الحادي والعشرين من مايو 1983، قبل خمس سنوات من إعلان حصول نجيب محفوظ على الجائزة. وقد ثار يوسف إدريس وأصدر تصريحات انفعالية عن استحقاقه للجائزة، لكن نجيب محفوظ لم يغضب ولم يعاتبه إلى أن هدأ يوسف إدريس، وخصوصا أن الفرحة بوصول أول كاتب عربي إلى «نوبل» سنة 1988 كانت غامرة على كل المستويات. رحم الله الجميع فقد توفي يوسف إدريس في أول أغسطس عام 1991. وقد لحق به نجيب محفـوظ في الثلاثين من أغسطس عام 2006.
أما عطية عامر، فقد ظلـــت علاقتــــي به وثيقة بعد عودتي من الســويد، وظـــللت أراه كل عام تقريبا، وعرفت أنه أصدر كتابا بعنوان «عصفور من الريف» عن مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1996 التي أصدرت له في العام اللاحق كتاب «مع أبي العلاء في اللزوميات». ومرت السنوات التي سرقـتني من الجامعـة, بعد أن غرقت في العمل الثقافي العام، وخصوصا ابتداء من سنة 2004 إلى أن تركت العمل الثقافي، وقررت أن أكتفي بالتدريس في الجامعة، وأخصص من وقتي ما يتيح لى أن أكتب ذكرياتي الخاصة، فكتبت مقالا نــشرته مجلة العربي بعنوان «صديــق محترم جدا»، وكنت أرجو أن يكون تعبيرا عن ديني العميق لعطية عامر. ولكني فوجئــت بعد نشر المقال بأنه توفي في الثاني والعشــــرين من يناير سنة 2012 عن تسعين عاما، ودفن في مدينة استكهولم التي أصبحت مستقرا له ولعائلته في السويد التي أحبها، ونقل لي عدوى حبها.. رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان نعم الصديق والراعي والسند في أيام صعبة، أحالها إلى أيـــام بهيجة .