قضية الحرية في شعر بدوي الجَبل
هذا نص كامن في لاشعوري، يزداد رسوخاً كلما تأملت في قصائد الشاعر الراحل، ولطالما تمنيت أن ألتقط من بيدره حبات ذهبية من قمح تصوره للحرية، أصنع منها رغيفاً يغذي توقي إلى هذه الواحة الأسطورية، أقتات عليه طوال ليالي الحلم بها، الذي لا يتجسد في الواقع. لم يكف «البدوي» عن إنشاد الحرية ونشدانها، منذ أن أطل على دنيا الشعر، جاعلاً منها قضيته الدائمة يتناولها من منطلقات متنوعة شكلاً منسجمة جوهراً. ولما كانت (حتى) الحرية التي لا تدرك تعتمل في أعماق الإنسان، أغريت نفسي بمراودتها، مستعيناً عليها بقليل من رحيقها المعتق في دنان بدوي الجبل.
لابد لمدمن تذوق رحيق الحرية من دنان االبدويب من أن يكتشف نوعاً من اتحوّلب مذاق الرحيق، مع مرور الزمن عليه وهو في الدنان.
ذلك أن شاعرنا أطل على الشعر منذ أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، في حدود علمي، حيث أهدى االبواكيرب إلى اروح شهيد ميسلون التي تمردت على العبودية وعلى الحياةب، ففي الرابع والعشرين من يوليو 1920، تصدى وزير دفاع سورية المستقلة حديثاً يوسف العظمة للقوات الفرنسية التي زحفت لاحتلال دمشق واستشهد في ميسلون.
نقرأ في البواكير إصرار البدوي على أن يكون حراً في ما يكتب، صاغ هذا الإصرار في سؤال اإليهاب: أعلمت أني شاعر حرّ البيان طليقه؟ (1921).
وفي مقطوعة ثانية:
وعاطفتي زفرة حر كريم على الدهر ثار ولم يحفل (1923) والحر يعجب بالأحرار أنى وجدوا. فلما اعتقلت حكومة بريطانيا اماك سوينيب المناضل الوطني الإيرلندي، أضرب عن الطعام وقضى نحبه في 1921، فأبنه البدوي بقصيدة منها:
عصيت العاطفات فمتّ جوعاً
ومن بعض القيود العاطفات
لقد حررتها فسمَتْ صعوداً
كما سَمَتِ النجوم النيّرات
علوتَ بها عن الأغراض حتى
تساوى الموت عندك والحياة
ولو استزدنا البواكير لما بخلت علينا بالمزيد:
أنا روح حرة ثائرة
رضيت بين الدراري مقيلاً
وفي قصيدة ثانية هذه النظرة النافذة إلى أعماق نفوس البشر:
فلا تكبروا نعمى الهوان فإنما
حياة أسير القيد لفظ بلا معنى
فليست تزين المرء حلة سيد
إذا كان عبداً في طبائعه قنَّا
فردية «البدوي» وفرادته
لابد للشاعر الأصيل من الانعتاق من قيود االجماعةب ليتمرد على االعبودية والحياةب، تجعل الفردية من الإنسان أساس الجماعة أو أساس القيم الأخلاقية، أو الاثنين معاً، وربما كان الشاعر أكثر ميلاً من غيره إلى تفضيل قيم الفرد وحقوقه في مواجهة قيم الكتل الاجتماعية.
يُنسب إلى فرويد قول مؤداه االإنسان مهما كان متواضعاً وبسيطاً، وتهيمن عليه ظروف حياته الخارجية، يشعر غالباً في قرارة روحه أنه سيدب. فكيف لا يكون كذلك من أنشد:
أحلام جبار السماوات العلى
نزلت عليَّ وضمّها جلبابي
فإذا الحياة على جلالة قدرها
داري وهذا الأفق بعض رحابي
وهذه نظرة شاعرنا إلى الفرد:
بورك الفرد حين يدمى فؤادٌ
عبقريٌ أو حين تدمى بنان
ولابد لفردية الشاعر الأصيل من شعور متين بالحرية:
ما لسلطانهم على الحر حكم
كل نفس إباؤها سلطان
ومع اجتماع الشعر والشباب يشتد الإحساس بالكرامة:
وكيف أعنو لجبار وقد ملكت
يميني القمرين.. الشعر والصَّيدا?
إن الكرامة والحرية احتلفا
ولن يفارق حلف حلفه أبدا
آمنت بالفرد حراً في عقيدته
وكل فرد وما والى وما اعتقدا
ولكم ألحَّ البدوي على الحفاظ على كرامته وكبريائه:
ظمئت والشمس من كبر ومن أَنَفٍ
ورحت والشمس لا نعنو ولا نرد
منفى الحرية
لا يجوز لمن يقدس الحرية التهاون مع عدويها الألدين الظلم والطغيان، هذان الشران نالهما من سهام بدوي الجبل ما لا يحصى، وأغمد في أعماق الطغاة نصل بيانه الساطع:
أنا أبكي لكل طاغٍ فما
يستر إلا الضراعة الطغيان
أما إذا أقام الظلم في أرض:
وانْسَ عطر الشآم حيث يقيم
الظلم تنأى ولا تقيم العطور
ويكتشف بدوي الجبل في هزيمة يونيو 1967 مقدرة الطغيان التي لا تضاهى على إنجاب الكوارث:
نحن موتى وشر ما ابتدع الطغيان
موتى على الدروب تسير
نحن موتى وإن غدونا ورحنا
والبيوت المزوقات قبور
نحن موتى يسر جار لجار
مستريباً: متى يكون النشور؟
نكتشف في موقف الشاعر من الظلم، أياً كان مصدره, عداء شخصياً، فهو الذي أجبره على مغادرة الوطن أكثر من مرة، تبعاً لمزاج المتسلطين على مقدرات البلاد، وأبعده راغماً عن أهله وأحبائه:
جلاني الظلم أشلاء ممزقة
واحتز أكرمهن... القلب والولدا
يرفض البدوي ظلم القدر الذي يخترم فلذات الأكباد من زغب القطا، هؤلاء وحدهم لا يضيق بظلمهم:
يجور وبعض الجور حلو محبب
ولم أر قبل الطفل ظلماً محببا
وحمّلني أن أقبل الضيم صاغراً
وأرغب تحناناً عليه وأرهبا
لكنه سرعان ما يتدارك لحظة الضعف هذه قائلاً:
يمزق قلبي البعد عمن أحبهم
ولكن رأيت الظلم أخشن مركبا
كما يجدد هذا التدارك:
لا أبالي وقد قسوت على الظالم
عسف الدجى وعض الحديد
يعود البدوي إلى التساهل مع الطغيان, لكن طغيان من؟:
الشعر والحسن المدل كلاهما طاغ عنيد.
وكيف لا يتساهل وهو الشاعر المفتون بالجمال، الذي يبكي لعين لا تدرك الحسن؟
كدت أنسى هذه الإدانة الحاسمة للظالمين الذين هانوا حتى سمت عنهم ضغينتنا:
لا يخدعنك زهو الظالمين
وإن تاهت على الفلك الأبراج والعمد
ثلاثة لهوان الدهر قد خلقوا
الظالمون وعيرُ الحَيِّ والوتدُ
تكبر الحق أن تلقاه مضطهداً
الظلم في عنفوان الظلم مضطهد
في الحرية الافتراضية
أقاوم إغراء الإسهاب في اوحدةب شاعرنا الراحل أو اتوحدهب، بمعنى شعوره بأنه اوحيدب كما ينبغي لكل شاعر أصيل، لأن هذه االوحدةب هي المرتع المفضل لممارسة االبدويب حريته، فمن لديه فكرة بسيطة عن حياته في االواقعب، أي في وطنه من المهد إلى اللحد، يكتشف أن الشاعر والوطن لم ينعما بالحرية، على نسبيتها، إلا على مراحل متقطعة وقصيرة زمنيّاً. مع أنه انغمس في السياسة مدة وأصبح وزيراً أكثر من مرة، ما يفرض على الشاعر بعض القيود.
من هنا تأتي أهمية وحدة شاعرنا التي تتيح له ممارسة حريته في خيالاته التي يقطّرها شعراً، مازال يأخذنا معه إلى وهم الحرية حتى نكاد نلمسه:
وبوركت نعمة الخيال ويرضيني
خداع الخيال والتعليل
مارس االبدويب الحرية االافتراضيةب قبل عصر وجود أدواتها فعلاً في متناولنا.
وكان حرّاً في قصائده، يسجن نفسه أو يطلقها في رحاب الكون، ينادي تارة:
كل أفق تضيق فيه أسيراً
سعة الأفق أن تكون طليقاً.
ويهتف مرة:
وما ضرّني أسر ونفسي طليقة
مجنحة ما كف من شأوها أسر.
أطل على الدنيا عزيزاً أضمّني
إليه ظلام السجن أم ضمّني القصر
وما حاجتي للنور والنور كامن
بنفسي لا ظل عليه ولا ستر
إذا ملكوا الدنيا على الحر عنوة
ففي نفسه دنيا هي العز والكبر
تبدو لي مقاومة الإسهاب اوهميةب لا افتراضية فحسب، فكيف لا أتوقف عند تصوير االبدويب وحدته بريشته وهي خير االمسهبينب:
وحدتي عالم من السحر والفتنة
حلو القطاف خمراً وريقاً
طف بقلبي تجد به ألف دنيا
لا يلاقي الشقيق فيها الشقيقا
سكنته الشموس من كل أفق
وتحدى أشتاتها أن يضيقا
حفي الفكر في عوالمها الفيح
ولم يبلغ المكان السحيقا
لابد من وجود من يعترض على حرية غير املموسةب كهذه فلأنتقل إلى دنيا ثانية أواكب فيها شاعرنا الراحل وهو ما انفك يهتف للحرية هتافاً قادراً على استثارة حماسة ملايين الناس المناضلين من أجل حرياتهم، بعد أن رحل عن دنيانا.
خزين الحرية عند بدوي الجبل
لم أتساءل يوماً وأنا أَرِد حوض الشاعر، من أين يمتح نسغ الحرية، كنت واثقاً من أنه لا ينضب، طالما بقي قلبه خافقاً, ولئن أنشد شوقي: االحياة الحب والحب الحياةب، فإن هتاف االبدويب: االحياة الحرية والحرية الحياةب.
شهدت ســـورية ثــــلاثة انقلابات عسكرية في سنة واحدة (1949)، واستثمر البدوي مناسبة الاحتفال بذكرى المناضل إبراهيم هنانو (1950)، الذي قاتل الاحتلال الفرنسي بعد غزو سورية، وألقى ابدعة الذلب في نحو مائة بيت منها:
بدعة الذل حين لا يذكر الإنسـ
ان في الشام أنه إنسان
بدعة الذل أن يصاغ من الفـ
رد إله مهيمن ديّان
يا لها دولة تعاقب فيها
كالجناة العقول والأذهان
أين حريتي فلم يبق حراً
من جهير النداء إلا الأذان
سُبّة الدهر أن يحاسبَ فكرٌ
في هواه وأن يغلّ لسان
أجتاز الآن السنوات المعدودة المنصرمة بين ابدعة الذلب وبين امن وحي الهزيمةب، هزيمة يونيو 1967، لأكتشف أين يختزن شاعرنا الراحل مياه نهر الحرية المتدفق في أعماقه:
بعض حريتي السماوات والأنجم
والشمس والضحى والبدور
بعض حريتي الملائك والجنة
والراح والشذا والحبور
بعض حريتي الجمال الإلهي
ومنه المكشوف والمستور
بعض حريتي ويكتحل العقل
بنور الإلهام والتفكير
بعض حريتي ونحن القرابين
لمحرابها ونحن النذور
بعض حريتي من الصبح أطياب
ومن رقة النسيم حرير
حاول وسواس االبلاغةب التي يؤذيها التطويل، إقناعي بالاكتفاء بما في قصيدتين اثنتين فحسب من تراتيل بدوي الجبل في محراب الحرية: ابدعة الذلب وامن وحي الهزيمةب، فلم أرعوِ، برغم أنه همس لي: أما كاد الشاعر يفقد حياته لأنه كتب من وحي الهزيمة؟ أتنسى أنها منجم عميق يستخرج منه لآلئ متنوعة في فلسفة الحرية؟ قلت له ما لا أنساه أن القصيدة وئدت في مهدها، ومرت عليها الأعوام قبل أن تظهر في ديوانه في نحو مائة وخمسة وخمسين بيتاً ومازالت إلى اليوم ينقصها أربعة عشر بيتاً.
ومنع الناس من قراءتها وهي التي تفوقت على كل ما كتب شعراً ونشر عن الهزيمة، في حين كان ينبغي للعرب بين المحيط والخليج حفظ أبياتها غيباً... فمن نحن وعلى أي حرية نتطاول؟
أعترف آسفاً بخروجي على نصيحة شاعرنا العظيم: اويؤذي البلاغة التطويلب ومع ذلك فليس من اليسير الإلمام بهذا اليقين بمقدرة الحرية على الارتقاء بالكائن البشري إلى سوية إنسانية أسمى، كما اعتمل في نفس الشاعر وانبثق في قصائده.
ينبغي لي الاعتراف مرة ثانية بظلمي غير المسوغ لقصيدة امن وحي الهزيمةب، عندما أغفلت التنويه بالأبيات الكثيرة المدهشة التي عالج فيها البدوي الواقع السياسي والفكري الذي أنجب الهزيمة، ذلك أن الواقع، الرافض لا للنقد فحسب، بل للنصيحة الصادقة لوجه الوطن، تفاقم منذ يونيو 1967، ووصل قمع الرأي الناقد في المجلات كلها إلى سويات تسير بالأمة إلى هاوية الانحطاط.
وتفاعل الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني الناجم عن االجهل المقدسب، فأنجبا من صراعهما الظاهر جوّاً مرعباً من الإرهاب الفكري لا يخدم إلا مشروعيهما الاســتبداديين.
قرأت مرة بقلم الشاعر الألماني هاينريش هاينه هذه الفكرة: احرية الرأي تفترض أن لديك رأياًب.
لا ريب في أن بدوي الجبل كان يمتلك رأياً يستند إلى إيمان راسخ بالحرية يجعلنا نطيل الوقوف خاشعين في محرابه.
تفاديت البحث في نظريات الحرية وفلسفاتها، وتصورت أن البدوي يرسم في قصائده امنمنماتب لو نظرنا إليها مجتمعة لاكتشفنا انظريةب متكاملة ومترابطة عن تصوره لقضية الحرية، طوال عقود مرت على سورية وغيرها في القرن العشرين.
وجدت نفسي، في خضم ما نعانيه اليوم، ألتجئ إلى حصن بدوي الجبل، محاولاً الحصول على مدد من خزين الحرية والأمل الكامن بين أسواره، متمنياً تشجيع آخرين على ولوج الحصن فيه.
أعرف أن البدوي يستحق ما ليس بوسعي الوفاء به، لكن ينبغي لي الآن الخروج من انخطافي إلى السحر المسفر عن امفاتنهب في تراتيل الحرية االبدويةب فوجدت سبيل النجاة لما استنجدت به كي ما اأحسن الخروجب من مغامرتي، فأنجدني بما عرف عنه من تهذيب جم، وأومأ إلى قصيدته المدهشة احنين الغريبب فسارعت إليها لأكتشف مغزى إيماءته، فالتقاني اخفاء يلف الحسن وسحرهب.
وفهمت من الذي ينبغي لومه إذا قصّر قارئه عن التقاط الأخفى والأجمل:
فَدَع لومهُ إن لم يَلُحْ لك سحرُه
خيالك لا سحر الخفاء ملوم .