معاناة مترجم... إشكاليات الخصوصية الثقافية عبر اللغة
«الكاتب يبدع بلغته أدباً قومياً، أما الأدب العالمي فيبدعه المترجمون»... هذه الجملة التي قالها يوماً الروائي البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل للآداب جوزيه ساراماجو تضع مترجم الأدب أمام مسؤولية كبيرة، وتمنحه شرفاً عظيماً. لن أتحدث هنا عن الأدوات التي ينبغي على المترجم أن يمتلكها وأن يتقن استخدامها حتى يبدع أدباً عالمياً. ولكنني أود أن أتكلم عن الصعوبات التي يواجهها في طريقه، وتحديداً عندما يترجم إلى اللغة العربية.
اللغة العربية ثرية، كما هو شائع، وثراؤها يضع مترجم النصوص العربية إلى اللغات الأجنبية أمام مشكلات لا حصر لها. غير أن اللغة العربية فقيرة أيضاً، أو على الأقل هذا ما يشعر به المترجم إلى لغة الضاد في كثير من الأحيان، أم أن الفقر ليس في اللغة، بل في المترجم؟
ربما، على كل حال، يعاني مترجم الأدب عند الترجمة معاناة متعددة الأوجه. فعليه أولاً أن يفهم النص الأصلي أو - حسب درجة تعقيده- أن يفك طلاسمه. ولكن هذه الخطوة تغدو بالمراس سهلة نسبياً. الخطوة الأصعب هي اختيار الألفاظ العربية التي تقابل الكلمات الأصلية وتصيب المعنى تماماً، ثم صياغة الترجمة بأسلوب عربي مبين. يحدث كثيراً، لأسباب لغوية وأسلوبية وثقافية، ألا يجد المترجم اللفظ المقابل المناسب والملائم الذي يغطي جميع ظلال معاني اللفظ الأصلي، عندئذ يبحث المترجم عن لفظ بديل في اللغة العربية؛ وبذلك يبتعد، قليلاً أو كثيراً، عن النص الأصلي.
خلال رحلة بحثه عن اللفظ العربي المناسب قد يرجع المترجم إلى القواميس والمعاجم، غير أنه غالباً ما يُصاب بإحباط. القواميس ثنائية اللغة (ألماني - عربي في حالة المترجم من الألمانية) لا تواكب غالباً التطورات اللغوية في اللغتين، فأضخم القواميس وأفضلها (قاموس «شريجله») الذي وضع في السبعينيات، ولنا أن نتخيل مدى افتقاره إلى كل الألفاظ الحديثة التي جدّت في اللغة في عصر الكمبيوتر والإنترنت والهواتف المحمولة. كما أن القاموس يعاني أوجه نقص وقصور عديدة، وليست الكلمات المقترحة للترجمة هي، بالضرورة، الكلمات المناسبة. اللغة تتطور، هذا بديهي، إذن لا بد من تطور القواميس. هذا شيء بديهي أيضاً، لكنه لا يحدث على النحو المرجو.
تزداد معاناة مترجم الأدب إذا رجع إلى المعاجم العربية للبحث عن مفردة تكون أدق في التعبير مما يجده في قاموسه ثنائي اللغة. ما قلته عن قاموس «شريجله» ينطبق - مع الأسف - أيضاً على المعجم الوسيط، على سبيل المثال، أو المنجد. اللغة العربية لغة ثرية، هذا صحيح، غير أن ثراءها يبدو – وفق هذه المعاجم - منحصراً في ألفاظ البيئة البدوية. هي ثرية في أسماء حيوانات مثل الناقة والأسد، أو ظواهر طبيعية مثل الصحراء، غير أنها فقيرة في المفردات المتعلقة بالبحار والأسماك والزهور والنباتات. هذه المفردات إما ألا يجدها المترجم إطلاقاً في المعاجم، أو – إذا وجدت – تكون مهجورة لا يستطيع العربي اليوم أن يتخيل شيئاً معيناً عندما يسمعها. هذه قضية ثقافية أيضاً، وليست لغوية فحسب.
قد يقول قائل: على المترجم الأدبي أن يكون أكثر اطلاعاً وثقافة، وعليه أن يتبحر في كتب التراث بحثاً عن المترادفات التي ينشدها (بغض النظر بالطبع عن ألفاظ الحضارة الحديثة التي تبقى مشكلة عويصة تتجاهلها إلى حد كبير مجامع اللغة العربية التي لا تقوم بنشاط يشعر به المترجمون أو الكتّاب عموماً).
لكن رحلة المترجم في كتب التراث محفوفة أيضاً بالمعاناة. لنفترض أنني أترجم نصاً عن النباتات في مختلف مراحل نموها، وأردت أن أستخدم اللفظة التي تصيب المعنى تماماً، ورحت أبحث في كتاب «فقه اللغة وأسرار العربية» لأبي منصور الثعالبي على سبيل المثال، فهل سأجد في فصل النبات ما يشفي الغليل؟
بعيداً عن اللفظ المهجور
يقول الثعالبي: «أول ما يبدو النبتُ فهو بارضٌ. فإذا تحرك قليلاً فهو جيمٌ. فإذا عمَّ الأرض فهو عميمٌ. فإذا اهتزَ وأمكن أن يُقبض عليه قيل اجثألٌ. فإذا اصفرّ ويبس فهو هائجٌ. فإذا كان الرطب تحت اليبيس فهو غميمٌ. فإذا كان بعضه هائجاً وبعضه أخضر فهو شميطٌ. فإذا تهشم وتحطم فهو هشيمٌ وحطامٌ. فإذا اسودّ من القدم فهو الدندنُ عن الأصمعي. فإذا يبس ثم أصابه المطر واخضر فذلك النشرُ عن أبي عمرو».
هل سيفهمني أحد إذا استخدمت كلمة «اجثأل» وصفاً لنبات نما واهتز؟ وهل تساعد الترجمة هنا على الفهم أم تحول النص إلى ألغاز لن يفهمها سوى فقهاء اللغة؟ أم هل نعيد تجربة الشاعر الكبير خليل مطران عندما ترجم مسرحيات شكسبير بلغة صعبة وألفاظ مهجورة كان يفسرها في الهامش؟
ثمة مشكلة أخرى تواجه المترجم: أي الكلمات يستخدمها إذا أراد لنصه أن يكون مفهوماً في جميع الدول العربية؟ هل يقول: «خصخصة» أم «خوصصة» أم «تخصيص»؟ هل يقول: «محمول» أم «جوال» أم «نقال» أم «خلوي» أم «موبايل»؟ هل يقول: «بطيخ» أم «شمام» أم «دلاح»؟ هل استخدم كلمة «جوز» (المستخدمة في الشام) أم «جرجاع» (المغرب) أم «عين جمل» (مصر)؟ هل نقول «الجمبري» أم «القريدس» أم «القمرون» أم «الإربيان»؟ إلى آخر هذه الكلمات التي تبين ثراء اللغة إقليمياً، لكنها تضع المترجم في كل مرة أمام الاختيار: من هو القارئ وأين سيُنشر الكتاب؟ هذه الأسئلة لا يطرحها الكاتب بالطبع، فهو يكتب ليعبر عن بيئته المحلية، ولا يهاب استخدام كلمات محلية قد لا تُفهم في بلاد عربية أخرى، بل إن هذه الكلمات تمنح أدبه مذاقاً محلياً واقعياً.
مشكلة أخرى هي الكلمات التي تمكن ترجمتها إلى لغة عربية فصحى، لكن المترجم يشعر بأن الترجمة تبقى تقريبية، وأن هناك كلمة باللهجة العامية أكثر تعبيراً عن المقصود، لكنه لا يستخدمها لأنه يريد أن يكون نصه مفهوماً في المنطقة العربية كلها. ثم إن السؤال يطرح نفسه هنا: إذا قرر استخدام لهجة عامية لمضارعة ما بالأصل من كلمات أو جمل عامية، فأي اللهجات يستخدمها؟ أهي لهجته التي يعرف خباياها، أم اللهجة الأكثر انتشاراً (المصرية مثلاً بسبب شيوع الأفلام المصرية)، أم اللهجة المنتشرة في بلد ناشر الكتاب؟ أتذكر أنني خلال ترجمة رواية «قصص بسيطة» لإنجو شولتسه، صادفت بعض المقاطع الحوارية المكتوبة باللغة العامية، وحاولت أن أظهر هذا التباين الأسلوبي في الترجمة، فاخترت استخدام كلمات من اللهجة المصرية. بعد نشر الترجمة، كتب الناقد محمد علي اليوسفي في صحيفة «الحياة» مقالاً يمتدح فيه المترجم الذي «وفق في نقل العمل بلغة سلسة وبسيطة، ناقلاً الأجواء والأحداث بجمل رشيقة». غير أن الناقد لم يخفِ استغرابه من «إدخال اللهجة العامية في النصوص المنقولة». وهكذا يعلن الناقد دهشته عندما يسمع إحدى شخصيات الرواية «تقول في قلب ألمانيا يا خبر أسود!».
عمل آخر في الأدب الألماني يطرح إشكالية ترجمة المستويات اللغوية المختلفة، بل وتعدد اللهجات داخل النص الواحد؛ أعني رواية توماس مان الشهيرة «آل بودنبروك» التي ترجمها إلى العربية محمد إبراهيم الدسوقي. من يطالع رواية توماس مان بالألمانية يمكنه أن يحدد اسم الشخصية عبر اللهجة المستخدمة (اللهجة البافارية ولهجة أهل هامبورج). كما أن الرواية تحفل بالجمل الفرنسية التي تعبر عن ثقافة الطبقة البرجوازية آنذاك. كل هذه الفروق اللغوية تضيع في الترجمة العربية،
لأن المترجم اعتمد اللغة الفصحى طوال الوقت.
إشكاليات ثقافية – تجربة شخصية
من بين كل الأعمال التي ترجمتها حتى الآن كانت رواية «عازفة البيانو» للكاتبة النمساوية يلينك الحاصلة على جائزة نوبل للأدب هي بلا شك العمل الأكثر صعوبة وتعقيداً ومشقةً. لماذا؟ لأن أعمال يلينك عموماً تقوم على اللغة. يلينك بارعة في التلاعب باللغة، وماهرة في الإحالات التاريخية والأدبية، كما أنها أيضاً أستاذة في السخرية. كل ذلك يجعل ترجمة نصوصها صعبة، إن لم نقل مستحيلة. كما أن روايات يلينك تحفل بالمشاهد التي تصور الجنس، وهي مشاهد تثير التقزز في كثير من الأحيان. هذه الأسباب تجعل أعمال يلينك عموماً مستعصية على الترجمة، ليس فحسب إلى ثقافة مختلفة تماماً عن الألمانية مثل الثقافة العربية، بل أيضاً إلى اللغات الأوربية الأخرى.
غير أن استخدام الجنس في «عازفة البيانو» ليس استخداماً مجانياً. يلينك توظّف المشاهد الجنسية بفنية عالية، تعبر عن تشوهات كثيرة أصابت البطلة. كان هدفي في الترجمة أن أخلق أجواءً مشابهة في النص المتَرجَم. ولم يضايقني أن تكون تلك الأجواء منفرة في كثير من الأحيان، بل وأن تثير الاشمئزاز والغثيان في بعض الأحيان. لم أكن أريد أن أقدم «ترجمة مهذبة»، على غرار طبعة «ألف ليلة» المعدة للفتيات والفتيان، ولم يكن يخطر لي على بال أن أستعيض عن بعض العبارات «المبتذلة» أو المكشوفة بنقاط على طريقة الروائي إحسان عبد القدوس. أردت أن أقدم نصاً مقابلاً أو مناظراً للأصل، نص يلينك صادم وجريء، فاضح ومكشوف، وعليه أن يكون كذلك في صورته العربية.
بعد ظهور الترجمة العربية لـ «عازفة البيانو» قام الأستاذ الدكتور مصطفى ماهر بترجمة عمل آخر ليلينك، وهو رواية «العاشقات». غير أن الأستاذ ماهر انتهج منهجاً آخر، رآه أنسب في تقديم الروائية النمساوية إلى القارئ العربي، إذ قام بحذف كلمات عديدة اعتبرها «مبتذلة» أو «مثيرة للقرف». المشكلة هنا ليست لغوية إذن، بل ثقافية: إلى أي حد تسمح الثقافة العربية باستخدام مثل هذه الألفاظ؟ وإلى أي حد يسمح الناشر بذلك؟
عندما سألت الأستاذ ماهر لماذا اختار هذا الأسلوب في تقديم «العاشقات» بحيث أصبحت صورتها العربية غير مماثلة لصورتها النمساوية؟ قال لي في حوار نشرته صحيفة «أخبار الأدب» القاهرية في عام 2008: «ولكنك لو أحضرت السيدة يلينك وألبستها الملابس المصرية، وحجبتها، ونقبتها، ثم أنزلتها هنا إلى الجمهور، لكان لها شكل آخر». كان رأي الأستاذ ماهر، عميد ترجمة الأدب الألماني إلى اللغة العربية، أن «تحجيب يلينك سيجعلها مناسبة للمجتمع الذي ستقدم فيه». ثم شرح رأيه قائلاً: هناك «تفاصيل جنسية في المجتمعات الأوربية لا نستطيع نحن أن نقولها». واختتم د. ماهر حديثه قائلاً: «في كتب الفقه الإسلامي يقولون مثلاً عن إتمام العلاقة الجنسية: إذا دخل المرود في المكحلة».
ولكن هل سيكون مناسباً في عمل يتعرض لتفاصيل العلاقة الجنسية أن نختار التلميح بدلاً من التصريح الذي اختارته الكاتبة؟ وهل هذه هي أمانة الترجمة؟ وكيف سيكون وقع الترجمة على القارئ إذا قرأ وصفاً لمشهد جنسي أراده كاتبه صريحاً صادماً، بل ومبتذلاً، وجاءت ترجمته كالتالي: «عندما دخل المرود في المكحلة تأوهت المرأة».
الترجمة الأدبية معاناة. ولولا استعداد المترجم لتحمل المعاناة لما أتم ترجمة عمل أدبي واحد، إذ إن «صانع الأدب العالمي» يظل يتحرك كالمقيد في عالم كاتب آخر، ويظل سجين أفكاره ولغته، لا ينساق وراء ما يراه مناسباً أو جميلاً، بل عليه دائماً أن يرجع إلى الأصل، وأن «يتقيد به». فإذا أضفنا إلى ذلك المكافآت المتدنية التي يتلقاها مترجم الأدب في معظم الأحيان، أصابتنا الدهشة لإصرار البعض على المضي في هذا الطريق. هذا ما دفع مترجماً ألمانياً إلى القول في مقابلة نشرتها صحيفة «زود دويتشه» الألمانية إنه لولا «المازوخية» التي تصيب على ما يبدو كل مترجمي الأدب، لتوقفوا منذ زمن طويل، ولبحثوا عن مهنة أخرى!
< ترجم سمير جريس نحو عشرين عملاً من الأدب الألماني الحديث إلى اللغة العربية، منها «عازفة البيانو» لإلفريده يلينك (دار ميريت، القاهرة 2005)، و«الكونتراباص» لباتريك زوسكيند (مشروع الترجمة، القاهرة 2005)، و«الوعد» لفريدريش دورنمات (دار أزمنة، عمان 2008)، و«رجل عاشق» لمارتين فالزر (مشروع «ترجم»، دبي 2008)، و«زمن مالر» لدانيال كيلمان (مشروع كلمة، أبو ظبي 2013) .