يوم أحرقت الكتب
كان صديقي «إدي» صبياً صغيراً نحيفا. يمكنك أن ترى أوردة زرق في معصميه وصدغيه. يقول الناس إنّه مصاب بالسلّ، وإنّه لن يعمر طويلاً في هذا العالم. كم أحببته وكم ازدريته أحياناً.
كان أبوه السيد «سوير» رجلاً غريباً. لم يستطع أيّ فرد على الإطلاق أن يكتشف ما كان يقوم به في هذا الجزء من العالم. لم يكن مزارعاً أو طبيباً أو محامياً أو مصرفياً. لم يكن لديه مخزن. كما لم يكن مدرّساً أو موظّفاً حكومياً. لم يكن
– وذلك هو المهم – رجلاً نبيلاً. كان لدينا عديد من المقيمين الرومانسيين الذين وقعوا في حبّ قمر منطقة البحر الكاريبي، كانوا جميعاً سادة نبلاء وعلى النقيض تماماً من السيد «سوير» الذي لم تكن لديه ذرة تهذيب في خطابه. إلى جانب أنّه كان يبغض القمر وكلّ ما يرتبط بمنطقة البحر الكاريبي، ولا يمانع في إخبارك بذلك.
كان وكيلاً لخطّ ملاحي لباخرة صغيرة ارتبطت في تلك الأيام برحلات إلى فنزويلا وترينيداد مع بعض جزر أصغر، لكنه لم يستفد كثيراً من ذلك. قال الناس إنّه لابدّ أن يكون لديه دخل خاص، لكنهم لم يحددوا السبب وراء اختياره الاستقرار في مكان لم يعجبه، وأن يتزوّج من امرأة ملوّنة. لكني أذكّرك بأنّه على الرغم من كونها امرأة ملوّنة، كانت متعلمة بشكل مناسب، مهذبة، ومحترمة.
لابد أنّ السيدة اسويرب كانت جميلة ذات يوم، لكن ما من شيء إلا وينقضي بمضيّ الأيام.
اعتاد السيد اسويرب عندما يصبح مخموراً ذ وهو ما يحدث عادة ذ أن يكون قاسياً معها للغاية. لكنها لم تردّ عليه أبداً.
- انظروا إلى تلك الزنجية المرائية.
كان يقول، فتبتسم كما لو أنّها أيقنت أنّها ينبغي أن تدرك نكتة لم تستطع أن تفهمها.
- أيتها الملعونة، طويلة النظر، المولدة العابسة، رائحتك ليست سويّة.
كان يقول، لكنها لم ترد عليه أبداً. حتى ولو بمجرّد همسة، فيستطرد:
- رائحتك ليست سويّة بالنسبة إلى أيضاً.
مضى الأمر بهذا الشكل حتى تجاسرا، ذات مرّة، فأقاما حفل عشاء، وإذا به أثناء تقديم الخادمة املدريدب القهوة، يجذب السيدة اسويرب من شعرها، صائحاً:
إنّه ليس شعراً مستعاراً، كما ترون.
حتى في تلك اللحظة، ضحكت السيدة اسويرب، إذا أمكنك أن تصدّق، محاولة أن تتظاهر بأنّ كلّ ذلك كان جزءاً من نكتة، نكتة إنجليزية غامضة مبهمة، ومكرّسة.
لكن املدريدب أخبرت الخدم الآخرين في المدينة أن عينيها قد أصبحتا شريرتين مثل عيني اسوكريانب - التي تعني في فولكلور منطقة الكاريبي وترينيداد مخلوقاً يعيش نهاراً كامرأة عجوز، ويمارس السحر والشعوذة - وإنها التقطت بعد ذلك بعضاً من الشعر الذي نزعه، ووضعته في مظروف، لأنّ السيدة اسويرب ينبغي أن تكون يقظة (فالشعر تعويذة تصلح تماماً كمصدر سحر).
بطبيعة الحال، كان للسيدة اسويرب ما يعوّضها. فقد عاشا في منزل لطيف في اسانت هيلب، ذي حديقة كبيرة جداً، ولديهما شجرة مانجو طيبة حملت ثماراً غزيرة، ثماراً صغيرة مستديرة، شديدة الحلاوة، مليئة بالعصير، جميلة، ذات لونين أحمر وأصفر حين تنضج. ربّما كانت تلك أحد التعويضات، كما اعتدت أن أعتقد.
بنى السيد اسويرب غرفة في الجزء الخلفي من هذا المنزل. لم يكن داخلها مدهوناً بالطلاء، ويفوح خشبها برائحة حلوة. اصطفّت الجدران بأرفف كتب. وفي كلّ مرة تصل فيها باخرة البريد الملكي كانت تجلب له طرد كتب، فيجري إشغال الأرفف الخالية تدريجياً.
وقد ذهبت ذات مرّة إلى هناك مع اإديب لاستعارة كتاب االليالي العربيةب. حدث ذلك في فترة ما بعد ظهيرة يوم سبت، في واحدة من فترات ما بعد الظهيرة الحارة، الساكنة، حين تشعر أنّ كلّ شيء قد ذهب للنوم، حتى الماء في المصارف. لكن السيدة اسويرب لم تكن نائمة. أدخلت رأسها من الباب ونظرت إلينا، فعرفت أنها تكره الغرفة وتكره الكتب.
كان اإديب بعينيه الزرقاوين الشاحبتين وشعره الملوّن الهشّ ذ صورة حيّة من أبيه، على الرغم من أنّه غالباً ما كان صامتاً كأمّه، التي نقلت إليّ أولاً عدوى شكوك حول اوطنب، يعني إنجلترا. كان اإديب غاية في الهدوء عندما لم يره آخرون أبداًذ لم يره أيّ منا ذ لكنهم تحدثوا حول مسرّاته، مومئين بحرّية أثناء حديثنا إلى سيدات لندن الجميلات، ورديات الوجنات، المسارح، المحال، الضباب، نيران الفحم المشتعلة في الشتاء، الطعام الغريب (طعام أسماك صغيرة يؤكل على نغمات الكمان)، فراولة وقشدة. كانت كلمة فراولة تنطق دائماً بصوت مبحوح أجشّ، وهو ما كنّا نتخيّل أنّه النطق الصحيح باللغة الإنجليزية. قال اإديب في إحدى المناسبات:
أنا لا أحبّ الفراولة.
ثم استطرد متسائلاً: ألا تحبين الفراولة؟
بلى. ولا أحبّ أيضاً أزهار النرجس البرّي. يثابر أبي دائماً على رعايتها. ويقول إنهم ينظفونها بضربها هنا داخل قبعة مردودة الحافة، وأرى أنّ تلك كذبة.
كنا جميعاً مصدومين تماماً لدرجة أن نقول اأنت لا تعرف شيئاً عن ذلكب. كنّا مصدومين بشدّة لدرجة أن أحداً لم يتحدّث معه طوال بقية اليوم. لكنني كنت الوحيدة المعجبة به. كما كنت تعبة أيضاً من تعلُّم وتسميع قصائد في مديح النرجس، وكانت علاقاتي محرجة مع بعض الفتيان والفتيات من الإنجليز االحقيقيينب الذين التقيت بهم، بعد أن اكتشفت أنني إذا دعوت نفسي إنجليزية، فإنهم سيقاطعونني بتعجرف: اأنت لست إنجليزية، بل أنت ساكنة مستعمرة بغيضةب. وقد أردّ: احسناً، أنا لا أريد أن أكون إنجليزية. ربّما يكون أكثر متعة أن أكون فرنسية أو إسبانية أو شيئاً من هذا القبيلب، وفي حقيقة الأمر كنت شيئاً من ذلك. عندئذ أصبح مضحكة تماماً بشكل مؤثر وسخيف أيضاً. لست فقط ساكنة مستعمرة بغيضة، بل وسخيفة أيضاً ذ رؤوس تكسب، ذيول تخسر ذ تلك هي اللغة الإنجليزية. كنت قد فكرت في كلّ ذلك، فكرت بعمق، ولم أجرؤ أبدا على إخبار أيّ فرد بما اعتقدت، وأدركت أن اإديب كان جريئاً جداً.
لكنه كان أجرأ وأقوى ممّا نعتقد، وذلك لكونه هو الوحيد الذي لم يشعر أبدا بالحرارة، لأنّ بعضاً من لامبالاة جلده قاومتها، فلم يتّقد بلون أحمر أو بني، ولم يتبقع كثيراً. وبدا أن الأيام الحارة تجعله يشعر بنشاط خاص:
- الآن سنقوم بالجري مرتين حول المرج، ومن ثم يمكنك التظاهر بأنك تموتين عطشاً في الصحراء، وإنني زعيم عربي يجلب لك الماء.
ثم يقول:
يجب أن تشربي ببطء، لأنك إذا كنت شديدة العطش وشربت بسرعة فستموتين.
هكذا تعلمت القدرة على إبهاج الحواس بالشرب ببطء عندما أكون شديدة العطش، جرعة صغيرة عن طريق الفم، ثم جرعة صغيرة أخرى حتى يفرغ كوب القرنفل أو الكوكاكولا المثلجة.
مات السيد اسويرب، فجأة بعد عيد ميلادي الثاني عشر، ونظراً لأنّ اإديب صديق خاص، فقد ذهبت إلى الجنازة مرتدية ثوباً جديداً أبيض. ورطبت شعري المرتب بالسكر والماء في الليلة السابقة، وضفّرته في جدائل صغيرة محكمة حتى يكون رقيقاً وخفيفاً في هذه المناسبة.
عندما انتهى كلّ شيء، تحدث الناس حول كم بدت السيدة اسويرب لطيفة، وهي تمشي كملكة وراء النعش باكية بمقلتي عينيها في اللحظة المناسبة، ولكن ألم يكن اإديب صبياً عجيباً؟ إنه لم يبك على الإطلاق.
بعد ذلك استولينا أنا واإديب على غرفة الكتب. لم يدخلها أبداً أيّ فرد آخر عدا املدريدب كي تكنس وتزيل الغبار كلّ صباح، وتلاشى شبح السيد اسويرب تدريجياً وهو يجذب شعر السيدة اسويرب وإن استغرق ذلك بعض الوقت. كانت الستائر دائماً نصف مسدلة سامحةً لأشعة الشمس بالدخول والخروج بما يشبه الانتقال إلى بركة ماء بني أخضر اللون. كانت الغرفة خالية إلاّ من رفوف الكتب وطاولة خضراء بقمّة جوخية خضراء وكرسي خوص هزاز.
حجرتي.
هكذا سماها اإديب.
كتبي.
قد يقول:
كتبي.
لا أدري كم استمرّ هذا الأمر. لا أعرف ما إذا كانت أسابيع عدّة بعد وفاة السيد اسويرب أو أشهر عدّة، لكني كنت أجد نفسي واإديب في تلك الغرفة. وذات مرّة كنّا هناك، ومن دون توقُّع فوجئنا هناك بالسيدة اسويرب واملدريدب. كان فم السيدة اسويرب مطبقاً بإحكام وعيناها مسرورتين. كانت تجذب كلّ الكتب من الأرفف وتكوّمها في كومين. يتكوّن الكوم الكبير من كتب ضخمة حسنة المظهر ذات شكل طيّب... وهو ما شرحته ملدريد همساً. كان أحد الكومين يتضمن ادائرة المعارف البريطانيةب، االزهور البريطانيةب، اطيور ووحوشب، مختلف كتب التاريخ، كتب بخرائط، طبعة افرود الإنجليزية في جزر الهند الغربيةب، وهلم جرّا. وذلك هو الكوم الذي سيباع. أمّا الكتب غير المهمة ذات الأغلفة الورقية أو الأغلفة المدمّرة أو الصفحات الممزقة، فتوضع في كوم آخر، وتلك هي التي ستحرق، نعم، تحرق.
كان تعبير املدريدب استثنائياً وهي تقول ذلك، نصف مسرورة بشدّة، نصف مصدومة، بل حتى خائفة. أما بالنسبة للسيدة اسويرب، حسناً، فأنا أعرف مزاجها المتعكّر (كم رأيت ذلك في كثير من الأحيان)، وكنت أعرف الغضب، لكن هذه كانت كراهية. وقد تعرّفت على الفرق فوراً وحدّقت إليها بفضول، بل واقتربت منها حتى أستطيع أن أرى عناوين الكتب التي كانت تتناولها.
كان رف الشعر، اقصائدب لورد بيرون، اأعمال شعريةب ميلتون، وهلم جرَّا. اقذف بقوة. اقذف. اقذف. ترمى كلها إلى الكوم المقرر بيعه. لكن كتاباً بقلم كرستينا روزيتي، رغم أنه مغلف بالجلد ألقي إلى الكوم الذي سيحرق، ومن ومضة في عيني السيدة اسويرب ، عرفت أن أسوأ من رجال كتبوا كتباً نساء كتبن كتباً، كن متناهيات في السوء. فالرجال قد يطلق عليهم النار بدافع الرحمة، أما النساء فينبغي أن يعذبن.
لم يبدُ أن السيدة اسويرب لاحظت أننا كنّا هناك. كانت تتنفس بحرّية وسهولة، وقد أخذت يداها إيقاع تمزيق وقذف الكتب. بدت جميلة أيضاً، جميلة مثل السماء بالخارج، التي كانت زرقاء داكنة، أو شجرة المانجو بأوراقها الطويلة ذات اللونين البني والذهبي.
صرخ اإديب:
لا.
لم تمنحه حتى مجرّد نظرة. قال ثانية بصوت مرتفع:
لا. ليس ذلك الكتاب. لقد كنت أقرأه.
ضحكت فاندفع إليها صائحاً وعيناه جاحظتان من رأسه:
الآن يجب عليّ أن أكرهك أيضاً. الآن أكرهك أيضاً.
انتزع الكتاب من يدها ودفعها دفعة عنيفة فسقطت على الكرسي الهزاز.
حسناً، لم أكن أترك نفسي كي أستبعد من كلّ هذا، لذلك سحبت كتاباً من الكوم الملعون، وغصت تحت ذراع املدريدب الممدودة.
ثم كنّا ثانية معاً في الحديقة. ركضنا على طول الممر المسيّج من نبات احبّ الملوكب. انطلقنا بسرعة عبر الممر رغم أنهما لا يتبعانا، وأمكننا أن نسمع ضحك ملدريد: اكياه، كياه، كياه، كياهب. وبينما كنت أجري، وضعت الكتاب الذي أخذته في الجهة الفضفاضة من ثوبي البني ذي النسيج القطني، فأشعرني بالدفء والحيوية.
عندما وصلنا إلى الشارع مشينا بتؤدة، لأننا خشينا سخرية الأطفال السود. شعرت بسعادة كبرى لأنني أنقذت هذا الكتاب، وأصبح كتابي الذي أودّ أن أقرأه من البداية حتى كلمة االنهايةب الظافرة. لكنني كنت قلقة عندما فكرت في السيدة اسويرب، فتساءلت:
ماذا ستفعل؟
لا شيء.
قال اإديب، ثم استطرد:
ليس لي.
كان أبيض كشبح في بذلة البحار ذات اللونين الأزرق والأبيض حتى في الشمس المشرقة، وقد تلبّس وجه أبيه الساخر.
لكنها ستخبر أمّك عنك بكلّ أنواع الأكاذيب، قال، ثم أضاف:
إنها كاذبة مزعجة. إنها لا تستطيع أن تؤلف قصة لإنقاذ حياتها، لكنها تؤلف أكاذيب في حقّ الناس كافة.
لن تهتم أمي بأيّ من كلماتها.
قلت على الرغم من أنني لم أكن واثقة ممّا أقول على الإطلاق.
لم لا؟ لأنها... لأنّها ليست بيضاء؟
حسناً، كنت أعرف إجابة هذا السؤال. إذ كلما طرح موضوع علاقات الناس وإذا ما كان لديهم قطرة دمّ ملونة أم لا، كان أبي يصبح نافد الصبر ويقاطع، وقد يقول: امن هو الأبيض؟ب. ثم يستطرد: اقلّة ملعونةب.
لذلك قلت:
من هو الأبيض؟ قلّة ملعونة.
فلتذهبي إلى الشيطان، قال اإديب ثم استطرد:
إنها أجمل من أمك. وعندما تكون نائمة يبتسم فمها، ولديها رمشاك المجعّدان ومقادير وكميات كبيرة من الشعر.
نعم، إنّها أجمل من أمّي، قلت بصدق. وكان غروباً أحمر في ذلك المساء، غروباً ضخماً، حزيناً، مخيفاً.
انظر، دعنا نرجع، قلت، ثم استطردت:
إذا كنت متأكداً من أنها لن تكون ثائرة عليك، فلنرجع. ستظلم الدنيا عمّا قريب.
لكن عندما ظهرت بوابة بيته، طلب منّي عدم الذهاب:
لا تذهبي بعد. لا تذهبي بعد.
جلسنا تحت شجرة المانجو وكنت أمسك بيده، عندما بدأ يبكي. سقطت دمعات على يدي مثل الماء الذي يسقط من مصفاة التقطير في فنائنا. ثم بدأت أبكي أنا أيضاً، وعندما شعرت بدموعي الخاصة على يدي فكرت االآن، ربّما توحّدناب. فكّرت انعم، بالتأكيد لقد توحّدناب. لكنني لم أقل شيئاً، لم أقل شيئاً حتى تيقنت من أنّه توقف. ثم سألت:
ما هو كتابك؟
إنه رواية اكيمب ذ التي نشرها الكاتب الإنجليزي رديارد كيبلنج عام 1921، قال، ثم أضاف:
لكنها ممزقة. إنها تبدأ حالياً من صفحة عشرين. ما هو الكتاب الذي أخذتيه؟
لا أعرف. الجوّ مظلم هنا للغاية كي أرى العنوان.
عندما وصلت إلى البيت، هرعت إلى غرفة نومي وأغلقت الباب، لأنني عرفت أن هذا الكتاب كان هو الشيء الأكثر أهمية من بين كل ما حدث بالنسبة إلي، ولم أُرد أن يكون هناك أيّ فرد حين أنظر اليه.
لكنني شعرت بخيبة أمل كبيرة، لأنه كان باللغة الفرنسية ويبدو مملاً. كانت رواية عنوانها اقويّ كالموتب ذ للكاتب الفرنسي جي دي موباسان >