تلقِّي القَصص الشعبي في النقد الأدبي
الواقع أن الدراسات التي تساير حركية الأدب الشعبي في هذا القطر العربي أو ذاك قليلة، وتلك التي تحاول لملمة التشظي في مؤلف واحد غايته توسيع دائرة الاهتمام ليطول أكثر من قطر عربي نادرة جداً، ومرد تلك القلة وهذه الندرة يعود في نظرنا إلى منطق الإقليمية الذي يتشبع به مثقفو هذه البلدان من جهة، ثم إلى الأسيجة التي يضعها أعداء الأدب الشعبي المهووسون بنظارة الأدب الرسمي لكونه أدب نخبة من جهة ثانية.
وكتاب د. مصطفى يعلى الموسوم بميسم «القصص الشعبي قضايا وإشكالات»، هو أحد الكتب النقدية القيمة التي أكدت الحاجة الماسة لهذا اللون من الأدب، لتضاف بذلك لبنة أساسية في أدبنا الشعبي العربي ككل، وذلك بتواتر جملة من الموضوعات التي تتعالق في ما بينها لتشكل نسق الكتاب.
يُعتبر د. مصطفى يعلى من النقاد العرب الذين خاضوا غمار الكتابة النقدية إلى جانب تجاربهم الإبداعية، ولعل هذه الازدواجية في التوجه، هي ما جعل التجربة النقدية عنده تحتفي بطاقات خلاقة، الرافد الرئيس فيها، الإصغاء العميق لنبض النصوص التي يهدف إلى مساءلتها، لاسيما إذا كانت هذه النصوص من صميم الأدب الشعبي الذي يمور بعديد من القضايا، وذلك قصد ضبط جهازه المفهومي الذي يعتبر أساس أي عمل نقدي، وهو الأمر الذي لم يعمل الأدب الشعبي على تجاوزه بعد، إذ لاتزال الفوضى تعم هذا الحقل، وإشكاليات من قبيل الأدب الرسمي/ الأدب الشعبي، والوحدة/ التنوع، والتصنيف/ التجنيس، وغيرها من أبرز الإشكالات التي تواجه الباحثين فيه.
من هنا تأتي الحاجة إلى قراءة هذا الكتاب من خلال الوقوف عند ثلاثة محاور رئيسة، هي: الأهداف، والمتن، ثم التقويم الجمالي.
غنى القصص الشعبي
بعد أن حصر المؤلف في كتابه االقصص الشعبي بالمغرب، دراسة مورفولوجيةب دراسته في بلد واحد هو المغرب، فإنه هدف من خلال كتابه االقصص الشعبي قضايا وإشكالاتب إلى توسيع دائرة الاهتمام، بمعالجة جملة من القضايا التي تهم القصص الشعبي العربي بصفة عامة، وإن شدّد على أن العودة إلى إشكالية المصطلح أمر لابد منه قصد تجاوز مظاهر الاضطراب التي تسوده، وهو هدف ثانٍ نشده المؤلف، إضافة إلى الهدف الأسمى من كل ذلك، الذي حدده بقوله: اإن المشترك في كل هذه المداخلات، يتحدد في ما نعتبره هدفاً متوخى هنا، ويتحدد - إضافة إلى الإشباع العلمي - في إثارة الانتباه مجدداً إلى مدى غنى القصص الشعبي، ومدى حاجته إلى مزيد من البحث والدرس، استعادة لما يستحقه من اعتبار، ودفعاً لوضعه إلى الأمام بعد طول جمود، وتحريضاً على الاستنارة به واستلهامه إبداعياً، والاستمتاع بمهاراته التخييلية، والاستفادة من القضايا الإنسانية التي يزخر بها. وقبل هذا وذاك، العمل على صونه من الضياعب.
ونلاحظ هنا أن المؤلف منشغل بمحاولة لفت الانتباه إلى القيمة العلمية التي يزخر بها القصص الشعبي، وحث الباحثين على ضرورة جمعه وحفظه من الضياع، بل واستكناه ما يمور به من غنى وتنوع إن على المستوى الفني، أو على مستوى القيم الإنسانية، وهذا ما يعززه قوله: انرجو أن تكون تلك المناقشة قد نجحت في إثارة الانتباه إلى ثراء الأدب الشعبي عامة وقصصه خاصة، الأمر الذي يحفز الدراسة الأدبية المغربية والعربية إلى الالتفات إلى حقل بكر ينتظر مزيداً من الجهود، ومضاعفة الاهتمام من أجل بحث ما يزخر به من إمكانات جمالية وتيماتية عالية، من شأنها تغيير النظرة السلبية التي لايزال بعضهم يحملها تجاه هذا الأدب جهلاً أو تعالياًب.
ومن ثم نلحظ أن غاية المؤلف لا تنحصر في تطبيق المنهج المورفولوجي، الذي سبق للناقد أن تبناه في كتابه السابق، أو تقديم قراءات للقصص الشعبي تبرز مدى فاعلية المنهج المعتمد، وإنما يتجاوز ذلك إلى التأكيد على ضرورة الاهتمام بهذا الأدب، لكونه النابض بما يخالج الوجدان الجمعي.
وما يلفت الانتباه هو أن الكتاب على المستوى المنهجي جاء جامعا للمستويين النظري والتطبيقي، حيث الاستيعاب الرصين لكل الجوانب المتعلقة بالجانب النظري، ومحاولة تطبيقها على بعض القصص الشعبي، ولعل هذا ما تبرزه بعض قراءاته من داخل المتن المدروس، لاسيما أثناء الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني.
إشكالية الأدبين الشعبي والرسمي
عنوان الكتاب الذي نحن بصدده، لا يترك مجالا للتساؤل حول نوعية الموضوعات المطروقة، فالنوع الأدبي الذي يتغيى المؤلف الوقوف عنده هو القصص الشعبي، وإن كان تجاوز ذلك ليقف عند إشكالية مهمة هي إشكالية الأدبين الشعبي والرسمي، وفي ما عدا هذه الالتفاتة فإن جل القضايا المتطرق إليها تصب في صميم عنوان الكتاب، ما يؤكد حرص الناقد على الاختيار المنهجي الرصين الذي تتعالق مقدماته مع نتائجه، وهكذا يناقش د. مصطفى يعلى جملة من الموضوعات نشير إليها باقتضاب.
أثناء تعرض المؤلف لإشكال مصطلح القصص الشعبي، عرّج على رأي د. عبدالعزيز حمودة الذي أبان عن الهشاشة التي يعاني منها النقد العربي في ضبط المصطلح وهو يلج أبواب الحداثة وما بعدها، وهو رأي يراه المؤلف صائباً على الأقل في ما يتعلق بالأدب الشعبي، الذي امتدت إليه مظاهر الاضطراب، ومن ثم يحاول إبراز البعض منها بتقديم جملة من الأمثلة، مع التأكيد على مبدأ الاختزال الذي تشهده كل أنواع القصص الشعبي، معززاً هذا النزوع بشواهد لباحثين كبار من أمثال عبدالمالك مرتاض، ونمر سرحان، وغيرهما، مرجعاً أسباب ذلك الاضطراب إلى عديد من العوامل، منها: طبيعة الاختلاف الذي يحكم العلوم الإنسانية، الأمر الذي يجعل ضبط المفاهيم والمصطلحات عصياً، فضلا عن كون الدراسات الأدبية الشعبية في العالم العربي مازالت في مرحلتها الجنينية، هذا بالإضافة إلى عدم انضباط الأدب الشعبي للحرفية، وهو ما يُصعِّب من مهمة الباحث فيه، وإن ألمح المؤلف إلى أن هناك من النقاد من تنبه إلى هذه الفوضى التي تعم توظيف المصطلح في الدراسات الأدبية الشعبية، كما هو الشأن مع نبيلة إبراهيم وعبدالحميد يونس.
لكن هذا الوقوف لن يمر من دون تقديم بدائل قد تسعف في تطويق الأزمة المصطلحية في هذا المجال، ومن ثم يقدم خمسة مصطلحات يراها رامزة لتمييز أهم الأنواع السردية الشعبية، وهي االقصص الشعبي، والحكاية العجيبة، والحكاية الشعبية، والحكاية الخرافية، والحكاية المرحةب.
ويعود الرائز في تلك الاقتراحات - حسب المؤلف - إلى إجراءين علميين يتمثلان في مناقشة المفاهيم، والارتكان إلى السمات المهيمنة، والطبيعة النوعية كمصدر للاقتناع بالاختيار الاصطلاحي.
ولتعزيز هذا الطرح، يعمد المؤلف إلى تحليل الحكاية العجيبة، والكشف عن المكونات والخصائص الجمالية التي تتدثر بها، ومنها: الزمن المطلق، والفضاء التخييلي من وضع الذاكرة الشعبية المبدعة، ولاواقعية الحدث وغرابته، ثم طبيعة الشخوص.
وبعد أن يورد عديداً من الأسماء التي ساهمت في تعريف الحكاية العجيبة بالاعتماد على خصائص معينة، كما هي الحال مع فون دير لاين، وفلاديمير بروب، ونبيلة إبراهيم، يخلص المؤلف إلى أن الحكاية العجيبة انوع سردي شعبي مشروط بعناصر ثابتة محددة رائعة، تهيمن عليها الخوارق من سحر وجن وفعل غير معقول، متحررة من المنطق الصارم للزمكان، ومن دون أن تتغيى أي مغزى وعظي أو أخلاقي مباشر...ب. وهو ما جعلها تحظى باهتمام أكثر من لدن الباحثين، على حد تعبيره.
صعوبة الحصر
وإذا كان الأدب الشعبي يتفرع بتفرع الواقع الاجتماعي والذاكرة الجمعية التي أنتجته، فإنه تطلب من المؤلف القيام بعملية مسح لجل الإصدارات التي عنّت له، وهو يتعرض لإشكال التصنيف والتجنيس في المغرب، لاسيما أن القصص الشعبي كما ألمح إلى ذلك يتسم بالغنى، ما يجعل حصر المادة أمراً صعباً للغاية، من دون أن يلغي تلك المحاولات الأولى التي اتجهت نحو تصنيف هذا القصص ومحاولة الوقوف عند أنواعه، حيث وقف الناقد عند ضروب من التصنيف تراوحت بين التصنيف الثلاثي، والخماسي، والسباعي، وأحيانا التصنيف الجغرافي، وهو ما تؤكده المحاولات الفردية في المغرب، التي ظلت فيها المنهجية المتسقة غائبة، وإن وجدت فهي عائمة، وهكذا لمسنا أن هذه التجميعات - كما يبرز المؤلف - تتراوح بين لا تصنيف، والتصنيف الأحادي، أو الثنائي، أو الثلاثي، أو الخماسي، وغيرها من التصنيفات، ولتعزيز هذا الطرح، يورد المؤلف جملة من الأمثلة مصحوبة بهاجس السؤال حول الغاية من جمع وتصنيف هذه القصص من قِبل هؤلاء، لاسيما أن أغلب الإصدارات كانت تجمع بين أكثر من نوع قصصي شعبي، وهو ما نلمحه من خلال ما قام به محمد الفاسي وإميل دومنجهيم، وما قام به جورج كولين، ودوستينك، وفرنسوا بونجان، وأركاديو دي لاريا بالاسين، وبالرغم من تأكيد المؤلف على التطور الذي عرفته الدراسات الشعبية، في فترة لاحقة، فإنه يشدد على الخلط الذي مازال يسم عديداً من الإصدارات، كما هو الشأن مع ما أصدره رودولفو خيل، ويسري شاكر، وطوني بارطون، وغيرهم، بيد أن هذه النظرة التجزيئية سرعان ما ستخبو من خلال تنبيه المؤلف إلى مجموعة من الإصدارات التي اعتمدت التبويب والترتيب حسب الاختلاف الأجناسي، وإن غابت عنها مسوغات اختيار منهجية من دون أخرى، ومن بينها ما قام به د. يس ليجي، ولاوسط، ودومينيتش لافوينطي، وموسى أغربي، ومالكة العاصمي.
وللخروج من هذا المأزق الإشكالي، يقترح الباحث مجموعة من الآراء المبدئية المستمدة من بعض التجارب العربية والأجنبية الرائدة، التي يرى أنها كفيلة للخروج بالقصص الشعبي من الاضطراب الذي يعانيه، ومنها أن االقصص الشعبي يحتاج لدى جمعه، إلى تبويبه ضمن فئات نوعية، يمكن حصر مفرداتها المصطلحية ومفاهيمها التحديدية، من خلال استيعاب مكوناتها الأجناسيةب. مع التأكيد على ضرورة الاهتمام بالمكونات الجمالية والأبعاد التدليلية التي ينضح بها هذا القصص، بحيث تعتبر حسب الباحث رائزاً أساسياً في عملية التصنيف.
وتبعاً لذلك، يقترح المؤلف الحكاية العجيبة بعناصرها الفنية، فالحكاية الشعبية، ثم الحكاية الخرافية، وأخيراً الحكاية المرحة.
ولما كانت إشكالية الأدب الرسمي/الأدب الشعبي بارزة بقوة في الحقل النقدي العربي، فإن المؤلف انبرى إلى معالجة هذه المسألة مع الإلماع إلى الأهمية التي يحتلها الأدب الشعبي في الذاكرة الجمعية، مشددا في السياق ذاته على أن تعميق الهوة بين الأدبين مرده إلى عديد من المثقفين المهووسين بنظارة الأدب الرسمي، باعتباره أدب نخبة، بينما يضعون الثاني في مرتبة أدنى لكونه أدب العامة. ولكن هذا الفهم السائد لدى بعض المثقفين لم يمنع د. مصطفى يعلى من التأكيد على أشكال التعالق الموجودة بين الأدبين، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن كلاهما ايتوافر على قيم إنسانية مشتركة، وكلاهما يهز الناس بدراميته أو سخريته، وكلاهما يخلد لجودته أو يتلاشى لرداءتهب. أما الفروق التي تميز كلا منهما عن الآخر، فيعتبرها من خصوصيات كل أدب على حدة، ادونما مساس بجوهر العلاقة التي تربطهما بالوظيفة الفنية والإنسانية المشتركة التي يضطلعان بها في كل زمان ومكانب.
أما في ما يخص القصص الشعبي العربي، من وحدة في التنوع، وتنوع في الوحدة، فإن المؤلف يشيد بالتنوع والغنى اللذين يعرفهما الأدب الشعبي العربي تبعا لأقطاره، وهو تنوع يسهم من خلال تداوله في المحافظة على هوية تلك الأقطار، والأمة العربية جمعاء، مع التأكيد على أن الأدب الشعبي حقيقة قومية لا جدال فيها. ولذلك يذهب إلى أن الوحدة موجودة في هذا الأدب رغم الاختلافات التي تطول بعض مكوناته، وتفاصيله الجزئية من قطر لآخر.
ولتعزيز هذا الطرح، يعمد المؤلف إلى تحليل حكاية عجيبة هي حكاية االحطاب وعفريت الغابةب، وقد خرج منها بخلاصة مفادها، أن هذه الحكاية المغربية تأتلف مع الحكاية الفلسطينية االباطيةب، والحكاية السودانية ادور يا مسعودب مبيناً بذلك مظاهر ذلك الائتلاف، وإن ألح أيضاً على مظاهر الاختلاف التي اتصلت ببعض العناصر البنيوية في تشكيل الحكاية ككل، بل إن المؤلف لتأكيد هذه الوحدة يلجأ إلى عقد مقارنات بين حكايات تتجاوز السياق العربي إلى السياق العالمي، كما هي الحال مع حكاية االكلب والذئبب، التي انتقاها من خرافات أيسوب، وقارنها بحكايتين خرافيتين هما الحكاية السورية االفارات الثلاثب، ثم الحكاية المصرية االفكرب، وقد خلص إلى أن مظاهر الوحدة في القصص الشعبي، اتحتوي ضمنياً على احتمالات التنوع الكامنة فيهب.
علاوة على هذه القضايا، يلامس الباحث تنويعات استعمال الكيد من لدن المرأة، حيث وقف عند أربع تنويعات وهي الكيد للكيد، ثم الكيد دفاعاً عن الذات، فالكيد حصناً للقيم، وأخيراً الشر امرأة، والخير امرأة، وهو في تتبعه ذاك يكشف لنا عن المسوح المتعددة للمرأة، فهي تارة امرأة بريئة، وضحية، وذكية، ومحنكة، وخطيبة مخلصة، وامرأة مساعدة، وهي أحيانا أخرى شريرة، ومنتقمة، وقاتلة، وساحرة، ومستأثرة، وجنية، ليخلص إلى أن الحكاية في معالجتها تناقضات المرأة تختزل لنا القول المأثور االمرأة لغز محيرب.
كما وقف الباحث أيضا عند تيمة الخيمة، منطلقاً من الأهمية التي تكتسيها في الموروث الثقافي العربي بشكل عام، إذ كانت الخيمة ملازمة للعربي في حله وترحاله، وهو ما أكسبها تلك القيمة الرمزية التي تتدثر بها، وفي محاولة لاستجلاء الأبعاد الدلالية والرمزية للخيمة في القصص الشعبي، يقف الباحث عند جملة من الحكايات التي وظفت الخيمة توظيفاً رمزياً متنوعاً، حيث تنتقل الخيمة من كونها فضاء للإساءة والظلم وتبادل المكر إلى فضاء للكرم والإيثار، ومن كونها مبعثاً لليأس والقنوط، إلى اعتبارها فضاء مفتوحاً على الأمل والحياة، ومن ثم يخلص المؤلف إلى أن الخيمة في الحكاية اليست مكاناً حيادياً، ولا هي تأثيث زخرفي زائد، بل إنها مكون عضوي ملتحم بحبكة الحكاية ووحداتها الوظيفية، وذو امتداد وحضور في كل مراحل الحدثب. إن الخيمة - حسب المؤلف - تتخذ شكلين بارزين هما االخيمة فضاء، والخيمة أداةب وهو ما جعلها تحتفي بعديد من المبادئ والقيم التي تسم المجتمع البدوي، على حد تعبيره.
التقويم الجمالي
لقد اتضح لنا أن المؤلف يتمتع بدراية جيدة بالأدب الشعبي، وهو ما أسهم في تقديم مادة دسمة، وغنية، تدفع الباحث إلى المزيد من التأمل في هذا الضرب من أدبنا العربي، كما تأتي أهميته من أنه حاول الالتزام بما قدمه من أسئلة خلال مسار الدراسة، فهو عندما يحاول تقديم بعض الخصائص الجمالية التي يتدثر بها القصص الشعبي، يعمد إلى تحليل بعض الحكايات، كما هي الحال مع الحكاية العجيبة التي انتهى المؤلف إلى أنها نوع سردي شعبي رائع. ولكن ما يلفت الانتباه هو محاولة التعميم التي اهتدى إليها المؤلف وهو يدافع عن القصص الشعبي برمته يقول: اإنه رغم ما قيل من أقوال مردها الجهل بفنية القصص الشعبي وأبعاده، متهمة هذا القصص بالسذاجة والاعتباطية، فإن شبكة النسيج التي حبكت في إطارها الحكايات العجيبة عموما، وما احتوت عليه من تقنية فنية مدهشة، يكذبان الاتهام المجاني. إذ لا هلهلة، ولا تخبط، ولا فجاجة في معظم الحكايات العجيبةب.
السير الشعبية لها خصوصيات
إن الانطلاق من نوع سردي شعبي واحد محدد له خصائصه وسماته، ومحاولة تعميم فرادته لتطول بقية الأنواع الأخرى هما ما يجعلانا نطرح السؤال الملح حول الغاية من هذا التعميم، لاسيما إذا علمنا بأن كل نوع قصصي شعبي يتميز بخصائص مغايرة عن الأنواع الأخرى، بل إن تلك الاختلافات الموجودة هي التي ساعدت المؤلف على إعادة تجنيس هذا القصص. ثم وهو يحاول الحسم في إشكال المصطلح، قدم مسوغات اختيار مصطلحات من دون غيرها، فلمَ العودة لشرح ما المقصود بالحكاية الشعبية العربية؟، يقول في هامش الصفحة االمقصود الحكاية الشعبية الواقعيةب ليبقى السؤال: أليس شرح مصطلح بمصطلح تم التخلي عنه من لدن المؤلف يدخلنا إلى عمق الفوضى؟ وهي الفوضى التي تزداد وضوحا عندما يؤكد أن الحكاية الخرافية هي الحكاية االتي تساق على لسان الحيوانب، ما يعني أن شخصياتها هي من الحيوانات بالضرورة، وهو ما يفنده كلام المؤلف نفسه الذي ذهب إلى أن شخصيات هذه الحكاية ابلا أسماء، وعددهم جد قليل، بحيث لا يتجاوز الثلاثة غالبا، يتعلق الأمر بـ (المعتدي، الضحية، الوسيط) وهم إما (وهنا الشاهد) من الحيوان، أو النبات، أو الجماد، أو الظواهر الطبيعية كالشمس، والريح...إلخ وأهم ما في هؤلاء الأبطال، كونهم يؤنسنون بإسقاط الخصائص البشرية عليهمب. هذه الـاإماب التي غابت والمؤلف يشرح ما المقصود بالحكاية الخرافية تعود بنا إلى إشكال منهجي يتعلق بمراجعة الكتاب ككل.
يضاف إلى ذلك أن ما قدمه المؤلف على شكل تساؤل في خاتمة كتابه، وهو يلمح إلى ضرورة الاهتداء إلى وضع مصطلحات محددة للقصص الشعبي، يشكل من منظورنا ضرباً لما قدّمه من قبل، لاسيما أن اقتراحاته - كما يؤكد - ارتكزت على إجراءات علمية. يقول: اويهمنا أن نشير هنا إلى أن هذه الاقتراحات، تستند في صياغتها إلى إجراءين علميين، يرتكز الأول على مناقشة المفاهيم، بينما يستند الثاني إلى السمات المهيمنة، والطبيعة النوعية للحكاية كمصدر دلالي للاقتناع بالاختيار الاصطلاحيب. فلمَ طرح تلك الأسئلة ما دام المؤلف مقتنعا بما قدم من اختيارات؟
وإذا كان المؤلف يرفض الفوضى التي عمت الأدب الشعبي من لدن الباحثين، محاولا تقديم بدائل يراها الأقرب إلى الصواب، فإنه قد أغفل أن رائد الاتجاه فلاديمير بروب قد وقع في مثل هذه الفوضى، حيث يؤكد في رده على انتقادات ليفي شتراوس بقوله الكن المؤلف لم يكن ينوي على الإطلاق دراسة كل أنماط هذا النوع المتنوع والمعقد الذي هو الحكاية بكل ما هي كذلك، ولم يكن يتفحص إلا نمطا واحدا منها كان يختلف تماما عن الأنماط الأخرى كلها، هو نمط الحكايات العجيبة، ومن بينها، الحكايات الشعبية وحدهاب.
إذ كيف يمكن أن تتفرع الحكاية العجيبة التي هي مجرد نوع سردي شعبي واحد، إلى نوع آخر هو الحكاية الشعبية؟، وعلى هذا الأساس، يصير ما ذهب إليه أحمد زياد محبك صائبا، حيث يتعرض لوحدة الحكاية الشعبية، في حين يحلل مجموعة من الحكايات العجيبة، الشيء الذي يقلب البحث رأسا على عقب، ليطفو السؤال: ألم يحن الوقت بعد للنظر في إشكال المصطلح بمرونة ابستيمولوجية، بعيدا عن التعصب والنظرة الإقليمية الضيقة؟
وفي مناقشته لمسألة تصنيف القصص الشعبي، نلاحظ أن المؤلف يركز على الموضوعات والموتيفات التي تميز كل حكاية، وهو ما نبّه إليه فلاديمير بروب حين ذهب إلى أن اكل تصنيف قائم على المواضيع تصنيف فاسد، لأن الحكاية لا تنفرد بموضوعات خاصة بها، لا تتقاطع ولا تتداخل مع أشكال أدبية أخرى، وهو ما يصدق أيضا على التصنيف القائم على الموتيفات، فالقول إن هناك حكايات للجن، وحكايات للحيوان، يفترض أن كل حكاية لا تعالج إلا موتيفاً واحداً ووحيداً، وليست سوى تحقق خاص له، والحال أن الممارسة التحليلية تبرهن على عكس ذلك، فقد تتعايش داخل الحكاية الواحدة مجموعة من الموتيفاتب.
ويذهب المؤلف أبعد من ذلك حينما يطرح السؤال حول الغاية من جمع القصص وتصنيفها، وهو سؤال من منظورنا يفتقد الشرعية، لاسيما أن المحاولات التي يشملها وجدت قبل صدور الكتاب المهم لفلاديمير بروب اعلم تشكل الحكاية العجيبةب في لغته الأصلية عام 1928، ولم يترجم إلا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، أما الترجمة العربية، فلم تظهر إلا عام 1986، ولكن محاولات الجمع تلك، التي أشار إليها المؤلف، بدأت في عشرينيات القرن الماضي، حين أصدر محمد الفاسي ودرمنجهيم مجموعتين عامي 1926 و1928، ثم أصدر دكتوريس مجموعة عام 1926، بل إن أغلب المحاولات كانت في خمسينيات القرن الماضي، ما يؤكد أن المؤلف يطرح تساؤلاته من راهنية المرحلة التي يعيشها دونما اعتبار للمسار الكرونولوجي الذي أنجزت فيه تلك المحاولات. بل إن البحث لتلك المحاولات عن العذر يصبح له مسوغه، لاسيما عندما تمتد الظاهرة إلى اأيامنا هذه رغم ما عرفته الدراسات الأدبية الشعبية من تقدم معرفي وتطور منهجيب.
أما عندما يشير إلى أن الأدب الشعبي يقوم على المشافهة، الأمر الذي جعله في ديمومة ابتكارية حية تنتجها وتعيد إنتاجها، وفق طبيعة وفاعلية الثالوث المشارك في إبداعها (الراوي، النص، المتلقي)، فإنه سرعان ما يقوض هذه الفكرة بدعوته إلى ضرورة جمع هذا الموروث وتوثيقه، ليطفو السؤال: أليس في الدعوة إلى الجمع والتوثيق، دعوة في العمق إلى قتل ديمومة الابتكار التي يتيحها هذا الأدب؟
وإجمالاً فالكتاب يزخر بعديد من الإضافات التي تلامس قضايا الأدب الشعبي، خصوصا ما اتصل باقتراح البدائل، كما أنه يتسم بتراكم مهم وغني يواكب التطور المعرفي، والتمثل الجيد له، متسق والأفق المنهجي الذي سطره المؤلف في مقدمة كتابه >