ذكريات سويدية

ذكريات سويدية

أخذت‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬ڤينجرين‭ ‬سنتر‭  ‬Vingerin‭  ‬Center‭ ‬بــــمــديــــنة‭ ‬استكهولم‭ ‬تزداد‭ ‬متعة‭ ‬مع‭ ‬رحيل‭ ‬الشتاء‭ ‬ومقدم‭ ‬الربيع،‭ ‬بل‭ ‬أخذ‭ ‬جمال‭ ‬المبنى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الظهور،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بين‭ ‬الورد‭ ‬والأشجار‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬به،‭ ‬وحمام‭ ‬السباحة‭ ‬المستطيل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يواجه‭ ‬غرفة‭ ‬مكتبي،‭ ‬محاطا‭ ‬بالزهور‭ ‬متعددة‭ ‬الألوان‭ ‬والأشكال‭. ‬وتعلمت‭ ‬عادة‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬الباذخ‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬أخلو‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬التدريس؛‭ ‬فأواصل‭ ‬العمل‭ ‬منذ‭ ‬الصباح،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أشعر‭ ‬بالجوع،‭ ‬فأتزود‭ ‬بما‭ ‬يشبعني‭ ‬كي‭ ‬أعاود‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬عن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭. ‬وقد‭ ‬عثرت‭ ‬في‭ ‬مكتبات‭ ‬استكهولم‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬بيير‭ ‬كاكيا‭ ‬عن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬فأفدت‭ ‬منه‭ ‬بعض‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنقصني‭. ‬أما‭ ‬الكتاب‭ ‬نفسه‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬فيه‭ ‬كبير‭ ‬غناء‭ ‬من‭ ‬النواحي‭ ‬المنهجية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬جذبتني‭ ‬إليها‭. ‬وكنت‭ ‬إذا‭ ‬مللت‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬تركته‭ ‬لأقرأ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أخذت‭ ‬أعرفه‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬السويدي‭.‬

لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬عن‭ ‬السويد‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إليها‭ ‬سوى‭ ‬أديبها‭ ‬الأشهر‭ ‬أوجست‭ ‬سترندبرج‭ (‬1849-1912‭). ‬وطبعًا‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬قرأت‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬مسرحياته‭ ‬الطبيعية،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الآنسة‭ ‬جوليا‮»‬‭ ‬و«الأب‮»‬‭ ‬وغيرهما،‭ ‬وكنت‭ ‬أعرف‭ ‬عداءه‭ ‬لليهود‭ ‬السويديين،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬فيهم‭ ‬نموذجًا‭ ‬للاستغلال‭ ‬البشع‭. ‬وقد‭ ‬جرّ‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬العداء‭ ‬ويلات‭ ‬كثيرة،‭ ‬أولها‭ ‬تهمة‭ ‬العداء‭ ‬للسامية‭. ‬وقد‭ ‬فوجئت‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الأديب‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬تُذكر‭ ‬السويد‭ ‬عندما‭ ‬يذكر‭ ‬اسمه‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭. ‬وقد‭ ‬توفي‭ ‬سترندبرج‭ ‬سنة‭ ‬1912،‭ ‬بينما‭ ‬منحت‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬الأولى‭ ‬للآداب‭ ‬سنة‭ ‬1901‭ ‬للشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬رينيه‭ ‬سولي‭ ‬برودوم،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬تلميذاتي‭ ‬السويديات‭ ‬أهدتني‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬سترندبرج‭ ‬المترجمة‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬فعرفت‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الشعر‭. ‬وكانت‭ ‬الرواية‭ ‬عن‭ ‬عائلة‭ ‬تعمل‭ ‬بالصيد‭. ‬وقد‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬أن‭ ‬الأسرة‭ ‬السويدية‭ ‬القديمة‭ ‬تجتمع،‭ ‬عادة،‭ ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬نار‭ ‬الموقد‭ ‬أو‭ ‬حوله‭. ‬ولاأزال‭ ‬أذكر‭ ‬الحوارات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬نار‭ ‬الموقد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬سترندبرج‭. ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬للكتَّاب‭ ‬السويديين‭ ‬الذين‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬جوائز‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬مثل‭ ‬سلمى‭ ‬لاجرلوف،‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬نوبل‭ ‬سنة‭ ‬1909‭. ‬وقد‭ ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬أوبسالا‭ ‬سنة‭ ‬1907،‭ ‬وتركت‭ ‬روايات‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬شبح‭ ‬العربة‮»‬‭ ‬و‮«‬ملحمة‭ ‬جوستا‭ ‬بيرلنج‮»‬‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬المترجمة‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬بحماسة‭ ‬للاستمرار‭ ‬في‭ ‬القراءة‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬انتهيت‭ ‬إليه‭ ‬مع‭ ‬هايد‭ ‬نشتام،‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬نوبل‭ ‬سنة‭ ‬1916،‭ ‬أو‭ ‬إريك‭ ‬أكسل‭ ‬كارلفلت،‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬نوبل‭ ‬1931،‭ ‬وبعده‭ ‬بار‭ ‬لاجيركفيست‭ ‬سنة‭ ‬1951،‭ ‬ونيل‭ ‬زاكس‭ ‬سنة‭ ‬1966‭ ‬الذي‭ ‬أتذكره،‭ ‬لأنه‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬‮«‬نوبل‮»‬‭ ‬مع‭ ‬يوسف‭ ‬عجنون‭ ‬الكاتب‭ ‬الإسرائيلي‭. ‬وظني‭ ‬أن‭ ‬إيفند‭ ‬جونسون‭ ‬وهاري‭ ‬مارتنسون‭ ‬هما‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬حصلا‭ ‬على‭ ‬الجائزة‭ ‬مناصفة‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬السويد‭ ‬سنة‭ ‬1974‭. ‬وتبقى‭ ‬إستريد‭ ‬لندجرين‭ ‬أشهر‭ ‬كاتبة‭ ‬أطفال‭ ‬في‭ ‬السويد،‭ ‬ربما‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬وكان‭ ‬أغلب‭ ‬إنتاجها‭ ‬مترجما‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وقد‭ ‬اشتريت‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬قصصها‭ ‬لابنتي‭ ‬سها‭ (‬رحمها‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وتدرس‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬عالمية‭.‬

ولا‭ ‬أنسى‭ ‬يوما‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬الربيع،‭ ‬خرجت‭ ‬فيه‭ ‬سائرا‭ ‬على‭ ‬قدمي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬‮«‬إسڤيا‭ ‬ڤيجن‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬ينتهي‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬المركزي‭ ‬لوسط‭ ‬المدينة،‭ ‬فلاحظت‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬محال‭ ‬بيع‭ ‬الكتب،‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الطريق،‭ ‬تزين‭ ‬واجهاتها‭ ‬الزجاجية‭ ‬بزخارف‭ ‬شتى،‭ ‬بهيجة‭ ‬الألوان،‭ ‬وتملأ‭ ‬الڤاترينات‭ ‬نسخ‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬واحد،‭ ‬كان‭ ‬واضحا‭ ‬أنه‭ ‬موضع‭ ‬احتفال‭ ‬وطني‭. ‬وقادني‭ ‬الفضول‭ ‬لمعرفة‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬سبب‭ ‬الاحتفال،‭ ‬فإذا‭ ‬بالكتاب‭ ‬هو‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود‮»‬‭ ‬للكاتب‭ ‬الفرنسي‭ ‬الأشهر‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭ ‬بأجزائه‭ ‬السبعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتراص‭ ‬في‭ ‬ألق‭ ‬باهر‭ ‬وراء‭ ‬زجاج‭ ‬ڤاترينات‭ ‬كل‭ ‬مكتبات‭ ‬استكهولم،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مؤسساتها‭ ‬الثقافية‭ ‬تحتفل‭ ‬باكتمال‭ ‬الترجمة‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬السويدية‭ ‬سنة‭ ‬1982‭ ‬وصدورها‭ ‬في‭ ‬سبعة‭ ‬مجلدات،‭ ‬أصبحت‭ ‬موضع‭ ‬احتفال‭ ‬السويد‭ ‬كلها‭. ‬وظللت‭ ‬أسمع‭ ‬عن‭ ‬اكتمال‭ ‬هذه‭ ‬الترجمة‭ ‬كأنها‭ ‬حدث‭ ‬قومي‭ ‬باعث‭ ‬على‭ ‬الفخر‭ ‬والاحتفال‭. ‬ولا‭ ‬أنكر‭ ‬أنني‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاحتفال‭ ‬وفرحت‭ ‬به،‭ ‬بوصفي‭ ‬مثقفا‭ ‬يعرف‭ ‬قيمة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الآداب‭ ‬العالمية،‭ ‬لم‭ ‬تفارقني‭ ‬الحسرة‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬عامة،‭ ‬ومصر‭ ‬خاصة‭. ‬وسألت‭ ‬نفسي‭: ‬ترى‭ ‬هل‭ ‬نال‭ ‬الرجل‭ ‬العظيم‭ ‬حسن‭ ‬عثمان‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬العرفان‭ ‬على‭ ‬ترجمته‭ ‬‮«‬الكوميديا‭ ‬الإلهية‮»‬‭ ‬لدانتي‭ ‬بأجزائها‭ ‬الثلاثة‭ (‬الجحيم،‭ ‬المطهر،‭ ‬الفردوس‭)‬؟‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬سليمان‭ ‬البستاني‭ ‬عندما‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬إلياذة‭ ‬هوميروس‭ ‬شعرا،‭ ‬مع‭ ‬مقدمة‭ ‬مسهبة،‭ ‬بالغة‭ ‬الطول‭ ‬والفائدة،‭ ‬سنة‭ ‬1904،‭ ‬احتفلت‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية‭ ‬معه‭ - ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ - ‬احتفالاً‭ ‬كبيرًا‭ ‬بصدور‭ ‬‮«‬الإلياذة‮»‬‭ ‬بلغة‭ ‬الضاد،‭ ‬وقام‭ ‬الناشر‭ ‬بجمع‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬ألقيت‭ ‬في‭ ‬الحفلات،‭ ‬والمقالات‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬الصحف‭ ‬العربية،‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬هدية‭ ‬الإلياذة‮»‬‭. ‬أما‭ ‬‮«‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود‮»‬‭ ‬فلم‭ ‬أسمع‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬ترجمة‭ ‬عربية‭ ‬كاملة‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬1982‭. ‬وقد‭ ‬أسهم‭ ‬القسم‭ ‬الثقافي‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬استكمال‭ ‬ترجمتها‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬شرقيات‭ ‬المصرية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬السورية‭ ‬قد‭ ‬نشرت‭ ‬مجلدات‭ ‬ثلاثة‭ ‬منها،‭ ‬ترجمها‭ ‬المترجم‭ ‬السوري‭ ‬إلياس‭ ‬بديوي،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬احتفال‭ ‬كبير‭ ‬أو‭ ‬صغير،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬جرهام‭ ‬جرين‭ ‬الكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬وصف‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬أعظم‭ ‬مؤلف‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‮»‬،‭ ‬ووصف‭ ‬الروائي‭ ‬البريطاني‭ ‬سومرست‭ ‬موم‭ ‬الرواية‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬أعظم‭ ‬عمل‭ ‬قصصي‮»‬‭. ‬

أما‭ ‬عن‭ ‬المترجمة‭ ‬السويدية‭ ‬التي‭ ‬رأيت‭ ‬الجميع‭ ‬يحتفلون‭ ‬بها‭ ‬احتفالا‭ ‬قوميا‭ ‬فهي‭ ‬جونيل‭ ‬ڤالكوست‭  Gunnel‭ ‬Vallquist‭. ‬وقد‭ ‬جعلت‭ ‬منها‭ ‬الترجمة‭ ‬عضوا‭ ‬في‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الملكية،‭ ‬أو‭ ‬الملكية‭ ‬السويدية،‭ ‬تحية‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬استمرارها‭ ‬في‭ ‬الترجمة‭ ‬والصبر‭ ‬عليها؛‭ ‬فقد‭ ‬نشر‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬سنة‭ ‬1964،‭ ‬وواصلت‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬دأب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أكملت‭ ‬العمل‭ ‬سنة‭ ‬1982‭. ‬وقد‭ ‬أخبرتني‭ ‬صديقتي‭ ‬مارينا‭ ‬ستاج‭ ‬بأن‭ ‬جونيل‭ ‬ڤالكوست‭ ‬مولودة‭ ‬سنة‭ ‬1918،‭ ‬وأنها‭ ‬أسن‭ ‬أعضاء‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬فهى‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬والتسعين‭ ‬تقريبا،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬لي‭ ‬مارينا‭ ‬على‭ ‬الـ‭ ‬E‭.‬Mail‭. ‬وقد‭ ‬استطردت‭ ‬قائلة‭ ‬إن‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬الأكاديمية‭ ‬استقالا،‭ ‬احتجاجا‭ ‬على‭ ‬الاستجابة‭ ‬اللينة‭ ‬لفتوى‭ ‬الخميني‭ ‬بإهدار‭ ‬دم‭ ‬سلمان‭ ‬رشدي،‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬ضجة‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬آيات‭ ‬شيطانية‮»‬‭. ‬

ولايزال‭ ‬منصبهما‭ ‬شاغرا،‭ ‬لن‭ ‬يشغله‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬بموتهما‭. ‬وظني‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬رأيته‭ ‬من‭ ‬احتفالات‭ ‬بترجمة‭ ‬رواية‭ ‬بروست‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ضمن‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة‭ ‬الأولى،‭ ‬قد‭ ‬تسربت‭ ‬إلى‭ ‬قاع‭ ‬الوعي‭ ‬مني،‭ ‬وظلت‭ ‬حية‭ ‬فيه،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬أحد‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬دفعتني‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬مركز‭ ‬قومي‭ ‬للترجمة‭. ‬وبالفعل‭ ‬بدأت‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬سنة‭ ‬1994‭ ‬مع‭ ‬صدور‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬المترجم‭ ‬من‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬ثم‭ ‬افتتاح‭ ‬المركز‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة‭ ‬بالقاهرة‭ ‬سنة‭ ‬2006‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬التدريس،‭ ‬لم‭ ‬يمنعني‭ ‬من‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بمباهج‭ ‬السويد‭ ‬الثقافية،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬استكهولم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتيح‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬الأوجه‭ ‬الإبداعية‭ ‬والثقافية‭ ‬للحياة‭ ‬في‭ ‬السويد‭. ‬وكنت‭ ‬أعرف‭ ‬مكانة‭ ‬السينما‭ ‬السويدية‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬عدم‭ ‬معرفتي‭ ‬للغة‭ ‬السويدية‭ ‬حالت‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أترك‭ ‬متحفا‭ ‬مهمَّا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إليه،‭ ‬مصحوبا‭ - ‬في‭ ‬العادة‭ - ‬بمن‭ ‬كانوا‭ ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬لي،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬متاحف‭ ‬الفن‭ ‬أو‭ ‬التاريخ،‭ ‬أو‭ ‬العلوم‭. ‬أما‭ ‬عن‭ ‬السينما،‭ ‬فمن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬السويد‭ ‬أهم‭ ‬الدول‭ ‬الإسكندنافية‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬السينما،‭ ‬وهي‭ ‬معروفة‭ ‬بأفلامها‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السينما،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬أعلام‭ ‬المخرجين‭ ‬العالميين،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬إنجمار‭ ‬برجمان‭ ‬Ingmar‭ ‬Bergman‭ (‬وينطقها‭ ‬السويديون‭ ‬إنيمار‭ ‬بريمان،‭ ‬فالجيم‭ ‬تنطق‭ ‬ياء‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬السويدية‭). ‬وكنت‭ ‬مفتونا‭ ‬بفيلمه‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬برسونا‮»‬‭ ‬1966،‭ ‬حيث‭ ‬تختفي‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬الفعلي‭ ‬والأحاسيس‭ ‬الداخلية‭ ‬للشخصية‭ ‬عنه،‭ ‬أو‭ ‬رؤيتها‭ ‬الخاصة‭ ‬له‭. ‬أعني‭ ‬المشاعر‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬السعادة‭ ‬الجارفة‭ ‬والإحباط‭ ‬واليأس‭. ‬وقد‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬‮«‬برسونا‮»‬‭ ‬في‭ ‬نسخته‭ ‬السويدية،‭ ‬وتركت‭ ‬نفسي‭ ‬أستمتع‭ ‬بتقلب‭ ‬الانفعالات‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬تنعكس‭ ‬أصداؤهـــا‭ ‬على‭ ‬المشاهد،‭ ‬بواسطة‭ ‬الضوء‭ ‬وتعتيم‭ ‬الصورة‭. ‬وقد‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬لاأزال‭ ‬أمتلك‭ ‬نسخة‭ ‬منه‭ ‬قد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬جوائز‭ ‬أوسكار‭ ‬لأفضل‭ ‬فيلم‭ ‬أجنبي،‭ ‬وجائزة‭ ‬الدب‭ ‬الذهبي‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬برلين‭. ‬وقد‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬لبرجمان‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬مجرى‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬لعبة‭ ‬الصيف‮»‬‭ ‬و‭ ‬‮«‬مونيكا‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬اعتبر‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬لعبة‭ ‬الصيف‮»‬‭ - ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭- ‬الملهم‭ ‬لحركة‭ ‬الموجة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬الفرنسية،‭ ‬حيث‭ ‬تألقت‭ ‬أفلام‭ ‬فرانسوا‭ ‬تروفو‭ ‬وجان‭ ‬لوك‭ ‬جودار‭ ‬وكلود‭ ‬شابرول‭ ‬وغيرهم‭. ‬وقد‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬برجمان‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قدم‭ ‬أفلامه‭ ‬العلامات،‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬حبه‭ ‬الأول‭. ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أر‭ ‬مسرحا‭ ‬له،‭ ‬فحسبي‭ ‬ما‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬أفلامه‭ ‬التي‭ ‬حفرت‭ ‬له‭ ‬مكانا‭ ‬متميزا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السينما‭ ‬العالمية‭. ‬وأظنه‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬والتسعين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬المديد‭ ‬الآن‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُذكر‭ ‬السينما‭ ‬السويدية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬معها‭ ‬نجمات‭ ‬ونجوم‭ ‬هوليوود‭ ‬من‭ ‬السويديات‭ ‬والسويديين‭. ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬معاصرا‭ ‬لأفلام‭ ‬جريتا‭ ‬جاربو‭ ‬المولودة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬استكهولم‭ ‬سنة‭ ‬1905‭. ‬ولكن‭ ‬أذكر‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬باهت‭ ‬فيلمها‭ ‬الشهير‭ ‬نينوتشكا‭. ‬غير‭ ‬أني‭ ‬أعرف‭ ‬إنجريد‭ ‬برجمان‭ ‬الساحرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بطلة‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬كازابلانكا‮»‬‭ ‬مع‭ ‬همفري‭ ‬بوجارت‭ ‬في‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لايزال‭ ‬له‭ ‬سحره‭ ‬المتجدد‭. ‬وقد‭ ‬ولدت‭ ‬إنجريد‭ ‬برجمان‭ ‬في‭ ‬استكهولم‭ ‬مثل‭ ‬سابقتها‭ ‬جريتا‭ ‬جاربو،‭ ‬ولكن‭ ‬بعدها‭ ‬بسنوات‭. ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬جوائز‭ ‬أوسكار‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬قرأت‭ ‬عنها‭. ‬ولا‭ ‬يُنسى‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬دكتور‭ ‬هيجل‭ ‬ومستر‭ ‬هايد‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬لمن‭ ‬تدق‭ ‬الأجراس‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬إرنست‭ ‬هيمنجواي،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬بطولتها‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬انستاسيا‮»‬‭. ‬وأذكر‭ ‬لها‭ ‬‮«‬عربة‭ ‬الرولز‭ ‬رويس‭ ‬الصفراء‮»‬‭ ‬مع‭ ‬عمر‭ ‬الشريف‭. ‬وبالطبع،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نسيان‭ ‬بيبي‭ ‬أندرسون‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بتمثيل‭ ‬‮«‬برسونا‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬أنيتا‭ ‬إكبرج‭ ‬بطلة‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬الحياة‭ ‬الحلوة‮»‬‭ ‬للمخرج‭ ‬الإيطالى‭ ‬الشهير‭ ‬فيديريكو‭ ‬فيلليني‭. ‬وقد‭ ‬رأيت‭ ‬صورا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬شيخوختها‭ ‬بمدينة‭ ‬استكهولم‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬شبابها‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬فيلليني،‭ ‬فتعجبت‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬الزمن‭ ‬وما‭ ‬يفعله‭ ‬بالبشر‭ ‬بعد‭ ‬الثمانين‭.‬

والحق‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أترك‭ ‬الأفلام‭ ‬الأمريكية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬عن‭ ‬تميزها،‭ ‬فأذهب‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬لمشاهدتها،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأفلام‭ ‬فيلمين‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭. ‬أما‭ ‬أولهما،‭ ‬فكان‭ ‬‮«‬حمر‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬فيلم‭ ‬ملحمي‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬العام‭ ‬1981،‭ ‬وقد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬كتابته‭ ‬وإخراجه‭ ‬وإنتاجه‭ ‬الممثل‭ ‬الأمريكي‭ ‬وارين‭ ‬بيتي‭. ‬ويدور‭ ‬حول‭ ‬حياة‭ ‬الصحفي‭ ‬الأمريكي‭ ‬جون‭ ‬ريد،‭ ‬الذي‭ ‬سجل‭ ‬يوميات‭ ‬الثورة‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬أكتوبر‭ ‬سنة‭ ‬1917،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬هزت‭ ‬العالم‮»‬‭. ‬وتولى‭ ‬البطولة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬وارين‭ ‬بيتي‭ ‬دايان‭ ‬كيتون‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬لويز‭ ‬بريانت‭ ‬وجاك‭ ‬نيكلسون‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدور‭ ‬الكاتب‭ ‬المسرحي‭ ‬الأمريكي‭ ‬يوجين‭ ‬أونيل‭. ‬وينطوي‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬شهادات‭ ‬لمعاصري‭ ‬جون‭ ‬ريد‭ ‬ومعارفه،‭ ‬مثل‭ ‬الناشط‭ ‬السياسي‭ ‬سكوت‭ ‬نيرنج‭ ‬ودوروثي‭ ‬فوكس‭ ‬وروجر‭ ‬بالدوين‭ ‬وهنري‭ ‬ميللر‭. ‬وقد‭ ‬حصل‭ ‬وارين‭ ‬بيتي‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬أوسكار‭ ‬أفضل‭ ‬مخرج‭. ‬وكان‭ ‬الفيلم‭ ‬منافسا‭ ‬لفيلم‭ ‬‮«‬عربات‭ ‬النار‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬الجائزة‭ ‬نفسها‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬دعوت‭ ‬صديقي‭ ‬حسن‭ ‬حنفي‭ ‬إلى‭ ‬مشاهدة‭ ‬الفيلم،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬لي،‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الأقطار‭ ‬الإسكندنافية‭. ‬وكان‭ ‬الجانب‭ ‬التاريخي‭ ‬جاذبا‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬مشاهدة‭ ‬الفيلم،‭ ‬وخصوصا‭ ‬تصوير‭ ‬أحداث‭ ‬الأيام‭ ‬العشرة‭ ‬التي‭ ‬هزت‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الصحفي‭ ‬الأمريكي‭ ‬اليساري‭ ‬جون‭ ‬ريد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ - ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬الروسي‭ ‬العظيم‭ ‬سيرجي‭ ‬أيزنشتاين‭ ‬قد‭ ‬أخرج‭ ‬فيلمه‭ ‬‮«‬أكتوبر‮»‬‭ (‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬هزت‭ ‬العالم‭) ‬سنة‭ ‬1928،‭ ‬مستغلا‭ ‬إمكانات‭ ‬السينما‭ ‬الصامتة‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬ملحمة‭ ‬شعرية‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالدعاية‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬يبقى‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬وارين‭ ‬بيتي‭ ‬هو‭ ‬كشفه‭ ‬للأوساط‭ ‬اليسارية‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬واستجاباتها‭ ‬المختلفة‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬الروسية‭ ‬التي‭ ‬يدين‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬لواحد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأوساط،‭ ‬هو‭ ‬جون‭ ‬ريد،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بتسجيل‭ ‬أهم‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الثورة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬العلامة‭.‬

أما‭ ‬الفيلم‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬يقترن‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬بأصدقاء‭ ‬استكهولم،‭ ‬فهو‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬مفيستو‮»‬،‭ ‬المنتج‭ ‬سنة‭ ‬1981،‭ ‬والذي‭ ‬لايزال‭ ‬إحدى‭ ‬كلاسيكيات‭ ‬السينما‭ ‬العالمية‭. ‬ومفيستو‭ ‬عنوان‭ ‬الفيلم‭ ‬مأخوذ‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬كلاوس‭ ‬مان‭ ‬‮«‬مفيستو‮»‬،‭ ‬وأخرجه‭ ‬ستيفنز‭ ‬نيفان‭ ‬زباتو،‭ ‬وبطولة‭ ‬كلاوس‭ ‬ماريا‭ ‬براندور‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬هندريك‭ ‬هوفجن‭. ‬والفيلم‭ ‬إنتاج‭ ‬مشترك‭ ‬لشركات‭ ‬سينما‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬الغربية‭ ‬وهنجاريا‭ ‬والنمسا‭. ‬وحبكة‭ ‬الفيلم‭ ‬مأخوذة‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬مفيستو‭ ‬والدكتور‭ ‬فاوست،‭ ‬وذلك‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬هندريك‭ ‬هوفجن‭ ‬الذي‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬ضميره،‭ ‬مرتميا‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬الحزب‭ ‬النازي،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬ممثلا،‭ ‬ويرتقي‭ ‬في‭ ‬مكانته‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وتقوم‭ ‬المفارقة‭ ‬الساخرة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬مرارة‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬أماني‭ ‬البطل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بتمثيل‭ ‬دور‭ ‬مفيستو،‭ ‬ولكنه‭ ‬لكي‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬الدور،‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يبيع‭ ‬روحه،‭ ‬فلا‭ ‬يدرك‭ ‬إلا‭ ‬متأخرا‭ ‬أنه‭ - ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ - ‬فاوست‭. ‬ويقوم‭ ‬قائد‭ ‬نازي‭ ‬بدور‭ ‬رئيس‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ (‬مجسدا‭ ‬شخصية‭ ‬هيرمان‭ ‬جورنج‭) ‬بوصفه‭ ‬مفيستو‭ ‬أو‭ ‬الشيطان‭ ‬الحقيقي‭. ‬وقد‭ ‬أدّى‭ ‬كلاوس‭ ‬براندور‭ ‬دوره‭ ‬ببراعة‭ ‬نادرة‭. ‬وكان‭ ‬الإخراج‭ ‬ذكيا‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬تعينه‭ ‬الموسيقى‭ ‬والمؤثرات‭ ‬الصوتية‭. ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬أوسكار‭ ‬أحسن‭ ‬فيلم‭ ‬أجنبي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دفعت‭ ‬به‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الهنجارية‭ ‬إلى‭ ‬مسابقة‭ ‬الأوسكار‭ ‬سنة‭ ‬1981‭. ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬نفسه،‭ ‬حصل‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬أفضل‭ ‬سيناريو‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬كان‭. ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬انفعلت‭ ‬بهذا‭ ‬الفيلم‭! ‬وأنا‭ ‬أشاهده‭ ‬مع‭ ‬أصدقاء‭ ‬سويديين‭. ‬وكنت‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬هندريك‭ ‬هوفجن‭ ‬نموذجا‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬باعوا‭ ‬من‭ ‬زملائي‭ ‬وبعض‭ ‬أساتذتي‭ ‬شرفهم‭ ‬الجامعي‭ ‬الوطني،‭ ‬إرضاء‭ ‬للسادات‭ ‬وصلحه‭ ‬مع‭ ‬العدو‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وتحالفه‭ ‬مع‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬سامحه‭ ‬وسامحهم‭ ‬الله‭.‬

هكذا،‭ ‬كنت‭ ‬أقضى‭ ‬أيامي‭ ‬في‭ ‬استكهولم‭ ‬التي‭ ‬أحببت‭ ‬ربيعها‭ ‬وصيفها،‭ ‬ولم‭ ‬أستسغ‭ - ‬قط‭ - ‬شتاءها،‭ ‬فهو‭ ‬أقسى‭ ‬شتاء‭ ‬واجهته‭ ‬في‭ ‬حياتي‭. ‬أما‭ ‬صيفها‭ ‬وربيعها‭ ‬فلهما‭ ‬عبق‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬لن‭ ‬أنساه‭ ‬ما‭ ‬حييت‭. ‬ومن‭ ‬الطريف‭ ‬أنني‭ ‬ظللت‭ ‬حوالي‭ ‬شهر‭ ‬أحكي‭ ‬عن‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬فتنتني‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬مفيستو‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬نسخة‭ ‬منه،‭ ‬رغم‭ ‬التقدم‭ ‬المذهل‭ ‬للوسائط‭ ‬المعرفية‭ ‬تكنولوجيا‭. ‬ولكني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬جامعة‭ ‬استكهولم،‭ ‬رأيت‭ ‬نموذجا‭ ‬مصريا‭ ‬لهندريك‭ ‬هوفجن،‭ ‬فقد‭ ‬أبلغني‭ ‬عطية‭ ‬عامر‭ ‬بضرورة‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬مدير‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة‭ ‬لنكون‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬استقبال‭ ‬ممثلي‭ ‬السفارة‭ ‬العراقية‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تهدي‭ ‬الجامعة‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭. ‬وذهبت‭ ‬معه‭ ‬باعتباره‭ ‬رئيسا‭ ‬لقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وأنا‭ ‬أستاذ‭ ‬في‭ ‬القسم‭. ‬وانتظرنا‭ ‬المسئول‭ ‬العراقي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بصحبة‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الكراتين‭ ‬مملوءة‭ ‬بالكتب‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬فتحنا‭ ‬الكراتين‭ ‬حتى‭ ‬وجدنا‭ ‬بداخلها‭ ‬نسخا‭ ‬مكررة‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬كبير‭ ‬الحجم‭ ‬عن‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬تأليفا‭ ‬وباللغتين‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ ‬ترجمة‭. ‬

وكان‭ ‬المؤلف‭ ‬أمير‭ ‬إسكندر‭ ‬الكاتب‭ ‬المصري‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أعرفه‭ ‬ماركسيا،‭ ‬هاجر‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬أيام‭ ‬السادات،‭ ‬حيث‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬الفخ‭ ‬كما‭ ‬وقع‭ ‬هندريك‭ ‬هوفجن‭. ‬وتصفحت‭ ‬النسخة‭ ‬العربية‭ ‬الفاخرة‭ ‬فوجدت‭ ‬العنوان‭ ‬‮«‬صدام‭ ‬حسين‭.. ‬مناضلا‭ ‬ومفكرا‭ ‬وإنسانا‮»‬‭ ‬والمؤلف‭ ‬الدكتور‭ ‬أمير‭ ‬إسكندر‭. ‬وحاولت‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬تمالك‭ ‬أعصابي‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أسبب‭ ‬حرجا‭ ‬لجامعة‭ ‬استكهولم،‭ ‬فممثل‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬ذات‭ ‬سيادة‭ ‬يأتيها‭ ‬بكتاب‭ ‬عن‭ ‬حاكم‭ ‬بلده‭. ‬والكاتب‭ ‬دكتور‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬العنوان،‭ ‬فوضعت‭ ‬قناعا‭ ‬على‭ ‬وجهي،‭ ‬وتسلمت‭ ‬نسخة‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬وأخرى‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬وعرفنا‭ ‬أنه‭ ‬ستذهب‭ ‬النسخ‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬القسم‭. ‬وكظمت‭ ‬غيظي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتهى‭ ‬الأمر،‭ ‬وعدت‭ ‬وعطية‭ ‬عامر‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬القسم‭. ‬ولا‭ ‬أذكر‭ ‬ماذا‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬غاضبا،‭ ‬لكني‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬عطية‭ ‬عامر‭ ‬ظل‭ ‬يضحك‭ ‬من‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عليها‭ ‬ملامح‭ ‬وجهي،‭ ‬فلم‭ ‬أملك‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أضحك‭ ‬معه‭. ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬ضحكا‭ ‬مرا،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نرى‭ ‬هندريك‭ ‬هوفجن‭ ‬باسم‭ ‬مصري‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أنهينا‭ ‬أعمالنا‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬حملت‭ ‬معي‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬مسكني،‭ ‬وكلي‭ ‬شوق‭ ‬لتصفحه،‭ ‬وظللت‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭ ‬طوال‭ ‬الطريق‭: ‬متى‭ ‬حمل‭ ‬أمير‭ ‬إسكندر‭ ‬درجة‭ ‬الدكتواره،‭ ‬وعهدي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بلا‭ ‬دكتوراه؟‭ ‬وماذا‭ ‬سيقول‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أعجب‭ ‬بما‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬صدام‭ ‬حسين؟

وأخيرا،‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬المسكن،‭ ‬وأخذت‭ ‬في‭ ‬تصفح‭ ‬الكتاب،‭ ‬وأقرأ‭ ‬ما‭ ‬يضحك‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬غاص‭ ‬إلى‭ ‬قرارة‭ ‬قرار‭ ‬الماركسية‭ ‬والوجودية‭ ‬والفكر‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭. ‬ولم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أكمل،‭ ‬فنحيت‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬عن‭ ‬الكتب،‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬أمحو‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭. ‬ولكن‭ ‬عطية‭ ‬عامر‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالى‭ ‬أبى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يذكرني،‭ ‬وأخذ‭ ‬يسألني‭ ‬أسئلة‭ ‬هزلية‭ ‬عن‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الأموال‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬الدكتور‭ ‬أمير‭ ‬إسكندر‭ ‬بعد‭ ‬تأليف‭ ‬الكتاب‭ ‬وطباعته؟‭! ‬وكم‭ ‬من‭ ‬أموال‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬تكلفتها‭ ‬الترجمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬والإنجليزية؟‭! ‬وهنا‭ ‬دخل‭ ‬صديق‭ ‬لنا‭ ‬عراقي،‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬ومعه‭ ‬الجنسية‭ ‬السويدية،‭ ‬وظل‭ ‬يحكي‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الأساطير‭ ‬عن‭ ‬الأرقام‭ ‬التي‭ ‬تقاضاها‭ ‬أمير‭ ‬إسكندر‭ ‬على‭ ‬تأليف‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يمحو‭ ‬الزمن‭ ‬فضيحته،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬استغرقنا‭ ‬في‭ ‬الضحك‭ ‬الساخر‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬هندريك‭ ‬هوفجن‭. ‬وأخيرا،‭ ‬خرجنا‭ ‬إلى‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬الجامعة‭. ‬

وقد‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬عاداتنا‭ ‬التي‭ ‬لاأزال‭ ‬أذكرها‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬مطعم‭ ‬الجامعة‭. ‬والحق‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مطعمان،‭ ‬واحد‭ ‬للطلاب‭ ‬رخيص‭ ‬الثمن،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬بوفيه‭ ‬مفتوح‭. ‬أما‭ ‬الثانى‭ ‬فهو‭ ‬للأساتذة،‭ ‬وهو‭ ‬أغلى‭ ‬ثمنا،‭ ‬وأكثر‭ ‬راحة‭ ‬لمن‭ ‬يريد‭ ‬الدردشة‭ ‬ساعة‭ ‬الغداء‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬ظهرا‭ ‬إلى‭ ‬الساعة‭ ‬الواحدة،‭ ‬وكانت‭ ‬تصحبنا‭ ‬أحيانا‭ ‬الصديقة‭ ‬العزيزة‭ ‬مارينا‭ ‬ستاج،‭ ‬وكانت‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬أطروحتها‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬وتعمل‭ ‬موظفة‭ ‬إدارية‭ ‬بالقسم‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬أنها‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تبديد‭ ‬وحشة‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬بأن‭ ‬أقامت‭ ‬لنا‭ ‬عشاء‭ ‬بهيجا،‭ ‬وتعمقت‭ ‬صداقتنا‭ ‬بسبب‭ ‬إعجابنا‭ ‬المشترك‭ ‬بيوسف‭ ‬إدريس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬كلانا‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬أديبا‭ ‬عالميا،‭ ‬يستحق‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬بالتأكيد‭. ‬وقد‭ ‬عرفت‭ - ‬بعد‭ ‬استقراري‭ - ‬أن‭ ‬جامعة‭ ‬استكهولم‭ ‬إحدى‭ ‬الجامعات‭ ‬السويدية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يطلب‭ ‬منها‭ ‬الترشيح‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬مجالاتها‭ ‬المختلفة،‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الجامعات‭ ‬ومراكز‭ ‬الأبحاث‭ ‬والمؤسسات‭ ‬العلمية‭ ‬أو‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العالم‭. ‬وقد‭ ‬أخبرني‭ ‬عطية‭ ‬عامر‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬باسم‭ ‬القسم‭ ‬ترشيحا‭ ‬لنجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وأصبح‭ ‬الترشيح‭ ‬بالطبع‭ ‬ترشيح‭ ‬الجامعة،‭ ‬ومرت‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬

وعندما‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬استكهولم،‭ ‬كان‭ ‬عطية‭ ‬عامر‭ ‬غاضبا‭ ‬على‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لبعض‭ ‬تصريحات‭ ‬له،‭ ‬اعتبرها‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬‮«‬التطــــبيع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرفضه‭ ‬كلانا،‭ ‬فتحمس‭ ‬عام‭ ‬1982‭ ‬لترشيح‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬ولم‭ ‬أعارضه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رأيي‭ - ‬ولايزال‭ -‬‭ ‬أن‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬عبقرية‭ ‬نادرة‭ ‬لا‭ ‬نظير‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وذلك‭ ‬بقدر‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ - ‬بدوره‭ ‬‭- ‬عبقرية‭ ‬نادرة‭ ‬لا‭ ‬نظير‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬عندما‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬أخبرت‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬بأن‭ ‬جامعة‭ ‬استكهولم‭ ‬قد‭ ‬قامت‭ ‬بترشيحه‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭. ‬وقد‭ ‬فرح‭ ‬يوسف‭- ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬‭- ‬فرحا‭ ‬شديدا‭. ‬وأخبرني‭ ‬في‭ ‬حماسة‭ ‬فرحته‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأساتذة‭ ‬السويديين‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬سويدية‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬قاموا‭ ‬بترشيحه‭. ‬ولم‭ ‬أرد‭ ‬أن‭ ‬أفسد‭ ‬فرحته‭ ‬بأن‭ ‬أقول‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬عشرات‭ ‬الجامعات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬تقوم‭ ‬بالترشيح،‭ ‬واكتفيت‭ ‬بمشاركته‭ ‬الفرحة‭ ‬وحسب،‭ ‬ومضينا‭ ‬في‭ ‬سهرتنا‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتوسطها‭ ‬دائما‭ ‬أمل‭ ‬دنقل،‭ ‬الذي‭ ‬يرجع‭ ‬إليه‭ ‬فضل‭ ‬توثيق‭ ‬علاقتي‭ ‬بيوسف‭ ‬إدريس‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العائلي‭. ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬ضم‭ ‬مجلسنا‭ ‬منزلي‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬أو‭ ‬منزل‭ ‬يوسف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬نبيلا‭ ‬شهما‭ ‬في‭ ‬موقفه‭ ‬عندما‭ ‬علم‭ ‬بنقلي‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭. ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬الكلمة‭ ‬البديعة‭ ‬في‭ ‬حزنها‭ ‬وشاعريتها‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬عندما‭ ‬أقمنا‭ ‬حفل‭ ‬تأبين‭ ‬لأمل‭ ‬دنقل‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬في‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬1983،‭ ‬قبل‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬حصول‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬على‭ ‬الجائزة‭. ‬وقد‭ ‬ثار‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬وأصدر‭ ‬تصريحات‭ ‬انفعالية‭ ‬عن‭ ‬استحقاقه‭ ‬للجائزة،‭ ‬لكن‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لم‭ ‬يغضب‭ ‬ولم‭ ‬يعاتبه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هدأ‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬وخصوصا‭ ‬أن‭ ‬الفرحة‭ ‬بوصول‭ ‬أول‭ ‬كاتب‭ ‬عربي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬نوبل‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1988‭ ‬كانت‭ ‬غامرة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المستويات‭. ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬الجميع‭ ‬فقد‭ ‬توفي‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬1991‭. ‬وقد‭ ‬لحق‭ ‬به‭ ‬نجيب‭ ‬محفـوظ‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬2006‭. ‬

أما‭ ‬عطية‭ ‬عامر،‭ ‬فقد‭ ‬ظلـــت‭ ‬علاقتــــي‭ ‬به‭ ‬وثيقة‭ ‬بعد‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬الســويد،‭ ‬وظـــللت‭ ‬أراه‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬تقريبا،‭ ‬وعرفت‭ ‬أنه‭ ‬أصدر‭ ‬كتابا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الريف‮»‬‭ ‬عن‭ ‬مكتبة‭ ‬الأنجلو‭ ‬المصرية‭ ‬سنة‭ ‬1996‭ ‬التي‭ ‬أصدرت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬اللاحق‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مع‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬في‭ ‬اللزوميات‮»‬‭. ‬ومرت‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬سرقـتني‭ ‬من‭ ‬الجامعـة‭,‬‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غرقت‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الثقافي‭ ‬العام،‭ ‬وخصوصا‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬2004‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تركت‭ ‬العمل‭ ‬الثقافي،‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬أكتفي‭ ‬بالتدريس‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وأخصص‭ ‬من‭ ‬وقتي‭ ‬ما‭ ‬يتيح‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬ذكرياتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬فكتبت‭ ‬مقالا‭ ‬نــشرته‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬صديــق‭ ‬محترم‭ ‬جدا‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬ديني‭ ‬العميق‭ ‬لعطية‭ ‬عامر‭. ‬ولكني‭ ‬فوجئــت‭ ‬بعد‭ ‬نشر‭ ‬المقال‭ ‬بأنه‭ ‬توفي‭ ‬في‭ ‬الثاني‭ ‬والعشــــرين‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬سنة‭ ‬2012‭ ‬عن‭ ‬تسعين‭ ‬عاما،‭ ‬ودفن‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬استكهولم‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬مستقرا‭ ‬له‭ ‬ولعائلته‭ ‬في‭ ‬السويد‭ ‬التي‭ ‬أحبها،‭ ‬ونقل‭ ‬لي‭ ‬عدوى‭ ‬حبها‭.. ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬رحمة‭ ‬واسعة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬نعم‭ ‬الصديق‭ ‬والراعي‭ ‬والسند‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬صعبة،‭ ‬أحالها‭ ‬إلى‭ ‬أيـــام‭ ‬بهيجة‭ ‬‭.