بين الملاحم الغربية والسِّيَر الشعبية العربية

بين الملاحم الغربية  والسِّيَر الشعبية العربية

السيرة‭ ‬فن‭ ‬شعبي‭ ‬عربي،‭ ‬والملحمة‭ ‬فن‭ ‬شعبي‭ ‬غربي‭. ‬ورغم‭ ‬اختلاف‭ ‬المصطلح‭ ‬الذي‭ ‬يُطلق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬منهما،‭ ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬اختلافات‭ ‬بنيوية‭ ‬أو‭ ‬مضمونية،‭ ‬فإنهما‭ ‬يشتركان‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬خصائصهما‭ ‬الفنية‭. ‬ولقد‭ ‬خلص‭ ‬أحمد‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬الحجاجي،‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬السيرة‭ ‬العربية‭ ‬والملحمة‭ ‬الغربية،‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينهما،‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يعتبر‭  ‬بنية‭ ‬الملحمة‭ ‬جزءاً‭ ‬أو‭ ‬باباً‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الشعبية،‭ ‬فالسيرة‭ ‬هي‭ ‬الكل،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الملحمة‭ ‬هي‭ ‬الجزء‭.‬

‭ ‬ولقد‭ ‬تجاوزت‭ ‬التشابهات‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الفنين‭ ‬ما‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬اختلافات‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬البنية‭ ‬والنص،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تجاوزت‭ ‬ما‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬اختلافات‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والمكان‭ ‬بكون‭ ‬أولهما‭ ‬عربياً‭ ‬والثاني‭ ‬غربياً‭. ‬ومن‭ ‬المتشابهات‭ ‬المهمة‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الفنين‭ ‬تركيزهما‭ ‬على‭ ‬موضوعات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الحرب‭ ‬والفروسية‭ ‬والحث‭ ‬على‭ ‬الثأر‭. ‬فالملحمة‭ ‬ذ‭ ‬لغوياً‭ ‬ذ‭ ‬مأخوذة‭ ‬من‭ ‬التلاحم‭ ‬واللقاء‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬والتحام‭ ‬الجسد‭ ‬بالجسد،‭ ‬فهي‭ ‬لغوياً‭ ‬االوقعة‭ ‬العظيمة‭ ‬القتلب،‭ ‬والملاحم‭ ‬مأخوذة‭ ‬امن‭ ‬اشتباك‭ ‬الناس‭ ‬واختلاطهم‭ ‬فيها‭ ‬كاشتباك‭ ‬لُحمة‭ ‬الثوب‭ ‬بالسَّدىب،‭ ‬والملحمة‭ ‬االحرب‭ ‬ذات‭ ‬القتل‭ ‬الشديدب‭. ‬وهيذ‭ ‬فنياً‭ ‬ذ‭ ‬اقصيدة‭ ‬طويلة‭ ‬تقص‭ ‬حادثة‭ ‬جليلة،‭ ‬وبطولات‭ ‬خارقةب‭. ‬أما‭ ‬السيرة‭ ‬فهي‭ ‬قصة‭ ‬حياة‭ ‬بطل‭ ‬أو‭ ‬قبيلة،‭ ‬بما‭ ‬تشتمل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬لقاءات‭ ‬وحروب‭ ‬وقتال‭. ‬ولقد‭ ‬رادفت‭ ‬المعاجم‭ ‬اللغوية‭ ‬بين‭ ‬الملحمة‭ ‬والسيرة،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬مرادفة‭ ‬بعض‭ ‬الدارسين‭ ‬بينهما‭. ‬وتتعدد‭ ‬مشاهد‭ ‬الحروب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منهما،‭ ‬للدرجة‭ ‬التي‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نعتبر‭ ‬كلا‭ ‬منهما‭ ‬مقطوعة‭ ‬أو‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المشاهد‭ ‬والحروب‭ ‬المتتابعة،‭ ‬وللدرجة‭ ‬التي‭ ‬يتشابه‭ ‬فيها‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬واللقاءات‭ ‬الحربية‭. ‬ولتأكيد‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬العالية‭ ‬من‭ ‬التشابه،‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ملحمتي‭ ‬الإلياذة‭ ‬والأوديسة،‭ ‬وفي‭ ‬السير‭ ‬الشعبية‭ ‬العربية‭.‬

فملحمة‭ ‬الإلياذة‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬مدينة‭ ‬طروادة‭ ‬ذ‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬الآسيوية‭ ‬القديمة‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬البوسفور‭- ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬خرائبها‭ ‬تحت‭ ‬تلال‭ ‬الرمال،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دمرتها‭ ‬القبائل‭ ‬الأيونية‭ ‬والأيولية‭ ‬والدورية‭ ‬ذ‭ ‬أسلاف‭ ‬الإغريق‭ ‬القدامى‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬طويلة،‭ ‬امتدت‭ ‬قرناً‭ ‬كاملاً‭ ‬قبل‭ ‬تسعمائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬ميلاد‭ ‬المسيح‭.  ‬وقد‭ ‬اختلفت‭ ‬الأسباب‭ ‬حول‭ ‬قيام‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أنها‭ ‬نشبت‭ ‬بسبب‭ ‬المنافسة‭ ‬على‭ ‬التجارة‭ ‬والسيطرة‭ ‬البحرية‭ ‬على‭ ‬جزر‭ ‬بحر‭ ‬إيجه،‭ ‬وعلى‭ ‬سواحل‭ ‬الأناضول‭ ‬وشمال‭ ‬اليونان‭. ‬أما‭ ‬هوميروس‭ ‬فيقدم‭ ‬سبباً‭ ‬فنياً؛‭ ‬إذ‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬نشبت‭ ‬بسبب‭ ‬اختطاف‭ ‬الملكة‭ ‬الإغريقية‭ ‬اهيلينب‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬الأمير‭ ‬الطروادي‭ ‬اباريسب،‭ ‬وانتهى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬استمرت‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭. ‬وإلياذة‭ ‬هوميروس‭ ‬لا‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬الحرب‭ ‬كلها،‭ ‬وإنما‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬اغضب‭ ‬أخيلب‭. ‬وتستغرق‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬العام‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الحرب‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الغضبة‭ ‬ذ‭ ‬الحدث‭ ‬الرئيس‭ ‬للملحمة‭ ‬ذ‭ ‬يروي‭ ‬هوميروس‭ ‬القصة،‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بالمشاجرة‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬بين‭ ‬اأخيلب‭ ‬وملك‭ ‬الرجال‭ ‬اأجاممنونب‭. ‬وتنتهي‭ ‬الإلياذة‭ ‬بتمزيق‭ ‬جثة‭ ‬هكتور،‭ ‬بطل‭ ‬طروادة،‭ ‬وابن‭ ‬ملكها‭. ‬

أما‭ ‬الأوديسة،‭ ‬فإنها‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬قصة‭ ‬عودة‭ ‬البطل‭ ‬الإغريقي‭ ‬أوديسيوس‭ ‬إلى‭ ‬مملكته‭ ‬اإيثاكاب‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬طروادة‭. ‬فلقد‭ ‬دخل‭ ‬أوديسيوس‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬وصراعات‭ ‬مع‭ ‬الآلهة؛‭ ‬نظراً‭ ‬إلى‭ ‬نسيانه‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬القرابين‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬الانتصار‭ ‬في‭ ‬حروبه،‭ ‬فدخل‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬ضد‭ ‬أبناء‭ ‬رب‭ ‬البحار‭ ‬نبتيون،‭ ‬فطارد‭ ‬الإله‭ ‬أوديسيوس‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬وحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالنفي‭ ‬لمدة‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬دياره‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نزل‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الآخر؛‭ ‬لكي‭ ‬يستعلم‭ ‬من‭ ‬حكماء‭ ‬الموتى‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭. ‬وفور‭ ‬عودته‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬وصراعات‭ ‬ذ‭ ‬متخفياً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرفه‭ ‬أحد‭ - ‬مع‭ ‬عشاق‭ ‬زوجته،‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬التقرب‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬وطلبها‭ ‬للزواج،‭ ‬ومنعها‭ ‬لذلك‭ ‬وفاء‭ ‬له،‭ ‬أثناء‭ ‬فترة‭ ‬غيابه،‭ ‬وينتهي‭ ‬الأمر‭ ‬بانتصار‭ ‬أوديسيوس‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬العشاق،‭ ‬وعودته‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭. ‬وموتيف‭ ‬دخول‭ ‬البطل‭ ‬في‭ ‬صراعات‭ ‬ذ‭ ‬متخفياً‭ ‬ذ‭ ‬مع‭ ‬عشاق‭ ‬زوجته،‭ ‬عقب‭ ‬عودته،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬أحد،‭ ‬موتيف‭ ‬عالمي‭ ‬مشهور‭. ‬ففي‭ ‬أدبنا‭ ‬الشعبي‭ ‬العربي‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يتواتر‭ ‬هذا‭ ‬الموتيف‭ ‬في‭ ‬الحكايات‭ ‬والسير‭ ‬الشعبية،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬اهارون‭ ‬الرشيد‭ ‬وزوجته‭ ‬حمامة‭ ‬اللقاب،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬الموجودة‭ ‬داخل‭ ‬السيرة‭ ‬الهلالية‭.‬

ويمكنني‭ ‬أن‭ ‬أعرض‭ ‬لوصف‭ ‬مشهد‭ ‬حرب‭ ‬في‭ ‬ملحمة‭ ‬الإلياذة‭ ‬بين‭ ‬أبوللو‭ ‬والطرواديين‭. ‬وهو‭ ‬مشهد‭ ‬طويل‭ ‬يستغرق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ست‭ ‬صفحات،‭ ‬وفيه‭ ‬يقول‭: ‬ا‭... ‬وتجددت‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬الفريقين‭ ‬بسبب‭ ‬هذا‭ ‬السهم،‭ ‬فكانت‭ ‬حربا‭ ‬دبونا‭ ‬طاشت‭ ‬من‭ ‬هولها‭ ‬الأحلام،‭ ‬وبلغت‭ ‬القلوب‭ ‬الحناجر،‭ ‬وزاغت‭ ‬الأبصار‭ ‬فما‭ ‬ترى‭ ‬إلا‭ ‬حميماً‭. ‬وعز‭ ‬على‭ ‬فينوس‭ ‬أن‭ ‬ينهزم‭ ‬جند‭ ‬طروادة‭... ‬وطرب‭ ‬الطرواديون‭ ‬لوجود‭ ‬رب‭ ‬القتال‭ ‬في‭ ‬صفوفهم‭ ‬يناصب‭ ‬أعداءهم‭ ‬الحرب،‭ ‬فيجعلها‭ ‬ضراما،‭ ‬ويصلصل‭ ‬دروعه‭ ‬فيوقع‭ ‬في‭ ‬قلوبهم‭ ‬الرعب،‭ ‬ويثير‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭ ‬الهلع،‭ ‬ويروعهم‭ ‬ترويعا‭. ‬وكانت‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬فينوس‭ ‬تنفث‭ ‬فيه‭ ‬سحرها،‭ ‬فكان‭ ‬لا‭ ‬يلقى‭ ‬فارسا‭ ‬إلا‭ ‬طعنه‭ ‬فيكبه‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬ثم‭ ‬يشكه‭ ‬فيجفوه‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬كأنما‭ ‬يتخذ‭ ‬منه‭ ‬هزواً‭ ‬وسخرياً‭. ‬وهرع‭ ‬أبوللو‭ ‬فأمطر‭ ‬الهيلانيين‭ ‬وابلا‭ ‬من‭ ‬سهامه‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬مست‭ ‬أحدا‭ ‬إلا‭ ‬أردته،‭ ‬وما‭ ‬قصدت‭ ‬صدرا‭ ‬إلا‭ ‬شقته‭...‬ب‭. ‬وهذا‭ ‬وصف‭ ‬لمشهد‭ ‬حرب‭ ‬آخرذ‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الأوديسة‭ - ‬بين‭ ‬أوديسيوس‭ ‬وجنوده‭ ‬وأهالي‭ ‬بلدة‭ ‬السيكون،‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أوديسيوس‭ ‬نفسه،‭ ‬فيقول‭: ‬ا‭... ‬فاجأونا‭ ‬بجيش‭ ‬عرمرم‭ ‬منهم‭ ‬ومن‭ ‬جيرانهم،‭ ‬وناضلونا‭ ‬عن‭ ‬مدينتهم‭ ‬فأوقعوا‭ ‬بنا،‭ ‬ولم‭ ‬يغننا‭ ‬أنَّا‭ ‬قاتلناهم‭ ‬حتى‭ ‬مطلع‭ ‬فجر‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬بل‭ ‬ظل‭ ‬فرسانهم‭ ‬الصناديد‭ ‬يكرون‭ ‬ويفرون‭ ‬حتى‭ ‬قذفوا‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬فوقفنا‭ ‬في‭ ‬سفائننا‭ ‬نناوشهم‭ ‬برماحنا‭... ‬وصمدنا‭ ‬لهم‭ ‬حتى‭ ‬توارت‭ ‬الشمس‭ ‬بالحجاب‭ ‬فانسحبنا‭ ‬نجر‭ ‬أذيال‭ ‬الهزيمة‭ ‬والخزي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتزع‭ ‬السكون‭ ‬فخار‭ ‬النصر‭. ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬الجند‭... ‬فوا‭ ‬أسفاه‭!...‬لقد‭ ‬افتقدت‭ ‬ستة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬كل‭ ‬سفينة‭... ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬المعركة‭ ‬الخاسرة‭...‬ب‭.‬

 

من‭ ‬الملحمة‭ ‬إلى‭ ‬السيرة

ولا‭ ‬يختلف‭ ‬الأمر‭ ‬كثيرا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬السير‭ ‬الشعبية،‭ ‬فالصراعات‭ ‬وكثرة‭ ‬الحروب‭ ‬ومقارعة‭ ‬السيوف‭ ‬بالسيوف‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬خصائص‭ ‬السيرة‭ ‬الشعبية،‭ ‬وإن‭ ‬اختلف‭ ‬أمر‭ ‬هذه‭ ‬الحروب‭ ‬بأنها‭ ‬لا‭ ‬تتضمن‭ ‬حروبا‭ ‬ضد‭ ‬الآلهة،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬تناولته‭ ‬الملاحم‭ ‬اليونانية؛‭ ‬نظرا‭ ‬إلى‭ ‬الاختلاف‭ ‬العقائدي‭ ‬بين‭ ‬الأمتين‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬واليونانية‭. ‬إذن،‭ ‬لم‭ ‬يباعد‭ ‬بين‭ ‬فني‭ ‬الملحمة‭ ‬والسيرة‭ ‬ما‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬جذري،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ميل‭ ‬الملحمة‭ ‬إلى‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬الآلهة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بطلها‭ ‬إلهاً‭ ‬أو‭ ‬نصف‭ ‬إله،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إحدى‭ ‬شخصياتها‭ ‬أو‭ ‬شخوصها‭ ‬إلهة‭ ‬أو‭ ‬إلهاً،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬السيرة‭ ‬أبطالها‭ ‬بشر،‭ ‬وأشخاصها‭ ‬بشر،‭ ‬وصراعها‭ ‬بشري،‭ ‬وإن‭ ‬نحت‭ ‬شخصياتها‭ ‬أو‭ ‬أحداثها‭ ‬أحيانا‭ ‬نحو‭ ‬الخوارق‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬بواقعي‭ ‬مألوف‭. ‬فالحروب‭ ‬في‭ ‬السير‭ ‬العربية‭ ‬حروب‭ ‬بشرية‭ -  ‬بشرية،‭ ‬وإن‭ ‬استعانت‭ ‬بعض‭ ‬الأحزاب‭ ‬بقوى‭ ‬خارقة‭ ‬كالجن‭ ‬والسحر‭ ‬أحياناً‭. ‬فسيرة‭ ‬الأميرة‭ ‬ذات‭ ‬الهمة‭ ‬هي‭ ‬حرب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استرداد‭ ‬فاطمة‭ ‬ابنة‭ ‬مظلوم‭ ‬اذات‭ ‬الهمةب‭ ‬لحقوقها‭ ‬وحقوق‭ ‬أبيها‭ ‬المهدرة‭. ‬أما‭ ‬سيرة‭ ‬عنترة‭ ‬بن‭ ‬شداد‭ ‬فإن‭ ‬البطل‭ ‬يخوض‭ ‬حروبه‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬نيل‭ ‬الحرية‭ ‬وتحرره‭ ‬من‭ ‬العبودية‭ ‬المفروضة‭ ‬عليه‭ ‬بسبب‭ ‬لونه،‭ ‬وإثبات‭ ‬أن‭ ‬اللون‭ ‬الأسود‭ ‬الون‭ ‬عربي‭ ‬أصيلب،‭ ‬وليس‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬عبودية‭ ‬صاحبه‭. ‬ولا‭ ‬تبتعد‭ ‬سيرة‭ ‬سيف‭ ‬بن‭ ‬ذي‭ ‬يزن‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬يخوضها‭ ‬سيف‭ ‬بن‭ ‬ذي‭ ‬يزن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬كتاب‭ ‬النيل‭. ‬والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬نلمسه‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬حمزة‭ ‬البهلوان‭ ‬وسيرة‭ ‬الظاهر‭ ‬بيبرس،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬الفارسية‭ ‬افيروز‭ ‬شاهب‭. ‬

وسيرة‭ ‬بني‭ ‬هلال‭ ‬تنحو‭ ‬المنحى‭ ‬نفسه،‭ ‬فنجدها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحلها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الحروب،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬تنتهي‭ ‬حرب‭ ‬إلا‭ ‬وتبدأ‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أشد‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ترويه‭ ‬االهلاليةب‭ ‬في‭ ‬مراحلها‭ ‬الأربع‭ (‬المواليد،‭ ‬والريادة‭ ‬والتغريبة‭ ‬والأيتام‭)‬،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬نصوصها‭ ‬المدونة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬رواياتها‭ ‬الشفاهية‭. ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نضرب‭ ‬مثالا‭ ‬هنا‭ ‬بالتوقف‭ ‬عند‭ ‬وصف‭ ‬مشهد‭ ‬حرب‭ ‬ذ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مشاهد‭ ‬الحروب‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬الهلالية‭ -  ‬وهو‭ ‬مشهد‭ ‬وصف‭ ‬حرب‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬الهلالية‭ ‬الشفاهية،‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬اليمني*،‭ ‬حيث‭ ‬يخوض‭ ‬البطل‭ ‬أبوالحلقان‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬زيد‭ ‬الهلالي‭ ‬حربا‭ ‬شرسة‭ ‬ضد‭ ‬الفارس‭ ‬سلمان‭ ‬ذ‭ ‬أحد‭ ‬قطّاع‭ ‬الطرق‭ - ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ابنة‭ ‬عمه‭ ‬سبيكة‭ ‬ابنة‭ ‬السلطان‭ ‬حسن‭ ‬بن‭ ‬سرحان؛‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬عرضه‭ ‬وشرفه‭. ‬وسنعرض‭ ‬لجزء‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬الوصفي‭ ‬للحرب‭ ‬لتأكيد‭ ‬تركيز‭ ‬السير‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬مشاهد‭ ‬الحروب‭ ‬وتكرارها؛‭ ‬تلبية‭ ‬لغرائز‭ ‬وقيم‭ ‬شعورية‭ ‬ولاشعورية‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الجمهور‭ ‬المتلقي‭ ‬لها،‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭- ‬بالطبع‭- ‬قيمة‭ ‬الفروسية‭. ‬

ونزلوا‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬لتنين

يا‭ ‬لطيف‭ ‬يلاَّ‭ ‬السلامة

من‭ ‬الصبح‭ ‬لما‭ ‬أضلم‭ ‬الليل

وبانت‭ ‬هوايل‭ ‬القيامة

***

وهيَّا‭ ‬لما‭ ‬أچبدوا‭ ‬لسلاح

يادي‭ ‬العجب‭ ‬والعچايب

وأبطال‭ ‬قاصده‭ ‬الكفاح

وواقفه‭ ‬عموم‭ ‬العرايب

***

ولتنين‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬ساطِّين

ع‭ ‬اللي‭ ‬وقع‭ ‬فِ‭ ‬النحاسة‭ ‬‭(‬1‭)‬

وأبو‭ ‬توب‭ ‬أبيض‭ ‬ملاه‭ ‬طين

والهِلف‭ ‬نايم‭ ‬ما‭ ‬حاسس

***

ولتنين‭ ‬عطوها‭ ‬لفَّات

لتنين‭ ‬عطوها‭ ‬لفَّات

وداقوا‭ ‬كاسات‭ ‬الندامه

عيكوشوا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬كِي‭ ‬‭(‬2‭) ‬آفات

وسلمان‭ ‬وابن‭ ‬سلامة

***

خلوا‭ ‬الطعن‭ ‬يا‭ ‬اخي‭ ‬تاني‭ ‬يوم

يادي‭ ‬العچب‭ ‬والعچايب

آهو‭ ‬الحلو‭ ‬ذاقوه‭ ‬علقوم‭ ‬‭(‬3‭)‬

وواقفه‭ ‬عموم‭ ‬الحبايب

***

وقَّفوها‭ ‬تالت‭ ‬يوم

وتاچي‭ ‬العواقب‭ ‬سلامة

وملمومه‭ ‬كل‭ ‬القوم

وحده‭ ‬خلوفة‭ ‬سلامة

ابن‭ ‬أبوزيد‭ ‬اتعدل‭ ‬واهو‭ ‬چاه

وع‭ ‬اليد‭ ‬ماسك‭ ‬اليماني

وعقف‭ ‬له‭ ‬السيف‭ ‬مناداه

قام‭ ‬چابه‭ ‬تلات‭ ‬كيماني

***

وقع‭ ‬قائد‭ ‬الجيش‭ ‬ولَّت‭ ‬القوة

وقع‭ ‬الجيش‭ ‬ولَّت‭ ‬القوة

والولد‭ ‬جسمه‭ ‬ما‭ ‬حامل‭ ‬خلايق

الولد‭ ‬أبوزيد‭ ‬چاته‭ ‬شدة‭ ‬بقوة

فيكم‭ ‬ما‭ ‬ابقِّي‭ ‬خلايق

 

وقد‭ ‬آثرنا‭ ‬عدم‭ ‬نقل‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬كامل،‭ ‬خشية‭ ‬الإطالة،‭ ‬فالمشهد‭ ‬طويل‭ ‬وتفصيلي،‭ ‬وأشدّ‭ ‬المشاهد‭ ‬جذباً‭ ‬للجمهور‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬الهلالية‭.‬

***

وتتفق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬السير‭ ‬الشعبية‭ ‬العربية،‭ ‬باستثناء‭ ‬سيرة‭ ‬واحدة‭ ‬تتوسل‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬أهدافها‭ ‬بالمعرفة‭ ‬والعقل،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬والحرب،‭ ‬وهي‭ ‬سيرة‭ ‬اعلي‭ ‬الزيبقب‭.‬

وفي‭ ‬إفريقيا‭ ‬نجد‭ ‬الدارسين‭ ‬الغربيين‭ - ‬وقد‭ ‬تابعهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الباحثون‭ ‬العرب‭ - ‬يستخدمون‭ ‬مصطلح‭ ‬املحمةب‭ ‬للإشارة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‭ ‬الشعبي،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬ملحمة‭ ‬اسونجاتا‭ ‬كيتاب‭. ‬فمن‭ ‬يتأمل‭ ‬ملحمة‭ ‬اسونجاتا‭: ‬ملحمة‭ ‬شعب‭ ‬الماندينجب،‭ ‬يجد‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬كونها‭ ‬إحدى‭ ‬حلقات‭ ‬السيرة،‭ ‬وتحديدا‭ ‬حلقة‭ ‬االمواليدب‭. ‬فالملحمة‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬ميلاد‭ ‬البطل‭ ‬سونجاتا،‭ ‬والمخاطر‭ ‬التي‭ ‬واجهته‭ ‬منذ‭ ‬قبل‭ ‬ولادته،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ولادته،‭ ‬ورحيله‭ ‬عن‭ ‬بلاد‭ ‬الماندينج‭ (‬إمبراطورية‭ ‬مالي‭ ‬القديمة‭)‬،‭  ‬ثم‭ ‬اغترابه،‭ ‬وكفاحه‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬موطنه‭ ‬الأساسي،‭ ‬وتعرف‭ ‬أهل‭ ‬بلدته‭ ‬عليه،‭ ‬ثم‭ ‬الاعتراف‭ ‬به‭ ‬بطلا‭ ‬شعبيا،‭ ‬وتنصيبه‭ ‬ملكا‭ ‬عليها؛‭ ‬تحقيقا‭ ‬لوصية‭ ‬الملك‭ ‬الأب‭ ‬ناريه‭ ‬ماغان‭ ‬جاتا‭ ‬Nare Maghan Djata‭. ‬ومن‭ ‬يتأمل‭ ‬هذه‭ ‬الملحمة‭ ‬يكتشف‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬كونها‭ ‬حلقة‭ ‬أولية‭ ‬من‭ ‬الحلقات‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬السير‭ ‬الشعبية‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬االمواليدب،‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬السير‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬ما‭ ‬انتهى‭ ‬إليه‭ ‬الحجاجي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬تفرقته‭ ‬بين‭ ‬السيرة‭ ‬والملحمة‭. ‬هذا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬اقترابها‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬السير‭ ‬العربية‭ ‬بعدم‭ ‬ميلها‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬أبطال‭ ‬من‭ ‬الآلهة‭ ‬أو‭ ‬نصف‭ ‬الآلهة،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الملاحم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشي‭ ‬بتأثر‭ ‬إسلامي‭ ‬بالملاحم‭ ‬الإفريقية‭.‬

      ‬الخلاصة‭ ‬التي‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬أن‭ ‬التقنية‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬الملاحم‭ ‬الغربية‭ ‬أو‭ ‬الإفريقية‭ ‬أو‭ ‬السير‭ ‬العربية‭ ‬تعد‭ ‬واحدة،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬تقنية‭ ‬الحرب،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬أسباب‭ ‬هذه‭ ‬الحروب،‭ ‬وأشكالها‭. ‬

 

تأثير‭ ‬متبادل

ولقد‭ ‬توقف‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬عند‭ ‬دراسة‭ ‬علاقة‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬بين‭ ‬السير‭ ‬العربية‭ (‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬الزير‭ ‬سالم‭)‬،‭ ‬والملاحم‭ ‬اليونانية‭ (‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬ملحمتي‭ ‬أوريست‭ ‬وهاملت‭)‬،‭ ‬محاولا‭ ‬تفسير‭ ‬هذا‭ ‬التشابه‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬السير‭ ‬العربية‭ ‬والملاحم‭ ‬الغربية،‭ ‬فيقول‭: ‬اإن‭ ‬حلقة‭ ‬حسان‭ ‬اليماني‭ ‬في‭ ‬ملحمة‭ ‬االزير‭ ‬سالمب‭ ‬تمثل‭ ‬إدماجا‭ ‬لأسطورتين‭ ‬نابعتين‭ ‬من‭ ‬أسطورة‭ ‬اختطاف‭ ‬هيلانة،‭ ‬وحرب‭ ‬طروادة،‭ ‬إحداهما‭ ‬هي‭ ‬انتقام‭ ‬الزوج‭ ‬وإله‭ ‬من‭ ‬خاطف‭ ‬الزوجة‭ (‬انتقام‭ ‬أجاممنون‭ ‬من‭ ‬باريس‭)‬،‭ ‬والأخرى‭ ‬هي‭ ‬انتقام‭ ‬الابن‭ ‬من‭ ‬قاتل‭ ‬أبيه‭ ‬ومغتصب‭ ‬فراشه‭ (‬انتقام‭ ‬أوريست‭ ‬ذ‭ ‬هاملت‭ ‬من‭ ‬إيجيست‭ ‬ذ‭ ‬كلوديوس‭). ‬وقد‭ ‬اختلطت‭ ‬هاتان‭ ‬الحلقتان‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬الرواة،‭ ‬إما‭ ‬مصادفة‭ ‬بسبب‭ ‬تجاور‭ ‬المواويل‭ ‬وعملية‭ ‬التراكم‭ ‬الملحمي،‭ ‬وإما‭ ‬عمداً‭ ‬عند‭ ‬الاقتباس‭ ‬والتعريب‭ ‬بما‭ ‬يلائم‭ ‬البيئة‭ ‬العربية‭ ‬والتاريخ‭ ‬العربي‭. ‬وأيا‭ ‬كان‭ ‬الأمر،‭ ‬فالحلقتان‭ ‬نابعتان‭ ‬من‭ ‬أسطورة‭ ‬أجاممنون‭ ‬العظيمب‭. ‬ورغم‭ ‬تحفظي‭ ‬عن‭ ‬إطلاق‭ ‬مصطلح‭ ‬االملحمةب‭ ‬على‭ ‬سيرة‭ ‬الزير‭ ‬سالم،‭ ‬فمصطلح‭ ‬ملحمة‭ ‬مصطلح‭ ‬غربي‭ ‬وإطلاقه‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬الشعبية‭ ‬العربية‭ ‬غير‭ ‬دقيق،‭ ‬والمصطلح‭ ‬الأكثر‭ ‬دقة‭ ‬هو‭ ‬اسيرةب‭. ‬وكذلك‭ ‬رغم‭ ‬الخلط‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬كلام‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬بين‭ ‬مصطلحي‭ ‬الملحمة‭ ‬والأسطورة،‭ ‬فإنه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬قدم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬النصوص‭ ‬الشعبية،‭ ‬وقوة‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬بين‭ ‬الحضارات‭ ‬والثقافات‭ ‬الإنسانية‭. ‬وينظر‭ ‬عوض‭ ‬إلى‭ ‬الملاحم‭ ‬الشعبية‭ ‬نظرة‭ ‬إنسانية،‭ ‬فيجعل‭ ‬كل‭ ‬ملحمة‭ ‬منها‭ ‬بمنزلة‭ ‬طبقة‭ ‬أو‭ ‬فترة‭ ‬حضارية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬تفيد‭ ‬من‭ ‬سابقاتها،‭ ‬وتوظفها‭ ‬توظيفاً‭ ‬إنسانياً،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يخدم‭ ‬خصوصية‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يرويها،‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬والتاريخي‭ ‬والحضاري،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطمس‭ ‬معالمها‭ ‬الأولية‭ ‬التي‭ ‬أفادت‭ ‬منها‭. ‬فيرى‭ ‬أن‭: ‬املحمة‭ ‬االزير‭ ‬سالمب‭ ‬تشتمل‭ ‬على‭ ‬طبقات‭ ‬أسطورية‭ ‬وتاريخية‭ ‬شبيهة‭ ‬بالطبقات‭ ‬الجيولوجية،‭ ‬فكلما‭ ‬تعاقبت‭ ‬العصور‭ ‬عدلها‭ ‬المؤلفون‭ ‬أو‭ ‬المترجمون‭ ‬أو‭ ‬المقتبسون‭ ‬بما‭ ‬يوافق‭ ‬حضارتهم،‭ ‬وأضافوا‭ ‬إليها‭ ‬سمات‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬عصرهم،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الإضافات‭ ‬ذ‭ ‬لسوء‭ ‬حظ‭ ‬الأدب،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظ‭ ‬العلم‭ ‬ذ‭ ‬لم‭ ‬تطمس‭ ‬الطبقات‭ ‬القديمة‭ ‬السالفة‭ ‬المتراكمة‭ ‬عبر‭ ‬الأجيالب‭. ‬

كما‭ ‬توقف‭ ‬خطري‭ ‬عرابي‭ ‬عند‭ ‬دراسة‭ ‬ظاهرة‭ ‬التشابه‭ ‬هذه،‭ ‬وعلاقة‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬بين‭ ‬السير‭ ‬الشعبية‭ ‬العربية‭ ‬والملاحم‭ ‬الغربية،‭ ‬وعلاقة‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬بالتراث‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬والثقافات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأخرى،‭ ‬فيرى‭ ‬أن‭ ‬اكثيرا‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬السير‭ ‬استقاها‭ ‬الراوي‭ ‬الشعبي‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬بمفهومه‭ ‬الشامل،‭ ‬الذي‭ ‬يشتمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬على‭ ‬تراث‭ ‬حضارات‭ ‬وشعوب‭ ‬مختلفة،‭ ‬ويكمن‭ ‬عمل‭ ‬الراوي‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬تجميع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬المتوارث‭ ‬وربطه‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬فنية‭ ‬واحدة‭ ‬متماسكة،‭ ‬بعد‭ ‬إعادة‭ ‬توظيفه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬موضوع‭ ‬واحد‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬دور‭ ‬راوي‭ ‬السيرة‭ ‬ذ‭ ‬أو‭ ‬مبدعها‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬ذلك‭ ‬الكم‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مثال‭ ‬سابق،‭ ‬إنما‭ ‬يكمن‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬الاختيار،‭ ‬والربط‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬القصص،‭ ‬وتوظيفه‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬أو‭ ‬قضية‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يعالجها،‭ ‬محدثا‭ ‬التغييرات‭ ‬اللازمة‭ ‬بما‭ ‬يتفق‭ ‬وطبيعة‭ ‬موضوعهب‭. ‬

وتنتهي‭ ‬نبيلة‭ ‬إبراهيم‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭ ‬علاقة‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬بين‭ ‬الملاحم‭ ‬الغربية‭ ‬والسير‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬الرسالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬كل‭ ‬منهما،‭ ‬متوقفة‭  ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬ملحمة‭ ‬سيرة‭ ‬الأميرة‭ ‬ذات‭ ‬الهمة،‭ ‬وملحمة‭ ‬ديجنيس‭. ‬وقد‭ ‬مثلت‭ ‬لذلك‭ ‬بالرسالة‭ ‬السياسية‭ ‬والإنسانية‭ ‬التي‭ ‬ترغب‭ ‬ملحمة‭ ‬ديجنيس‭ ‬في‭ ‬توصيلها‭. ‬فعندما‭ ‬طلب‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الروماني‭ ‬من‭ ‬ديجنيس‭/ ‬البطل‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬ما‭ ‬يشاء‭ ‬عرفانا‭ ‬ببطولته،‭ ‬رد‭ ‬ديجنيس‭ ‬عليه‭ ‬قائلا‭: ‬اسيدي‭ ‬إن‭ ‬الصواب‭ ‬ألا‭ ‬نأخذ،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬نعطي‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أطلب‭ ‬منك‭ ‬شيئاً،‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬تشفق‭ ‬على‭ ‬الفقراء،‭ ‬وأن‭ ‬توزع‭ ‬عدلك‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬وأن‭ ‬تعفو‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬اللين،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مؤمناً‭ ‬بالله‭ ‬إيماناً‭ ‬صادقاً‭. ‬هذه‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬هي‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬توصلك‭ ‬إلى‭ ‬الحق‭. ‬وهي‭ ‬سلاحك‭ ‬ضد‭ ‬أعدائك‭. ‬فالحكم‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬لا‭ ‬يغتصب‭ ‬بالقوة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تحتفظ‭ ‬به‭ ‬بالقوةب‭.‬

ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬السير‭ ‬الشعبية‭ ‬العربية‭ ‬والملاحم‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬وبنيتها،‭ ‬وإنما‭ ‬يمتد‭ ‬التشابه‭ ‬ليشمل‭ ‬أيضا‭ ‬التشابه‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬طبيعة‭ ‬الأداء‭ ‬الشفاهي‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭. ‬فالراوي‭ ‬رجل‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬آلات‭ ‬موسيقية‭ ‬شعبية،‭ ‬ويؤديها‭ ‬إلى‭ ‬جمهور‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬البالغين‭ ‬الناضجين،‭ ‬والنص‭ ‬مليء‭ ‬بقيم‭ ‬الرجولة‭ ‬والبطولة‭ ‬والفروسية‭ ‬التي‭ ‬يسعى‭ ‬الراوي‭ ‬إلى‭ ‬غرسها‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬جمهوره‭. ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬نظرته،‭ ‬وكذلك‭ ‬نظرة‭ ‬الجمهور‭ ‬إليها‭ ‬باعتبارها‭ ‬تاريخا‭ ‬له‭ ‬جذور‭ ‬حقيقية،‭ ‬وليست‭ ‬مجرد‭ ‬أقاصيص‭ ‬خيالية‭ ‬لا‭ ‬أصل‭ ‬لها‭. ‬أي‭ ‬إن‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬العالمي‭ (‬العربي‭ ‬والغربي‭) ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يتشابه‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬يحملها؛‭ ‬لتشابه‭ ‬طرق‭ ‬الأداء،‭ ‬كمحاولته‭ ‬نقل‭ ‬قيم‭ ‬الرجولة‭ ‬والبطولة‭ ‬في‭ ‬الثقافتين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نوعين‭ ‬أدبيين‭ ‬شعبيين،‭ ‬قاربت‭ ‬ظروف‭ ‬أدائهما‭ ‬بينهما‭. ‬هذا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى،‭ ‬خاصة‭  ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬بالدين‭ ‬والعقيدة‭. ‬فالملحمة‭ ‬والسيرة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نصنفهما‭ ‬على‭ ‬أنهما‭ ‬نوعان‭ ‬أدبيان‭ ‬ذكوريان،‭ ‬إنْ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الرواية‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الموضوعات‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الجمهور‭ ‬المتلقي‭ ‬لهما‭ >‬

 

‭(‬*‭) ‬الشاعر‭ ‬الشعبي‭ ‬الراحل‭: ‬محمد‭ ‬اليمني‭ ‬عبدالباقي‭ ‬وشهرته‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬عماد‮»‬‭ - ‬مواليد‭ ‬1935،‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬عزبة‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬هِو‭ ‬بمركز‭ ‬نجع‭ ‬حمادي،‭ ‬محافظة‭ ‬قنا،‭ ‬مصر‭. ‬وهو‭ ‬شاعر‭ ‬شعبي‭ ‬محترف‭.‬

‭ ‬تم‭ ‬تسجيل‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬احتفالية‭ ‬ليلة‭ ‬الحنّة‭ ‬التي‭ ‬أحياها‭ ‬بعزبة‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬هِو‭  ‬مساء‭ ‬السبت‭ ‬15‭/‬8‭/‬2004م‭.‬

‭(‬1‭)‬‭ ‬النحاسة‭: ‬النحس‭ ‬أو‭ ‬الشؤم‭.‬

‭(‬2‭)‬  ‬كي‭: ‬مثل‭.‬

‭(‬3‭)‬‭ ‬علقوم‭: ‬علقم‭.‬