يوم أحرقت الكتب

يوم أحرقت الكتب

‭ ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬‮«‬إدي‮»‬‭ ‬صبياً‭ ‬صغيراً‭ ‬نحيفا‭. ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬أوردة‭ ‬زرق‭ ‬في‭ ‬معصميه‭ ‬وصدغيه‭. ‬يقول‭ ‬الناس‭ ‬إنّه‭ ‬مصاب‭ ‬بالسلّ،‭ ‬وإنّه‭ ‬لن‭ ‬يعمر‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬كم‭ ‬أحببته‭ ‬وكم‭ ‬ازدريته‭ ‬أحياناً‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬أبوه‭ ‬السيد‭ ‬‮«‬سوير‮»‬‭ ‬رجلاً‭ ‬غريباً‭. ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أيّ‭ ‬فرد‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مزارعاً‭ ‬أو‭ ‬طبيباً‭ ‬أو‭ ‬محامياً‭ ‬أو‭ ‬مصرفياً‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديه‭ ‬مخزن‭. ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مدرّساً‭ ‬أو‭ ‬موظّفاً‭ ‬حكومياً‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬
‭ ‬وذلك‭ ‬هو‭ ‬المهم‭ ‬‭ ‬رجلاً‭ ‬نبيلاً‭. ‬كان‭ ‬لدينا‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المقيمين‭ ‬الرومانسيين‭ ‬الذين‭ ‬وقعوا‭ ‬في‭ ‬حبّ‭ ‬قمر‭ ‬منطقة‭ ‬البحر‭ ‬الكاريبي،‭ ‬كانوا‭ ‬جميعاً‭ ‬سادة‭ ‬نبلاء‭ ‬وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬السيد‭ ‬‮«‬سوير‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لديه‭ ‬ذرة‭ ‬تهذيب‭ ‬في‭ ‬خطابه‭. ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬يبغض‭ ‬القمر‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بمنطقة‭ ‬البحر‭ ‬الكاريبي،‭ ‬ولا‭ ‬يمانع‭ ‬في‭ ‬إخبارك‭ ‬بذلك‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬وكيلاً‭ ‬لخطّ‭ ‬ملاحي‭ ‬لباخرة‭ ‬صغيرة‭ ‬ارتبطت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬برحلات‭ ‬إلى‭ ‬فنزويلا‭ ‬وترينيداد‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬جزر‭ ‬أصغر،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يستفد‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬قال‭ ‬الناس‭ ‬إنّه‭ ‬لابدّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لديه‭ ‬دخل‭ ‬خاص،‭ ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يحددوا‭ ‬السبب‭ ‬وراء‭ ‬اختياره‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬لم‭ ‬يعجبه،‭ ‬وأن‭ ‬يتزوّج‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬ملوّنة‭. ‬لكني‭ ‬أذكّرك‭ ‬بأنّه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬امرأة‭ ‬ملوّنة،‭ ‬كانت‭ ‬متعلمة‭ ‬بشكل‭ ‬مناسب،‭ ‬مهذبة،‭ ‬ومحترمة‭.‬

‭ ‬لابد‭ ‬أنّ‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬كانت‭ ‬جميلة‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬إلا‭ ‬وينقضي‭ ‬بمضيّ‭ ‬الأيام‭.‬

‭ ‬اعتاد‭ ‬السيد‭ ‬اسويرب‭ ‬عندما‭ ‬يصبح‭ ‬مخموراً‭ ‬ذ‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬عادة‭ ‬ذ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قاسياً‭ ‬معها‭ ‬للغاية‭. ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تردّ‭ ‬عليه‭ ‬أبداً‭.‬

‭- ‬انظروا‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الزنجية‭ ‬المرائية‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬يقول،‭ ‬فتبتسم‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنّها‭ ‬أيقنت‭ ‬أنّها‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬نكتة‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تفهمها‭.‬

‭- ‬أيتها‭ ‬الملعونة،‭ ‬طويلة‭ ‬النظر،‭ ‬المولدة‭ ‬العابسة،‭ ‬رائحتك‭ ‬ليست‭ ‬سويّة‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬يقول،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬عليه‭ ‬أبداً‭. ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬بمجرّد‭ ‬همسة،‭ ‬فيستطرد‭:‬

‭- ‬رائحتك‭ ‬ليست‭ ‬سويّة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أيضاً‭.‬

‭ ‬مضى‭ ‬الأمر‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬حتى‭ ‬تجاسرا،‭ ‬ذات‭ ‬مرّة،‭ ‬فأقاما‭ ‬حفل‭ ‬عشاء،‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬أثناء‭ ‬تقديم‭ ‬الخادمة‭ ‬املدريدب‭ ‬القهوة،‭ ‬يجذب‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬من‭ ‬شعرها،‭ ‬صائحاً‭:‬

إنّه‭ ‬ليس‭ ‬شعراً‭ ‬مستعاراً،‭ ‬كما‭ ‬ترون‭.‬

‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬ضحكت‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب،‭ ‬إذا‭ ‬أمكنك‭ ‬أن‭ ‬تصدّق،‭ ‬محاولة‭ ‬أن‭ ‬تتظاهر‭ ‬بأنّ‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬نكتة،‭ ‬نكتة‭ ‬إنجليزية‭ ‬غامضة‭ ‬مبهمة،‭ ‬ومكرّسة‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬املدريدب‭ ‬أخبرت‭ ‬الخدم‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬أن‭ ‬عينيها‭ ‬قد‭ ‬أصبحتا‭ ‬شريرتين‭ ‬مثل‭ ‬عيني‭ ‬اسوكريانب‭ - ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬فولكلور‭ ‬منطقة‭ ‬الكاريبي‭ ‬وترينيداد‭ ‬مخلوقاً‭ ‬يعيش‭ ‬نهاراً‭ ‬كامرأة‭ ‬عجوز،‭ ‬ويمارس‭ ‬السحر‭ ‬والشعوذة‭ - ‬وإنها‭ ‬التقطت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬نزعه،‭ ‬ووضعته‭ ‬في‭ ‬مظروف،‭ ‬لأنّ‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬يقظة‭ (‬فالشعر‭ ‬تعويذة‭ ‬تصلح‭ ‬تماماً‭ ‬كمصدر‭ ‬سحر‭).‬

‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬كان‭ ‬للسيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬ما‭ ‬يعوّضها‭. ‬فقد‭ ‬عاشا‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬لطيف‭ ‬في‭ ‬اسانت‭ ‬هيلب،‭ ‬ذي‭ ‬حديقة‭ ‬كبيرة‭ ‬جداً،‭ ‬ولديهما‭ ‬شجرة‭ ‬مانجو‭ ‬طيبة‭ ‬حملت‭ ‬ثماراً‭ ‬غزيرة،‭ ‬ثماراً‭ ‬صغيرة‭ ‬مستديرة،‭ ‬شديدة‭ ‬الحلاوة،‭ ‬مليئة‭ ‬بالعصير،‭ ‬جميلة،‭ ‬ذات‭ ‬لونين‭ ‬أحمر‭ ‬وأصفر‭ ‬حين‭ ‬تنضج‭. ‬ربّما‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬أحد‭ ‬التعويضات،‭ ‬كما‭ ‬اعتدت‭ ‬أن‭ ‬أعتقد‭.‬

‭ ‬بنى‭ ‬السيد‭ ‬اسويرب‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الخلفي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنزل‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬داخلها‭ ‬مدهوناً‭ ‬بالطلاء،‭ ‬ويفوح‭ ‬خشبها‭ ‬برائحة‭ ‬حلوة‭. ‬اصطفّت‭ ‬الجدران‭ ‬بأرفف‭ ‬كتب‭. ‬وفي‭ ‬كلّ‭ ‬مرة‭ ‬تصل‭ ‬فيها‭ ‬باخرة‭ ‬البريد‭ ‬الملكي‭ ‬كانت‭ ‬تجلب‭ ‬له‭ ‬طرد‭ ‬كتب،‭ ‬فيجري‭ ‬إشغال‭ ‬الأرفف‭ ‬الخالية‭ ‬تدريجياً‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬ذهبت‭ ‬ذات‭ ‬مرّة‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬مع‭ ‬اإديب‭ ‬لاستعارة‭ ‬كتاب‭ ‬االليالي‭ ‬العربيةب‭. ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬ظهيرة‭ ‬يوم‭ ‬سبت،‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الظهيرة‭ ‬الحارة،‭ ‬الساكنة،‭ ‬حين‭ ‬تشعر‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬قد‭ ‬ذهب‭ ‬للنوم،‭ ‬حتى‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬المصارف‭. ‬لكن‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬نائمة‭. ‬أدخلت‭ ‬رأسها‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬ونظرت‭ ‬إلينا،‭ ‬فعرفت‭ ‬أنها‭ ‬تكره‭ ‬الغرفة‭ ‬وتكره‭ ‬الكتب‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬اإديب‭ ‬بعينيه‭ ‬الزرقاوين‭ ‬الشاحبتين‭ ‬وشعره‭ ‬الملوّن‭ ‬الهشّ‭ ‬ذ‭ ‬صورة‭ ‬حيّة‭ ‬من‭ ‬أبيه،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّه‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬صامتاً‭ ‬كأمّه،‭ ‬التي‭ ‬نقلت‭ ‬إليّ‭ ‬أولاً‭ ‬عدوى‭ ‬شكوك‭ ‬حول‭ ‬اوطنب،‭ ‬يعني‭ ‬إنجلترا‭. ‬كان‭ ‬اإديب‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الهدوء‭ ‬عندما‭ ‬لم‭ ‬يره‭ ‬آخرون‭ ‬أبداًذ‭ ‬لم‭ ‬يره‭ ‬أيّ‭ ‬منا‭ ‬ذ‭ ‬لكنهم‭ ‬تحدثوا‭ ‬حول‭ ‬مسرّاته،‭ ‬مومئين‭ ‬بحرّية‭ ‬أثناء‭ ‬حديثنا‭ ‬إلى‭ ‬سيدات‭ ‬لندن‭ ‬الجميلات،‭ ‬ورديات‭ ‬الوجنات،‭ ‬المسارح،‭ ‬المحال،‭ ‬الضباب،‭ ‬نيران‭ ‬الفحم‭ ‬المشتعلة‭ ‬في‭ ‬الشتاء،‭ ‬الطعام‭ ‬الغريب‭ (‬طعام‭ ‬أسماك‭ ‬صغيرة‭ ‬يؤكل‭ ‬على‭ ‬نغمات‭ ‬الكمان‭)‬،‭ ‬فراولة‭ ‬وقشدة‭. ‬كانت‭ ‬كلمة‭ ‬فراولة‭ ‬تنطق‭ ‬دائماً‭ ‬بصوت‭ ‬مبحوح‭ ‬أجشّ،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كنّا‭ ‬نتخيّل‭ ‬أنّه‭ ‬النطق‭ ‬الصحيح‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬قال‭ ‬اإديب‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المناسبات‭:‬

أنا‭ ‬لا‭ ‬أحبّ‭ ‬الفراولة‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬استطرد‭ ‬متسائلاً‭: ‬ألا‭ ‬تحبين‭ ‬الفراولة؟

بلى‭. ‬ولا‭ ‬أحبّ‭ ‬أيضاً‭ ‬أزهار‭ ‬النرجس‭ ‬البرّي‭. ‬يثابر‭ ‬أبي‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬رعايتها‭. ‬ويقول‭ ‬إنهم‭ ‬ينظفونها‭ ‬بضربها‭ ‬هنا‭ ‬داخل‭ ‬قبعة‭ ‬مردودة‭ ‬الحافة،‭ ‬وأرى‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬كذبة‭.‬

‭ ‬كنا‭ ‬جميعاً‭ ‬مصدومين‭ ‬تماماً‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬اأنت‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬ذلكب‭. ‬كنّا‭ ‬مصدومين‭ ‬بشدّة‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬لم‭ ‬يتحدّث‭ ‬معه‭ ‬طوال‭ ‬بقية‭ ‬اليوم‭. ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬الوحيدة‭ ‬المعجبة‭ ‬به‭. ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬تعبة‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬تعلُّم‭ ‬وتسميع‭ ‬قصائد‭ ‬في‭ ‬مديح‭ ‬النرجس،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقاتي‭ ‬محرجة‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الفتيان‭ ‬والفتيات‭ ‬من‭ ‬الإنجليز‭ ‬االحقيقيينب‭ ‬الذين‭ ‬التقيت‭ ‬بهم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنني‭ ‬إذا‭ ‬دعوت‭ ‬نفسي‭ ‬إنجليزية،‭ ‬فإنهم‭ ‬سيقاطعونني‭ ‬بتعجرف‭: ‬اأنت‭ ‬لست‭ ‬إنجليزية،‭ ‬بل‭ ‬أنت‭ ‬ساكنة‭ ‬مستعمرة‭ ‬بغيضةب‭. ‬وقد‭ ‬أردّ‭: ‬احسناً،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬إنجليزية‭. ‬ربّما‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬متعة‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬فرنسية‭ ‬أو‭ ‬إسبانية‭ ‬أو‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيلب،‭ ‬وفي‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬كنت‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬عندئذ‭ ‬أصبح‭ ‬مضحكة‭ ‬تماماً‭ ‬بشكل‭ ‬مؤثر‭ ‬وسخيف‭ ‬أيضاً‭. ‬لست‭ ‬فقط‭ ‬ساكنة‭ ‬مستعمرة‭ ‬بغيضة،‭ ‬بل‭ ‬وسخيفة‭ ‬أيضاً‭ ‬ذ‭ ‬رؤوس‭ ‬تكسب،‭ ‬ذيول‭ ‬تخسر‭ ‬ذ‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك،‭ ‬فكرت‭ ‬بعمق،‭ ‬ولم‭ ‬أجرؤ‭ ‬أبدا‭ ‬على‭ ‬إخبار‭ ‬أيّ‭ ‬فرد‭ ‬بما‭ ‬اعتقدت،‭ ‬وأدركت‭ ‬أن‭ ‬اإديب‭ ‬كان‭ ‬جريئاً‭ ‬جداً‭. ‬

‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬أجرأ‭ ‬وأقوى‭ ‬ممّا‭ ‬نعتقد،‭ ‬وذلك‭ ‬لكونه‭ ‬هو‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يشعر‭ ‬أبدا‭ ‬بالحرارة،‭ ‬لأنّ‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬لامبالاة‭ ‬جلده‭ ‬قاومتها،‭ ‬فلم‭ ‬يتّقد‭ ‬بلون‭ ‬أحمر‭ ‬أو‭ ‬بني،‭ ‬ولم‭ ‬يتبقع‭ ‬كثيراً‭. ‬وبدا‭ ‬أن‭ ‬الأيام‭ ‬الحارة‭ ‬تجعله‭ ‬يشعر‭ ‬بنشاط‭ ‬خاص‭:‬

‭- ‬الآن‭ ‬سنقوم‭ ‬بالجري‭ ‬مرتين‭ ‬حول‭ ‬المرج،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يمكنك‭ ‬التظاهر‭ ‬بأنك‭ ‬تموتين‭ ‬عطشاً‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬وإنني‭ ‬زعيم‭ ‬عربي‭ ‬يجلب‭ ‬لك‭ ‬الماء‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬يقول‭:‬

يجب‭ ‬أن‭ ‬تشربي‭ ‬ببطء،‭ ‬لأنك‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬شديدة‭ ‬العطش‭ ‬وشربت‭ ‬بسرعة‭ ‬فستموتين‭.‬

‭ ‬هكذا‭ ‬تعلمت‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إبهاج‭ ‬الحواس‭ ‬بالشرب‭ ‬ببطء‭ ‬عندما‭ ‬أكون‭ ‬شديدة‭ ‬العطش،‭ ‬جرعة‭ ‬صغيرة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الفم،‭ ‬ثم‭ ‬جرعة‭ ‬صغيرة‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬يفرغ‭ ‬كوب‭ ‬القرنفل‭ ‬أو‭ ‬الكوكاكولا‭ ‬المثلجة‭.‬

‭ ‬مات‭ ‬السيد‭ ‬اسويرب،‭ ‬فجأة‭ ‬بعد‭ ‬عيد‭ ‬ميلادي‭ ‬الثاني‭ ‬عشر،‭ ‬ونظراً‭ ‬لأنّ‭ ‬اإديب‭ ‬صديق‭ ‬خاص،‭ ‬فقد‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬الجنازة‭ ‬مرتدية‭ ‬ثوباً‭ ‬جديداً‭ ‬أبيض‭. ‬ورطبت‭ ‬شعري‭ ‬المرتب‭ ‬بالسكر‭ ‬والماء‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬السابقة،‭ ‬وضفّرته‭ ‬في‭ ‬جدائل‭ ‬صغيرة‭ ‬محكمة‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬رقيقاً‭ ‬وخفيفاً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭.‬

‭ ‬عندما‭ ‬انتهى‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬تحدث‭ ‬الناس‭ ‬حول‭ ‬كم‭ ‬بدت‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬لطيفة،‭ ‬وهي‭ ‬تمشي‭ ‬كملكة‭ ‬وراء‭ ‬النعش‭ ‬باكية‭ ‬بمقلتي‭ ‬عينيها‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬المناسبة،‭ ‬ولكن‭ ‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬اإديب‭ ‬صبياً‭ ‬عجيباً؟‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يبك‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭.‬

‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬استولينا‭ ‬أنا‭ ‬واإديب‭ ‬على‭ ‬غرفة‭ ‬الكتب‭. ‬لم‭ ‬يدخلها‭ ‬أبداً‭ ‬أيّ‭ ‬فرد‭ ‬آخر‭ ‬عدا‭ ‬املدريدب‭ ‬كي‭ ‬تكنس‭ ‬وتزيل‭ ‬الغبار‭ ‬كلّ‭ ‬صباح،‭ ‬وتلاشى‭ ‬شبح‭ ‬السيد‭ ‬اسويرب‭ ‬تدريجياً‭ ‬وهو‭ ‬يجذب‭ ‬شعر‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬وإن‭ ‬استغرق‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭. ‬كانت‭ ‬الستائر‭ ‬دائماً‭ ‬نصف‭ ‬مسدلة‭ ‬سامحةً‭ ‬لأشعة‭ ‬الشمس‭ ‬بالدخول‭ ‬والخروج‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬بركة‭ ‬ماء‭ ‬بني‭ ‬أخضر‭ ‬اللون‭. ‬كانت‭ ‬الغرفة‭ ‬خالية‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬رفوف‭ ‬الكتب‭ ‬وطاولة‭ ‬خضراء‭ ‬بقمّة‭ ‬جوخية‭ ‬خضراء‭ ‬وكرسي‭ ‬خوص‭ ‬هزاز‭.‬

حجرتي‭.‬

‭ ‬هكذا‭ ‬سماها‭ ‬اإديب‭.‬

كتبي‭. ‬

‭ ‬قد‭ ‬يقول‭:‬

كتبي‭.‬

‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬كم‭ ‬استمرّ‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭. ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬أسابيع‭ ‬عدّة‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬السيد‭ ‬اسويرب‭ ‬أو‭ ‬أشهر‭ ‬عدّة،‭ ‬لكني‭ ‬كنت‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬واإديب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭. ‬وذات‭ ‬مرّة‭ ‬كنّا‭ ‬هناك،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬توقُّع‭ ‬فوجئنا‭ ‬هناك‭ ‬بالسيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬واملدريدب‭. ‬كان‭ ‬فم‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬مطبقاً‭ ‬بإحكام‭ ‬وعيناها‭ ‬مسرورتين‭. ‬كانت‭ ‬تجذب‭ ‬كلّ‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬الأرفف‭ ‬وتكوّمها‭ ‬في‭ ‬كومين‭. ‬يتكوّن‭ ‬الكوم‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬ضخمة‭ ‬حسنة‭ ‬المظهر‭ ‬ذات‭ ‬شكل‭ ‬طيّب‭... ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬شرحته‭ ‬ملدريد‭ ‬همساً‭. ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬الكومين‭ ‬يتضمن‭ ‬ادائرة‭ ‬المعارف‭ ‬البريطانيةب،‭ ‬االزهور‭ ‬البريطانيةب،‭ ‬اطيور‭ ‬ووحوشب،‭ ‬مختلف‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬كتب‭ ‬بخرائط،‭ ‬طبعة‭ ‬افرود‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬جزر‭ ‬الهند‭ ‬الغربيةب،‭ ‬وهلم‭ ‬جرّا‭. ‬وذلك‭ ‬هو‭ ‬الكوم‭ ‬الذي‭ ‬سيباع‭. ‬أمّا‭ ‬الكتب‭ ‬غير‭ ‬المهمة‭ ‬ذات‭ ‬الأغلفة‭ ‬الورقية‭ ‬أو‭ ‬الأغلفة‭ ‬المدمّرة‭ ‬أو‭ ‬الصفحات‭ ‬الممزقة،‭ ‬فتوضع‭ ‬في‭ ‬كوم‭ ‬آخر،‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ستحرق،‭ ‬نعم،‭ ‬تحرق‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬تعبير‭ ‬املدريدب‭ ‬استثنائياً‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭ ‬ذلك،‭ ‬نصف‭ ‬مسرورة‭ ‬بشدّة،‭ ‬نصف‭ ‬مصدومة،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬خائفة‭. ‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للسيدة‭ ‬اسويرب،‭ ‬حسناً،‭ ‬فأنا‭ ‬أعرف‭ ‬مزاجها‭ ‬المتعكّر‭ (‬كم‭ ‬رأيت‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭)‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أعرف‭ ‬الغضب،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬كانت‭ ‬كراهية‭. ‬وقد‭ ‬تعرّفت‭ ‬على‭ ‬الفرق‭ ‬فوراً‭ ‬وحدّقت‭ ‬إليها‭ ‬بفضول،‭ ‬بل‭ ‬واقتربت‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬عناوين‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتناولها‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬رف‭ ‬الشعر،‭ ‬اقصائدب‭ ‬لورد‭ ‬بيرون،‭ ‬اأعمال‭ ‬شعريةب‭ ‬ميلتون،‭ ‬وهلم‭ ‬جرَّا‭. ‬اقذف‭ ‬بقوة‭. ‬اقذف‭. ‬اقذف‭. ‬ترمى‭ ‬كلها‭ ‬إلى‭ ‬الكوم‭ ‬المقرر‭ ‬بيعه‭. ‬لكن‭ ‬كتاباً‭ ‬بقلم‭ ‬كرستينا‭ ‬روزيتي،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬مغلف‭ ‬بالجلد‭ ‬ألقي‭ ‬إلى‭ ‬الكوم‭ ‬الذي‭ ‬سيحرق،‭ ‬ومن‭ ‬ومضة‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬،‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬كتبوا‭ ‬كتباً‭ ‬نساء‭ ‬كتبن‭ ‬كتباً،‭ ‬كن‭ ‬متناهيات‭ ‬في‭ ‬السوء‭. ‬فالرجال‭ ‬قد‭ ‬يطلق‭ ‬عليهم‭ ‬النار‭ ‬بدافع‭ ‬الرحمة،‭ ‬أما‭ ‬النساء‭ ‬فينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعذبن‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬يبدُ‭ ‬أن‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب‭ ‬لاحظت‭ ‬أننا‭ ‬كنّا‭ ‬هناك‭. ‬كانت‭ ‬تتنفس‭ ‬بحرّية‭ ‬وسهولة،‭ ‬وقد‭ ‬أخذت‭ ‬يداها‭ ‬إيقاع‭ ‬تمزيق‭ ‬وقذف‭ ‬الكتب‭. ‬بدت‭ ‬جميلة‭ ‬أيضاً،‭ ‬جميلة‭ ‬مثل‭ ‬السماء‭ ‬بالخارج،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬زرقاء‭ ‬داكنة،‭ ‬أو‭ ‬شجرة‭ ‬المانجو‭ ‬بأوراقها‭ ‬الطويلة‭ ‬ذات‭ ‬اللونين‭ ‬البني‭ ‬والذهبي‭.‬

‭ ‬صرخ‭ ‬اإديب‭:‬

لا‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬تمنحه‭ ‬حتى‭ ‬مجرّد‭ ‬نظرة‭. ‬قال‭ ‬ثانية‭ ‬بصوت‭ ‬مرتفع‭:‬

لا‭. ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭. ‬لقد‭ ‬كنت‭ ‬أقرأه‭.‬

‭ ‬ضحكت‭ ‬فاندفع‭ ‬إليها‭ ‬صائحاً‭ ‬وعيناه‭ ‬جاحظتان‭ ‬من‭ ‬رأسه‭:‬

الآن‭ ‬يجب‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أكرهك‭ ‬أيضاً‭. ‬الآن‭ ‬أكرهك‭ ‬أيضاً‭.‬

‭ ‬انتزع‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬يدها‭ ‬ودفعها‭ ‬دفعة‭ ‬عنيفة‭ ‬فسقطت‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬الهزاز‭.‬

‭ ‬حسناً،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أترك‭ ‬نفسي‭ ‬كي‭ ‬أستبعد‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬هذا،‭ ‬لذلك‭ ‬سحبت‭ ‬كتاباً‭ ‬من‭ ‬الكوم‭ ‬الملعون،‭ ‬وغصت‭ ‬تحت‭ ‬ذراع‭ ‬املدريدب‭ ‬الممدودة‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬كنّا‭ ‬ثانية‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭. ‬ركضنا‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الممر‭ ‬المسيّج‭ ‬من‭ ‬نبات‭ ‬احبّ‭ ‬الملوكب‭. ‬انطلقنا‭ ‬بسرعة‭ ‬عبر‭ ‬الممر‭ ‬رغم‭ ‬أنهما‭ ‬لا‭ ‬يتبعانا،‭ ‬وأمكننا‭ ‬أن‭ ‬نسمع‭ ‬ضحك‭ ‬ملدريد‭: ‬اكياه،‭ ‬كياه،‭ ‬كياه،‭ ‬كياهب‭. ‬وبينما‭ ‬كنت‭ ‬أجري،‭ ‬وضعت‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أخذته‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الفضفاضة‭ ‬من‭ ‬ثوبي‭ ‬البني‭ ‬ذي‭ ‬النسيج‭ ‬القطني،‭ ‬فأشعرني‭ ‬بالدفء‭ ‬والحيوية‭.‬

‭ ‬عندما‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬مشينا‭ ‬بتؤدة،‭ ‬لأننا‭ ‬خشينا‭ ‬سخرية‭ ‬الأطفال‭ ‬السود‭. ‬شعرت‭ ‬بسعادة‭ ‬كبرى‭ ‬لأنني‭ ‬أنقذت‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬وأصبح‭ ‬كتابي‭ ‬الذي‭ ‬أودّ‭ ‬أن‭ ‬أقرأه‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬حتى‭ ‬كلمة‭ ‬االنهايةب‭ ‬الظافرة‭. ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬قلقة‭ ‬عندما‭ ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬السيدة‭ ‬اسويرب،‭ ‬فتساءلت‭:‬

ماذا‭ ‬ستفعل؟

لا‭ ‬شيء‭.‬

‭ ‬قال‭ ‬اإديب،‭ ‬ثم‭ ‬استطرد‭:‬

ليس‭ ‬لي‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬أبيض‭ ‬كشبح‭ ‬في‭ ‬بذلة‭ ‬البحار‭ ‬ذات‭ ‬اللونين‭ ‬الأزرق‭ ‬والأبيض‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الشمس‭ ‬المشرقة،‭ ‬وقد‭ ‬تلبّس‭ ‬وجه‭ ‬أبيه‭ ‬الساخر‭. ‬

لكنها‭ ‬ستخبر‭ ‬أمّك‭ ‬عنك‭ ‬بكلّ‭ ‬أنواع‭ ‬الأكاذيب،‭ ‬قال،‭ ‬ثم‭ ‬أضاف‭:‬

إنها‭ ‬كاذبة‭ ‬مزعجة‭. ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تؤلف‭ ‬قصة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬حياتها،‭ ‬لكنها‭ ‬تؤلف‭ ‬أكاذيب‭ ‬في‭ ‬حقّ‭ ‬الناس‭ ‬كافة‭.‬

لن‭ ‬تهتم‭ ‬أمي‭ ‬بأيّ‭ ‬من‭ ‬كلماتها‭.‬

‭ ‬قلت‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬واثقة‭ ‬ممّا‭ ‬أقول‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭.‬

لم‭ ‬لا؟‭ ‬لأنها‭... ‬لأنّها‭ ‬ليست‭ ‬بيضاء؟

‭ ‬حسناً،‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬إجابة‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭. ‬إذ‭ ‬كلما‭ ‬طرح‭ ‬موضوع‭ ‬علاقات‭ ‬الناس‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لديهم‭ ‬قطرة‭ ‬دمّ‭ ‬ملونة‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬يصبح‭ ‬نافد‭ ‬الصبر‭ ‬ويقاطع،‭ ‬وقد‭ ‬يقول‭: ‬امن‭ ‬هو‭ ‬الأبيض؟ب‭. ‬ثم‭ ‬يستطرد‭: ‬اقلّة‭ ‬ملعونةب‭. ‬

‭ ‬لذلك‭ ‬قلت‭:‬

‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬الأبيض؟‭ ‬قلّة‭ ‬ملعونة‭.‬

‭ ‬فلتذهبي‭ ‬إلى‭ ‬الشيطان،‭ ‬قال‭ ‬اإديب‭ ‬ثم‭ ‬استطرد‭:‬

‭ ‬إنها‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬أمك‭. ‬وعندما‭ ‬تكون‭ ‬نائمة‭ ‬يبتسم‭ ‬فمها،‭ ‬ولديها‭ ‬رمشاك‭ ‬المجعّدان‭ ‬ومقادير‭ ‬وكميات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭.‬

‭ ‬نعم،‭ ‬إنّها‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬أمّي،‭ ‬‭ ‬قلت‭ ‬بصدق‭. ‬وكان‭ ‬غروباً‭ ‬أحمر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المساء،‭ ‬غروباً‭ ‬ضخماً،‭ ‬حزيناً،‭ ‬مخيفاً‭.‬

انظر،‭ ‬دعنا‭ ‬نرجع،‭ ‬قلت،‭ ‬ثم‭ ‬استطردت‭:‬

إذا‭ ‬كنت‭ ‬متأكداً‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬ثائرة‭ ‬عليك،‭ ‬فلنرجع‭. ‬ستظلم‭ ‬الدنيا‭ ‬عمّا‭ ‬قريب‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬ظهرت‭ ‬بوابة‭ ‬بيته،‭ ‬طلب‭ ‬منّي‭ ‬عدم‭ ‬الذهاب‭:‬

لا‭ ‬تذهبي‭ ‬بعد‭. ‬لا‭ ‬تذهبي‭ ‬بعد‭.‬

‭ ‬جلسنا‭ ‬تحت‭ ‬شجرة‭ ‬المانجو‭ ‬وكنت‭ ‬أمسك‭ ‬بيده،‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬يبكي‭. ‬سقطت‭ ‬دمعات‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬مثل‭ ‬الماء‭ ‬الذي‭ ‬يسقط‭ ‬من‭ ‬مصفاة‭ ‬التقطير‭ ‬في‭ ‬فنائنا‭. ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬أبكي‭ ‬أنا‭ ‬أيضاً،‭ ‬وعندما‭ ‬شعرت‭ ‬بدموعي‭ ‬الخاصة‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬فكرت‭ ‬االآن،‭ ‬ربّما‭ ‬توحّدناب‭. ‬فكّرت‭ ‬انعم،‭ ‬بالتأكيد‭ ‬لقد‭ ‬توحّدناب‭. ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬شيئاً،‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬شيئاً‭ ‬حتى‭ ‬تيقنت‭ ‬من‭ ‬أنّه‭ ‬توقف‭. ‬ثم‭ ‬سألت‭:‬

ما‭ ‬هو‭ ‬كتابك؟

إنه‭ ‬رواية‭ ‬اكيمب‭ ‬ذ‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬رديارد‭ ‬كيبلنج‭ ‬عام‭ ‬1921،‭ ‬قال،‭ ‬ثم‭ ‬أضاف‭:‬

لكنها‭ ‬ممزقة‭. ‬إنها‭ ‬تبدأ‭ ‬حالياً‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬عشرين‭. ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أخذتيه؟

لا‭ ‬أعرف‭. ‬الجوّ‭ ‬مظلم‭ ‬هنا‭ ‬للغاية‭ ‬كي‭ ‬أرى‭ ‬العنوان‭.‬

‭ ‬عندما‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬هرعت‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬نومي‭ ‬وأغلقت‭ ‬الباب،‭ ‬لأنني‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الشيء‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي،‭ ‬ولم‭ ‬أُرد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬أيّ‭ ‬فرد‭ ‬حين‭ ‬أنظر‭ ‬اليه‭.‬

‭ ‬لكنني‭ ‬شعرت‭ ‬بخيبة‭ ‬أمل‭ ‬كبيرة،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬ويبدو‭ ‬مملاً‭. ‬كانت‭ ‬رواية‭ ‬عنوانها‭ ‬اقويّ‭ ‬كالموتب‭ ‬ذ‭ ‬للكاتب‭ ‬الفرنسي‭ ‬جي‭ ‬دي‭ ‬موباسان‭ >‬