ويبقى المتنبي... شاعر النفس الإنسانية

ويبقى المتنبي... شاعر النفس الإنسانية

وهل‭ ‬ثمة‭ ‬جديد‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬وشعره،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬ملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغل‭ ‬الناس‭ ‬قرونًا‭ ‬متصلة‭ ‬وما‭ ‬يزال؟

لابد‭ ‬أن‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬الدائم‭ ‬لشعره‭ ‬سرًّا‭ ‬لم‭ ‬تُفك‭ ‬طلاسمه‭ ‬بعد،‭ ‬وسحرًا‭ ‬يتزايد‭ ‬بكثرة‭ ‬وارديه‭ ‬وقاصدي‭ ‬ضفافه‭.  ‬والسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬طرحه‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭: ‬لماذا‭ ‬نجح‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ - ‬دون‭ ‬سواه‭ - ‬في‭ ‬تمثيل‭ ‬الذاكرة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية،‭ ‬والإقامة‭ ‬في‭ ‬طواياها‭ ‬وعبر‭ ‬تخومها،‭ ‬استدعاءً‭ ‬واستشهادًا‭ ‬ومرجعية‭ ‬على‭ ‬تعاقب‭ ‬الأزمان‭ ‬وتعدّد‭ ‬الأوطان؟‭ ‬

تُرى‭ ‬هل‭ ‬نستطيع‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬نتمثَّل‭ ‬عربيًّا‭ ‬بدويًّا،‭ ‬تسكنه‭ ‬البادية‭ ‬بكل‭ ‬قيمها‭ ‬وتقاليدها‭ ‬وهواجسها،‭ ‬يضرب‭ ‬في‭ ‬فجاج‭ ‬الأرض،‭ ‬متعاليًا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬صعاب‭ ‬وأهوال‭ ‬وتحديات،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬الولاة‭ ‬والقادة‭ ‬والحكام‭ ‬والأمراء،‭ ‬شامخًا‭ ‬بفطرته‭ ‬التي‭ ‬تنتج‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬وخبرته‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬اتسعت‭ ‬لكل‭ ‬الأحداث‭ ‬والمواقف‭ ‬والأشواق‭ ‬والتطلعات‭ ‬والانكسارات‭ ‬والانتصارات،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يعبر‭ ‬خاطر‭ ‬نفسيّ،‭ ‬إلا‭ ‬وتسرع‭ ‬الذاكرة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬استدعاء‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬هذا‭ ‬البدويّ‭ ‬حتى‭ ‬النخاع،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يساير‭ ‬أهل‭ ‬الحضر،‭ ‬ويجاور‭ ‬سكان‭ ‬الثغور‭ ‬والعواصم،‭ ‬وينزل‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬سادة‭ ‬القوم،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬بدويته‭ ‬أو‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬مكوّناته‭ ‬الأولى؟

يبدأ‭ ‬الموقف‭ ‬الإنساني‭ - ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ - ‬بوعي‭ ‬التفرد‭ ‬وزهو‭ ‬التوحد‭ ‬واتساع‭ ‬مساحات‭ ‬الاختلاف،‭ ‬والبوْن‭ ‬الشاسع‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬سواه،‭ ‬ثم‭ ‬يزداد‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬حتى‭ ‬ليكاد‭ ‬يصبح‭ ‬خانقًا‭ ‬لصاحبه‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬يلائمه‭ ‬أو‭ ‬يستصحبه،‭ ‬نِدًّا‭ ‬أو‭ ‬قرينًا‭ ‬أو‭ ‬مماثلاً،‭ ‬يحقق‭ ‬نداوة‭ ‬المشاركة‭ ‬ويقوم‭ ‬بدور‭ ‬رجع‭ ‬الصدى‭ ‬لما‭ ‬يصدر‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬أقوال‭ ‬وأفعال‭. ‬عندئذٍ‭ ‬تبدأ‭ ‬الغربة،‭ ‬وتتسع‭ ‬آفاق‭ ‬الاغتراب،‭ ‬ويدرك‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬زمانه‭ ‬ولا‭ ‬مكانه،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬أنداده‭ ‬ونظرائه‭. ‬إنه‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يرون،‭ ‬ويدرك‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يدركون،‭ ‬ويعيش‭ ‬أزمته‭ ‬الإنسانية‭ ‬الوجودية‭ ‬على‭ ‬قلقٍ‭ ‬كأِنه‭ ‬الريح‭ ‬تحته،‭ ‬يُغبّر‭ ‬بفرسه‭ ‬من‭ ‬موضع‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ويصطدم‭ ‬في‭ ‬ترحاله‭ ‬بوجه‭ ‬شائه‭ ‬بعد‭ ‬وجه،‭ ‬فالعصر‭ ‬مختلف،‭ ‬والناس‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬طباعهم‭ ‬وجوهر‭ ‬حقيقتهم،‭ ‬والكذابون‭ ‬المراؤون‭ ‬قد‭ ‬سدّوا‭ ‬السبل‭ ‬أمام‭ ‬أصحاب‭ ‬الحقيقة‭ ‬والرأي‭ ‬الصُّراح‭: ‬

في‭ ‬كل‭ ‬أرضٍ‭ ‬وطئتها‭ ‬أممٌ

تُرعى‭ ‬بعبد‭ ‬كأنها‭ ‬غنمُ

وإنما‭ ‬الناس‭ ‬بالملوك‭ ‬ولا

يصلح‭ ‬عُربٌ‭ ‬ملوكها‭ ‬عجمُ

وتزداد‭ ‬نبرة‭ ‬احتجاجه‭ ‬وغضبه‭ ‬حين‭ ‬يقول‭:‬

ما‭ ‬مقامي‭ ‬بأرض‭ ‬‮«‬نخلة‮»‬‭ ‬إلا

كمقام‭ ‬المسيح‭ ‬بين‭ ‬اليهود

أنا‭ ‬في‭ ‬أمة‭ ‬تداركها‭ ‬اللهُ

غريب‭ ‬كصالح‭ ‬في‭ ‬ثمود

وتسوقه‭ ‬قدماه‭ ‬وتدفعه‭ ‬مطامحه‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬تسدّ‭ ‬عليه‭ ‬فجاج‭ ‬الرحمة،‭ ‬وتُلغي‭ ‬إحساسه‭ ‬بهويَّته‭ ‬التي‭ ‬يبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬أضاعها‭ ‬في‭ ‬زحام‭ ‬ما‭ ‬ضاع‭: ‬

ولكنّ‭ ‬الفتى‭ ‬العربي‭ ‬فيها

غريب‭ ‬الوجه‭ ‬واليد‭ ‬واللسانِ

هذه‭ ‬الغربة‭ ‬وهذا‭ ‬الاغتراب‭ - ‬بمعناهما‭ ‬الحقيقي‭ ‬والمجازي‭ - ‬ودلالتيهما‭ ‬الحياتية‭ ‬والوجودية،‭ ‬هما‭ ‬مفتاح‭ ‬هذا‭ ‬السرّ‭ ‬الدفين،‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يستشعر‭ ‬أنه‭ ‬فوق‭ ‬عصره‭... ‬حكامًا‭ ‬ومحكومين،‭ ‬وأنه‭ ‬فوق‭ ‬شعرائه‭... ‬منزلة‭ ‬ومكانة،‭ ‬وأنه‭ ‬فوق‭ ‬وجوده‭ - ‬الذي‭ ‬يحدده‭ ‬عمر‭ ‬وتاريخ‭ - ‬لأنه‭ ‬الدائم‭ ‬السطوع‭ ‬بقصائده‭ ‬الدائمة‭ ‬الدوران‭: ‬

أنام‭ ‬ملء‭ ‬جفوني‭ ‬عن‭ ‬شواردها‭ ‬

ويسهر‭ ‬الخلق‭ ‬جرّاها‭ ‬ويختصمُ

وهو‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬مجالاً‭ ‬للتخييل،‭ ‬حين‭ ‬نحاول‭ ‬رسم‭ ‬صاحب‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الاغترابية‭ ‬العظمى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬إنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬رسمها‭ ‬وتشخيصها‭ ‬والنفخ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬لتصبح‭ ‬ملء‭ ‬السمع‭ ‬والبصر،‭ ‬والعقل‭ ‬والوجدان،‭ ‬حين‭ ‬يقول‭ ‬مستهلاًّ‭ ‬أبياته‭ ‬بالكلمة‭ ‬الدالة‭ ‬اتغرَّبب‭:‬

تغرَّب‭ ‬لا‭ ‬مُستعظمًا‭ ‬غير‭ ‬نفْسهِ

ولا‭ ‬قابلاً‭ ‬إلا‭ ‬لخالقهِ‭ ‬حُكْما

ولا‭ ‬سالكًا‭ ‬إلا‭ ‬فؤاد‭ ‬عجاجةٍ

ولا‭ ‬واجدًا‭ ‬إلا‭ ‬لمكرمةٍ‭ ‬طعما

يقولون‭ ‬لي‭: ‬ما‭ ‬أنت؟‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬بلدة

وما‭ ‬تبتغي؟‭ ‬ما‭ ‬أبتغي‭ ‬جلَّ‭ ‬أن‭ ‬يُسمى

كأن‭ ‬بنيهم‭ ‬عالمون‭ ‬بأنني

جلوبٌ‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬معادنه‭ ‬اليُتْما

وما‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الماء‭ ‬والنار‭ ‬في‭ ‬يدي

بأصعب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أجمع‭ ‬الجَدَّ‭ ‬والفهما

ولكنني‭ ‬مُستنصرٌ‭ ‬بذُبابهِ

ومرتكبٌ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬حال‭ ‬به‭ ‬الغَشْما

وجاعله‭ ‬يوم‭ ‬اللقاء‭ ‬تحيتي

وإلا‭ ‬فلستُ‭ ‬السيد‭ ‬البطل‭ ‬القرْما

إذا‭ ‬فُلّ‭ ‬عزمي‭ ‬عن‭ ‬مدىً‭ ‬خوْفَ‭ ‬بُعده‭ ‬

فأبعد‭ ‬شيء‭ ‬ممكن‭ ‬لم‭ ‬يجدْ‭ ‬عزما

وإني‭ ‬لمن‭ ‬قوم‭ ‬كأنّ‭ ‬نفوسهم

بها‭ ‬أنفٌ‭ ‬أن‭ ‬تسكن‭ ‬اللحم‭ ‬والعظْما

كذا‭ ‬أنا‭ ‬يا‭ ‬دنيا،‭ ‬إذا‭ ‬شئتِ‭ ‬فاذهبي

ويا‭ ‬نفسُ‭ ‬زيدي‭ ‬في‭ ‬كرائهها‭ ‬قُدْما

فلا‭ ‬عبرتْ‭ ‬بي‭ ‬ساعةٌ‭ ‬لا‭ ‬تُعزّني

ولا‭ ‬صحبتني‭ ‬مهجةٌ‭ ‬تقبل‭ ‬الظلما

مثل‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬المترعة‭ ‬بالكبرياء،‭ ‬وهذه‭ ‬النفس‭ ‬المتأبية‭ ‬على‭  ‬الاندراج‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الآخرين،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬نظرته‭ ‬إلى‭ ‬صنعته‭ ‬الشعرية‭ ‬نظرة‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬ينحت‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مثال،‭ ‬وهو‭ ‬إذ‭ ‬يرسم‭ ‬صورًا‭ ‬شتى‭ ‬لممدوحيه‭ - ‬على‭ ‬مدار‭ ‬حياته‭ ‬الشعرية‭ - ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يفتأ‭ ‬يذكّرنا‭ ‬بأنه‭ ‬ليس‭ ‬أقلّ‭ ‬منهم‭ ‬شأنًا‭ ‬ولا‭ ‬أدنى‭ ‬مرتبة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬الذين‭ ‬يمدحهم‭ ‬ويضفي‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬شعره‭: ‬

وفؤادي‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬وإن‭ ‬كا

ن‭ ‬لساني‭ ‬يُرى‭ ‬من‭ ‬الشعراء

وصحيح‭ ‬أنه‭ ‬يتقبل‭ ‬عطايا‭ ‬ممدوحيه‭ ‬ويسعد‭ ‬لنوالهم،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يعطونه‭ ‬زائل‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يمنحهم‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬روائع‭ ‬شعره،‭ ‬باقٍ‭ ‬وخالد‭. ‬وإنه‭ ‬حين‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬معجبًا‭ ‬بكرمه‭ ‬وشجاعته‭ ‬وحسن‭ ‬تذوقه‭ ‬للشعر،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يغيب‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬صانع‭ ‬صورة‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬عينيه‭ ‬وعلى‭ ‬غير‭ ‬مثال‭ ‬سابق‭. ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬يغمره‭ ‬بعطاياه‭ ‬وصنائعه،‭ ‬فإنه‭ - ‬أي‭ ‬المتنبي‭ - ‬يصنعه‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يريدها‭ ‬له،‭ ‬وكأننا‭ ‬أمام‭ ‬معادلة‭ ‬فذة‭: ‬الممدوح‭ ‬يضمن‭ ‬للشاعر‭ ‬حياته‭ ‬ووجوده‭ ‬وبحبوحة‭ ‬عيشه،‭ ‬والشاعر‭ ‬بدوره‭ ‬يضمن‭ ‬لممدوحه‭ ‬حياة‭ ‬من‭ ‬صنعه‭ ‬هو‭ ‬وصورة‭ ‬من‭ ‬نسجه‭ ‬هو،‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬الممدوح‭ - ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬مثلاً‭ - ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬مُصوِّرٍ‭ ‬متفرِّد‭ ‬هو‭ ‬المتنبي،‭ ‬وبألوان‭ ‬شاعر‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭ ‬هو‭ ‬أبوالطيب،‭ ‬وكأن‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ينفخ‭ ‬الروح‭ ‬ويبعث‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬هذا‭ ‬الممدوح‭ ‬المرسومة‭ ‬وتمثاله‭ ‬المنحوت‭. ‬يقول‭ ‬أبوالطيب‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬لوحاته‭ ‬الشعرية‭ ‬البديعة‭ ‬في‭ ‬ممدوح‭ ‬غير‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬شمسه‭ ‬الأنطاكي‭: ‬

نفحتنا‭ ‬منه‭ ‬الصّبا‭ ‬بنسيم

ردّ‭ ‬روحاً‭ ‬في‭ ‬ميِّت‭ ‬الآمال

أكبر‭ ‬العيب‭ ‬عنده‭ ‬البخل،‭ ‬والطعـ

ـنُ‭ ‬عليه‭ ‬التشبيهُ‭ ‬بالرئبالِ

والجراحات‭ ‬عنده‭ ‬نغماتٌ

سبقتَ‭ ‬قبل‭ ‬سيْبهِ‭ ‬بسؤال

ذا‭ ‬السراجُ‭ ‬المنيرُ،‭ ‬هذا‭ ‬النقيُّ‭ ‬الــ

ـجيبِ،‭ ‬هذا‭ ‬بقية‭ ‬الأبدالِ

فخذا‭ ‬ماء‭ ‬رجله‭ ‬فانضحا‭ ‬في‭ ‬المدْ

نِ‭ ‬تأمن‭ ‬بوائق‭ ‬الزلزال

مالئا‭ ‬من‭ ‬نواله‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب

ومن‭ ‬خوفه‭ ‬قلوب‭ ‬الرجال

قابضا‭ ‬كفّه‭ ‬اليمين‭ ‬عن‭ ‬الدنْـ

ـيا،‭ ‬ولو‭ ‬شاء‭ ‬حازها‭ ‬بالشِّمال

نفسهُ‭ ‬جيشه،‭ ‬وتدبيرهُ‭ ‬النَّصْـ

ـر،‭ ‬وألحاظهُ‭ ‬الظبى‭ ‬والعوالي

وله‭ ‬في‭ ‬جماجم‭ ‬المال‭ ‬ضربٌ

وقعه‭ ‬في‭ ‬جماجم‭ ‬الأبطالِ

رجل‭ ‬طينهُ‭ ‬من‭ ‬العنبر‭ ‬الور

دِ،‭ ‬وطين‭ ‬العباد‭ ‬من‭ ‬صلصالِ

فبقيات‭ ‬طينه‭ ‬لاقت‭ ‬الما

ءَ،‭ ‬فصارت‭ ‬عذوبةً‭ ‬في‭ ‬الزلال

وبقايا‭ ‬وقاره‭ ‬عافت‭ ‬النَّا

سَ،‭ ‬فصارت‭ ‬ركانةً‭ ‬في‭ ‬الجبالِ

أنت‭ ‬طورًا‭ ‬أمرُّ‭ ‬من‭ ‬ناقع‭ ‬السّمـ

ـم،‭ ‬وطورًا‭ ‬أحلى‭ ‬من‭ ‬السلسال

إنما‭ ‬الناس‭ ‬حيث‭ ‬أنت،‭ ‬وما‭ ‬النّا

سُ‭ ‬بناسٍ‭ ‬في‭ ‬موضعٍ‭ ‬منك‭ ‬خالِ

هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭:‬

وفؤادي‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬وإن‭ ‬كا

ن‭ ‬لساني‭ ‬يُرى‭ ‬من‭ ‬الشعراءِ

كأنه‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لممدوحيه‭: ‬كونوا‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬لكم،‭ ‬لقد‭ ‬أبرزتُ‭ ‬ما‭ ‬فيكم‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬وجلال‭ ‬وكمال،‭ ‬وغطّيت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فيكم‭ ‬من‭ ‬نقص‭ ‬البشر‭ ‬ووجوه‭ ‬ضعفهم،‭ ‬فاسعوْا‭ ‬جاهدين‭ ‬لتحقيق‭ ‬صورتكم‭ ‬في‭ ‬شعري،‭ ‬فهكذا‭ ‬صنعتكم،‭ ‬وهكذا‭ ‬بالغتُ‭ ‬في‭ ‬تزيينكم‭ ‬وتجميلكم،‭ ‬لتكونوا‭ ‬أمثلة‭ ‬للناس،‭ ‬وقدوة‭ ‬للرعية‭.‬

المتنبي‭ ‬صانع‭ ‬اللوحات‭ ‬الشعرية‭ ‬البديعة‭ ‬وصائغها،‭ ‬يفتنُّ‭ ‬في‭ ‬التفاصيل،‭ ‬ويبرع‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬اللوحة‭ ‬وزواياها،‭ ‬حتى‭ ‬ليكاد‭ ‬ينطقها،‭ ‬ويجعلها‭ ‬منافسة‭ ‬للأصل‭ ‬البشري‭ ‬الذي‭ ‬حاكاه‭ ‬في‭ ‬شعره‭. ‬وفي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬استوقفته‭ ‬صاحبتها‭ ‬يقول‭: ‬

سفرت‭ ‬وبرقعها‭ ‬الحياءُ‭ ‬بصفرةٍ

سترت‭ ‬محاجرها‭ ‬ولم‭ ‬تك‭ ‬بُرقعا

فكأنها‭ ‬والدمع‭ ‬يقطرُ‭ ‬فوقها

ذهب‭ ‬بِسمطيْ‭ ‬لؤلؤ‭ ‬قد‭ ‬رُصّعا

كشفت‭ ‬ثلاث‭ ‬ذوائب‭ ‬من‭ ‬شعرها

في‭ ‬ليلة،‭ ‬فأَرتْ‭ ‬لياليَ‭ ‬أربعا

واستقبلتْ‭ ‬قمر‭ ‬السماء‭ ‬بوجهها

فأرتْنيَ‭ ‬القمرين‭ ‬في‭ ‬وقتٍ‭ ‬معا

وفي‭ ‬لوحة‭ ‬شعرية‭ ‬ثانية‭ ‬يقول‭:‬

لبسْنَ‭ ‬الوشي‭ ‬لا‭ ‬مُتجملاتٍ

ولكن‭ ‬كي‭ ‬يصنّ‭ ‬به‭ ‬الجمالا

وضفّرْنَ‭ ‬الغدائر‭ ‬لا‭ ‬لحسنٍ

ولكن‭ ‬خِفْنَ‭ ‬في‭ ‬الشَّعْر‭ ‬الضلالا

بجسمى‭ ‬مَنْ‭ ‬برتْهُ‭ ‬فلو‭ ‬أصارت

وشاحي‭ ‬ثَقْبَ‭ ‬لؤلؤة‭ ‬لجالا

ولولا‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬نومٍ

لَبِتُّ‭ ‬أظنّني‭ ‬مني‭ ‬خيالا

بدت‭ ‬قمرًا،‭ ‬ومالت‭ ‬خوط‭ ‬بانٍ

وفاحت‭ ‬عنبرًا،‭ ‬ورنَتْ‭ ‬غزالا

كأنّ‭ ‬الحزن‭ ‬مشغوف‭ ‬بقلبي

فساعة‭ ‬هجرها‭ ‬يجدُ‭ ‬الوصالا

كذا‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬قبلي

صروفٌ‭ ‬لم‭ ‬يُدمْنَ‭ ‬عليه‭ ‬حالا

فما‭ ‬حاولتُ‭ ‬في‭ ‬أرضٍ‭ ‬مُقامًا

ولا‭ ‬أزمعتُ‭ ‬عن‭ ‬أرضٍ‭ ‬زوالا

على‭ ‬قلِقٍ‭ ‬كأن‭ ‬الريح‭ ‬تحتي

أُوجّهها‭ ‬جنوبًا‭ ‬أو‭ ‬شمالا

هكذا‭ ‬يمضي‭ ‬بنا‭ ‬أبوالطيب،‭ ‬وشعره‭ ‬لا‭ ‬ينفكُّ‭ ‬يغمرنا‭ ‬بأقباس‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬التصوير‭ ‬والتجسيد،‭ ‬وإحكام‭ ‬الصيغة‭ ‬التي‭ ‬تمّ‭ ‬تركيزها‭ ‬حتى‭ ‬تتسع‭ ‬لدلالات‭ ‬شتى،‭ ‬تأخذ‭ ‬بقارئها‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬إلى‭ ‬طبقة،‭ ‬ومن‭ ‬عالم‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬آخر،‭ ‬يمضي‭ ‬بنا‭ ‬وكأنه‭ ‬ينثر‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬دُررًا‭ ‬لم‭ ‬تجتمع‭ ‬لصائغٍ‭ ‬سواه،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

خليلُكُ‭ ‬أنتَ،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬قلت‭ ‬خِلّي

وإن‭ ‬كثر‭ ‬التجمُّلُ‭ ‬والكلامُ

وشبهُ‭ ‬الشيء‭ ‬منجذبٌ‭ ‬إليه

وأشبههُ‭ ‬بدنيانا‭ ‬الطغام

ومن‭ ‬خبر‭ ‬الغواني‭ ‬فالغواني

ضياء‭ ‬في‭ ‬بواطنه‭ ‬ظلامُ

تلذُّ‭ ‬له‭ ‬المروءة‭ ‬وهي‭ ‬تُغري

ومن‭ ‬يعشقْ‭ ‬يلذَّ‭ ‬له‭ ‬الغرامُ

ويطلق‭ ‬صيحته‭ ‬المدوية‭ ‬الكاشفة‭ ‬عن‭ ‬طبائع‭ ‬النفوس،‭ ‬وحيرتها‭ ‬بين‭ ‬الجبن‭ ‬والشجاعة،‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬

يرى‭ ‬الجبناءُ‭ ‬أن‭ ‬العجز‭ ‬عقلٌ

وتلك‭ ‬خديعةُ‭ ‬الطبع‭ ‬الّلئيمِ

وكلُّ‭ ‬شجاعة‭ ‬في‭ ‬المرء‭ ‬تُغني

ولا‭ ‬مثل‭ ‬الشجاعة‭ ‬في‭ ‬الحكيم

وكم‭ ‬من‭ ‬عائبٍ‭ ‬قولاً‭ ‬صحيحًا

وآفتهُ‭ ‬من‭ ‬الفهم‭ ‬السّقيم

ولكن‭ ‬تأخذ‭ ‬الآذان‭ ‬منه

على‭ ‬قدر‭ ‬القرائح‭ ‬والفهومِ

وفي‭ ‬لحظة‭ ‬التأمل‭ ‬العميق‭ ‬والحكمة‭ ‬الخالصة‭ ‬الصافية،‭ ‬يصل‭ ‬المتنبي‭ - ‬في‭ ‬وثباته‭ ‬الشعرية‭ - ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يعجز‭ ‬عن‭ ‬بلوغه‭ ‬سواه،‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬

ذو‭ ‬العقل‭ ‬يشقى‭ ‬في‭ ‬النعيم‭ ‬بعقله

وأخو‭ ‬الجهالة‭ ‬في‭ ‬الشقاوة‭ ‬ينعمُ

لا‭ ‬يسلم‭ ‬الشرف‭ ‬الرفيع‭ ‬من‭ ‬الأذى

حتى‭ ‬يُراق‭ ‬على‭ ‬جوانبه‭ ‬الدمُ

والظلُم‭ ‬في‭ ‬خُلُقِ‭ ‬النفوس‭ ‬فإن‭ ‬تجد

ذا‭ ‬عفة،‭ ‬فلعلةٍ‭ ‬لا‭ ‬يظلمُ

ومن‭ ‬البلية‭ ‬عذل‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يرعوي

عن‭ ‬جهله‭ ‬وخطابُ‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يفهمُ

ومن‭ ‬العدالة‭ ‬ما‭ ‬ينالك‭ ‬نفعهُ

ومن‭ ‬الصداقة‭ ‬ما‭ ‬يضرُّ‭ ‬ويؤلمُ

ويروى‭ ‬قوله‭: ‬اوالظلم‭ ‬في‭ ‬خُلق‭ ‬النفوسب‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭: ‬اوالظلم‭ ‬من‭ ‬شيمِ‭ ‬النفوسب‭. ‬هنا‭ ‬نجد‭ ‬مصداقًا‭ ‬لنفاذ‭ ‬معرفة‭ ‬المتنبي‭ ‬بالناس،‭ ‬وعمق‭ ‬خبرته‭ ‬بالحياة‭ ‬والأحياء،‭ ‬وارتطامه‭ - ‬في‭ ‬غدواته‭ ‬وروحاته‭ - ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يتراكم‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬ضعفهم‭ ‬وأخطائهم‭ ‬وهوانهم‭ ‬على‭ ‬أنفسهم،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يلخّص‭ ‬خبرته‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬بيت‭  ‬شديد‭ ‬القسوة‭ ‬والمباشرة‭:‬

ومن‭ ‬عرَف‭ ‬الأيام‭ ‬معرفتي‭ ‬بها

وبالناس،‭ ‬روّى‭ ‬رمحه‭ ‬غير‭ ‬راحمِ

فالعداء‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الأيام‭ - ‬بتصرّفاتها‭ ‬وتقلباتها‭-‬،‭ ‬وبينه‭ ‬وبين‭ ‬الناس‭ - ‬بسوء‭ ‬طواياهم‭ ‬وملقهم‭ ‬وزيفهم‭ ‬ونفاقهم‭ - ‬عداء‭ ‬أصيل‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬تتصاعد‭ ‬درجاته‭ ‬مع‭ ‬تصاعد‭ ‬درجة‭ ‬المعرفة‭ ‬بهم‭ ‬والخبرة‭ ‬بأحوالهم‭ ‬وأوضاعهم‭. ‬وتضافر‭ ‬السعي‭ ‬الكريه‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬والزمان،‭ ‬والصحبة‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬سوء‭ ‬فعالهم‭ ‬وسوء‭ ‬فعاله،‭ ‬أمر‭ ‬يستوقفه‭ ‬بألوان‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬والتأمل،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الجزم‭ ‬والقطع‭ ‬في‭ ‬أمرٍ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬خافيًا‭ ‬عليه‭. ‬إذن‭ ‬فليفردْ‭ ‬له‭ ‬نصًّا‭ ‬شعريًّا‭ ‬بديعًا،‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬نظيرًا‭ ‬عند‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الحكمة‭ ‬والتفلسف،‭ ‬بين‭ ‬القدماء‭ ‬والمحدثين،‭ ‬وليمتلئ‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬ويتوهج‭ ‬بالبناء‭ ‬المحكم‭ ‬والصياغة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬مُكْنة‭ ‬الصنعة‭ ‬الفنية‭ ‬وجمال‭ ‬التدفق‭ ‬الشعري‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬

صحب‭ ‬الناس‭ ‬قبلنا‭ ‬ذا‭ ‬الزمانا

وعناهم‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬ما‭ ‬عنانا

وتولّوا‭ ‬بغصةٍ‭ ‬كلُّهم‭ ‬منهُ

وإن‭ ‬سرَّ‭ ‬بعضهم‭ ‬أحيانا

ربّما‭ ‬تحسن‭ ‬الصنيع‭ ‬لياليهِ

ولكن‭ ‬تكدّر‭ ‬الإحسانا

وكأنّا‭ ‬لم‭ ‬نرْض‭ ‬فينا‭ ‬بريب‭ ‬الدّ

هر‭ ‬حتى‭ ‬أعانه‭ ‬من‭ ‬أعانا

كلما‭ ‬أنبت‭ ‬الزمان‭ ‬قَناةً

ركّب‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬القناة‭ ‬سنانا

ومراد‭ ‬النفوس‭ ‬أصغرُ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬

نتعادى‭ ‬فيه‭ ‬وأن‭ ‬نتفانى

غير‭ ‬أنّ‭ ‬الفتى‭ ‬يُلاقي‭ ‬المنايا

كالحاتٍ‭ ‬ولا‭ ‬يلاقي‭ ‬الهوانا

ولو‭ ‬أنّ‭ ‬الحياة‭ ‬تبقى‭ ‬لحيٍّ

لعددْنا‭ ‬أضلّنا‭ ‬الشجعانا

وإذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬بدٌّ

فمن‭ ‬العجز‭ ‬أن‭ ‬تكون‭  ‬جبانا

كلُّ‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬في‭ ‬الأنـ

ـفسِ‭ ‬سهلٌ‭ ‬فيها‭ ‬إذا‭ ‬هو‭ ‬كانا

ويكمل‭ ‬غوْصَهُ‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وكشْفَهُ‭ ‬عن‭ ‬خفاياها‭ ‬وخباياها‭ ‬ودخائلها،‭ ‬ووصولهُ‭ ‬إلى‭ ‬الذروة‭ ‬التي‭ ‬تريح،‭ ‬والحال‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تُدهش،‭ ‬بقوله‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬قصيدته‭ ‬وقد‭ ‬أصابته‭ ‬الحمّى‭ ‬التي‭ ‬ألجأته‭ ‬إلى‭ ‬الرقاد‭ ‬وملازمة‭ ‬الموضع‭ ‬والمكان‭ - ‬كأنه‭ ‬طريح‭ ‬الإقامة‭ ‬الجبرية‭ - ‬وإطلاق‭ ‬العنان‭ ‬للمراجعة،‭ ‬مراجعة‭ ‬نفسه‭ ‬ونفوس‭ ‬الآخرين،‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭:‬

ولما‭ ‬صار‭ ‬ودُّ‭ ‬الناسِ‭ ‬خِبًّا

جزيْتُ‭ ‬على‭ ‬ابتسامٍ‭ ‬بابتسامِ

وصرتُ‭ ‬أشكُّ‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬أصطفيه‭ ‬

لعلمي‭ ‬أنه‭ ‬بعضُ‭ ‬الأنامِ

يحبُّ‭ ‬العاقلون‭ ‬على‭ ‬التصافي

وحبُّ‭ ‬الجاهلين‭ ‬على‭ ‬الوَسام

أرى‭ ‬الأجداد‭ ‬تغلبها‭ ‬كثيرا

على‭ ‬الأولاد،‭ ‬أخلاقُ‭ ‬اللئام

ولست‭ ‬بقانع‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬فضلٍ

بأن‭ ‬أُعزى‭ ‬إلى‭ ‬جدٍّ‭ ‬هُمامِ

عجبتُ‭ ‬لمن‭ ‬له‭ ‬قدٌّ‭ ‬وحدٌّ

وينبو‭ ‬نَبوْةَ‭ ‬القضمِ‭ ‬الكهامِ

ومن‭ ‬يجد‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المعالي

فلا‭ ‬يذر‭ ‬المطيَّ‭ ‬بلا‭ ‬سنامِ

ولم‭ ‬أرَ‭ ‬في‭ ‬عيوب‭ ‬الناس‭ ‬شيئا

كنقص‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬التّمامِ

وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬البيتين‭ ‬االكاشفينب‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬وهو‭ ‬يخاطب‭ ‬الحمّى‭ ‬التي‭ ‬أصابته،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬يعاني‭ ‬زحام‭ ‬العلل‭ ‬والمصائب‭ ‬ويجتمع‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الأرزاء‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬مُجرّحا‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬فيه‭ ‬مكان‭ ‬لسهم‭ ‬جديد‭: ‬

أبنتَ‭ ‬الدهر‭ ‬عندي‭ ‬كلُّ‭ ‬بنتٍ

فكيف‭ ‬وصلْتِ‭ ‬أنت‭ ‬من‭ ‬الزحامِ؟

جرحْتِ‭ ‬مُجرّحًا‭ ‬لم‭ ‬يبْق‭ ‬فيه

مكان‭ ‬للسيوف‭ ‬ولا‭ ‬السّهامِ

وتقترب‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬نهايتها،‭ ‬كما‭ ‬تقترب‭ ‬المكاشفة‭ ‬من‭ ‬تحققها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬يردّد‭:‬

فإن‭ ‬أمرض‭ ‬فما‭ ‬مرض‭ ‬اصطباري

وإن‭ ‬أُحممْ‭ ‬فما‭ ‬حُمَّ‭ ‬اعتزامي

وإن‭ ‬أسلم‭ ‬فما‭ ‬أبقى،‭ ‬ولكن

سلمتُ‭ ‬من‭ ‬الحِمامِ‭ ‬إلى‭ ‬الحمامِ

والذي‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النفس‭ ‬الطعينة‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬المتنبي،‭ ‬وهذا‭ ‬التطواف‭ ‬الهائل‭ ‬في‭ ‬تقلبات‭ ‬الأحداث‭ ‬وغدر‭ ‬الأيام،‭ ‬والتماس‭ ‬التأسي‭ ‬في‭ ‬ازدياد‭ ‬الخبرة‭ ‬والمعرفة‭ ‬بالحياة‭ ‬والناس،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يمثل‭ ‬مدخلاً‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬طرحناه‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬وهو‭: ‬لماذا‭ ‬نجح‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ - ‬دون‭ ‬سواه‭ - ‬في‭ ‬تمثيل‭ ‬الذاكرة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية،‭ ‬استدعاءً‭ ‬واستشهادًا‭ ‬ومرجعية،‭ ‬على‭ ‬تعاقب‭ ‬الأزمان‭ ‬وتعدّد‭ ‬الأوطان؟

ذلك‭ ‬أنه‭ ‬شاعر‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية‭ .