اللغة العربية في المجتمع التركي بين القديم والحديث الصعوبات والتحديات
تُعَدُّ اللغة الْعَرَبِيَّةُ في الجمهورية التركية من اللغاتِ التي لها جمهورُها الخاص في تلقيها، فقد بلغت نسبة معتنقي الإسلام في تركيا قرابة الـ 98 في المائة من السكان، تعتنق الغالبية منهم المذهب السني الذين يسكنون الأناضول، أما بعض الأكراد في جنوبي شرق تركيا فيعتنقون المذهب الشيعي، وهم قلة في بعض المدن التركية، ولا ينص الدستور التركي على دين رسمي للدولة التركية، بل يكفل حرية المعتقد والدين للمواطنين الأتراك
وغيرهم الذين يعيشون على أراضيها على النحو الذي يرغبونه دون إكراه أو إلزام.
تركيا تقع في قارتي أوربا وآسيا، والجزء الأكبر منها يقع في آسيا (القسم الأناضولي)، أما القسم الأوربي الذي يشمل إسطنبول القديمة وأدرنة، فهو حلقة وصل بين قارتي آسيا وأوربا، وتنقسم تركيا إلى أربع مناطق: وسط الأناضول، الشرق، غرب الأناضول، الجنوب، حيث انتشر تعليم اللغة العربية كثيرا في وسط الأناضول ومنطقة البحر الأسود، والشرق من ناحية الجنوب.
منذ دخول الإسلام إلى البلاد وتحول أهلها من المسيحية إلى الإسلام، بدأ ولاة الأمر في تركيا نشر اللغة العربية لأسباب كثيرة في حقيقة الأمر. كان من أهمها نشر الإسلام وتعليم القرآن الكريم ودراسة كتب السيرة والفقه والتفسير والعقيدة، فارتبطت اللغة العربية بالمقدس دائما، وأصبحت لغة مقدسة لارتباطها بالقرآن الكريم، فهي لسانه ومنطقه. وبذل الأتراك العثمانيون جهودا كبيرة لنشر اللغة العربية في ربوع المناطق التركية، في الشرق والغرب ووسط الأناضول وعلى بحر مرمرة وإيجه.
كان المسجد قديما هو أساس التعليم الديني في تركيا حكم العثمانيين، حيث كان له دوره البارز في حفظ القرآن الكريم، وتعليم النحو والصرف والبلاغة والقراءة والكتابة والمحادثة. وتم إنشاء مدارس شرعية أهلية تابعة للجماعات الدينية، كجماعة محمود أفندي، وسعيد النورسي، وفتح الله كولن، وسليمان تنوهان.. وغيرها من الجماعات التي تهتم باللغة العربية، وفي الوقت الراهن ازداد عدد المعاهد العلمية التي يتم فيها تدريس اللغة العربية وآدابها. افتتحت في تركيا المعاهد الإسلامية العالية Yüksek İslam Enstitüleri وكليات الإلهيات İlahiyat Fakülteleri التي تستغرق مدة الدراسة فيها حاليا خمس سنوات، والمدارس الثانوية التي تٌعْرَفُ باسم ثانويات الأئمة والخطباء İmam- Hatip Liseleri التي تستغرق مدة الدراسة فيها حاليا أربع سنوات، بما فيها السنة التحضيرية. وتدرَّس اللغة العربية والعلوم الشرعية في هذه المدارس الحكومية كلها كمادة أساسية.
كليات الإلهيات (العلوم الإسلامية)
بدأت كليات الإلهيات منذ تأسيس الجامعة في تركيا عام 1933، في جامعة إسطنبول، وكان لهذه الكليات أثر كبير في نفوس المسلمين الأتراك، لأنها تقدم المواد الشرعية مثل: التفسير، الحديث، الفقه، الكلام، الفسلفة الإسلامية، التاريخ الإسلامي، الموسيقى الدينية، بجانب اللغة العربية وعلومها.
طبقا لإحصائيات وزارة التعليم التركية، والمجلس الأعلى لتنظيم الجامعات التركية، وصل عدد كليات الإلهيات في تركيا إلى اثنتين وثمانين كلية، يَدْرسُ فيها الطلاب من شتى البلاد التركية، والدول المجاورة مثل جورجيا، وتتارستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، واليونان، وبعض البلاد الإفريقية مثل نيجيريا وإثيوبيا، ومالاوي، والصومال. وقد رأيتُ هؤلاء الطلاب، ودرَّسْتُ لهم برامج متعددة في اللغة العربية كالنصوص الأدبية، والنحو، والصرف، والمحادثة والتعبير والإملاء، ولغة الخطاب اليومي، والصحافة العربية، وبعض المجلات العربية. لا شك في أن انتشار هذه الكليات في ربوع الأناضول شرقا وغربا، أثر بشكل كبير في تشكيل المجتمع التركي، فقد تزايد عدد الطلاب، وتم قبول الكثيرين منهم الذين تخرجوا في ثانويات الأئمة والخطباء أو الثانوية العامة، وانتشر التعليم المفتوح بالنسبة للحاصلين على شهادات علمية في تخصصات أخرى، مثل الهندسة والطب والتربية وغيرها.
صعوبات الدراسة التي يجدها الطلاب
من خلال تجربتي في تدريس اللغة العربية للأتراك في كليات الإلهيات، رصدتُ بعض الصعوبات المهمة التي تقف حاجزا أمام الطلاب الذين يدرسون اللغة العربية، مما يجعلهم بعد مضي فترة على الدراسة يشعرون بالملل والضيق من عدم الجدوى من الدراسة والحفظ والاجتهاد. وقد حاولت فك شفرات هذه المعيقات والصعوبات، وأصبح التحدي الحقيقي للطلاب هو الحديث باللغة العربية داخل قاعات المحاضرات، ومن بين هذه الصعوبات:
اللغة الثالثة:
لمَّا كانت اللغة التركية، هي اللغة الأم بالنسبة للأتراك، كانت اللغة العربية هي لغة ثالثة بعد الإنجليزية أو ضمن مجموعة اللغات الأجنبية التي يدرسها الطلاب، ورأيتُ أنهم يعانون في الدراسة بسبب التركيب اللغوي في العربية عنه في التركية، لأن المنطق اللغوي الكتابي في العربية من اليمين إلى اليسار، وطريقة تركيب الجملة الاسمية والفعلية، حيث تبدأ العربية بالفعل، أما اللغة التركية فتبدأ بالفاعل ويأتي الفعل متأخرا في نهاية الجملة، مثلا العربية تقول: ذهب أحمد إلى المدرسة، أما التركية فتقول: ahmed okla giti... إلى آخره.
صعوبة النطق:
كثير من الطلاب الأتراك يخطئون في حروف بعينها في العربية، مثل: الحاء تقلب إلى خاء، والعين تقلب إلى ألف، والضاد تقلب إلى ظاء، والطاء إلى تاء... وغيرها، كما أن المعلمين لا ينطقون الأصوات نطقا صحيحا كما ينطقها العرب أنفسهم، وعليه فقد يتأثر الطلاب بهم. ولا يستطيع الطالب التركي أن يقوَّم لسانه في ما بعد.
الحاجز النفسي:
نظرا لحياتي الدائمة في المجتمع التركي وأثناء عملي بتدريس اللغة العربية في كليات الإلهيات، لاحظتُ أن الشخصية التركية تتميز بالخجل من الخطأ في اللغة، ولذلك يتكبر الطلاب على الخطأ ويخجلون من الحديث باللغة العربية خوفا من الخطأ، وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على الطلاب فقط، بل إن الأساتذة الأتراك أنفسهم وجدتهم يقرأون ويترجمون ويفهمون قليلا، لكنهم لا يتكلمون جملة واحدة صحيحة إن جاز القول، وليس كل الأساتذة هكذا، فمنهم القليل الذي انتصر على نفسه وكسر هذا الحاجز النفسي، وبدأ الكلام باللغة العربية في كل بسيط على استحياء، وقد تأثر الطلاب بهم في هذا الجانب.
اختلاط المناهج:
المناهج العلمية التي تتبعها الكليات في تدريس العربية هي مناهج مختلطة لا تركز على تنمية الطالب قراءة وكتابة، بقدر ما تركز على الحشو المعرفي في عقل الطلاب، وهذا يزيد الطين بلة، لماذا؟ لأن الطالب التركي يبحث عن المعرفة التي تساعده على إتقان اللغة ومهاراتها الكتابية والتعبيرية وغيرها، أما بالنسبة للجانب الثقافي المعرفي الصرف فسيأتي في مراحل لاحقة لذلك. يعني مثلا، أن يدرس الطالب الثقافة العربية بوصفها ثقافة إسلامية صرفة، وهذا ليس صحيحا، كما في كتاب «العربية بين يديك» الذي طبعته الجامعة الإسلامية بالمدينة، وحاولت تقديم برنامج مختلف لطلابي يطرح الثقافة العربية في شكلها الجديد، من خلال وسائل تعليمية مبتكرة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. وقد وجد الطلاب فيه أنفسهم من خلال وضوحه وبساطته وارتباطه بالواقع العالمي.
التداخل اللغوي:
يشير الكثير من الدارسين للغتين العربية والتركية إلى التأثير المباشر الذي وقع على «التركية»، فقد نلاحظ وجود أكثر من أربعين في المائة من المفردات في اللغة التركية أصلها من «العربية» مثل: جامع، مدرسة، أستاذ، معلم، جادة، مهندس، شاي، قهوة، انتقال، دعاء، حج، عمرة، طواف، عربة، مصاريف، هواء، شركة، كتاب، قلم، دفتر، زيتون، برتقال، استثمار، أدب، تربية، شرف.. إلى آخره من المفردات التي يستخدمها الأتراك في حياتهم اليومية. ونلاحظ أيضا تأثر العربية بالتركية في كلمات قليلة، منها على سبيل المثال لا الحصر: «أبله، فابريكا، فايظ، آبي، قهوجي، عربجي، مكوجي، عرضحلجي، طز، بقشيش».
في ظني أن التداخل اللغوي بين العربية والتركية أسهم في السهولة في تعلم اللغة العربية بالنسبة للأتراك وتعلم اللغة التركية بالنسبة للعرب، ولكن تكمن المعيقات في الأسلوب الذي تستخدم به هذه المفردات في داخل السياقات المتعارضة من ناحية، والمتناقضة مع المنطق اللغوي من ناحية أخرى.
معلم اللغة العربية في تركيا:
ينقسم معلمو اللغة العربية في تركيا إلى قسمين، الأول من الأساتذة الأتراك ويمثلون حوالي 75 في المائة، والثاني من العرب ويمثلون 25 في المائة، أما المعلمون العرب فقد توكل إليهم برامج المحادثة، وتحليل الخطاب اللغوي، والقراءة وقواعد الإملاء، أما الأتراك فيدرسون النحو والصرف والبلاغة أحيانا.
تكمن المشكلة في أن المعلمين الأتراك يشرحون كل شيء باللغة التركية فهي لغة الدراسة، وهذا خطأ جسيم، لأن المعلمين العرب يشرحون دروسهم بالعربية فقط، فيميل الطالب إلى الأساتذة الأتراك أكثر من العرب، ويحدث نوع من الاختلاط العقلي لدى الطلاب. ولا حل لهذه المشكلة إلا إذا أتقن المعلمون الدراسة باللغة العربية فقط، أو تخففوا منها أثناء الشرح.
في النهاية أقول: إنَّ اللغة العربية تنتعش بشكل كبير في تركيا وفي الأوساط العلمية المختلفة، بسبب زيادة الدارسين والراغبين في تعلمها، وإتقانها، رغبة في التواصل اليومي مع العالم العربي وفهم القرآن الكريم والعلوم الشرعية المختلفة >