ذكريات أمل دنقل

ذكريات أمل دنقل

أتاح‭ ‬لي‭ ‬عملي‭ ‬النقدي‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬مع‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المبدعين،‭ ‬ولكن‭ ‬علاقتي‭ ‬مع‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ (‬1940-1983‭) ‬كان‭ ‬لها‭ ‬وضع‭ ‬خاص،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬أمل‭ ‬أقرب‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬إلى‭ ‬قلبي‭ ‬وعقلي‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬أسباب‭ ‬ذلك‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬تقاربنا‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬أمل‭ ‬يسبقني‭ ‬في‭ ‬الميلاد‭ ‬إلا‭ ‬بأربع‭ ‬سنوات،‭ ‬تجعلنا‭ ‬أبناء‭ ‬جيل‭ ‬واحد،‭ ‬فأمل‭ ‬‭ ‬مثلي‭- ‬بدأ‭ ‬وعيه‭ ‬للعالم‭ ‬يتشكل‭ ‬مع‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬سنة‭ ‬1956،‭ ‬وهو‭ ‬العدوان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أكبر‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬تفجير‭ ‬موهبة‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬الشعرية،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقرن‭ ‬فيه‭ ‬عام‭ ‬1956‭ ‬ببداية‭ ‬الوعي‭ ‬القومي‭ ‬عنده‭ ‬وعندي‭. ‬

وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تصاعدت‭ ‬فيه‭ ‬زعامة‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬التي‭ ‬اقترنت‭ ‬في‭ ‬وجداننا‭ ‬بأحلام‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬والحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الأحلام‭ ‬الثلاثة‭ ‬وراء‭ ‬تشكيل‭ ‬وعينا‭ ‬القومي‭ ‬الذي‭ ‬انطوى‭ ‬على‭ ‬شعاراتها‭ ‬وأحلامها،‭ ‬وهي‭ ‬أحلام‭ ‬وشعارات‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تسكن‭ ‬وجدان‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مطلعها‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬أمل‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الرابع‭ ‬والأربعين،‭ ‬حيث‭ ‬وُلدت‭ ‬أنا،‭ ‬قبل‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬بعام‭ ‬واحد‭. ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬معرفة‭ ‬شخصية‭ ‬إلا‭ ‬سنة‭ ‬1970،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬ظهور‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬سنة‭ ‬1969‭. ‬وقد‭ ‬جعل‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬من‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬شاعراً‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬جيل‭ ‬الستينيات‭ ‬الذي‭ ‬ارتبط‭ ‬حضوره‭ ‬الساطع‭ ‬برفض‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬الكارثية،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إليها،‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أفق‭ ‬واعد‭ ‬للخلاص،‭ ‬ظل‭ ‬غائباً‭ ‬عن‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬أنتسب‭ ‬إليه‭ ‬وأمل‭ ‬دنقل‭.‬

وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬عندما‭ ‬عرفت‭ ‬أمل‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬كانت‭ ‬المعرفة‭ ‬عادية‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الحميمية‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬عن‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬منذ‭ ‬مطالع‭ ‬الستينيات‭ ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬قصيدته‭ ‬اكلمات‭ ‬سبارتاكوس‭ ‬الأخيرةب‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬تبين‭ ‬عن‭ ‬طراز‭ ‬نادر‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الرفض‭. ‬وقد‭ ‬زادني‭ ‬إعجاباً‭ ‬بها‭ ‬أنها‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬شهدنا‭ ‬فيه‭ ‬فيلم‭ ‬اسبارتاكوسب‭ ‬وهو‭ ‬إحدى‭ ‬روائع‭ ‬المخرج‭ ‬العالمي‭ ‬ستانلي‭ ‬كوبريك،‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬تحمل‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه‭ ‬للكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬اليساري‭ ‬هوارد‭ ‬فاست‭. ‬وكان‭ ‬الفيلم‭ ‬كالرواية‭ ‬المأخوذ‭ ‬عنها،‭ ‬ملحمة‭ ‬تاريخية‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬العبد‭ ‬سبارتاكوس‭ ‬الذي‭ ‬تمرَّد‭ ‬على‭ ‬عبوديته،‭ ‬وقاد‭ ‬العبيد‭ ‬من‭ ‬أمثاله‭ ‬في‭ ‬ثورة‭ ‬هائلة‭ ‬هزت‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية،‭ ‬وهددتها‭ ‬بالهزيمة‭. ‬ويكمن‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬روعة‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬تمثيل‭ ‬أبطاله‭ ‬الذين‭ ‬جمعوا‭ ‬بين‭ ‬كيرك‭ ‬دوجلاس،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدور‭ ‬سبارتاكوس،‭ ‬وجين‭ ‬سيمونز،‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دور‭ ‬حبيبته‭ ‬فيرنيا،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬لورانس‭ ‬أوليفيه،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدور‭ ‬ماركوس‭ ‬كراسوس‭ ‬القائد‭ ‬العسكري‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬حملة‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬سبارتاكوس،‭ ‬مع‭ ‬نجوم‭ ‬آخرين‭ ‬مثل‭ ‬بيتر‭ ‬أوستينوف‭ ‬وتوني‭ ‬كيرتس‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬مشاهير‭ ‬الممثلين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬شاهد‭ ‬الفيلم‭ ‬وتأثر‭ ‬به‭ ‬مثلنا،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬التأثر‭ ‬ظاهر‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬المشانق‭ ‬أو‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الزوجة‭ ‬أو‭ ‬الحبيبة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بدورها‭ ‬جين‭ ‬سيمونز‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭. ‬وبداية‭ ‬القصيدة‭ ‬نفسها‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬موقف‭ ‬الرفض‭ ‬الذي‭ ‬يتسع‭ ‬ليأخذ‭ ‬بعداً‭ ‬ميتافيزيقياً‭. ‬وتنتهي‭ ‬القصيدة‭ ‬نهاية‭ ‬عدمية،‭ ‬كأنها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬اليأس‭ ‬في‭ ‬خلاص‭ ‬يحقق‭ ‬الأماني‭ ‬القومية‭:‬

يا‭ ‬إخوتي‭ ‬الذين‭ ‬يعبرون‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬في‭ ‬انحناء

منحدرين‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المساء

لا‭ ‬تحلموا‭ ‬بعالم‭ ‬سعيد

فخلف‭ ‬كل‭ ‬قيصر‭ ‬يموت‭ ‬قيصر‭ ‬جديد

وأذكر‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬اكلمات‭ ‬سبارتاكوس‭ ‬الأخيرةب‭ ‬دفعتني‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بشعر‭ ‬أمل‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬أراه‭ ‬في‭ ‬الملحق‭ ‬الأدبي‭ ‬لجريدة‭ ‬الأهرام،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يشرف‭ ‬عليه‭ ‬لويس‭ ‬عوض،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينشر‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬النشر‭ ‬فعلاً،‭ ‬ومرت‭ ‬سنوات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬العطلة‭ ‬الدراسية‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬1966،‭ ‬فقرأت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬االكاتبب‭ ‬اليسارية‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬اأشياء‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬الليلب‭ ‬مهداة‭ ‬إلى‭ ‬صلاح‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مثقفاً‭ ‬ثورياً‭ ‬يحارب‭ ‬عائلة‭ ‬إقطاعية‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬مصائر‭ ‬الناس‭ ‬وأرزاقهم‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬كمشيش،‭ ‬وهي‭ ‬قرية‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬المنوفية‭. ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬اغتيال‭ ‬صلاح‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬إدراك‭ ‬النظام‭ ‬بقايا‭ ‬الإقطاع‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭. ‬وأمر‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بتشكيل‭ ‬لجنة‭ ‬تصفية‭ ‬الإقطاع‭ ‬برئاسة‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬عامر‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬مأساة‭ ‬صلاح‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬ترثيه‭ ‬قصيدة‭ ‬أمل‭ ‬بطريقة‭ ‬فريدة‭.‬

وأذكر‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬المحلة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وقرأت‭ ‬لأصدقائي‭ ‬القصيدة،‭ ‬وتوقفت‭ ‬عند‭ ‬المقطع‭:‬

‭(‬وكان‭ ‬مبنى‭ ‬الاتحاد‭ ‬صامتاً‭.. ‬منطفئ‭ ‬الأنوار

تسري‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬عبير‭ ‬هيلتون‭ ‬القريب

أغنية‭ ‬طروب‭)‬

وكان‭ ‬وجهه‭ ‬النبيل‭ ‬مصحفاً‭ ‬عليه‭ ‬يُقسم‭ ‬الجياع‭ ‬وكانت‭ ‬الذراع

ضامرة‭.. ‬كبذرة‭ ‬القمح

ضامرة‭ ‬كالسنة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تنبت‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬الرضيع‭!‬

وكانت‭ ‬مفارقة‭ ‬التضاد‭ ‬لافتة‭ ‬في‭ ‬المقطع،‭ ‬تجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مبنى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الذي‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬سعي‭ ‬الدولة‭ ‬الناصرية‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬العدل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يأخذ‭ ‬بيد‭ ‬الفقراء‭ ‬ومبنى‭ ‬فندق‭ ‬الهيلتون‭ ‬المجاور،‭ ‬برمزيته‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬سيطرة‭ ‬البرجوازية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬محل‭ ‬الإقطاع،‭ ‬والتي‭ ‬أخذت‭ ‬تتعدى‭ ‬بحضورها‭ ‬الدلالي‭ ‬مبنى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تنقل‭ ‬عدواها‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬السادر‭ ‬في‭ ‬النوم،‭ ‬غير‭ ‬منتبه‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬ما‭ ‬ينقض‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬أنشئ‭ ‬من‭ ‬أجله‭. ‬ولكن‭ ‬تأتي‭ ‬السطور‭ ‬اللاحقة‭ ‬بما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬استشهاد‭ ‬صلاح‭ ‬حسين،‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الفقراء،‭ ‬والتي‭ ‬بدا‭ ‬أن‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬غفل‭ ‬عنها،‭ ‬سيتحول‭ ‬إلى‭ ‬ميثاق‭ ‬لزمن‭ ‬جديد،‭ ‬يستيقظ‭ ‬فيه‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬من‭ ‬نومه،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬سفر‭ ‬من‭ ‬التحول‭ ‬الذي‭ ‬تتحول‭ ‬فيه‭ ‬ذراع‭ ‬الشهيد‭ ‬إلى‭ ‬بذرة‭ ‬عالم‭ ‬جديد،‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬العوائق‭ ‬القائمة‭.‬

ولا‭ ‬أذكر‭ ‬أني‭ ‬قرأت‭ ‬لأمل‭ ‬شيئاً‭ ‬مؤثراً‭ ‬إلا‭ ‬قصيدة‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬أمل‭ ‬كالرصاصة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تأكد‭ ‬من‭ ‬وقوع‭ ‬الهزيمة‭ ‬الكارثية‭ ‬في‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬1967،‭ ‬حسب‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬وضعه‭ ‬في‭ ‬الديوان،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬كانت‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬تلقائياً‭ ‬للهزيمة‭ ‬التي‭ ‬أوجعت‭ ‬بمرارتها‭ ‬وقسوتها‭ ‬العرب‭ ‬جميعاً‭ ‬وليس‭ ‬المصريين‭ ‬وحدهم‭. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬أمل‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬يستخدم‭ ‬رموزاً‭ ‬وأقنعة،‭ ‬فقد‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬الهزيمة‭ ‬الوطنية‭ ‬هزيمة‭ ‬قومية،‭ ‬وأن‭ ‬حلم‭ ‬الوحدة‭ ‬والحرية‭ ‬والاشتراكية‭ ‬قد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬كابوس‭. ‬وما‭ ‬له‭ ‬دلالة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬التي‭ ‬جعلها‭ ‬أمل‭ ‬عنوان‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول،‭ ‬قد‭ ‬أحالته‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬مقروء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭. ‬وأكاد‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الجماهيرية‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬جماهيرية‭ ‬قصيدة‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬اهوامش‭ ‬على‭ ‬دفتر‭ ‬النكسةب‭. ‬هكذا‭ ‬أخذ‭ ‬القراء‭ ‬يتهافتون‭ ‬على‭ ‬ديوان‭ ‬أمل‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الآداب‭ ‬سنة‭ ‬1969،‭ ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬قرأها‭ ‬القراء‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬عدة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تستقر‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬الذي‭ ‬حملت‭ ‬اسمه‭.‬

وقد‭ ‬عرفت‭ ‬أمل‭ ‬شخصياً‭ ‬بسبب‭ ‬إعجابي‭ ‬بهذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬عرَّفني‭ ‬به‭ ‬صديق‭ ‬مشترك،‭ ‬ولكن‭ ‬ظلت‭ ‬علاقتنا‭ ‬سطحية،‭ ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬قرأت‭ ‬ديوانه‭ ‬الثاني‭ ‬اتعليق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حدثب‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬1971،‭ ‬وكان‭ ‬استمراراً‭ ‬للروح‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬الأول‭. ‬وأخيراً‭ ‬جاء‭ ‬الديوان‭ ‬الثالث‭ ‬االعهد‭ ‬الآتيب‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬1975‭. ‬وكانت‭ ‬علاقتي‭ ‬بأمل‭ ‬قد‭ ‬توثقت،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬مناقشة‭ ‬أطروحتي‭ ‬للدكتوراه‭ ‬سنة‭ ‬1973،‭ ‬وأصبحت‭ ‬أملك‭ ‬من‭ ‬وقتي‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬أسلم‭ ‬قيادي‭ ‬لأمل‭ ‬لكي‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬القاهرة‭ ‬العجوز‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفها‭ ‬فعلاً‭ ‬قبل‭ ‬أمل‭. ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬أمل‭ ‬أنس‭ ‬لي‭ ‬وأولاني‭ ‬ثقته،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬نادراً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يأنس‭ ‬لأحد،‭ ‬أو‭ ‬يوليه‭ ‬ثقته‭. ‬لعلها‭ ‬الكيمياء‭ ‬السرّية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أسرارها‭ ‬سوى‭ ‬خالقنا‭. ‬ورغم‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أكاديمياً‭ ‬منغلقاً‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬غارقاً‭ ‬في‭ ‬كتبه،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬القاهرة‭ ‬السرّية‭ ‬الكثير،‭ ‬فقد‭ ‬أسلمت‭ ‬قيادي‭ ‬لأمل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ناقداً‭ ‬بحق،‭ ‬وخبرتك‭ ‬لا‭ ‬تجاوز‭ ‬الكتب‭ ‬أو‭ ‬قاعة‭ ‬محاضراتك‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭. ‬لابد‭ ‬من‭ ‬خروجك‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬واكتساب‭ ‬الخبرة‭ ‬الحياتية‭ ‬من‭ ‬شطآنها‭ ‬الحقيقية‭ ‬خارج‭ ‬الكتب‭. ‬وصادقت‭ ‬أمل‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يصحبني‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬القاهرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفها‭. ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬كان‭ ‬يصحبنا‭ ‬سليمان‭ ‬فياض‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬يأنس‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬ننطلق‭ ‬نحن‭ ‬فأرى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تره‭ ‬عيني‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وأسمع‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تسمعه‭ ‬أذني‭. ‬ولذلك‭ ‬فأنا‭ ‬مدين‭ ‬لأمل‭ ‬بأنه‭ ‬قد‭ ‬تسلمني‭ ‬ناقداً‭ ‬أكاديمياً‭ ‬متخشباً‭ ‬منغلقاً‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الكتاب،‭ ‬وساعدني‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬ناقداً‭ ‬متحرراً‭ ‬من‭ ‬الدوجما‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬مرناً‭ ‬ومفتوحاً‭ ‬على‭ ‬التجارب‭ ‬الحية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.‬

وأذكر‭ ‬أننا‭ ‬التقينا‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬اتحاد‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬الزمالك،‭ ‬واختلفنا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬ننتخب‭ ‬رئيساً‭ ‬للاتحاد،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬المكان‭ ‬عائداً‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬استوقفني‭ ‬لكي‭ ‬يُهديني‭ ‬ديوانه‭ ‬الثالث‭ ‬االعهد‭ ‬الآتيب‭. ‬وسألني‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬مستعدّاً‭ ‬لمناقشته‭ ‬مع‭ ‬الشاعرة‭ ‬ملك‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬وكنت‭ ‬معجباً‭ ‬بشخصيتها‭ ‬وبشعرها‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬أرملة‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬أحد‭ ‬تلاميذه‭ ‬غير‭ ‬المباشرين،‭ ‬المهم‭ ‬أنني‭ ‬وافقت‭ ‬على‭ ‬مناقشة‭ ‬الديوان‭. ‬وكنت‭ ‬أرى،‭ ‬ولا‭ ‬أزال،‭ ‬أنه‭ ‬قمة‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬أمل‭ ‬من‭ ‬نضوج‭ ‬شعري،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬شديد‭ ‬الإعجاب‭ ‬بفكرة‭ ‬االعهد‭ ‬الآتيب‭ ‬الذي‭ ‬يحل‭ ‬محل‭ ‬االعهد‭ ‬القديمب‭. ‬وبالفعل‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬مناقشة‭ ‬الديوان،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ادار‭ ‬الأدباءب‭ ‬التي‭ ‬أقامها‭ ‬ورعاها‭ ‬يوسف‭ ‬السباعي‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭. ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬قصر‭ ‬العيني‭. ‬وأذكر‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬عنيفاً‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬قصيدته‭ ‬عن‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬فقد‭ ‬رأيت‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬نزعة‭ ‬قومية‭ ‬مغالية‭. ‬ويبدو‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬قاسياً‭ ‬في‭ ‬نقدي،‭ ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬ملك‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬تخفيف‭ ‬حدة‭ ‬نقدي‭ ‬بحضورها‭ ‬الرقيق‭ ‬وحماستها‭ ‬لأمل‭ ‬الشاعر،‭ ‬وانتهت‭ ‬الندوة‭ ‬بكلمات‭ ‬ملك‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الكاتبة‭ ‬والمشجعة‭ ‬لأمل‭. ‬وخرجت‭ ‬أنا‭ ‬وهو،‭ ‬مستغرقين‭ ‬في‭ ‬نقاش‭ ‬حاد،‭ ‬ملك‭ ‬وجدان‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬وأنساه‭ ‬ما‭ ‬حوله‭. ‬ولم‭ ‬أنتبه‭ ‬إلى‭ ‬الفتاة‭ ‬الرقيقة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬أنها‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬أمل‭ ‬الذي‭ ‬نسي‭ ‬الموعد‭ ‬في‭ ‬حومة‭ ‬النقاش‭ ‬معي‭. ‬واستمر‭ ‬نقاشنا‭ ‬ونحن‭ ‬نسير‭ ‬على‭ ‬أقدامنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننتبه‭ ‬إلى‭ ‬الطريق،‭ ‬فعبرنا‭ ‬كوبري‭ ‬قصر‭ ‬العيني،‭ ‬ومضينا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ميدان‭ ‬الدقي،‭ ‬حيث‭ ‬وجدنا‭ ‬مقهى،‭ ‬جلسنا‭ ‬عليه‭ ‬نكمل‭ ‬النقاش‭ ‬حتى‭ ‬الصباح‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬الفتاة‭ ‬الرقيقة‭ ‬التي‭ ‬نسيها‭ ‬أمل‭ ‬هي‭ ‬عبلة‭ ‬الرويني‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭.  ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬أعطى‭ ‬لها‭ ‬موعداً‭ ‬للقاء‭ ‬بعد‭ ‬الندوة‭. ‬ولكن‭ ‬حرارة‭ ‬النقاش‭ ‬المحتدم‭ ‬جعلته‭ ‬ينسى‭ ‬الموعد،‭ ‬وينشغل‭ ‬عن‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬أحبها‭ ‬بسبب‭ ‬اختلافنا‭ ‬الذي‭ ‬ألهانا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حولنا‭. ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬عبلة‭ ‬الرويني‭ ‬بعد‭ ‬زواج‭ ‬أمل‭ ‬صديقة‭ ‬أسرتي‭ ‬المقرَّبة‭ ‬والمحببة‭ ‬إلى‭ ‬ابنتي‭ ‬التي‭ ‬أصبح‭ ‬أمل‭ ‬عمها‭ ‬وعم‭ ‬أخيها‭ ‬الأصغر،‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أحتفظ‭ ‬بصورنا‭ ‬معاً‭.‬

وأذكر‭ ‬أن‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬نشر‭ ‬ديوانه‭ ‬امقتل‭ ‬القمرب‭. ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬الديوان‭ ‬جمع‭ ‬قصائده‭ ‬الرومانسية‭ ‬القديمة‭. ‬وقد‭ ‬قبلت‭ ‬مناقشة‭ ‬الديوان‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرعى‭ ‬أمل،‭ ‬ولا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬تشجيعه‭ ‬رغم‭ ‬علمه‭ ‬بالصداقة‭ ‬الشعرية‭ ‬الوثيقة‭ ‬بين‭ ‬أمل‭ ‬وأحمد‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬حجازي‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬ثقة‭ ‬أمل‭ ‬برقة‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يختار‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬لكي‭ ‬يكون‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ ‬امقتل‭ ‬القمرب‭. ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬مناقشة‭ ‬الديوان‭. ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برنامج‭ ‬امع‭ ‬النقادب‭ ‬الذي‭ ‬يذاع‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬الثاني‭ ‬بالإذاعة‭ ‬المصرية‭. ‬وفوجئنا،‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬وأنا،‭ ‬بعدم‭ ‬حضور‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭. ‬وانهلت‭ ‬أنا‭ ‬نقداً‭ ‬للديوان‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أتعاطف‭ ‬مع‭ ‬رومانسيته‭. ‬ولم‭ ‬يخبرني‭ ‬أمل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬الديوان‭ ‬قصائد‭ ‬البدايات،‭ ‬وأنه‭ ‬نشر‭ ‬الديوان‭- ‬ربما‭- ‬لسبب‭ ‬مادي‭. ‬وكانت‭ ‬رقة‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬وإنسانيته،‭ ‬تحتملان‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬وتعالجانها‭ ‬بسماحة‭ ‬راقية‭ ‬كان‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭. ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬شيئاً‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬سوى‭  ‬تبرير‭ ‬الرومانسية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬امقتل‭ ‬القمرب‭. ‬

وقد‭ ‬راعينا‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬أمل‭ ‬مع‭ ‬نشر‭ ‬أعماله‭ ‬الكاملة،‭ ‬فجعلنا‭ ‬امقتل‭ ‬القمرب‭ ‬أول‭ ‬الدواوين،‭ ‬وبعده‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب‭ ‬ثم‭ ‬اتعليق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حدثب‭ ‬وبعده‭ ‬االعهد‭ ‬الآتيب‭ ‬ثم‭ ‬الدواوين‭ ‬التي‭ ‬تلاحقت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬ويلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تعداد‭ ‬دواوين‭ ‬أمل‭ ‬وترتيبها‭ ‬أن‭ ‬ديوان‭ ‬االبكاءب‭ ‬كُتب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬الذي‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬دنيانا‭ ‬في‭ ‬الثامن‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬1970،‭ ‬وبعدها‭ ‬جاء‭ ‬السادات‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وظل‭ ‬حاكماً‭ ‬لمصر‭ ‬إلى‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬1981‭. ‬وما‭ ‬يلفت‭ ‬انتباهي،‭ ‬الآن،‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬على‭ ‬وفاة‭ ‬أمل‭ ‬دنقل،‭  ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬شعره،‭ ‬وربما‭ ‬أفضله،‭ ‬كُتب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السادات‭. ‬

والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬نبرة‭ ‬الغضب‭ ‬القومي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ميَّزت‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬الذي‭ ‬مضى‭ ‬أغلب‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬إيقاعات‭ ‬الغضب‭ ‬المتواصلة‭ ‬قوميّاً،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬مثل‭ ‬أحداث‭ ‬هزيمة‭ ‬67‭ ‬أو‭ ‬مخيم‭ ‬الوحدات‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬سنة‭ ‬1970‭ ‬حين‭ ‬توفي‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬تاركاً‭ ‬للسادات‭ ‬مهمة‭ ‬تحرير‭ ‬الأرض‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يرثي‭ ‬أمل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬البطل‭ ‬القومي‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬ظلت‭ ‬مشاعره‭ ‬متوترة‭ ‬إزاءه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬رثائه،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬الا‭ ‬وقت‭ ‬للبكاءب،‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

لا‭ ‬وقت‭ ‬للبكاء

فالعلم‭ ‬الذي‭ ‬تنكسينه‭ ‬في‭ ‬سرادق‭ ‬العزاء

منكس‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬الآخر

والأبناء

يستشهدون‭ ‬كي‭ ‬يقيموه‭.. ‬على‭ ‬‮«‬تبّة‮»‬

العلم‭ ‬المنسوج‭ ‬من‭ ‬حلاوة‭ ‬النصر‭ ‬ومن‭ ‬مرارة‭ ‬النكبة

خيطاً‭ ‬من‭ ‬الحب‭.. ‬وخيطين‭ ‬من‭ ‬الدماء

العلم‭ ‬المنسوج‭ ‬من‭ ‬خيام‭ ‬اللاجئين‭ ‬للعراء

ومن‭ ‬مناديل‭ ‬وداع‭ ‬الأمهات‭ ‬للجنود

في‭ ‬الشاطئ‭ ‬الآخر‭..‬

ملقى‭ ‬في‭ ‬الثرى

ينهش‭ ‬فيه‭ ‬الدود

ينهش‭ ‬فيه‭ ‬الدود‭ ‬واليهود

الذي‭ ‬يدهشني،‭ ‬الآن،‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أنتبه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬التضاد‭ ‬العاطفي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بعبدالناصر،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬البطل‭ ‬القومي،‭ ‬الذي‭ ‬حررنا‭ ‬من‭ ‬الملكية‭ ‬والاستعمار،‭ ‬وأدخلنا‭ ‬عالم‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ثماره‭ ‬مجانية‭ ‬التعليم‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬الطريق‭ ‬المغلق‭ ‬للصعود‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أمام‭ ‬أبناء‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬أمثالنا،‭ ‬لكن‭ ‬عبدالناصر‭- ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬مقابلة‭- ‬بنى‭ ‬نظاماً‭ ‬سياسيّاً‭ ‬تسلطيّاً‭. ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬تحمل‭ ‬مرثية‭ ‬أمل‭ ‬لعبدالناصر‭ ‬أي‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬أمجاد‭ ‬له،‭ ‬وإنما‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬الالتفات‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬آت‭ ‬لتحقيق‭ ‬النصر‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التضاد‭ ‬العاطفي‭ ‬تجاه‭ ‬عبدالناصر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يكتب‭ ‬اكلمات‭ ‬سبارتاكوس‭ ‬الأخيرةب‭ ‬واأغنية‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكيب‭ ‬وقصيدة‭ ‬اأوجينيب‭ ‬غير‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬الكاملة‭ ‬والتي‭ ‬يصدرها‭ ‬بكلماته‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬اإلى‭ ‬الرئيس‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬فلولاه‭ ‬لخجلت‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬تاريخنا،‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬كلماته‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬المنشيةب‭. ‬يقصد‭ ‬إلى‭ ‬كلمته‭ ‬التي‭ ‬أعلن‭ ‬فيها‭ ‬تأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬في‭ ‬السادس‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬يوليو‭ ‬1956‭.‬

ولم‭ ‬ينطو‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التضاد‭ ‬العاطفي‭ ‬إزاء‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬أهم‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬زمنه‭. ‬وهأنذا،‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬على‭ ‬وفاته،‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬قصيدة‭ ‬عن‭ ‬نصر‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973،‭ ‬وأتذكر‭ ‬بدل‭ ‬ذلك‭ ‬قصيدته‭ ‬اأغنية‭ ‬الكعكة‭ ‬الحجريةب‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬تعاطفاً‭ ‬مع‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬اعتصموا‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير،‭ ‬متحلقين‭ ‬حول‭ ‬قاعدة‭ ‬النصب‭ ‬التذكاري‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موجودة،‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬رأوه‭ ‬تباطؤاً‭ ‬من‭ ‬السادات‭ ‬في‭ ‬خوض‭ ‬معركة‭ ‬التحرير‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬قد‭ ‬أعدّ‭ ‬لها‭ ‬العدة‭ ‬قبل‭ ‬موته‭. ‬وقد‭ ‬قمعت‭ ‬قوات‭ ‬الشرطة‭ ‬الاعتصام‭ ‬الطلابي‭ ‬وفضَّته‭ ‬بالقوة‭ ‬القمعية‭ ‬سنة‭ ‬1972‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تخني‭ ‬الذاكرة‭. ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬عنواناً‭ ‬رئيسيّاً‭ ‬جديداً،‭ ‬هو‭ ‬اسفر‭ ‬الخروجب،‭ ‬بينما‭ ‬جعل‭ ‬عنوانها‭ ‬الفرعي‭ ‬اأغنية‭ ‬الكعكة‭ ‬الحجريةب‭ ‬التي‭ ‬تتكون‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬إصحاحات،‭ ‬توافقاً‭ ‬مع‭ ‬عنوان‭ ‬الديوان‭ ‬االعهد‭ ‬الآتيب‭. ‬ويبدأ‭ ‬الإصحاح‭ ‬الأول‭ ‬بالكلمات‭:‬

أيها‭ ‬الواقفون‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬المذبحة

أشهروا‭ ‬الأسلحة

سقط‭ ‬الموت‭ ‬وانفرط‭ ‬القلب‭ ‬كالمسبحة

والإصحاح‭ ‬الأول‭ ‬بضمير‭ ‬المتكلم‭ ‬الذي‭ ‬يجسّد‭ ‬صوته‭ ‬أحد‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬سقطوا‭ ‬صرعى‭ ‬الرصاص،‭ ‬وبقية‭ ‬الإصحاحات‭ (‬المقاطع‭) ‬بضمير‭ ‬راءٍ‭ ‬غائب‭ ‬يروي‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬المذبحة‭. ‬وقد‭ ‬تلاعب‭ ‬أمل‭ ‬بتكرار‭ ‬ادقت‭ ‬الساعةب‭ ‬وهي‭ ‬حيلة‭ ‬بلاغية‭ ‬تؤدي‭ ‬وظائف‭ ‬متعددة‭  ‬للتكرار،‭ ‬نظر‭ ‬فيها‭ ‬أمل‭ ‬إلى‭ ‬شعر‭ ‬الشاعر‭ ‬الإسباني‭ ‬لوركا،‭ ‬وبخاصة‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬وفاة‭ ‬صديقه‭ ‬مصارع‭ ‬الثيران‭ ‬إجناسيو‭ ‬سانشيز‭ ‬ميجاس‭ ‬التي‭ ‬تتكرر‭ ‬فيها‭ ‬لازمة‭ ‬االساعة‭ ‬الخامسةب‭ ‬وتؤدي‭ ‬دوراً
‭ ‬بنائياً‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬قصيدة‭ ‬أمل،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مختلف‭:‬

ما‭ ‬أسترجعه،‭ ‬الآن،‭ ‬وأنا‭ ‬أجترّ‭ ‬ذكريات‭ ‬أمل‭ ‬دنقل،‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬اأغنية‭ ‬الكعكة‭ ‬الحجريةب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬يختارها‭ ‬أمل،‭ ‬حين‭ ‬يتحلق‭ ‬حوله‭ ‬أصدقاؤه‭ ‬المقربون‭ ‬في‭ ‬الجلسات‭ ‬الحميمة‭. ‬كانت‭ ‬القصائد‭ ‬المحببة‭ ‬إليه،‭ ‬ولا‭ ‬يملّ‭ ‬من‭ ‬إنشادها،‭ ‬هي‭ ‬قصائد‭ ‬امن‭ ‬أوراق‭ ‬أبي‭ ‬نواسب‭ ‬واسفر‭ ‬ألف‭ ‬دالب‭ ‬واصلاةب‭.‬

أما‭ ‬امن‭ ‬أوراق‭ ‬أبي‭ ‬نواسب‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬شخصية‭ ‬أمل‭ ‬الشاعر‭ ‬تتماهى‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬نواس‭ ‬الذي‭ ‬تتحدث‭ ‬عنه‭ ‬القصيدة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬المقاطع‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭ ‬بأصدقائه‭ ‬الذين‭ ‬اختاروا‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬السلطة‭. ‬وكان‭ ‬أمل‭ ‬ينشد‭ ‬لنا‭ ‬المفتتح‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ينشد‭ ‬لنفسه‭:‬

‭- ‬ملك‭ ‬أم‭ ‬كتابة؟

صاح‭ ‬بي‭ ‬صاحبى،‭ ‬وهو‭ ‬يلقي‭ ‬بدرهمه‭ ‬في‭ ‬الهواء

ثم‭ ‬يلقفه

‭(‬خارجين‭ ‬من‭ ‬الدرس‭ ‬كنا‭.. ‬وحبر‭ ‬الطفولة‭ ‬فوق‭ ‬الرداء

والعصافير‭ ‬تمرق‭ ‬عبر‭ ‬البيوت،

وتهبط‭ ‬فوق‭ ‬النخيل‭ ‬البعيد‭)‬

***

ملك‭ ‬أم‭ ‬كتابة؟

صاح‭ ‬بي‭.. ‬فانتبهت،‭ ‬ورفت‭ ‬ذبابة

حول‭ ‬عينين‭ ‬لامعتين

فقلت‭: ‬‮«‬الكتابة‮»‬

فتح‭ ‬اليد‭ ‬مبتسماً،‭ ‬كان‭ ‬وجه‭ ‬المليك‭ ‬السعيد

باسماً‭ ‬في‭ ‬مهابة

ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬صوت‭ ‬أمل‭ ‬كان‭ ‬يكتسب‭ ‬نبرة‭ ‬خاصة‭ ‬مغايرة،‭ ‬كنت‭ ‬ألمحها‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬المقطع‭:‬

أيها‭ ‬الشعر‭.. ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الفرح‭ ‬المختلس

***

كل‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصفحة‭ ‬الورقية

صادرته‭ ‬العسس

كانت‭ ‬ملامح‭ ‬وجه‭ ‬أمل‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬وجه‭ ‬إخناتون‭ ‬تكتسب‭ ‬رقّة‭ ‬دالة‭ ‬وهي‭ ‬تقرأ‭: ‬اأيها‭ ‬الشعر‭.. ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الفرح‭ ‬المختلسب‭. ‬وبالفعل‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬كالحب،‭ ‬كلاهما‭ ‬الفرح‭ ‬الذي‭ ‬يلتمسه‭ ‬أمل‭ ‬من‭ ‬الحياة‭. ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هدأ‭ ‬مع‭ ‬ارتباطه‭ ‬بعبلة‭ ‬الرويني‭. ‬أما‭ ‬الشعر‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬المرض،‭ ‬والأصح‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬كان‭ ‬أداته‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الموت،‭ ‬وانتزاع‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬قبضته‭ ‬الشرسة‭. ‬وكنت‭ ‬شاهداً‭ ‬يومياً‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المواجهة‭ ‬في‭ ‬أشهر‭ ‬أمل‭ ‬الأخيرة‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬جيداً‭ ‬مهرجان‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬عقدناه‭ ‬قبل‭ ‬موته‭ ‬بشهور‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬رقم‭ ‬8‭ ‬بعد‭. ‬وكان‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬تصلب‭ ‬ساقيه‭ ‬بسبب‭ ‬طول‭ ‬الرقاد‭ ‬وضعف‭ ‬عظام‭ ‬الساقين‭ ‬للسبب‭ ‬نفسه،‭ ‬ولكنه‭ ‬أصرّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬مسرح‭ ‬السلام‭ ‬وهو‭ ‬يتوكأ‭ ‬على‭ ‬عكازه‭ ‬وعلى‭ ‬ذراعي‭. ‬وكان‭ ‬هزيلاً‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬وكنت‭ ‬خائفاً،‭ ‬متشككاً‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يستطيع‭ ‬إلقاء‭ ‬الشعر‭. ‬لكنه‭ ‬أصر‭ ‬كي‭ ‬يلقي‭ ‬قصيدته‭ ‬الا‭ ‬تصالحب‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬ضد‭ ‬تصالح‭ ‬السادات‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭. ‬وعندما‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬المسرح،‭ ‬ساعدناه‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬من‭ ‬الكواليس‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أعلن‭ ‬مذيع‭ ‬الأمسية‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬أمل،‭ ‬فتركناه‭ ‬كي‭ ‬يدخل‭ ‬واهناً‭ ‬متكئاً‭ ‬على‭ ‬عكازه،‭ ‬مرهقاً‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬لكنه‭ ‬ما‭ ‬كاد‭ ‬يبدأ‭ ‬الإنشاد‭ ‬حتى‭ ‬ألقى‭ ‬بعكازه،‭ ‬ووقف‭ ‬على‭ ‬قدميه،‭ ‬وعادت‭ ‬إليه‭ ‬حيويته،‭ ‬قائلاً‭ ‬في‭ ‬نبرة‭ ‬مقاتلة‭ ‬لن‭ ‬أنساها‭:‬

لا‭ ‬تصالح

ولو‭ ‬منحوك‭ ‬الذهب

أترى‭ ‬حين‭ ‬أفقأ‭ ‬عينيك

ثم‭ ‬أثبت‭ ‬جوهرتين‭ ‬مكانهما‭..‬

هل‭ ‬ترى‭..‬؟

هي‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬تشترى

وانطلق‭ ‬صوت‭ ‬أمل‭ ‬هادراً،‭ ‬وران‭ ‬على‭ ‬القاعة‭ ‬صمت‭ ‬جليل،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬الإلقاء‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬وقف‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬وأيديهم‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬التصفيق‭ ‬الذي‭ ‬توهَّمت‭ ‬من‭ ‬شدته‭ ‬أن‭ ‬جدران‭ ‬المسرح‭ ‬تهتز‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬انتهى‭ ‬التصفيق‭ ‬حتى‭ ‬هرعنا‭ ‬إليه‭ ‬بالعكاز،‭ ‬لنسنده‭. ‬ولم‭ ‬يفتني‭ ‬ذلك‭ ‬الضوء‭ ‬الداخلي‭ ‬الذي‭ ‬ينير‭ ‬وجهه‭. ‬وأحسبني‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول،‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات،‭ ‬إنه‭ ‬ضوء‭ ‬الفرح‭ ‬المختلس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحارب‭ ‬به‭ ‬أمل‭ ‬السرطان‭ ‬اللعين‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬لحظة،‭ ‬عندما‭ ‬استطاع‭ ‬المرض‭ ‬تدمير‭ ‬كل‭ ‬مقاومة‭. ‬وأخيراً‭ ‬أدرك‭ ‬بحسِّه‭ ‬الداخلي‭ ‬أنه‭ ‬راحل‭ ‬عنا،‭ ‬فألمح‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ختام‭ ‬قصيدته‭  ‬االجنوبيب،‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬عندما‭ ‬قال‭:‬

هل‭ ‬تريد‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬الصبر؟

‭- ‬لا

فالجنوبي‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬يشتهي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكنه

يشتهي‭ ‬أن‭ ‬يلاقي‭ ‬اثنتين‭:‬

الحقيقة‭ ‬والأوجه‭ ‬الغائبة

وكانت‭ ‬تلك‭ ‬السطور‭ ‬هي‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬من‭ ‬قصائد‭: ‬الجنوبي‭. ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬يوم‭ ‬زيارتي‭ ‬له،‭ ‬بعد‭ ‬قصيدة‭ ‬الجنوبي‭ ‬بأيام،‭ ‬فوجدت‭ ‬عبلة‭ ‬زوجه‭ ‬دامعة‭ ‬العينين،‭ ‬ومثلها‭ ‬أنس‭ ‬أخوه‭ ‬الأصغر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬كبرياؤه‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬البكاء‭. ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬أمل‭: ‬أحسنت‭ ‬بحضورك،‭ ‬لأني‭ ‬أريد‭ ‬تكليفك‭ ‬بمجموعة‭ ‬أشياء،‭ ‬فاسمعها‭ ‬مني‭ ‬وقم‭ ‬بتنفيذها‭ ‬ولا‭ ‬تكن‭ ‬رومانتيكياً،‭ ‬فأخذتني‭ ‬رهبة،‭ ‬وأخذت‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬صاغراً،‭ ‬فواصل‭ ‬كلامه‭: ‬هناك‭ ‬حزمة‭ ‬جنيهات‭ ‬تحت‭ ‬امخدتيب‭ ‬خذها،‭ ‬واستعن‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬جنازتي،‭ ‬أريد‭ ‬من‭ ‬أصحابي‭ ‬أن‭ ‬يرحلوا‭ ‬مع‭ ‬جثماني‭ ‬ليحضروا‭ ‬دفني‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬أبي‭ ‬بقرية‭ ‬القلعة‭. ‬ووصيتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬ألا‭ ‬يدفع‭ ‬أحدكم‭ ‬مليماً‭ ‬في‭ ‬السفر‭. ‬واشتر‭ ‬بما‭ ‬معك‭ ‬من‭ ‬نقود‭ ‬تذاكر‭ ‬سفر‭ ‬بالطائرة،‭ ‬واقضوا‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬الأقصر،‭ ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬اركبوا‭ ‬السيارات‭ ‬إلى‭ ‬االقلعةب‭ ‬واحضروا‭ ‬دفني‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬العائلة‭. ‬وبعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬فحسب‭ ‬رحل‭ ‬أمل‭. ‬وجلسنا‭ ‬أنا‭ ‬وعبدالمحسن‭ ‬بدر‭ ‬ونصر‭ ‬حامد‭ ‬
أبو‭ ‬زيد‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الأبنودي‭ ‬نتحدث‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يجب،‭ ‬وتسرع‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الأبنودي‭ ‬بالقول‭ ‬إنه‭ ‬سيتحمل‭ ‬نفقات‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ولكني‭ ‬صددته‭ ‬قائلاً‭: ‬إن‭ ‬وصيته‭ ‬واجبة‭ ‬التنفيذ‭ ‬دون‭ ‬إبطاء‭. ‬وبالفعل‭ ‬نفذنا‭ ‬ما‭ ‬طلبه‭ ‬أمل،‭ ‬وسرنا‭ ‬وراء‭ ‬نعشه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬دفناه‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬أبيه،‭ ‬وعدنا‭ ‬دون‭ ‬أمل‭ ‬الذي‭ ‬فقدناه‭ ‬جسداً،‭ ‬لكننا‭ ‬لم‭ ‬نفقده‭ ‬شعراً،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قرين‭ ‬الفرح‭ ‬المختلس‭ ‬الذي‭ ‬ننطوي‭ ‬عليه،‭ ‬حتى‭ ‬ونحن‭ ‬ننشد‭ ‬قوله‭:‬

كل‭ ‬الأحبة‭ ‬يرتحلون،

فترحل‭ ‬عن‭ ‬العين‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً

ألفة‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭ .