هل اللغة العربية صعبة؟!

هل اللغة العربية صعبة؟!

كيف نقرأ النصوص العربية بطريقة تتناسب وقواعد النحو العربي؟ بعبارة أخرى: كيف نستطيع أن نقرأ اللغة العربية ومعنا فقط قدر يسير من المعلومات النحوية؟
شغلني هذا السؤال طويلا. إذ إن الطالب الذي يدرس قواعد النحو ربما يدرس كل القواعد، ومع ذلك إذا طلب إليه أن يقرأ نصا مكتوبا فإنه يخطئ، لماذا؟ ربما لأن المعلومات النحوية التي حصَّلها تتغالب جميعها أمام الكلمة، فلا يدري ما إذا كانت هذه الكلمة مرفوعة أم منصوبة أم مجرورة أم مجزومة، ويظل الطالب يقلِّب هذه الأوجه الأربعة حتى يجيئه المدد فينطقها أخيرًا وبعناء منصوبة، وقد تكون الحالة رفعًا، وقد تكون الحالة جرًا وما إلى ذلك.

قديما قالوا: «سكِّن تسلم» وهو إن كان حلًا مؤقتًا فإنه لا يرضي الراغبين في قراءة نحوية سليمة.
وبالرغم من أن حالات الإعراب محدودة، رفع ونصب وجر وجزم، وبالرغم من أن الحركات الأصلية لهذه الحالات منحصرة أساسا في الضمة والفتحة والكسرة والسكون، فإن المسألة كانت ولاتزال تمثل حيرة كبيرة لقارئ اللغة العربية.
والصعوبة ليست في النحو فقط. إن الصعوبة واضحة في كل المستويات اللغوية: صوتية وصرفية ونحوية، ونتساءل: لماذا هذه الصعوبة؟ أهي من طبيعة اللغة العربية، أم أنها حصيلة ظروف زمانية ومكانية لحقت بها في مسيرتها الطويلة انعكاسًا لما جرى ويجري في بيئات أهلها من أجواء غائمة محرومة من الحيوية وخبرة التفاعل والحوار مع أحداث الحياة المتجددة المتطورة علميًا وثقافيًا واجتماعيًا؟
ويقرر الثقات من الدارسين أن ليس هناك لغة تصعب بطبيعتها على أصحابها، وإنما الصعوبة ترجع إلى أسباب من صنع هؤلاء الأصحاب أنفسهم أو - في أحسن تقدير - من عدم إدراكهم لها وتغافلهم عن النظر فيها لإزاحتها أو معالجتها بأسلوب علمي رشيد.
ويرى العالم اللغوي الدكتور كمال بشر أن اللغة ظاهرة اجتماعية، وليست كائنا حيًّا، كما يزعم غير العارفين. ومعنى ذلك - بكل وضوح - أن وضعها من حيث القوة أو الضعف ومن حيث التكامل أو العور والقصور يرتبط كل الارتباط وأوثقه بحال أهلها من حيث أوضاعهم الحياتية التي تنعكس بالطبع لا بالصنع على لغتهم. «فاتهام اللغة بالصعوبة والتعقيد إنما هو اتهام ظالم، وينبغي أن يوجه إلى أصحابها صانعي هذا الوضع غير المقبول. إنهم لم يدركوا أهمية احتضانها والائتناس إليها وبها، ومحاولة الحوار معها، وإن بالتدريج، حتى يصلوا بها وبأنفسهم إلى موقع متميز في صفوف العالم الهائج المائج الذي يهدد بذوبان لغتهم وفقدان شخصيتهم».
وهذا يرجع إلى ضعف الثقافة اللغوية الصحيحة لأسباب ثقافية عامة واجتماعية، وضعف الانتماء إلى القومية بمعناها الدقيق. هجر القوم لغتهم الجامعة لأفكارهم وتوجهاتهم، فآوت إلى ركن غير رشيد، واتهموها بالجمود والتخلف. ولم يدركوا أن اللغة - أي لغة - لا تحيا ولا تنمو ولا تزدهر بنفسها، وإنما يتحقق ذلك كله بالتعامل بها والحوار معها، ولكننا عزلنا اللغة العربية الفصيحة الصحيحة عن توظيفها نطقًا وكتابة إلا في القليل النادر من المواقف والمناسبات. وهذا النادر نفسه إذا حظي بالتوظيف جاء محشوًا بالأغلاط والتجاوزات. وذلك لأنهم انفضوا من حولها وتفرقوا شيعًا وتنابزوا في ما بينهم باللّسن النافرة الناشزة في صورة لهجات ورطانات.
ويزيد الشعور بصعوبة اللغة العربية وازدحام مشكلاتها  بسبب الموروث في جمع اللغة وتقعيد قواعدها.
من المعلوم والمشكور أيضا أن أسلافنا من قدامى اللغويين كانوا حريصين أشد الحرص على جمع لغتهم من هنا وهناك، بغضِّ النظر عن المستويات والبيئات اللغوية المختلفة، اعتزازًا بلغتهم وتقديرًا لكل ما يصدر عن اللسان العربي الذي يميزهم ويصنفهم أمة واحدة.
ومعلوم أيضا لدى الثقات العارفين أن لكل لغة في محيطها العام ظلالًا هامشية تختلف في قليل أو كثير في بعض الظواهر اللغوية الخاصة بفصيل دون فصيل، انعكاسًا لأجوائهم الحياتية: اجتماعية كانت أم ثقافية أم عرفية... إلخ. وليس هذا فقط، بل لم يكن من النادر انتحاء بعض هؤلاء الأسلاف نحو الرواة للاستماع إليهم واستشارتهم في ما جمعوا من مادة أو للاستزادة والإضافة، على الرغم من استحالة إتيان الرواة بالصورة الحقيقية لما يروون.
جمعوا هذا الذي جمعوا من مصادر مختلفة وضموا بعضه إلى بعض دون تحديد لخواص ونوعيات هذه المصادر، التي تنتظم فروقًا واختلافات في جملة المادة التي جمعوها.وانتقلوا بعد ذلك إلى التقعيد ومحاولة تشكيل البناء العام لقواعد كل ما جمعوا، صوتية كانت هذه القواعد أم صرفية ونحوية.
كما غلب المنهج المعياري على عملهم في التقعيد. والمنهج المعياري - كما هو معلوم - لا يعنى بوصف الواقع، وإنما يعنى بإخضاع المادة المدروسة لنمط واحد من التقعيد، يرمي إلى بيان المثال والنموذج الذي ينبغي اتباعه، وأن تجاوزه أو الخروج عنه يعد خطأ.
وهنا اصطدم الدارسون بوجود أمثلة من الظواهر اللغوية التي يصعب إخضاعها لمنهجهم هذا الذي اختاروا، لوجود فروق هامشية أو غير هامشية في المادة المجموعة التي لم تسلم من احتوائها على أمثلة متفقة في شيء ومختلفة في شيء آخر... فماذا فعلوا؟
حاولوا تحليل هذه الأمثلة بردها إلى ما رسموه من معايير وضمها إلى نظام واحد، بطريق التأويل أو الافتراض والتقدير أو الجواز وعدم الجواز، أو الراجح والمرجوح والأرجح، في تسجيل القاعدة الواحدة، متبعين في ذلك مبدأ وحدة النظام في التحليل اللغوي monosystemicprinciple مستعينين في ذلك بخليط من الأفكار الفلسفية والمنطقية التي ربما تساعدهم على تحقيق بغيتهم.
وهكذا اعوجّ الطريق في تقعيد اللغة، ومن ثم ثقل الحمل على مستخدميها ومتعلميها جميعًا، وصاح  الناس - عامتهم وخاصتهم - بالشكوى من صعوبة لغتهم، فتفرقوا من حولها شيعًا ولوثوا ألسنتهم بأنماط من الكلام يصعب تصنيفه بناء متكاملًا ذا خصوصيات مميزة.
كما أننا نفتقد القدوة الصالحة التي من شأنها أن تزيل الحاجز وتدفعهم إلى محاولة توظيفها قدر الإمكان في مواقعها الحياتية المناسبة.
وقد سبق شاعر النيل حافظ إبراهيم عصره عندما نوّه بالدور الخطير للأم في حياتنا فقال:
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مـــــــــــــدرســــــــــــــة إذا أعـــــــــــــــــددتــــــــــــــها  
أعددت شعبا طيب الأعراق
فلا ينكر أحد غياب القدوة الفاعلة في المناخ العربي، في العقود الأخيرة من تاريخ  «العربية»، كما يشهد على ذلك واقع هذه القدوة ودورها في التثقيف اللغوي في العصر الذي نعيش فيه الآن.
ولتكن البداية بالقدوة واضعة حجر الأساس في بناء الإنسان وإعداده لمواجهة الحياة والتكيف مع أحداثها بالوسائل التي تحدد موقعه ومكانته في صفوف مجتمعه. هذه القدوة الأولى الراسمة لخطوط المسيرة الحياتية هي الأم. ومع الأسف، إن الأغلبية من الأمهات العربيات لسن في وضع ثقافي يكافئ دورهن في التثقيف اللغوي المنشود. العربية الفصيحة - أساس البناء القومي - غائبة عن أذهانهن ووجدانهن، ومن ثم لم نجد لها أثرًا أو انعكاسًا على ألسنتهن.
لسان معظم الأمهات العربيات مشغول 
- في أغلب أحواله – بالدردشة المحشوة مادتها بأخلاط من الأصوات عصيّة التكامل مضمونًا ونطقًا: عربي كسيح، وعاميّ، أو عاميات ورطانات متباينات يصعب تصنيفها أو حسبانها نمطًا من الكلام الذي يرشح نفسه قدوة لتثقيف الناشئة. ويزيد الأمر اضطرابًا ما تصنعه بعض المثقفات أحيانا من تضمين كلامهن بكلمات وعبارات أجنبية لا يقتضيها السياق، مشوبة - في الوقت نفسه - بالخطأ في النطق وعدم إدراك معانيها الدقيقة.
فضلاً عن  قصور النظام التعليمي عن أداء هدفه وعجزه عن التعليم أو التثقيف اللغوي المنشود. ففي الحضانة والتعليم الابتدائي تعوج الألسن وتقذف بأصوات لا هوية لها، من عربي كسيح محشوّ بالعاميات والرطانات واللغات الأجنبية. يحدث هذا - دون وعي - من مربين ومربيات ليست لديهم الخبرة الكافية والإعداد السليم لأداء هذا الدور القومي، ذي الأهمية البالغة في تربية الناشئة.
وهناك في المرحلتين الإعدادية والثانوية محاولات جادة من بعض المعلمين لإنقاذ «العربية» من ورطتها وتقريبها من الطلاب. ولكن هذه المحاولات - مع الأسف الشديد - لم تسلك الطريق الصائب لإنجاح هذا القصد الطيب. وذلك لأنهم يركزون على تقديم قواعد اللغة - والنحو بالذات - بصورة لا تغني فتيلًا، حيث يقدمونها من خلال أمثلة منزوعة من سياقاتها نزعًا عشوائيًا، أو أمثلة تقليدية جافة مصنوعة صنعًا خاليًا من اتساق النظم والتعبير عن معان تلائم ثقافات المتعلمين وأوضاعهم الاجتماعية والحياتية. وهم في كل ما يفعلون يسلكون مسلك التلقين والحفظ دون مناقشة أو حوار أو عوْد إلى استشارة أساليب اللغة صاحبة هذه القواعد.
وتكون النتيجة الحتمية لهذا النهج غير الموفق حفظ القواعد وصبها صبًا في أذهان الدارسين، كما لو كانت قوالب جامدة معزولة عن البناء الكبير الذي نهدف إلى تعرّفه أو إجادته وإتقانه، وهو اللغة. إن الطلاب في هذه الحالة يعرفون القواعد وينجحون في امتحانها، دون أن يدركوا قيمها أو مواقعها في هذا البناء، لأن البناء  - وهو اللغة - حرموا من تعرُّفه تعرُّفًا يرشدهم إلى هذه القيم والمواقع.
أما في التعليم العالي، فاللغة العربية بمعناها القومي ليس لها وجود يعدل 
أهميتها في الكليات والمعاهد العليا، لا في استخدامها في تقديم المواد المختلفة، ولا في العمل على تجويدها أو تنمية وتعميق محصول الواردين عليها من المراحل التعليمية السابقة.ففي معظم الكليات العملية تزحزحها اللغات الأجنبية عن مواقعها، أو تغشيها بأخلاط من اللغات الأجنبية أو العاميّات، بحيث تسيطر البلبلة اللغوية التي تحرم الطلاب من استيعاب المادة، وتقطع حبل الوصل بينهم وبين اللغة القومية .