قراءة في «شارع الحوانيت المعتمة»

قراءة في «شارع الحوانيت المعتمة»

اهل‭ ‬ترى‭ ‬أنه‭ ‬يشبهني؟ب‭... ‬إنه‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬عن‭ ‬طرحه‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الشخوص‭ ‬الذين‭ ‬يقابلهم‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬حيث‭ ‬يمد‭ ‬لهم‭ ‬صورة‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬وجه‭ ‬لشخص‭ ‬ما‭ ‬يشك‭ ‬أنه‭ ‬هو،‭ ‬وتأتيه‭ ‬الإجابة‭ ‬دائماً‭ ‬مربكة،‭ ‬فلم‭ ‬يؤكد‭ ‬أحد‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬الصورة،‭ ‬وكذلك‭ ‬لم‭ ‬ينف‭ ‬أحد‭. ‬وتعد‭ ‬رواية‭ ‬اشارع‭ ‬الحوانيت‭ ‬المعتمةب‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬الروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬صاحب‭ ‬انوبلب‭ ‬باتريك‭ ‬موديانو،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬ونجاحاً‭ ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬ثلاثين‭ ‬رواية‭. ‬وتصنف‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬الروايات‭ ‬الفرنسية‭ ‬منذ‭ ‬صدورها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬لموديانو‭ ‬يتأكد‭ ‬تماماً‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬اشارع‭ ‬الحوانيت‭ ‬المعتمةب‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬المذهب‭ ‬الذي‭ ‬يتخذه‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬أبطاله‭ ‬وشخوص‭ ‬رواياته،‭ ‬الذي‭ ‬تلخصه‭ ‬عبارة‭ ‬تتكرر‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬وهي‭ ‬الا‭ ‬شيء‭ ‬يهمب‭ ‬فنجدهم‭ ‬دوماً‭ ‬شخوصاً‭ ‬بلا‭ ‬جذور‭ ‬مطاردين‭ ‬من‭ ‬ماض‭ ‬ويبحثون‭ ‬دوما‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬لأنفسهم‭. ‬المستقبل‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬لهم‭ ‬شيئاً،‭ ‬بل‭ ‬يمثل‭ ‬لهم‭ ‬الماضي‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬يدعى‭ ‬تال،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬اسمه‭ ‬الحقيقي‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬اسمه،‭ ‬لأنه‭ ‬فَقَدَ‭ ‬الذاكرة‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬مضت،‭ ‬وزوجته‭ ‬دينيز‭ ‬فقدت‭ ‬ذاكرتها‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬خلال‭ ‬حادث‭ ‬تعرضا‭ ‬له‭ ‬أثناء‭ ‬محاولتهما‭ ‬عبور‭ ‬الحدود‭. ‬ورولان‭ ‬أو‭ ‬تال‭ ‬وأسماء‭ ‬كثيرة‭ ‬أخرى‭ ‬يعتقد‭ ‬أنها‭ ‬له،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يخيب‭ ‬أمله‭ ‬ويظل‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬لآخر‭ ‬ومن‭ ‬مكان‭ ‬لآخر،‭ ‬فيسافر‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ويعود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬لفرنسا‭ ‬ثم‭ ‬ينطلق‭ ‬لإيطاليا،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬يكتشف‭ ‬له‭ ‬هوية‭ ‬جديدة‭ ‬ويتعرف‭ ‬بأشخاص‭ ‬جدد‭ ‬يخبرونه‭ ‬بأشياء‭ ‬جديدة‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬مضى‭ ‬وانتهى،‭ ‬وأناس‭ ‬رحلوا‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬لهم‭ ‬وجود،‭ ‬ولم‭ ‬يتبق‭ ‬منهم‭ ‬سوى‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬يتركها‭ ‬أصحابها‭ ‬خلفهم‭ ‬كمجموعة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬والخطابات‭ ‬توجد‭ ‬دوماً‭ ‬في‭ ‬علبة‭ ‬صفيح‭ ‬فارغة‭ ‬من‭ ‬الشوكولا‭ ‬والبسكويت‭ ‬احتما‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ينتهي‭ ‬في‭ ‬علب‭ ‬قديمة‭ ‬للبسكويت‭ ‬والشوكولا‭ ‬والحلوىب‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ ‬يتعرف‭ ‬على‭ ‬مصائر‭ ‬ناس‭ ‬شكلوا‭ ‬فرقاً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬ويفاجأ‭ ‬بالأحداث‭ ‬والنهايات‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة‭ ‬لهم،‭ ‬فمثلا‭ ‬هناك‭ ‬صديقته‭ ‬المقربة‭ ‬التي‭ ‬انتحرت‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬الشيخوخة،‭ ‬وعازف‭ ‬البيانو‭ ‬يخبره‭ ‬عن‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬زوجته‭ ‬والمصور‭ ‬جان‭ ‬ميشيل‭ ‬منصور،‭ ‬الذي‭ ‬صور‭ ‬زوجته‭ ‬دينيز‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬عارضة‭ ‬أزياء،‭ ‬وفي‭ ‬تاهيتي‭ ‬أيضاً‭ ‬يموت‭ ‬زميله‭ ‬منتحراً‭ ‬حزناً‭ ‬على‭ ‬زوجته،‭ ‬وفي‭ ‬روما،‭ ‬وهي‭ ‬محطته‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬البحث،‭ ‬وفجأة‭ ‬على‭ ‬درج‭ ‬البناية،‭ ‬يتذكر‭ ‬كيف‭ ‬رأى‭ ‬وجه‭ ‬زوجته‭ ‬الفسفوري‭ ‬المشع،‭ ‬ويصفه‭ ‬بأنه‭ ‬مشهد‭ ‬صعب‭ ‬النسيان،‭ ‬وهنا‭ ‬تحديداً‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬تعرف‭ ‬على‭ ‬هويته‭ ‬الحقيقية‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يخبرنا‭ ‬بها،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬تتضح‭ ‬براعة‭ ‬موديانو‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تراكيب‭ ‬أيام‭ ‬مضت‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منه‭ ‬لتعديل‭ ‬مسيرة‭ ‬الزمن،‭ ‬فنجد‭ ‬أن‭ ‬الأسماء‭ ‬والمواعيد‭ ‬والأماكن‭ ‬تشابكت‭ ‬بشكل‭ ‬معقد‭ ‬كبكرة‭ ‬صوفية‭ ‬معقدة‭ ‬الخيوط،‭ ‬ولكنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتفكك‭ ‬وترجع‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬تتعقد‭. ‬وكما‭ ‬هي‭ ‬عادة‭ ‬الكاتب‭ ‬هو‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬ولكن‭ ‬أي‭ ‬حياة؟‭ ‬إنها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬والخطابات‭ ‬والعناوين‭ ‬المتشابكة،‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬يقود‭ ‬لحياة‭ ‬مستقلة،‭ ‬حياة‭ ‬كانت‭ ‬يوماً‭ ‬موجودة‭ ‬هنا‭. ‬ويبدأ‭ ‬الكاتب‭ ‬روايته‭ ‬بعبارة‭ ‬اأنا‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬طيف‭ ‬واضحب،‭ ‬واستطاع‭ ‬بنجاح‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يشعر‭ ‬بأن‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬مجرد‭ ‬طيف‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬وجود،‭ ‬مجرد‭ ‬وجه‭ ‬لرجل‭ ‬بملامح‭ ‬غير‭ ‬واضحة،‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬خلفية‭ ‬الصور‭ ‬وسط‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬ولكن‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتعرف‭ ‬عليه‭, ‬وفجأة‭ ‬يقف‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭ ‬كمن‭ ‬أضناه‭ ‬السير‭ ‬وأرهقه‭ ‬البحث‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬شاقة،‭ ‬كنا‭ ‬نذهب‭ ‬ونأتي‭ ‬معه‭ ‬فيها‭ ‬عبر‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب،‭ ‬حتى‭ ‬بعدما‭ ‬تأكد‭ ‬من‭ ‬هويته‭ ‬الحقيقية‭ ‬لم‭ ‬يخبرنا‭ ‬بها،‭ ‬فقد‭ ‬فضل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬أخبره‭ ‬عنه‭ ‬صديقه‭ ‬ارجلاً‭ ‬في‭ ‬الأربعين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬يذهب‭ ‬للشاطئ‭ ‬ويقاسم‭ ‬المصطافين‭ ‬أوقات‭ ‬مرحهم‭ ‬وصورهم،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬وجودهب‭. ‬وكعادة‭ ‬الأديب‭ ‬الفرنسي،‭ ‬تنال‭ ‬الأماكن‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬قسطاً‭ ‬وافراً‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬وتعد‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية،‭ ‬فهو‭ ‬يصحبنا‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬لآخر،‭ ‬ومن‭ ‬مدينة‭ ‬لأخرى،‭ ‬وأماكن‭ ‬وبيوت‭ ‬هُدمت‭ ‬لتحل‭ ‬محلها‭ ‬أخرى‭. ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬حال‭ ‬هناك‭ ‬أثر‭ ‬لخطى‭ ‬العابرين‭ ‬فوقها،‭ ‬وهذا‭ ‬الأثر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يدله‭ ‬على‭ ‬وجوده‭ ‬فيها‭ ‬مسبقاً‭. ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬الظليل‭ ‬شعر‭ ‬بأنه‭ ‬مشى‭ ‬يوما‭ ‬بصحبة‭ ‬زوجته‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المقهى‭ ‬ضرب‭ ‬له‭ ‬أحدهم‭ ‬موعداً‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتذكر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬المكان‭ ‬أيضاً،‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يحدد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬هنا،‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬السنة،‭ ‬فالزمان‭ ‬والمكان‭ ‬هما‭ ‬بوصلة‭ ‬البطل،‭ ‬يقودان‭ ‬غياهب‭ ‬ذاكرته،‭ ‬فنراه‭ ‬دوماً‭ ‬يصف‭ ‬المشهد‭ ‬قائلاً‭ ‬اأتذكر‭ ‬أنه‭ ‬ذات‭ ‬زوال‭ ‬أحد‭ ‬أيام‭ ‬الخريف‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬تظلله‭ ‬شجيرات‭ ‬التمر‭ ‬حنةب،‭ ‬هكذا‭ ‬يأخذ‭ ‬القارئ‭ ‬لرحلة‭ ‬سير‭ ‬معه،‭ ‬يعرفه‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬شوارع‭ ‬باريس،‭ ‬يشير‭ ‬له‭ ‬إلى‭ ‬ضوء‭ ‬خافت‭ ‬يتسلل‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬النوافذ،‭ ‬ويخبره‭ ‬أن‭ ‬أحدهم‭ ‬كان‭ ‬ينتظره‭ ‬هناك‭ ‬يوماً،‭ ‬ولكن‭ ‬متى؟‭ ‬ومن‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الشخص؟‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭. ‬ثم‭ ‬عندما‭ ‬يشعر‭ ‬بالإجهاد،‭ ‬يأخذ‭ ‬هدنة‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬ليقص‭ ‬عليه‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬ثم‭ ‬يقوم‭ ‬مسرعاً‭ ‬ليواصل‭ ‬طريقه،‭ ‬ولا‭ ‬يملك‭ ‬قارئه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يركض‭ ‬لاهثاً‭ ‬خلفه‭ ‬ليلحق‭ ‬به،‭ ‬وربما‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬التقنية‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬موديانو‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬أحداث‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬وتيرة‭ ‬واحدة،‭ ‬إلا‭ ‬أنك‭ ‬لا‭ ‬تشعر‭ ‬أبداً‭ ‬بالملل،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬دؤوبة‭ ‬يركض‭ ‬خلف‭ ‬بطل‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ .