الــــثـــور
تحولت نظرة توم يوركفيلد نحو أخيه غير الشقيق لورنس من شخص كسول بالفطرة إلى شعور متسامح من عدم اللامبالاة. لم يكن لدى توم سبب ملموس لكي يكرهه، فـ «لورنس» مجرد شخص تربطه به صلة قرابة ليس إلا، ولم تكن تجمع بينهما أي ميول أو اهتمامات مشتركة، لكن في الوقت نفسه، لم تكن هنالك مناسبة لكي يفتعل توم شجارا معه، وهو ما يتوق له بشدة. وكان لورنس قد غادر المزرعة في سن مبكرة، معتمدا لفترة على مبلغ من المال كانت قد تركته له أمه، ممتهنا الرسم الذي كان يُدر عليه الشيء الكافي لكي يضمن له عيشة كريمة.
كان لورنس متخصصا في رسم الحيوانات، وناجحا في إيجاد مشترين لأعماله. كان توم يشعر ببعض التفوق من الناحية المهنية على أخيه غير الشقيق، إذ كان لورنس مجرد صبي يلهو بالرسم ليس أكثر. وقد يبدو الأمر أكثر سوءا إذا علمنا أن توم أطلق عليه لقب «رسام الحيوانات». توم كان مزارعا، وتكمن أهمية ذلك في أن مزرعته المسماة هيلسري كانت في حوزة العائلة لأجيال عدة، ولها شهرة في جودة المواشي التي تربى فيها. رغم قلة المصادر، فإن توم عمل إلى أقصى حدود طاقته لكي يحافظ على أصالة المواشي التي يربيها. وفي أحد الأسواق الشعبية الذي أقيم في منطقته أخيرًا، كان توم قد اعتنى بثور له حتى غدا أعجوبة للناظر. قد لا يحوز هذا الثور إعجاب لجنة تحكيم في مسابقة معتبرة للمواشي, إلا أنه كان ثورًا قوي البنية, جميل الهيئة ذا صحة جيدة كأي حيوان يتمناه مربي مواشي. كان تعلق توم بثوره شديدا، حتى أنه أعلن أنه لن يبيعه بمائة جنيه، ويعتبر هذا المبلغ كبيرا في ذلك الوسط الزراعي، وغالبا أي شيء يفوق الثمانين جنيها كان يغري توم.
في إحدى الزيارات النادرة للورنس، استغل توم بمتعة بالغة ذلك الأمر لكي يريه مصدر فخره, ثوره الأشم. قد بدا لتوم أن حقده القديم لأخيه غير الشقيق انتعش بهذه الزيارة، ذلك إن علمنا أن لورنس أصبح أكثر تراخيا وكسلا في تصرفاته, كما أصبحت طريقته في اللبس غير لائقة، ويشوب لهجته شيء من العلو. لم يبد لورنس أي اهتمام لغلة البطاطا التي يزرعها توم، لكنه كان متحمسا لرؤية مجموعة من الأجمة ذات أزهار صفر احتلت زاوية أحد الممرات. بدا هذا الأمر مشينا لتوم، ومما زاد الأمر سوءا أن لورنس أدلى بثناء بارد على مجموعة من الحملان ذات الوجه الأسود، بينما صب جام إعجابه على تشكيلة من أشجار السنديان المتربعة على التلة المقابلة للمزرعة. وقد حان الوقت لكي يرى لورنس الثور الأعجوبة، ومهما أبدى لورنس إعجابا ملؤه الحقد ومهما بدت تهنئته متواضعة وبائسة، فإنه كان من الضروري أن يدلي باعترافه بمحاسن هذا الحيوان العجيب. بينما كان توم في رحلة عمل إلى مدينة تانتون قبل بضعة أسابيع، تلقى دعوة من أخيه غير الشقيق لزيارة معرضه المقام هناك، حيث كانت من بين اللوحات المعروضة لوحة كبيرة الحجم تمثل ثورًا غارقا حتى ركبتيه في أرض موحلة. كان الثور بلا شك ذا أصل نبيل كما أوحت بذلك اللوحة, وكان لورنس شديد الاعتزاز باللوحة. «إنها أفضل لوحة رسمتها حتى الآن»، كان يقول مرارا وتكرارا، وأبدى توم موافقته على اللوحة التي وصفها بالخيالية. والآن فإن رجل الألوان والفن على موعد ليرى نموذجًا حيًا على القوة والجمال, شيء بديع المنظر ولوحة تتغير فيها الوضعيات في حركة تتبدل في كل دقيقة تمضي, عوضا عن لوحة ساكنة عبدة لإطار مربع ومعلقة على جدار. فتح توم بابًا خشبيًا ضخمًا كان يؤدي إلى حظيرة مكسوة بالقش.
«هل هو هادئ؟».. تساءل الفنان بينما كان يقترب منهما بفضول ثور فتي بمعطف مجعد بني اللون. «يحب اللهو في بعض الأحيان».. أجاب توم تاركا أخاه في حيرة من طبيعة هذا اللهو. قام لورنس بالتعليق على الثور بصورة آلية ثم سأل بعض الأسئلة الشخصية كعمره وما شابه ثم بكل سلاسة انتقل إلى موضوع آخر.
«هل تذكر اللوحة التي أريتك إياها في تانتون؟» سأل لورنس. «نعم» أجاب توم ثم أضاف «ثور أبيض الوجه واقف في أرض وعرة. شخصيا لا أحبّذ هذا النوع الهجين من الحيوانات, ذا النظرة البهيمية العجفاء التي لا حياة فيها. وفي اعتقادي أنه من السهل رسمها بتلك الطريقة الميتة، في المقابل فإن هذا الثور في حركة مستمرة وحيوية أليس كذلك يا ملاكي؟».
«لقد قمت ببيع تلك اللوحة».. أعلن لورنس بلهجة تنم عن رضا تام. «أحقا فعلت؟» قال توم «من الجيد سماع ذلك. أتمنى أن تكون قد حصلت على مبلغ مرض لها؟».
«لقد حصلت على ثلاثمائة جنيه»، قال لورنس.
التفت حينها توم بينما تصاعدت في وجهه موجة غضب. ثلاثمائة جنيه للوحة على قماش رسمها أخوه غير الشقيق! بينما ثوره المصون بالكاد سيباع بمائة جنيه, أي أن اللوحة تساوي ثلاثة أضعاف الثور الحقيقي. لقد كانت إهانة قاسية لتوم وخصوصًا أنها تؤكد تفوق لورنس. كان في نية المزارع الشاب أن ينزل لورنس من عليائه حين يريه جوهرة مقتنياته، لكن الآية انقلبت عليه, وبدا لتوم أن ثوره فقد قيمته وصار أرخص من ثور مرسوم على لوحة. لقد كان ذلك ظلمًا مجحفًا إذ إن اللوحة ليست أكثر من محاكاة مزيفة للحياة. في حين أن ثوره هو الأصل الحقيقي, ملك في محيطه وسيد في هذه الأنحاء من الريف. ولسوف تجوب سلالته من بعده هذه البقاع وتتغذى من مراعيها وتلالها، ولسوف تملأ الحضائر وستتلون الأراضي بلون جلدها الأحمر, وسيعجب الرجال بعين بصيرة وفاحصة وسيقولون إن أصل هذه السلالة نبيل. وفي أثناء كل هذا، ستكون اللوحة معلقة بلا حياة يعلوها الغبار وتكون بلا معنى عندما تغطيها بغطاء. كانت تلك الأفكار تتلاحق في رأس توم من غير أن يقدر أن يعبر عنها بكلمات, لأنه إذا أعطى صوتًا لكلماته، فإنها ستكون صريحة وقاسية.
«قد يوجد من المغفلين الحمقى من لا يجد غضاضة في هدر ثلاثمائة جنيه على قطعة من الألوان على ورق، ولا أستطيع القول إنني أحسدهم على ذوقهم. لكني أفضل الحصول على أصل الشيء عوضا عن صورة له».
قال ذلك توم وهو يشير نحو الثور برأسه، الذي كان ينظر بدوره ناحيتهم برأس شامخ خافضا قرنيه كأنه يلهو مع نفسه، لكن في لحظات كان يهز رأسه بصبر نافد. وضحك لورنس بصورة مستفزة تدل على استمتاعه التام بما يحدث أمامه.
«لا أظن أن المشتري لقطعتي من الألوان على ورق كما تدعوها قلق بشأن هدر ماله. وكلما علا صيتي وتوسعت شهرتي، فإن أعمالي الفنية سترتفع قيمتها. وتلك اللوحة بالذات ستباع بأربعمائة جنيه بعد خمس أو ست سنوات. والاستثمار في شراء اللوحات الفنية يدر ربحا جيدا مادمت تعلم كيف تنتقي الفنانين المناسبين ذوي المستقبل الواعد. من ناحية أخرى فلا يمكنني القول إن ثورك العزيز سيدر مبلغًا أكثر كلما احتفظت به لوقت أكبر, لأنه سيأتي عليه يوم لا يساوي فيه غير بضعة شيلنجهات بعد أن يغدو مجرد حوافر وعظام على جلد، بينما في الوقت نفسه، فإن ثوري أنا سيباع بمبلغ ضخم لمعرض فني ما».
وبذلك بلغ السيل الزبى. وتكاتفت قوى الحقيقة مع البهتان والإهانة لتكسر آخر شعرة من ضبط النفس لدى توم يوركفيلد. وكان في اليد اليمنى لهذا الأخير عصا من خشب السنديان وبيده اليسرى أمسك لورنس من ياقة قميصه الحريري. لم يكن لورنس بالرجل المقاتل، وخوفه من العنف الجسدي أفقده توازنه بالدرجة نفسها التي أفقد الغضب اتزان توم. وقد عرف عن ثور توم ذكاؤه الفطري الذي بفضله يستطيع الإحساس بحركة البشر وضجيجهم من حوله. وهكذا في خضم قتال توم مع لورنس، ارتأى الثور بكل سرور أن ينطح لورنس في كتفه اليسرى، وهو لايزال طائرا في الهواء من النطحة الأولى، وكان في نيته أيضا أن يحطم أضلاع لورنس بركبته الهائلة بعد أن يسقط أرضا، وحده تدخل توم ما منع الثور من القيام بالحركة الأخيرة، لكن عدا ذلك فلقد لقن الثور لورنس درسا لن ينساه.
وبكل إخلاص ونقاء سريرة، اعتنى توم بأخيه غير الشقيق المصاب حتى يشفى من جروحه التي تكونت من انخلاع كتف وكسر ضلع أو اثنين وانهيار في الأعصاب. حننت هذه الحادثة قلب توم، فلم يعد يحمل ضغينة ضد أخيه غير الشقيق. قد يباع ثور لورنس بثلاثمائة جنيه أو حتى بستمائة، وقد يعجب به ألف حين يعرض في معرض فني مهم، لكنه لن يكون في مقدوره أن يرمي برجل من كتفه ويطعنه في أضلاعه وهو طائر في الهواء. كل ذلك أنجزه ثور توم بفخر واعتزاز ولن يستطيع أحد أن يسلبه هذا الإنجاز.
استمر لورنس في رسم الحيوانات وتوالت نجاحاته كذلك. لكن مواضيع رسوماته أصبحت حيوانات محددة، مثل الهررة أو صغار الظباء وما شابهها، ولم يعد لرسم الثيران أبدا>