بين الملاحم الغربية والسِّيَر الشعبية العربية

السيرة فن شعبي عربي، والملحمة فن شعبي غربي. ورغم اختلاف المصطلح الذي يُطلق على كل منهما، ورغم ما بينهما من اختلافات بنيوية أو مضمونية، فإنهما يشتركان في كثير من خصائصهما الفنية. ولقد خلص أحمد شمس الدين الحجاجي، في دراسته للعلاقة بين السيرة العربية والملحمة الغربية، إلى وجود درجة عالية من التشابه في ما بينهما، إلى الحد الذي جعله يعتبر بنية الملحمة جزءاً أو باباً من السيرة الشعبية، فالسيرة هي الكل، في حين أن الملحمة هي الجزء.
ولقد تجاوزت التشابهات التي بين هذين الفنين ما بينهما من اختلافات في بعض الأحيان على مستوى البنية والنص، كما أنها تجاوزت ما بينهما من اختلافات في اللغة والمكان بكون أولهما عربياً والثاني غربياً. ومن المتشابهات المهمة بين هذين الفنين تركيزهما على موضوعات من قبيل الحرب والفروسية والحث على الثأر. فالملحمة ذ لغوياً ذ مأخوذة من التلاحم واللقاء في الحرب، والتحام الجسد بالجسد، فهي لغوياً االوقعة العظيمة القتلب، والملاحم مأخوذة امن اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لُحمة الثوب بالسَّدىب، والملحمة االحرب ذات القتل الشديدب. وهيذ فنياً ذ اقصيدة طويلة تقص حادثة جليلة، وبطولات خارقةب. أما السيرة فهي قصة حياة بطل أو قبيلة، بما تشتمل عليه من لقاءات وحروب وقتال. ولقد رادفت المعاجم اللغوية بين الملحمة والسيرة، على غرار مرادفة بعض الدارسين بينهما. وتتعدد مشاهد الحروب في كل منهما، للدرجة التي يمكننا أن نعتبر كلا منهما مقطوعة أو سلسلة من المشاهد والحروب المتتابعة، وللدرجة التي يتشابه فيها وصف هذه المشاهد واللقاءات الحربية. ولتأكيد هذه الدرجة العالية من التشابه، فلابد من التوقف عند مثل هذه المشاهد في كل من ملحمتي الإلياذة والأوديسة، وفي السير الشعبية العربية.
فملحمة الإلياذة تحكي قصة مدينة طروادة ذ تلك المدينة الآسيوية القديمة الواقعة على شاطئ البوسفور- حيث وجدت خرائبها تحت تلال الرمال، بعد أن دمرتها القبائل الأيونية والأيولية والدورية ذ أسلاف الإغريق القدامى ذ في حروب طويلة، امتدت قرناً كاملاً قبل تسعمائة عام من ميلاد المسيح. وقد اختلفت الأسباب حول قيام هذه الحرب، فهناك من يرى أنها نشبت بسبب المنافسة على التجارة والسيطرة البحرية على جزر بحر إيجه، وعلى سواحل الأناضول وشمال اليونان. أما هوميروس فيقدم سبباً فنياً؛ إذ يرى أن الحرب نشبت بسبب اختطاف الملكة الإغريقية اهيلينب على يدي الأمير الطروادي اباريسب، وانتهى إلى أن الحرب استمرت عشر سنوات. وإلياذة هوميروس لا تحكي قصة الحرب كلها، وإنما تحكي قصة اغضب أخيلب. وتستغرق هذه القصة العام الأخير من الحرب. ومن خلال هذه الغضبة ذ الحدث الرئيس للملحمة ذ يروي هوميروس القصة، التي تبدأ بالمشاجرة التي وقعت بين اأخيلب وملك الرجال اأجاممنونب. وتنتهي الإلياذة بتمزيق جثة هكتور، بطل طروادة، وابن ملكها.
أما الأوديسة، فإنها تدور حول قصة عودة البطل الإغريقي أوديسيوس إلى مملكته اإيثاكاب بعد سقوط طروادة. فلقد دخل أوديسيوس في حروب وصراعات مع الآلهة؛ نظراً إلى نسيانه أن يقدم القرابين لها بعد الانتصار في حروبه، فدخل في حرب ضد أبناء رب البحار نبتيون، فطارد الإله أوديسيوس في البحر، وحكم عليه بالنفي لمدة عشر سنوات، ولم يستطع أن يعود إلى دياره إلا بعد أن نزل إلى العالم الآخر؛ لكي يستعلم من حكماء الموتى عن كيفية العودة إلى وطنه. وفور عودته دخل في حروب وصراعات ذ متخفياً من دون أن يعرفه أحد - مع عشاق زوجته، الذين حاولوا التقرب من زوجته وطلبها للزواج، ومنعها لذلك وفاء له، أثناء فترة غيابه، وينتهي الأمر بانتصار أوديسيوس على هؤلاء العشاق، وعودته إلى زوجته. وموتيف دخول البطل في صراعات ذ متخفياً ذ مع عشاق زوجته، عقب عودته، من دون أن يشعر به أحد، موتيف عالمي مشهور. ففي أدبنا الشعبي العربي ذ على سبيل المثال - كثيرا ما يتواتر هذا الموتيف في الحكايات والسير الشعبية، كما هي الحال في حكاية اهارون الرشيد وزوجته حمامة اللقاب، وكذلك في عدد من القصص الموجودة داخل السيرة الهلالية.
ويمكنني أن أعرض لوصف مشهد حرب في ملحمة الإلياذة بين أبوللو والطرواديين. وهو مشهد طويل يستغرق أكثر من ست صفحات، وفيه يقول: ا... وتجددت الحرب بين الفريقين بسبب هذا السهم، فكانت حربا دبونا طاشت من هولها الأحلام، وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار فما ترى إلا حميماً. وعز على فينوس أن ينهزم جند طروادة... وطرب الطرواديون لوجود رب القتال في صفوفهم يناصب أعداءهم الحرب، فيجعلها ضراما، ويصلصل دروعه فيوقع في قلوبهم الرعب، ويثير في نفوسهم الهلع، ويروعهم ترويعا. وكانت إلى جانبه فينوس تنفث فيه سحرها، فكان لا يلقى فارسا إلا طعنه فيكبه على وجهه، ثم يشكه فيجفوه من الأرض، كأنما يتخذ منه هزواً وسخرياً. وهرع أبوللو فأمطر الهيلانيين وابلا من سهامه التي ما مست أحدا إلا أردته، وما قصدت صدرا إلا شقته...ب. وهذا وصف لمشهد حرب آخرذ ورد في الأوديسة - بين أوديسيوس وجنوده وأهالي بلدة السيكون، جاء على لسان أوديسيوس نفسه، فيقول: ا... فاجأونا بجيش عرمرم منهم ومن جيرانهم، وناضلونا عن مدينتهم فأوقعوا بنا، ولم يغننا أنَّا قاتلناهم حتى مطلع فجر اليوم التالي، بل ظل فرسانهم الصناديد يكرون ويفرون حتى قذفوا بنا في البحر، فوقفنا في سفائننا نناوشهم برماحنا... وصمدنا لهم حتى توارت الشمس بالحجاب فانسحبنا نجر أذيال الهزيمة والخزي، بعد أن انتزع السكون فخار النصر. وعدت إلى الجند... فوا أسفاه!...لقد افتقدت ستة من رجال كل سفينة... سقطوا في المعركة الخاسرة...ب.
من الملحمة إلى السيرة
ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة إلى السير الشعبية، فالصراعات وكثرة الحروب ومقارعة السيوف بالسيوف تعد من أهم خصائص السيرة الشعبية، وإن اختلف أمر هذه الحروب بأنها لا تتضمن حروبا ضد الآلهة، على نحو ما تناولته الملاحم اليونانية؛ نظرا إلى الاختلاف العقائدي بين الأمتين العربية الإسلامية واليونانية. إذن، لم يباعد بين فني الملحمة والسيرة ما بينهما من اختلاف جذري، من حيث ميل الملحمة إلى الصراع مع الآلهة، أو أن يكون بطلها إلهاً أو نصف إله، أو أن تكون إحدى شخصياتها أو شخوصها إلهة أو إلهاً، في حين أن السيرة أبطالها بشر، وأشخاصها بشر، وصراعها بشري، وإن نحت شخصياتها أو أحداثها أحيانا نحو الخوارق أو إلى ما هو ليس بواقعي مألوف. فالحروب في السير العربية حروب بشرية - بشرية، وإن استعانت بعض الأحزاب بقوى خارقة كالجن والسحر أحياناً. فسيرة الأميرة ذات الهمة هي حرب من أجل استرداد فاطمة ابنة مظلوم اذات الهمةب لحقوقها وحقوق أبيها المهدرة. أما سيرة عنترة بن شداد فإن البطل يخوض حروبه دفاعاً عن حقه في نيل الحرية وتحرره من العبودية المفروضة عليه بسبب لونه، وإثبات أن اللون الأسود الون عربي أصيلب، وليس دليلا على عبودية صاحبه. ولا تبتعد سيرة سيف بن ذي يزن كثيرا عن هذا الشأن، من خلال الحروب التي يخوضها سيف بن ذي يزن من أجل كتاب النيل. والأمر نفسه نلمسه في سيرة حمزة البهلوان وسيرة الظاهر بيبرس، وكذلك في السيرة الفارسية افيروز شاهب.
وسيرة بني هلال تنحو المنحى نفسه، فنجدها في كل مراحلها عبارة عن سلسلة من الحروب، فما إن تنتهي حرب إلا وتبدأ أخرى على نحو أشد. وهذا ما ترويه االهلاليةب في مراحلها الأربع (المواليد، والريادة والتغريبة والأيتام)، سواء في نصوصها المدونة أو في رواياتها الشفاهية. ويكفي أن نضرب مثالا هنا بالتوقف عند وصف مشهد حرب ذ من بين مشاهد الحروب المتعددة في الهلالية - وهو مشهد وصف حرب في السيرة الهلالية الشفاهية، للشاعر محمد اليمني*، حيث يخوض البطل أبوالحلقان بن أبي زيد الهلالي حربا شرسة ضد الفارس سلمان ذ أحد قطّاع الطرق - من أجل ابنة عمه سبيكة ابنة السلطان حسن بن سرحان؛ دفاعا عن عرضه وشرفه. وسنعرض لجزء من المشهد الوصفي للحرب لتأكيد تركيز السير العربية على إبراز مشاهد الحروب وتكرارها؛ تلبية لغرائز وقيم شعورية ولاشعورية في نفوس الجمهور المتلقي لها، على رأس هذه القيم- بالطبع- قيمة الفروسية.
ونزلوا مع بعض لتنين
يا لطيف يلاَّ السلامة
من الصبح لما أضلم الليل
وبانت هوايل القيامة
***
وهيَّا لما أچبدوا لسلاح
يادي العجب والعچايب
وأبطال قاصده الكفاح
وواقفه عموم العرايب
***
ولتنين مع بعض ساطِّين
ع اللي وقع فِ النحاسة (1)
وأبو توب أبيض ملاه طين
والهِلف نايم ما حاسس
***
ولتنين عطوها لفَّات
لتنين عطوها لفَّات
وداقوا كاسات الندامه
عيكوشوا على بعض كِي (2) آفات
وسلمان وابن سلامة
***
خلوا الطعن يا اخي تاني يوم
يادي العچب والعچايب
آهو الحلو ذاقوه علقوم (3)
وواقفه عموم الحبايب
***
وقَّفوها تالت يوم
وتاچي العواقب سلامة
وملمومه كل القوم
وحده خلوفة سلامة
ابن أبوزيد اتعدل واهو چاه
وع اليد ماسك اليماني
وعقف له السيف مناداه
قام چابه تلات كيماني
***
وقع قائد الجيش ولَّت القوة
وقع الجيش ولَّت القوة
والولد جسمه ما حامل خلايق
الولد أبوزيد چاته شدة بقوة
فيكم ما ابقِّي خلايق
وقد آثرنا عدم نقل وصف هذه المعركة على نحو كامل، خشية الإطالة، فالمشهد طويل وتفصيلي، وأشدّ المشاهد جذباً للجمهور في السيرة الهلالية.
***
وتتفق في ذلك كل السير الشعبية العربية، باستثناء سيرة واحدة تتوسل للوصول إلى أهدافها بالمعرفة والعقل، بدلا من القوة والحرب، وهي سيرة اعلي الزيبقب.
وفي إفريقيا نجد الدارسين الغربيين - وقد تابعهم في ذلك الباحثون العرب - يستخدمون مصطلح املحمةب للإشارة إلى هذا النوع الأدبي الشعبي، على نحو ما حدث مع ملحمة اسونجاتا كيتاب. فمن يتأمل ملحمة اسونجاتا: ملحمة شعب الماندينجب، يجد أنها لا تتجاوز كونها إحدى حلقات السيرة، وتحديدا حلقة االمواليدب. فالملحمة تحكي قصة ميلاد البطل سونجاتا، والمخاطر التي واجهته منذ قبل ولادته، ثم بعد ولادته، ورحيله عن بلاد الماندينج (إمبراطورية مالي القديمة)، ثم اغترابه، وكفاحه في سبيل العودة إلى موطنه الأساسي، وتعرف أهل بلدته عليه، ثم الاعتراف به بطلا شعبيا، وتنصيبه ملكا عليها؛ تحقيقا لوصية الملك الأب ناريه ماغان جاتا Nare Maghan Djata. ومن يتأمل هذه الملحمة يكتشف أنها لم تتجاوز كونها حلقة أولية من الحلقات التي تمر بها السير الشعبية العربية، وهي مرحلة االمواليدب، التي تمر بها كل السير العربية، وهو ما يؤكد ما انتهى إليه الحجاجي على نحو ما سبق أن أشرنا إليه في تفرقته بين السيرة والملحمة. هذا بالرغم من اقترابها من فن السير العربية بعدم ميلها إلى اتخاذ أبطال من الآلهة أو نصف الآلهة، على غرار ما هو موجود في الملاحم، وهو ما يشي بتأثر إسلامي بالملاحم الإفريقية.
الخلاصة التي نريد أن نصل إليها في هذا الشأن، أن التقنية الأساسية التي تقوم عليها الملاحم الغربية أو الإفريقية أو السير العربية تعد واحدة، تتمثل في تقنية الحرب، بالرغم من اختلاف أسباب هذه الحروب، وأشكالها.
تأثير متبادل
ولقد توقف لويس عوض عند دراسة علاقة التأثير والتأثر بين السير العربية (ممثلة في سيرة الزير سالم)، والملاحم اليونانية (ممثلة في ملحمتي أوريست وهاملت)، محاولا تفسير هذا التشابه الذي يجمع بين السير العربية والملاحم الغربية، فيقول: اإن حلقة حسان اليماني في ملحمة االزير سالمب تمثل إدماجا لأسطورتين نابعتين من أسطورة اختطاف هيلانة، وحرب طروادة، إحداهما هي انتقام الزوج وإله من خاطف الزوجة (انتقام أجاممنون من باريس)، والأخرى هي انتقام الابن من قاتل أبيه ومغتصب فراشه (انتقام أوريست ذ هاملت من إيجيست ذ كلوديوس). وقد اختلطت هاتان الحلقتان في ذهن الرواة، إما مصادفة بسبب تجاور المواويل وعملية التراكم الملحمي، وإما عمداً عند الاقتباس والتعريب بما يلائم البيئة العربية والتاريخ العربي. وأيا كان الأمر، فالحلقتان نابعتان من أسطورة أجاممنون العظيمب. ورغم تحفظي عن إطلاق مصطلح االملحمةب على سيرة الزير سالم، فمصطلح ملحمة مصطلح غربي وإطلاقه على السير الشعبية العربية غير دقيق، والمصطلح الأكثر دقة هو اسيرةب. وكذلك رغم الخلط الواضح في كلام لويس عوض بين مصطلحي الملحمة والأسطورة، فإنه يشير إلى قدم العلاقة بين النصوص الشعبية، وقوة التأثير والتأثر بين الحضارات والثقافات الإنسانية. وينظر عوض إلى الملاحم الشعبية نظرة إنسانية، فيجعل كل ملحمة منها بمنزلة طبقة أو فترة حضارية في تاريخ البشرية، تفيد من سابقاتها، وتوظفها توظيفاً إنسانياً، وفي الوقت نفسه يخدم خصوصية المجتمع الذي يرويها، على المستوى الثقافي والتاريخي والحضاري، ولكن من دون أن يطمس معالمها الأولية التي أفادت منها. فيرى أن: املحمة االزير سالمب تشتمل على طبقات أسطورية وتاريخية شبيهة بالطبقات الجيولوجية، فكلما تعاقبت العصور عدلها المؤلفون أو المترجمون أو المقتبسون بما يوافق حضارتهم، وأضافوا إليها سمات تتماشى مع عصرهم، ولكن كل هذه الإضافات ذ لسوء حظ الأدب، ولحسن حظ العلم ذ لم تطمس الطبقات القديمة السالفة المتراكمة عبر الأجيالب.
كما توقف خطري عرابي عند دراسة ظاهرة التشابه هذه، وعلاقة التأثير والتأثر بين السير الشعبية العربية والملاحم الغربية، وعلاقة كل منهما بالتراث العربي القديم والثقافات الإنسانية الأخرى، فيرى أن اكثيرا من القصص والحكايات الموجودة في السير استقاها الراوي الشعبي من التراث العربي بمفهومه الشامل، الذي يشتمل في طياته على تراث حضارات وشعوب مختلفة، ويكمن عمل الراوي الشعبي في محاولته تجميع الكثير من القصص المتوارث وربطه في وحدة فنية واحدة متماسكة، بعد إعادة توظيفه في إطار موضوع واحد. وعلى هذا فلم يكن دور راوي السيرة ذ أو مبدعها ذ في إبداع ذلك الكم من الحكايات على غير مثال سابق، إنما يكمن دوره في الاختيار، والربط بين هذا القصص، وتوظيفه في موضوع أو قضية يريد أن يعالجها، محدثا التغييرات اللازمة بما يتفق وطبيعة موضوعهب.
وتنتهي نبيلة إبراهيم إلى تفسير علاقة التأثير والتأثر بين الملاحم الغربية والسير العربية إلى وحدة الرسالة الإنسانية التي تحملها كل منهما، متوقفة في ذلك عند ملحمة سيرة الأميرة ذات الهمة، وملحمة ديجنيس. وقد مثلت لذلك بالرسالة السياسية والإنسانية التي ترغب ملحمة ديجنيس في توصيلها. فعندما طلب الإمبراطور الروماني من ديجنيس/ البطل أن يطلب ما يشاء عرفانا ببطولته، رد ديجنيس عليه قائلا: اسيدي إن الصواب ألا نأخذ، وإنما من الأفضل أن نعطي. وإذا كان لي أن أطلب منك شيئاً، فهو أن تشفق على الفقراء، وأن توزع عدلك بين الناس، وأن تعفو ولكن لا إلى حد اللين، وأن تكون مؤمناً بالله إيماناً صادقاً. هذه يا سيدي هي الوسائل التي توصلك إلى الحق. وهي سلاحك ضد أعدائك. فالحكم يا سيدي لا يغتصب بالقوة، ولا يمكنك أن تحتفظ به بالقوةب.
ولا يقتصر التشابه بين السير الشعبية العربية والملاحم الغربية على التشابه في النصوص وبنيتها، وإنما يمتد التشابه ليشمل أيضا التشابه من حيث طبيعة الأداء الشفاهي لكل منهما. فالراوي رجل يعتمد على آلات موسيقية شعبية، ويؤديها إلى جمهور من الرجال البالغين الناضجين، والنص مليء بقيم الرجولة والبطولة والفروسية التي يسعى الراوي إلى غرسها في نفوس جمهوره. هذا إلى جانب نظرته، وكذلك نظرة الجمهور إليها باعتبارها تاريخا له جذور حقيقية، وليست مجرد أقاصيص خيالية لا أصل لها. أي إن الموروث الشعبي العالمي (العربي والغربي) كثيراً ما يتشابه في القيم التي يحملها؛ لتشابه طرق الأداء، كمحاولته نقل قيم الرجولة والبطولة في الثقافتين من خلال نوعين أدبيين شعبيين، قاربت ظروف أدائهما بينهما. هذا بالرغم من اختلاف هذه القيم في أحيان أخرى، خاصة ما يتعلق من هذه القيم بالدين والعقيدة. فالملحمة والسيرة يمكن أن نصنفهما على أنهما نوعان أدبيان ذكوريان، إنْ من حيث الرواية أو من حيث الموضوعات أو من حيث الجمهور المتلقي لهما >
(*) الشاعر الشعبي الراحل: محمد اليمني عبدالباقي وشهرته «أبو عماد» - مواليد 1935، كان يقيم في عزبة محمود في قرية هِو بمركز نجع حمادي، محافظة قنا، مصر. وهو شاعر شعبي محترف.
تم تسجيل هذه القصة في احتفالية ليلة الحنّة التي أحياها بعزبة حسين في قرية هِو مساء السبت 15/8/2004م.
(1) النحاسة: النحس أو الشؤم.
(2) كي: مثل.
(3) علقوم: علقم.