المستشرقون في الجزيرة العربية
لا يعني مصطلح «المؤسسة الاستشراقية» بالضرورة مؤسسة استعمارية عبر تفريغها من مضمونها العلمي والمعرفي والحضاري، فقبول المؤسسة بوصفها عملا بشريًا (له ما له وعليه ما عليه) يبدو مقبولا إلى حد كبير مقابل الرفض المطلق للمؤسسة؛ بوصفها مجالا لم يكن العلم فيه غير وسيلة غير قادرة إلا على رؤية أهدافها الاستعمارية؛ «فالحقيقة التي يجب ألا ننساها دائما، أن بعض هؤلاء المستشرقين قدموا لنا التراث العربي، في قراءة نقدية تشهد على طول باعهم في ما قدموا وما أثمرت تلك القراءات، فلا أحد ينكر «دي خويه» وما قدمه للمكتبة الجغرافية العربية، ولا ينكر جهود «ميللر» و«بروكلمان» و«آسين بلاثيوس» و«نيكلسون»؛ بل إن بعضهم من اليهود أمثال «فالزر» و«إروين روزنتال» و«باول كراوس».
من زاوية أخرى يمكن الاستدلال على جهد المؤسسة الاستشراقية في الكشف عن أوضاع مدن الجزيرة العربية التي زاروها في الفترات والحقب التاريخية المختلفة، حين أخذ المستشرقون الغربيون يصلون إلى بلادنا، بدءًا من لودفيكو دي فارتيما، وجوزيف بتس، وكريستيان نيبور، ودومينغو باديا الإسباني، وريتشارد بيرتون، وداوتي، وبيركهارت، ورتر، وفلبي، وغيرهم، إضافة إلى عدد لا بأس به من الرحالات من النساء، مثل إيفلين زينب كوبلد، وغيرها، وخاصة أنهن استطعن في بعض الأحوال دخول بعض المنازل، والالتقاء ببعض السيدات، والاختلاط بهن والتعرف عليهن. فكان من شأن هذا الانغماس، أن يسمح بوفرة من التفاصيل الأثنوغرافية في كتاباتهم ومذكراتهم، كنتائج تجربة مباشرة وقريبة مع الآخر، تطورت إلى رغبة في اتصال مباشر وميتافيزيقي مع الغريب والعجيب والمثير جداً في الجزيرة العربية، أملاً في «الانغماس في اكتشاف الآخر»، وأن يلمسوا بأصابعهم حضارات أخرى ومعارف جديدة وغريبة، فالرحالة الإسباني (دومنجو باديا لابلج ) زار الأراضي المقدسة عام 1807م، وكتب تقريرا مفصلا عن أحوالها، وكان دومنجو قد تنكر بزي عربي تحت اسم «علي بك العباسي»، واعتقد البعض أنه ربما كان يعمل لمصلحة نابليون.
أما روسيا فلم تغفل عن هذه المنطقة الحيوية، فقد أرسل القيصر الروسي الرحالة هلترتش حاسبر سيتزن، الذي قام برحلة إلى الجزيرة العربية، ودخل مكة المكرمة، وحصل على لقب حاج، وذهب بعد ذلك إلى اليمن حيث قتل هناك في أواخر العام 1811م. وفي عام 1814م قام الرحالة السويسري جون لويس بيركهات برحلة عمل، مرسلا من قبل الجمعية الأفريقية - البريطانية إلى الجزيرة العربية، وتنقل بين جدة، ومكة المكرمة، والطائف، والمدينة المنورة، وينبع، وغيرها من محطات الحج، ومدنه، ودون ملاحظاته بشكل دقيق عما شاهده في تلك الرحلة.
وفي عام 1845م جاء الرحالة الفنلندي جورج أوغست فالين، الذي تسمى باسم عبدالولي بتكليف من جامعة هلنسكي، للسفر إلى جنوب نجد، للحصول على معلومات عن أهل المنطقة، ولم يستطع الوصول إلى هدفه، وغادر المنطقة، ثم عاد مرة أخرى في وقت لاحق، حيث زار تبوك في أبريل 1848م.
وأدى الضابط الإنجليزي رتشارد بيرتون مناسك الحج عام 1853م، وزار مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، وينبع.
كما مول نابليون الثالث رحلة وليام جيفورد بلغريف الذي وصل إلى القاهرة، ثم معان عام 1862م، ومن معان عبر الجزيرة العربية، فزار كلا من الجوف، وبريدة، والرياض، والهفوف، والبحرين، وقطر، والبحرين، وقطر، والكويت، واستمر في رحلته قرابة العام متخفيا تحت اسم سليم أبومحمد إلياس.
وفي عام 1865م، قام لويس بيلي برحلة قابل فيها الإمام فيصل بن تركي، ودون بيلي رحلته تلك، وأرفق معها خرائط مفيدة للمنطقة. وفي عام 1876م، وفد تشارلز داوتي إلى وسط الجزيرة العربية، حيث وصل إلى الحجر ومدائن صالح، وتيماء، ثم إلى خيبر، وحائل، والقصيم، وبعدها عاد إلى إنجلترا عام 1878م.
وفي عام 1878م كلفت وزارة التعليم الفرنسية الفرنسي تشارلز هوبر بالسفر إلى نجد، وقام برحلتين الأولى عام 1878م، واستمرت أربعة أعوام اكتشف خلالها حجر تيماء، وفي عام 1882م سافر في رحلته الثانية، التي كانت برعاية الجمعية الجغرافية الفرنسية، وزار خلال تلك الرحلة كلا من الجوف وحائل وتيماء وحصل على حجر تيماء وعاد إلى جدة ثم غادرها عائدا إلى حائل، ولكنه قتل في الطريق إليها في 29 يوليو من العام 1884م.
وفي عام 1884م وصل إلى جدة الهولندي كريستيان سنوك هرخونيه، الذي تسمى باسم عبدالغفار، ومن ثم دخل إلى مكة المكرمة عام 1885م. وفي عام 1910م أصبح الفرنسي جيل جرفيه كورتلمون أحد الأوربيين القلائل الذين استطاعوا تحقيق رغباتهم في دخول حرمي مكة المكرمة والمدينة المنورة، في وقت كان يصعب على غير المسلم الدخول إليهما، فضلا عن استخدامه الكاميرا لالتقاط الصور الفوتوغرافية من مكة وجدة، التي تعد اليوم وثائق تاريخية لمرحلة زمنية يمكن القول عنها إنها إحدى المحطات الزمنية المهمة في تاريخ المملكة العربية السعودية.
وفي عهد الملك عبدالعزيز آل سعود
- رحمه الله - قدم أحد أشهر الرحالة الأوربيين، ومن أكثرهم معرفة بالجزيرة العربية في العصر الحديث جون فيلبي الذي زار الرياض، وغيرها من مدن المملكة العربية السعودية، والتقى بالملك الموحد عبدالعزيز آل سعود عام 1917م.
وفي عام 1930م أعلن فيلبي إسلامه، وغير الملك عبدالعزيز اسمه إلى عبدالله، كما قام رحالة نمساوي يدعى لويس موسل برحلة إلى الصحراء الشمالية من جزيرة العرب عام 1910م، ثم قام برحلة أخرى عام 1917م، حيث قدم إلى المنطقة لرعاية المصالح النمساوية فيها.
ولم تقتصر رحلات الغربيين إلى جزيرة العرب على الرجال فقط، فقد قامت عدة نساء أوربيات برحلات إليها، ونذكر منهن الليدي آن بلنت، التي ذهبت مع زوجها ويلفرد بلنت في عام 1879م إلى شمال الجزيرة العربية، حيث وصلا إلى حائل بهدف البحث عن الخيول العربية الأصيلة، وقد سجلت آن بلنت مشاهداتها في تلك الرحلة في كتاب بعنوان «رحلة إلى نجد مهد العشائر العربية»، وكانت هذه السيدة تعاني ضغوطا عائلية قاسية حيث فقدت عددا من أبنائها، فلم يعش لها سوى ابنة واحدة وكان اسمها جوديث، وكان زوجها ولفريد ينتمي إلى إحدى 68 عائلة مازالت موجودة حينذاك في إنجلترا صحبوا وليام الفاتح من النورماندي.
وفي عام 1933م قدمت الليدي إيفلين زينب كوبلد إلى جدة لأداء فريضة الحج، وسجلت ملاحظاتها عن الإسلام، وأهله وبلده، وعادات وتقاليد المسلمين في كتابها الموسوم بـ «خطوة خطوة في حج إلى مكة». كل هذه الجهود التي قام بها الرحالة من المستشرقين تضعنا أمام سؤال ملح، وهو: ألسنا في حاجة إلى عين أخرى قادرة على أن تكشف ما لم تكتشفه عين الذات؟ إن حركة الاستشراق تستمد قوتها من منهجيتها التي كشفت عنها خطوط العمل والإنتاج التي تبنتها تلك الحركة من مطلع فجرها، وسيكون علينا بقدر من الموضوعية أن نشهد لهذه الحركة بقدر كبير من الاستغراق في العمل لمصلحة الثقافة العربية بصورة ممنهجة وتزايد عملها عبر التاريخ حتى مرحلة النضج في القرن التاسع عشر، وربما يكون لزاما علينا أن نقر بأن الاستشراق شأنه شأن أي نشاط إنساني قد يختلط بأغراض خاصة في جانب منه، ولكن ليس معنى ذلك أن نصم الفعل كاملا بما يمكن أن نصم به الجزء. إذ تظل حركة الاستشراق تمثل جهدًا علميًا ومعرفيًا يستحق دراسته بشكل موضوعي لإدراك الطاقة المحركة لكل عمل علمي ومنهجي يمثل خبرة من الأهمية بمكان اكتسابها والسعي إلى الإفادة منها >