ذكريات أمل دنقل
أتاح لي عملي النقدي أن أدخل في علاقة صداقة مع كثير من المبدعين، ولكن علاقتي مع أمل دنقل (1940-1983) كان لها وضع خاص، فقد ظل أمل أقرب المبدعين من الشعراء إلى قلبي وعقلي. ويبدو أن أول أسباب ذلك يرجع إلى تقاربنا في العمر، فلم يكن أمل يسبقني في الميلاد إلا بأربع سنوات، تجعلنا أبناء جيل واحد، فأمل – مثلي- بدأ وعيه للعالم يتشكل مع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وهو العدوان الذي كان له أكبر الأثر في تفجير موهبة أمل دنقل الشعرية، وذلك على النحو الذي يمكن أن نقرن فيه عام 1956 ببداية الوعي القومي عنده وعندي.
وكان ذلك في زمن تصاعدت فيه زعامة عبدالناصر، التي اقترنت في وجداننا بأحلام الوحدة العربية والحرية والعدالة الاجتماعية. وكانت هذه الأحلام الثلاثة وراء تشكيل وعينا القومي الذي انطوى على شعاراتها وأحلامها، وهي أحلام وشعارات لا تزال تسكن وجدان الجيل الذي ولد في الأربعينيات، سواء كان في مطلعها كما في حالة أمل أو في العام الرابع والأربعين، حيث وُلدت أنا، قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بعام واحد. ولكني لم أعرف أمل دنقل معرفة شخصية إلا سنة 1970، وذلك بعد ظهور ديوانه الأول االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب الصادر عن دار الآداب في بيروت سنة 1969. وقد جعل هذا الديوان من أمل دنقل شاعراً يقف في صدارة جيل الستينيات الذي ارتبط حضوره الساطع برفض هزيمة 1967 الكارثية، والبحث عن الأسباب التي أدت إليها، في موازاة البحث عن أفق واعد للخلاص، ظل غائباً عن الجيل الذي أنتسب إليه وأمل دنقل.
وأذكر أنني عندما عرفت أمل للمرة الأولى كانت المعرفة عادية لم تصل إلى درجة الحميمية مرة واحدة، رغم أني كنت أسمع عن أمل دنقل منذ مطالع الستينيات عندما كتب قصيدته اكلمات سبارتاكوس الأخيرةب. وكانت هذه القصيدة تبين عن طراز نادر من شعراء الرفض. وقد زادني إعجاباً بها أنها جاءت في مناخ شهدنا فيه فيلم اسبارتاكوسب وهو إحدى روائع المخرج العالمي ستانلي كوبريك، استناداً إلى رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الأمريكي اليساري هوارد فاست. وكان الفيلم كالرواية المأخوذ عنها، ملحمة تاريخية تحكي قصة العبد سبارتاكوس الذي تمرَّد على عبوديته، وقاد العبيد من أمثاله في ثورة هائلة هزت الإمبراطورية الرومانية، وهددتها بالهزيمة. ويكمن جزء من روعة الفيلم في تمثيل أبطاله الذين جمعوا بين كيرك دوجلاس، الذي قام بدور سبارتاكوس، وجين سيمونز، التي لعبت دور حبيبته فيرنيا، إلى جانب لورانس أوليفيه، الذي قام بدور ماركوس كراسوس القائد العسكري الذي قاد حملة القضاء على سبارتاكوس، مع نجوم آخرين مثل بيتر أوستينوف وتوني كيرتس وغيرهم من مشاهير الممثلين في ذلك الزمان. ومن المؤكد أن أمل دنقل شاهد الفيلم وتأثر به مثلنا، ذلك لأن التأثر ظاهر في القصيدة، سواء في مشهد المشانق أو الإشارة إلى الزوجة أو الحبيبة التي قامت بدورها جين سيمونز في الفيلم. وبداية القصيدة نفسها دالة على موقف الرفض الذي يتسع ليأخذ بعداً ميتافيزيقياً. وتنتهي القصيدة نهاية عدمية، كأنها نوع من اليأس في خلاص يحقق الأماني القومية:
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد
وأذكر أن قصيدة اكلمات سبارتاكوس الأخيرةب دفعتني إلى الاهتمام بشعر أمل الذي بدأت أراه في الملحق الأدبي لجريدة الأهرام، حين كان يشرف عليه لويس عوض، الذي لم يكن ينشر إلا ما يستحق النشر فعلاً، ومرت سنوات إلى أن جاءت العطلة الدراسية في صيف 1966، فقرأت في مجلة االكاتبب اليسارية قصيدة بعنوان اأشياء تحدث في الليلب مهداة إلى صلاح حسين الذي كان مثقفاً ثورياً يحارب عائلة إقطاعية تهيمن على مصائر الناس وأرزاقهم في قرية كمشيش، وهي قرية من قرى المنوفية. وقد أدى اغتيال صلاح حسين إلى إدراك النظام بقايا الإقطاع في مصر في ذلك الزمان. وأمر عبدالناصر بتشكيل لجنة تصفية الإقطاع برئاسة عبدالحكيم عامر حتى لا تتكرر مأساة صلاح حسين الذي ترثيه قصيدة أمل بطريقة فريدة.
وأذكر أني كنت في مدينة المحلة الكبرى، وقرأت لأصدقائي القصيدة، وتوقفت عند المقطع:
(وكان مبنى الاتحاد صامتاً.. منطفئ الأنوار
تسري إليه من عبير هيلتون القريب
أغنية طروب)
وكان وجهه النبيل مصحفاً عليه يُقسم الجياع وكانت الذراع
ضامرة.. كبذرة القمح
ضامرة كالسنة الأولى التي تنبت في فم الرضيع!
وكانت مفارقة التضاد لافتة في المقطع، تجمع ما بين مبنى الاتحاد الاشتراكي الذي يرمز إلى سعي الدولة الناصرية إلى تحقيق العدل الاجتماعي الذي يأخذ بيد الفقراء ومبنى فندق الهيلتون المجاور، برمزيته الدالة على سيطرة البرجوازية الكبيرة التي حلت محل الإقطاع، والتي أخذت تتعدى بحضورها الدلالي مبنى الاتحاد الاشتراكي، كما لو كانت تنقل عدواها إلى الاتحاد الاشتراكي السادر في النوم، غير منتبه إلى وجود ما ينقض الهدف الذي أنشئ من أجله. ولكن تأتي السطور اللاحقة بما يؤكد أن استشهاد صلاح حسين، دفاعاً عن حقوق الفقراء، والتي بدا أن الاتحاد الاشتراكي غفل عنها، سيتحول إلى ميثاق لزمن جديد، يستيقظ فيه الاتحاد الاشتراكي من نومه، وذلك في سفر من التحول الذي تتحول فيه ذراع الشهيد إلى بذرة عالم جديد، لابد أن يأتي رغم كل العوائق القائمة.
ولا أذكر أني قرأت لأمل شيئاً مؤثراً إلا قصيدة االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب التي أطلقها أمل كالرصاصة، بعد أن تأكد من وقوع الهزيمة الكارثية في الثالث عشر من يونيو 1967، حسب التاريخ الذي حرص على وضعه في الديوان، مؤكداً أن القصيدة كانت رد فعل تلقائياً للهزيمة التي أوجعت بمرارتها وقسوتها العرب جميعاً وليس المصريين وحدهم. ولم يعد أمل منذ ذلك الوقت يستخدم رموزاً وأقنعة، فقد أدرك أن الهزيمة الوطنية هزيمة قومية، وأن حلم الوحدة والحرية والاشتراكية قد تحول إلى كابوس. وما له دلالة في هذا السياق أن هذه القصيدة، التي جعلها أمل عنوان ديوانه الأول، قد أحالته إلى شاعر مقروء في كل مكان من الوطن العربي. وأكاد أقول إن االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب وصلت إلى درجة من الجماهيرية قريبة من جماهيرية قصيدة نزار قباني اهوامش على دفتر النكسةب. هكذا أخذ القراء يتهافتون على ديوان أمل الذي صدر عن دار الآداب سنة 1969، بعد عامين من نشر القصيدة التي قرأها القراء على امتداد الوطن العربي في مجلات عدة، قبل أن تستقر في الديوان الذي حملت اسمه.
وقد عرفت أمل شخصياً بسبب إعجابي بهذه القصيدة، عرَّفني به صديق مشترك، ولكن ظلت علاقتنا سطحية، رغم أني قرأت ديوانه الثاني اتعليق على ما حدثب الذي صدر سنة 1971، وكان استمراراً للروح الموجودة في الديوان الأول. وأخيراً جاء الديوان الثالث االعهد الآتيب الذي صدر سنة 1975. وكانت علاقتي بأمل قد توثقت، فقد كنت انتهيت من مناقشة أطروحتي للدكتوراه سنة 1973، وأصبحت أملك من وقتي ما جعلني أسلم قيادي لأمل لكي أتعرف على ملامح القاهرة العجوز التي لم أكن أعرفها فعلاً قبل أمل. وأذكر أن أمل أنس لي وأولاني ثقته، وهو الذي نادراً ما كان يأنس لأحد، أو يوليه ثقته. لعلها الكيمياء السرّية التي لا يعرف أسرارها سوى خالقنا. ورغم أني كنت أكاديمياً منغلقاً على نفسه، غارقاً في كتبه، لا يعرف من حياة القاهرة السرّية الكثير، فقد أسلمت قيادي لأمل الذي كان يقول لي: لا يمكن أن تكون ناقداً بحق، وخبرتك لا تجاوز الكتب أو قاعة محاضراتك في الجامعة. لابد من خروجك إلى الدنيا واكتساب الخبرة الحياتية من شطآنها الحقيقية خارج الكتب. وصادقت أمل الذي أخذ يصحبني إلى عوالم القاهرة التي لم أكن أعرفها. في أحيان كثيرة كان يصحبنا سليمان فياض الذي كان أمل دنقل يأنس له أو ننطلق نحن فأرى ما لم تره عيني من قبل، وأسمع ما لم تسمعه أذني. ولذلك فأنا مدين لأمل بأنه قد تسلمني ناقداً أكاديمياً متخشباً منغلقاً على عالم الكتاب، وساعدني على أن أكون ناقداً متحرراً من الدوجما الأكاديمية، مرناً ومفتوحاً على التجارب الحية التي لا نهاية لها في الحياة.
وأذكر أننا التقينا ذات يوم في اتحاد الكتاب في الزمالك، واختلفنا على من ننتخب رئيساً للاتحاد، وقبل أن أغادر المكان عائداً إلى المنزل، استوقفني لكي يُهديني ديوانه الثالث االعهد الآتيب. وسألني إذا كنت مستعدّاً لمناقشته مع الشاعرة ملك عبدالعزيز، وكنت معجباً بشخصيتها وبشعرها على السواء، فضلاً عن أنها كانت أرملة محمد مندور الذي كنت أعتبر نفسي أحد تلاميذه غير المباشرين، المهم أنني وافقت على مناقشة الديوان. وكنت أرى، ولا أزال، أنه قمة ما وصل إليه أمل من نضوج شعري، فضلاً عن أنني كنت شديد الإعجاب بفكرة االعهد الآتيب الذي يحل محل االعهد القديمب. وبالفعل ذهبت إلى مناقشة الديوان، وكان ذلك في ادار الأدباءب التي أقامها ورعاها يوسف السباعي طوال حياته. وكانت في شارع قصر العيني. وأذكر أني كنت عنيفاً في نقد قصيدته عن الإسكندرية، فقد رأيت في القصيدة نزعة قومية مغالية. ويبدو أنني كنت قاسياً في نقدي، وقد حاولت ملك عبدالعزيز تخفيف حدة نقدي بحضورها الرقيق وحماستها لأمل الشاعر، وانتهت الندوة بكلمات ملك عبدالعزيز الكاتبة والمشجعة لأمل. وخرجت أنا وهو، مستغرقين في نقاش حاد، ملك وجدان كل منا وأنساه ما حوله. ولم أنتبه إلى الفتاة الرقيقة التي لم أعرف أنها على موعد مع أمل الذي نسي الموعد في حومة النقاش معي. واستمر نقاشنا ونحن نسير على أقدامنا دون أن ننتبه إلى الطريق، فعبرنا كوبري قصر العيني، ومضينا بعد ذلك إلى ميدان الدقي، حيث وجدنا مقهى، جلسنا عليه نكمل النقاش حتى الصباح. وبعد ذلك عرفت أن الفتاة الرقيقة التي نسيها أمل هي عبلة الرويني التي أصبحت زوجته في ما بعد. وكان قد أعطى لها موعداً للقاء بعد الندوة. ولكن حرارة النقاش المحتدم جعلته ينسى الموعد، وينشغل عن المرأة التي أحبها بسبب اختلافنا الذي ألهانا عن كل شيء حولنا. وقد أصبحت عبلة الرويني بعد زواج أمل صديقة أسرتي المقرَّبة والمحببة إلى ابنتي التي أصبح أمل عمها وعم أخيها الأصغر، ولا أزال أحتفظ بصورنا معاً.
وأذكر أن أمل في هذه الفترة نشر ديوانه امقتل القمرب. ولم يقل لي إن الديوان جمع قصائده الرومانسية القديمة. وقد قبلت مناقشة الديوان مع الشاعر صلاح عبدالصبور الذي كان يرعى أمل، ولا يكف عن تشجيعه رغم علمه بالصداقة الشعرية الوثيقة بين أمل وأحمد عبدالمعطي حجازي. ويبدو أن ثقة أمل برقة صلاح عبدالصبور في التعامل هي التي جعلته يختار صلاح عبدالصبور لكي يكون معي في مناقشة امقتل القمرب. وذهبت إلى مناقشة الديوان. وكانت من خلال برنامج امع النقادب الذي يذاع في البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية. وفوجئنا، صلاح عبدالصبور وأنا، بعدم حضور أمل دنقل. وانهلت أنا نقداً للديوان الذي لم أتعاطف مع رومانسيته. ولم يخبرني أمل من قبل أن الديوان قصائد البدايات، وأنه نشر الديوان- ربما- لسبب مادي. وكانت رقة صلاح عبدالصبور وإنسانيته، تحتملان هذه المواقف وتعالجانها بسماحة راقية كان يتميز بها. لذلك لم يفعل شيئاً في البرنامج سوى تبرير الرومانسية التي لا تزال موجودة في امقتل القمرب.
وقد راعينا هذا الجانب بعد وفاة أمل مع نشر أعماله الكاملة، فجعلنا امقتل القمرب أول الدواوين، وبعده االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب ثم اتعليق على ما حدثب وبعده االعهد الآتيب ثم الدواوين التي تلاحقت بعد ذلك. ويلفت الانتباه في سياق تعداد دواوين أمل وترتيبها أن ديوان االبكاءب كُتب في زمن عبدالناصر، الذي رحل عن دنيانا في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، وبعدها جاء السادات منذ ذلك اليوم، وظل حاكماً لمصر إلى السادس من أكتوبر 1981. وما يلفت انتباهي، الآن، بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً على وفاة أمل دنقل، أن أغلب شعره، وربما أفضله، كُتب في زمن السادات.
والمؤكد أن نبرة الغضب القومي هي التي ميَّزت أمل دنقل الذي مضى أغلب شعره في إيقاعات الغضب المتواصلة قوميّاً، سواء كانت مثل أحداث هزيمة 67 أو مخيم الوحدات في سبتمبر سنة 1970 حين توفي عبدالناصر، تاركاً للسادات مهمة تحرير الأرض. وكان من الطبيعي أن يرثي أمل عبدالناصر البطل القومي العظيم الذي ظلت مشاعره متوترة إزاءه حتى في رثائه، وهو أمر واضح في قصيدته الا وقت للبكاءب، التي تبدأ على النحو التالي:
لا وقت للبكاء
فالعلم الذي تنكسينه في سرادق العزاء
منكس على الشاطئ الآخر
والأبناء
يستشهدون كي يقيموه.. على «تبّة»
العلم المنسوج من حلاوة النصر ومن مرارة النكبة
خيطاً من الحب.. وخيطين من الدماء
العلم المنسوج من خيام اللاجئين للعراء
ومن مناديل وداع الأمهات للجنود
في الشاطئ الآخر..
ملقى في الثرى
ينهش فيه الدود
ينهش فيه الدود واليهود
الذي يدهشني، الآن، أنني لم أنتبه في ذلك الوقت إلى التضاد العاطفي الذي كان ينطوي عليه أمل دنقل في علاقته بعبدالناصر، فقد كان هو البطل القومي، الذي حررنا من الملكية والاستعمار، وأدخلنا عالم العدالة الاجتماعية، الذي كان من ثماره مجانية التعليم التي فتحت الطريق المغلق للصعود الاجتماعي، أمام أبناء الفقراء من أمثالنا، لكن عبدالناصر- من ناحية مقابلة- بنى نظاماً سياسيّاً تسلطيّاً. ولذلك لم تحمل مرثية أمل لعبدالناصر أي حديث عن أمجاد له، وإنما عن ضرورة الالتفات لما هو آت لتحقيق النصر. والحق أن هذا التضاد العاطفي تجاه عبدالناصر هو الذي جعله يكتب اكلمات سبارتاكوس الأخيرةب واأغنية إلى الاتحاد الاشتراكيب وقصيدة اأوجينيب غير المنشورة في أعماله الكاملة والتي يصدرها بكلماته التي تقول: اإلى الرئيس عبدالناصر، فلولاه لخجلت أن أكتب عن هذه الفترة من تاريخنا، لولا أنه قال كلماته في ميدان المنشيةب. يقصد إلى كلمته التي أعلن فيها تأميم قناة السويس في السادس والعشرين من يوليو 1956.
ولم ينطو أمل دنقل على أي نوع من التضاد العاطفي إزاء أنور السادات الذي كتب أهم شعره في زمنه. وهأنذا، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على وفاته، لا أتذكر أنه كتب قصيدة عن نصر أكتوبر 1973، وأتذكر بدل ذلك قصيدته اأغنية الكعكة الحجريةب التي كتبها تعاطفاً مع الطلاب الذين اعتصموا في ميدان التحرير، متحلقين حول قاعدة النصب التذكاري التي كانت موجودة، احتجاجاً على ما رأوه تباطؤاً من السادات في خوض معركة التحرير التي كان عبدالناصر قد أعدّ لها العدة قبل موته. وقد قمعت قوات الشرطة الاعتصام الطلابي وفضَّته بالقوة القمعية سنة 1972 إن لم تخني الذاكرة. وقد أطلق أمل دنقل على القصيدة عنواناً رئيسيّاً جديداً، هو اسفر الخروجب، بينما جعل عنوانها الفرعي اأغنية الكعكة الحجريةب التي تتكون على هيئة إصحاحات، توافقاً مع عنوان الديوان االعهد الآتيب. ويبدأ الإصحاح الأول بالكلمات:
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة
سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة
والإصحاح الأول بضمير المتكلم الذي يجسّد صوته أحد الطلاب الذين سقطوا صرعى الرصاص، وبقية الإصحاحات (المقاطع) بضمير راءٍ غائب يروي مشاهد من المذبحة. وقد تلاعب أمل بتكرار ادقت الساعةب وهي حيلة بلاغية تؤدي وظائف متعددة للتكرار، نظر فيها أمل إلى شعر الشاعر الإسباني لوركا، وبخاصة قصيدته الشهيرة في وفاة صديقه مصارع الثيران إجناسيو سانشيز ميجاس التي تتكرر فيها لازمة االساعة الخامسةب وتؤدي دوراً
بنائياً كما تفعل قصيدة أمل، لكن على نحو مختلف:
ما أسترجعه، الآن، وأنا أجترّ ذكريات أمل دنقل، أن قصيدة اأغنية الكعكة الحجريةب لم تكن من القصائد التي يختارها أمل، حين يتحلق حوله أصدقاؤه المقربون في الجلسات الحميمة. كانت القصائد المحببة إليه، ولا يملّ من إنشادها، هي قصائد امن أوراق أبي نواسب واسفر ألف دالب واصلاةب.
أما امن أوراق أبي نواسب فقد كانت شخصية أمل الشاعر تتماهى فيها مع أبي نواس الذي تتحدث عنه القصيدة، خصوصاً في المقاطع التي تصل الشاعر القديم بأصدقائه الذين اختاروا القرب من السلطة. وكان أمل ينشد لنا المفتتح كما لو كان ينشد لنفسه:
- ملك أم كتابة؟
صاح بي صاحبى، وهو يلقي بدرهمه في الهواء
ثم يلقفه
(خارجين من الدرس كنا.. وحبر الطفولة فوق الرداء
والعصافير تمرق عبر البيوت،
وتهبط فوق النخيل البعيد)
***
ملك أم كتابة؟
صاح بي.. فانتبهت، ورفت ذبابة
حول عينين لامعتين
فقلت: «الكتابة»
فتح اليد مبتسماً، كان وجه المليك السعيد
باسماً في مهابة
ولا أزال أذكر أن صوت أمل كان يكتسب نبرة خاصة مغايرة، كنت ألمحها وهو يقرأ المقطع:
أيها الشعر.. يا أيها الفرح المختلس
***
كل ما كنت أكتب في هذه الصفحة الورقية
صادرته العسس
كانت ملامح وجه أمل التي تشبه وجه إخناتون تكتسب رقّة دالة وهي تقرأ: اأيها الشعر.. يا أيها الفرح المختلسب. وبالفعل كان الشعر كالحب، كلاهما الفرح الذي يلتمسه أمل من الحياة. ولذلك لم يكف عن البحث عن الحب إلى أن هدأ مع ارتباطه بعبلة الرويني. أما الشعر فقد ظل هو كل شيء في حياته، وهو على سرير المرض، والأصح أن أقول إن الشعر كان أداته في مواجهة الموت، وانتزاع الأيام من قبضته الشرسة. وكنت شاهداً يومياً على هذه المواجهة في أشهر أمل الأخيرة. ولا أزال أذكر جيداً مهرجان الإبداع الشعري الذي عقدناه قبل موته بشهور. ولم يكن قد استقر في الغرفة رقم 8 بعد. وكان يعاني من تصلب ساقيه بسبب طول الرقاد وضعف عظام الساقين للسبب نفسه، ولكنه أصرّ على أن نذهب به إلى قاعة مسرح السلام وهو يتوكأ على عكازه وعلى ذراعي. وكان هزيلاً إلى أبعد حد، وكنت خائفاً، متشككاً في أنه يستطيع إلقاء الشعر. لكنه أصر كي يلقي قصيدته الا تصالحب التي كتبها ضد تصالح السادات مع إسرائيل. وعندما وصلنا إلى المسرح، ساعدناه على الدخول من الكواليس إلى أن أعلن مذيع الأمسية عن دور أمل، فتركناه كي يدخل واهناً متكئاً على عكازه، مرهقاً إلى أبعد حد، لكنه ما كاد يبدأ الإنشاد حتى ألقى بعكازه، ووقف على قدميه، وعادت إليه حيويته، قائلاً في نبرة مقاتلة لن أنساها:
لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى
وانطلق صوت أمل هادراً، وران على القاعة صمت جليل، وما إن فرغ من الإلقاء إلا وقد وقف جميع من في المسرح وأيديهم لا تتوقف عن التصفيق الذي توهَّمت من شدته أن جدران المسرح تهتز. وما إن انتهى التصفيق حتى هرعنا إليه بالعكاز، لنسنده. ولم يفتني ذلك الضوء الداخلي الذي ينير وجهه. وأحسبني أستطيع أن أقول، بعد كل هذه السنوات، إنه ضوء الفرح المختلس الذي كان يحارب به أمل السرطان اللعين إلى آخر لحظة، عندما استطاع المرض تدمير كل مقاومة. وأخيراً أدرك بحسِّه الداخلي أنه راحل عنا، فألمح إلى ذلك في ختام قصيدته االجنوبيب، آخر ما كتب في حياته، عندما قال:
هل تريد قليلاً من الصبر؟
- لا
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة والأوجه الغائبة
وكانت تلك السطور هي آخر ما كتبه من قصائد: الجنوبي. ولا أنسى يوم زيارتي له، بعد قصيدة الجنوبي بأيام، فوجدت عبلة زوجه دامعة العينين، ومثلها أنس أخوه الأصغر الذي كان كبرياؤه يمنعه من البكاء. وقال لي أمل: أحسنت بحضورك، لأني أريد تكليفك بمجموعة أشياء، فاسمعها مني وقم بتنفيذها ولا تكن رومانتيكياً، فأخذتني رهبة، وأخذت أستمع إلى ما يريده صاغراً، فواصل كلامه: هناك حزمة جنيهات تحت امخدتيب خذها، واستعن بها في جنازتي، أريد من أصحابي أن يرحلوا مع جثماني ليحضروا دفني في مقبرة أبي بقرية القلعة. ووصيتي الأخيرة ألا يدفع أحدكم مليماً في السفر. واشتر بما معك من نقود تذاكر سفر بالطائرة، واقضوا الليل في الأقصر، وفي الصباح اركبوا السيارات إلى االقلعةب واحضروا دفني مع بقية العائلة. وبعد ثلاثة أيام فحسب رحل أمل. وجلسنا أنا وعبدالمحسن بدر ونصر حامد
أبو زيد وعبدالرحمن الأبنودي نتحدث في ما يجب، وتسرع عبدالرحمن الأبنودي بالقول إنه سيتحمل نفقات كل شيء، ولكني صددته قائلاً: إن وصيته واجبة التنفيذ دون إبطاء. وبالفعل نفذنا ما طلبه أمل، وسرنا وراء نعشه إلى أن دفناه في مقبرة أبيه، وعدنا دون أمل الذي فقدناه جسداً، لكننا لم نفقده شعراً، فهو لا يزال قرين الفرح المختلس الذي ننطوي عليه، حتى ونحن ننشد قوله:
كل الأحبة يرتحلون،
فترحل عن العين شيئاً فشيئاً
ألفة هذا الوطن .