المعتمد بن عبّاد
«وقُل لي مَجَازًا إنْ عدمْتَ حقيقةً»
(أبوبكر الداني من قصيدة في مدح المعتمد) .. وهكذا انتزع المعتمد بن عباد وآله من قصر إشبيلية المنيف، وأخذوا جميعًا إلى السفن التي أعدّت لهم لنقلهم إلى المنفى، وسارت السفن في الوادي الكبير في طريقها إلى العدوة تحيق به وجميع آله أغلال الاعتقال.. وأخيرًا صدر الأمر من يوسف بن تاشفين بتسييرهم جميعًا إلى «أغمات» وهي مدينة في جنوب المغرب على مقربة من جبال الأطلس «تاريخ ملوك الطوائف».
يا ابنَ مَاءِ السّماء
سُدًى يتلفّتُ قلبُك بعد اختفاء الديار، سُدًى تتلفَّت عينُك
صرْتَ الغريبَ هُنا
والذي كنْتَ تحْسَبُهُ وطنًا قد غدا كفنًا
فعلامَ إذنْ تتلفَّتُ؟
قلْ ما الذي قد تركتَ وراءَك؟
لاَ شيْءَ
غير قوافلَ ظمأى تخوِّضُ في ظُلماتِ القُرى
غير راياتِ أهلكَ تحْتَ الحوافِرِ
غير شواهدَ دونَ قُبورٍ..
ففيمَ إذن يرجفُ القلبُ؟ لا الأرْضُ، بعد الهزيمةِ، أرضُك
لا الأهلُ أهلُكَ
صرتَ الغريبَ هُنا فلتَقُلْ، للمنازل تنْأى، وداعًا
كان أخضرَ لونُ السّماءِ
وأخضرَ كان خطاف البساتين والنهرُ حتى السّواحلِ أخضرَ
تجري القواربُ في الماءِ،
تجْري الحدائقُ،
والشمْسُ تجري
سيأخُذكَ النّهْرُ نحْوَ البراري طريدًا.. سيأخُذُك الوارثون البلادَ بعيدًا
لقد نقضَ الأهْلُ بيْعتَهم
وتناعَى الرّجالُ البلادَ التي قدْ خذلتك
هذه أرْضُ أندلسٍ تتناءَى، وتخبُو وراءَك كلُّ الفوانيس،
يوغلُ في النهْرِ سرْبُ القواربِ، تُرْهِفُ سمْعَك،
لا شيْءَ غير المجاذيفِ تخْبطُ في الماءِ،
لا شيْء غير أجْنحةِ الطيرِ تخفِقُ في غبشِ الفجْرِ،
لا تلتفتْ، فالملوكُ البرابرةُ انْحَدروا منْ وراءِ التلالِ،
وأهْلوك، مُجْتمِعينَ وشتّى، مضَوْا في البلادِ البعيدَه
يا ابنَ ماءِ السّماءِ سُدًى يَتلفّتُ قلبُك بعْدَ الخُروجِ
فليستْ بلادُكَ هذي البلادُ وإنْ جمعتْك بها رَحِمٌ واشجَه
وقبيلُك ليسَ قبيلَك.
كلُّ الذينَ دعوْتَ تولَّوا فُرادى ومُجتمعينَ إلى عُدْوة القُوط،
لا الأرضُ بعدَ الهزيمةِ أرضُكَ لا الماءُ ماؤُك، أنت الغريبُ هناكَ وأنتَ الغريبُ هنَا فلتَقلْ للبلادِ وداعًا.
تغيبُ الزوارقُ في النّهرِ، يعْبُرُ سربٌ من الطيْرِ، تُطبقُ عينيْكَ كيْ تبْصرَ النّخْل والماءَ،
كيْ تبصرَ السورَ والبابَ، كانَ لنا وطنٌ وأضعْناهُ كانَ لنا وطنٌ وخذلْناهُ.
أيّان يمضي بنا الماءُ؟ هل سنقولُ لهذا النخيلِ وداعا؟
تخْتفي هضْبةُ القصْرِ خلْفَ نخيلِ القُرى، يخْتفي جامعُ البحْر، حتّى الحدائق ما عدْتُ
أبْصرُهَا. نحن نمْضي وفوْق القواربِ كان يحوِّمُ سربٌ من الطيرِ، والشّمسُ كانتْ تسوطُ البراري.. إنّ الطريقَ إلى أرْضِ أغْماتَ أبْعدُ مما هجسْت.
يا ابنَ ماءِ السّماءْ
ما الذي قدْ جنَيْتََ؟
وتلكَ منازلُ أندلس تتناءَى
وتخْبو القناديلُ فوْقَ قلاعِ بلنْسيةٍ
يهبِطُ الليلُ في أرْضِ آشٍ، رويْداً رويْدًا، تَغيمُ المسَافاتُ، تنْأى المدينةُ، ما أشبهَ الليلَ بالبحْرِ، والبحرَ بالحبْرِ، ماذا جَنيْتَ إذنْ يا ابْن ماءِ السّماء وماذا أرادَ لكَ الأقْربونَ؟ أمَنْفًى وراءَ الصّحارَى؟ ولكن لماذا تمادَى البرابرةُ العائدونَ؟ وما بالُهم يستجِيشُونَ كتائبَهُمْ في المدائنِ؟ ضاقتْ بنا الأرض، ضاقَ الفضاءُ بنا والصّحارى التي تترامَى وراءَ السواحل ضاقَتْ..
هو الوطنُ/الماءُ يأبَى على قابضٍ
هو الوطنُ/الجمرُ
ها إنّني أسمعُ الآن أغنيةً من نواعيرَ، أسمعُ أغنيةً من طيورٍ وماءٍ، فأسْألُ هلْ بعد هذا سيطرق أبوابَنا سيّدي النجْمُ، هل ستحطّ القوافلُ؟ أنظرُ، لا شيء غير السراب أمام قوافلنا يترَقرقُ، لا شيءَ غير شميم بلنسيّة.
أعطِني سيّدي الذّئب عينيكَ حتّى أرَى ما وراءَ التلالِ، أرَى ما وراءَ الضّفافِ، وأشْتمُّ رائحةَ الأرضِ والأقربين، وأنت أخي الطير هاتِ جناحيْك.. ها نحن نذْوي كما العشب نذوي كما الغيم.
قل كيف أخفي ضَراوةَ هذا الحنينْ؟
أيهذا الغريبُ بأرضِ المغاربِ لا تنتظرْ بعد هذا التشرّدِ مُعجزةً، سوف تبقى وحيدًا هنا، ووحيدًا ستبقَى هناك، وكلّ الذين حببْتَ تولّوْا ولمْ يُسْعفوك ببعْضِ العزاءِ.
تتطلَّعُ لا شيءَ غير مقابرَ دون شواهدَ لا شيء غير رسومٍ
لرجالٍ قضَوْا في البرارِي كمثلِ الذئابِ
ولا شيء غير الجبال وراء الجبال..
وحْدَهُ كان شيخي الغرابُ يعلّمُني درسَهُ..
ويعيدُ الوصيّة
يا ابنَ ماءِ السماءِ
استجِبْ إنْ دعتْك الجبالُ، فثمّة ينْعقدُ البرْقُ
ثمّة تولدُ كلّ الغيومْ
وحْدَهُ كان شيْخي الغرابُ يعلّمني درْسَهُ..
بينما كانت مقابرُ أغماتَ تصْعدُ فوقَ الجبال
وتصْعدُ حتّى تغيبَ بعيدًا وراءَ الضبابْ >