رفعت قيمة أسهمها في بورصة سوق المال محتويات وسائل التواصل الاجتماعي مادة للباحثين

بين ما تتداوله الصحافة المهتمة بوسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، وخصوصا تلك المختصة بالاقتصاد والمال، متابعة القيمة المادية لمواقع التواصل الاجتماعي، أو بالأحرى للشركات المؤسسة لها، وهي مبالغ خرافية. وربما يظن الكثيرون أن السبب الأساس لارتفاع قيمة تلك الشركات ولحجم استثماراتها يعود إلى ما يمكن لتلك المواقع الاجتماعية من توفيره من مبالغ مالية مقابل الإعلانات.
لكن الحقيقة أن هذا لم يعد اليوم السبب الوحيد لمثل هذا الارتفاع المتزايد في قيمة تلك الشركات وارتفاع قيمة أسهمها بالتالي في أسواق البورصة العالمية، بل بسبب الخدمات التي تقدمها البيانات الخاصة بالمستخدمين، وخصوصا الموقعين الأكثر شهرة وهما «تويتر» و«فيس بوك» للمحللين والخبراء في مجالات عديدة طبية وعلمية وصحية وغيرها.
لكن هذه المعلومات الخاصة بتقييم قيمة الشركات العملاقة الخاصة بالتواصل الاجتماعي ظهرت عند الارتفاع المذهل لقيمة تلك المواقع، ما جعل المتعاملين مع البورصة يتساءلون: هل يمتلك موقع تواصل اجتماعي مثل «فيس بوك» حقا، ما يبرر أن تصل قيمته إلى 135 مليار دولار؟! وهل يمكن لموقع مثل «تويتر» الذي يعد اليوم واحدا من المواقع الناجحة في أرجاء العالم أن تصل قيمة السهم فيه إلى 34 دولارا، وأن تبلغ قيمته السوقية 14 مليار دولار؟!
فللإجابة عن هذه الأسئلة تم نوع من التتبع للنشاطات أو بالأحرى للدراسات والأبحاث القائمة على الاستفادة من البيانات التي يمكن استخلاصها من تغريدات أو تعليقات المستخدمين.
ولا علاقة هنا للأمر بموضوع الخصوصية أو البيانات الشخصية للمستخدمين، بل مجرد استخدام آلات التحليل المبرمجة لتحديد ظواهر مختلفة.
تثمين التغريدات!
تبين للمحللين الاقتصاديين أن «تويتر»، إضافة لما تحققه من أرباح بسبب الإعلانات، فهي تحصل على ما قيمته نحو 47 مليون دولار سنويا مقابل الترخيص لجهات بحثية بعينها لاستخدام التغريدات المسجلة على الموقع بغرض التحليل العلمي في أغراض بحثية.
ويبدو أن هذا المنجم المعلوماتي «تويتر» بالفعل قادر على إفادتنا بالعديد من المؤشرات التي تفيد في مجالات متعددة مختلفة.
المعلومات التي توفرها «تويتر» للباحثين هي عبارة عن تغريدات تصل أعدادها إلى عدة ملايين لمستخدمين من أرجاء العالم، ويتم تقسيمها من قبل المحللين حسب طبيعة أو هدف الدراسة.
أوردت مجلة «نيوساينتست» العلمية المتخصصة تقريرا حول الموضوع أشارت فيه - على سبيل المثال - إلى أن أحد أقسام الدراسات الطبية الجامعية في نيويورك أراد تتبع مدى انتشار فيروس الإنفلونزا في نيويورك، وذلك من خلال تحليل بيانات أي تغريدة تأتي فيها كلمة «مريض» أو مريض بالإنفلونزا، أو أشعر بالتعب، باستخدام جهاز مبرمج بخوارزميات تتيح له هذا التحليل، كما تستبعد، في الوقت ذاته، بعض الجمل التي تستخدم كلمة مريض في استخدامات أخرى غير المرض Sick، أي حين تستخدم مثلا بمعنى «قرفت» أو «زهقت». وقد كانت النتيجة مدهشة، إذ أمكن للفريق البحثي أن يحدد مدى انتشار الفيروس في نيويورك، ويصل إلى قدرة على التنبؤ بمدى انتشاره في المستقبل القريب وتحديد بعض المواقع أو الأحياء التي يبدو فيها معدل انتشار العدوى أكبر من غيرها، وتوجيه التحذيرات بالتالي لسكان نيويورك وفقا لهذه المؤشرات.
رصد التغيرات اللغوية
وصحيح أن «تويتر» بالنسبة لعدد كبير من مستخدميه يعد أسرع وسيلة ممكنة للحصول على الأخبار ومتابعة الأحداث. لكن بالنسبة للمحللين المهتمين بما هو أبعد من المتابعة الآنية للأحداث هناك أهداف أخرى، وبينها على سبيل المثال تحليل البيانات من خلال تغريدات «تويتر» من أجل تتبع المصطلحات التي يشتقها المستخدمون، وخصوصا الشباب، سواء باختصار حروف الكلمة الأصلية أو باختلاق مرادف جديد للتعبير عن معنى محدد. وقد تمكن المختصون في إحدى الجامعات الأمريكية من تتبع كيفية انتشار «مصطلح شبابي» لم يكن متداولا في كاليفورنيا، لكنه انتقل إلى المستخدمين هناك، وأصبح واحدا من مفرداتهم من خلال «تويتر».
والحقيقة أن هذه الظاهرة يمكن رصدها عربيا في «فيس بوك» على مستويات عدة، سواء بملاحظة كيفية قيام بعض المستخدمين من جيل الوسط مثلا، باستخدام مصطلحات كان دخولها إلى الـ«فيس بوك» قد بدأ على يد الشباب والمراهقين، سواء لوصف شخص أو جمال امرأة أو لتوصيف وضع مرتبك .. إلخ.
في سوق المال
بين ما رصدته مجلة «نيوساينتست» من إمكانات «تويتر» التي استخدمت في بورصة الأوراق المالية في الولايات المتحدة، هو إمكانات التنبؤ بشكل أسرع باتجاهات الأسهم بشكل يفوق أي وسيلة إعلامية أخرى. فعندما ظهر خبر إطلاق النيران على بعض الأفراد في «كابيتول هول»، وظهر الخبر في التلفزيون المحلي، انخفض المؤشر بمعدل 20 نقطة، غير أن إحدى الشركات العاملة في مجال سوق الأسهم قررت أن تجري تحليلا سريعا على تغريدات «تويتر» لتعرف مدى انتشار الخبر وبالتالي مدى جدية تأثيره في البورصة لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
وبعيدا عن سوق المال، فقد دخل الأطباء النفسيون في الولايات المتحدة الأمريكية على خط مستخدمي التغريدات. وليس ذلك من خلال تصفح حسابات مرضاهم على «تويتر» كما قد يتصور البعض، بل عن طريق التحليل الإحصائي الإلكتروني المبرمج واسع المدى.
فالهدف هنا يكون من أجل استقراء متوسط الشعور بالسعادة عند الأمريكيين من خلال رصد «التغريدات» التي توحي بالإحساس بالسعادة أو تعبِّر عن الاكتئاب أو الإحباط، وغير ذلك من المشاعر السلبية.
على سبيل المثال، قام أحد الباحثين في جامعة بوسطن وهو آلان ميسولف بتحليل جميع التغريدات التي وردت على «تويتر» بين عامي 2006 و2009 باستخدام برنامج قياس تحليلي لمصطلحات سيكولوجية يتم من خلالها معرفة دلالة التغريدات، وما إذا كانت تشير إلى السعادة أو إلى الحزن. ومن خلال التحليل تبين له أن سكان الساحل الغربي للولايات المتحدة أكثر سعادة من سكان الساحل الشرقي. كما تبين أن المزاج العام للأمريكيين يكون في أفضل حالاته في صباحات يوم الأحد، ثم ينخفض متوسط السعادة على مدار الأسبوع حتى مساء الخميس.
من بين الأبحاث التي أجراها مركز بحثي مختص في السموم أيضا محاولة رصد مدى انتشار حالات التسمم الغذائي في نيويورك، بسبب تناول الطعام في أحد المطاعم، من خلال تركيز استخدام مفردتي «معدة» و«مريض»، وكان الهدف الرئيس من الدراسة تحديد المطاعم التي يرد ذكرها مقترنة بحالات التوعك المعدي أو التسمم.
ومرة أخرى، بعيدا عن كل هذه المبررات التي تمنح «تويتر» دخلا إضافيا سنويا، أي بعيدا عن الدافع الاقتصادي الذي أدى للوصول إلى هذه المؤشرات، يتجلى كيف أن مثل هذه الدراسات تجعل منه أداة لقياس الدلالات أو التوجهات في عدة مجالات بينها المجالات الطبية والصحية، أو الاقتصادية، أو اللغوية.
دور رقابي
على صعيد آخر، يمكننا أن نتبين دورا جديدا تلعبه وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، وهو الدور الرقابي في المجتمع. والدور الرقابي هنا ليس بمعنى الوصاية، بل بمعنى الدور الذي تمارسه الجهات الرقابية الحكومية أو الأهلية من أجل تقويم أعمال المؤسسات والسلطات التنفيذية والجهات الحكومية والشركات الخاصة.
ففي مثال تتبع حالات التسمم، الذي أشرنا له سابقا، يبدو جليا أن مثل تلك المؤشرات التي يمكن أن تنتج عن تحليل «تويتر» لتحديد المطاعم التي يتسبب تناول الطعام بها في بعض المتاعب الصحية أن تساعد الأجهزة الرقابية المختصة بجودة المطاعم على تكثيف جهودها في رقابة مناطق بعينها أو حتى مطاعم بعينها من أجل مزيد من فرض مواصفات الجودة القياسية المتبعة.
لكن تلك المجالات الخمسة التي أشرنا إليها لا تمثل وحدها المزايا التي تتسبب في تصاعد قيمة المواقع الاجتماعية، فهناك مزايا أخرى تخص المستخدمين العاديين أنفسهم، من خلال الخدمات التي تقدمها مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير مباشر.
وعلى سبيل المثال، فإن الباحثين عن الوظائف اليوم يجدون في «تويتر» - على سبيل المثال - وسيلة تساعدهم على الحصول على الوظائف، سواء من خلال تتبعهم لحسابات متخصصة في الإعلان عن الوظائف في الشركات والمؤسسات المختلفة، أو من خلال تتبع حسابات شركات محددة يرغب البعض في الالتحاق بالعمل في إحداها، حيث يمكن متابعة إعلان الوظائف المرتقب، أو حتى التواصل بشكل مباشر مع أي جهة من تلك الجهات.
وعلى مستوى أكثر تخصصا، يأتي موقع التواصل الاجتماعي «لينكد إن» LinkedIn، لكي يقدم وسيلة أكثر تخصصا في مجال عرض المستخدم لجميع خبراته المهنية وتجديدها، بحيث يمكن أن يوجد في دائرة المهتمين بطبيعة العمل الذي يمارسه، ما قد يوفر له فرصة عمل أو حتى الانتقال إلى عمل آخر، بشكل أو بآخر إذا ما صادف مرور المهتمين على «البروفايل» الخاص بخبراته وسيرته المهنية، وحتى التعرف على مظهره العام من خلال الصورة الشخصية التي يقوم المستخدم بحفظها في صفحته الشخصية.
ولا يستثنى من مزايا تقديم أو توفير فرص عمل، أو البحث عنها، موقع «فيس بوك»، فهناك العديد من الشركات والمؤسسات التي تنشئ صفحات خاصة بها على الموقع، وتقدم، بين آن وآخر، إعلانات التقدم لوظائف جديدة متاحة بها، بالإضافة إلى إعلانات الشركات المتخصصة في التوظيف التي تقدم إعلانات مباشرة يمكن لأي مستخدم أن يرى الإعلان على صفحته ويتقدم بالتالي إذا كانت لديه الرغبة ويمتلك مواصفات الوظائف المطلوبة.
لكن هذه المزايا ينبغي ألا تنسينا أن كل عملة لها وجهان، وأن كل مسألة قد لا تخلو من المصاعب أو المتاعب والمشكلات. فهناك تقارير عديدة متخصصة في التكنولوجيا الرقمية، تفيد بالعديد من الأزمات التي تعرض لها البعض في وظائفهم بسبب بعض تعليقاتهم على صفحات «فيس بوك»، وبينها مثلا أن يقوموا بانتقاد رؤسائهم فيتعرضون للفصل من وظائفهم! كما تسبب تعليق اتسم بنوع من الوقاحة من قبل موظف في شركة طيران بريطانية تجاه أحد مشجعي فريق كرة قدم خصم للفريق الذي يشجعه، في حصوله على جزاءات من إدارة الشركة.
المجد للتصميم
لكن انتبهوا! ففي كل تحلي لمزايا جديدة، ولا شك في أنها ستزداد بمرور الوقت، علينا أن نتذكر الجملة التي أحبها كثيرا في ما يتعلق بتأسيس أي موقع أو خدمة افتراضية جديدة.. وهي «المجد للتصميم»!
نعم المجد للتصميم الذي نجح في أن يحول «فيس بوك» من مجرد شبكة اتصال داخلية بين عدد من الأصدقاء والزملاء في إحدى الجامعات إلى أشهر موقع تواصل اجتماعي في أرجاء العالم. فالمؤكد أن زوكربرج مؤسس «فيس بوك» ورفاقه لم يكونوا أول من وصل إلى فكرة الشبكة الاجتماعية، بل لم يكونوا أول الدارسين في جامعة هارفارد تحديدا ممن توصلوا للفكرة، فقد سبقهم إليها كثيرون. لكن الفارق أن الأمر الذي بدأ كمزحة بين مجموعة من الأصدقاء وجد اهتماما في كيفية تطوير الفكرة من مجرد الاتصال البريدي الافتراضي العادي إلى مساحة واسعة من التفاعل بين عدد كبير جدا من المستخدمين في الوقت نفسه. وكان الوصول إلى التصميم والبرمجة اللازمة لحل هذه الإشكالية كلمة السر التي طورت الفكرة لاحقا بحيث يتحقق فيها كل عوامل إدمان الشخص على الوجود على الموقع، وهو ما يحدث اليوم حرفيا، بحيث يضمن المؤسسون التفاعل المستمر بلا توقف بين المستهلكين، ولأطول فترة زمنية ممكنة، من خلال تحويل الموقع إلى عادة يومية تفوق أي عادة أخرى وبينها حتى قراءة الصحف وتناول القهوة أو حتى تدخين السجائر.
أي أن الأرضية أو القماشة الواسعة التي تم الإعداد لها أولا كانت من الاتساع ورحابة الأفق بحيث يمكن لها أن تستوعب المزيد من الخدمات للمستخدمين وتوسيع رقعة التواصل الاجتماعي في العالم بشكل مستمر، وهذه هي تحديدا مزايا الاستثمار الناجح طويل الأجل الذي لا ينظر للربح السريع من زاوية الجشع الضيقة، بل يقدم خدمة شديدة التميز وبلا تكلفة تذكر للمستهلك، ويقوم هو بتحصيل الأرباح والمزايا فقط من خلال ثقة هؤلاء المستخدمين.
لهذا كله فإن أسواق المال لن تقل ثقتها في القيمة السوقية أو الفعلية لهذه المواقع الافتراضية، بل على العكس، فسوف تتسع رقعة هذه المواقع ويزداد عددها، وستتزايد قيمتها تصاعديا، بسبب التخطيط بعيد النظر الذي بدأت به مشروعها، على الأقل في المستقبل المنظور .