«عالم المعرفة» جادك الغيث.. من مئات النوافذ

جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى
يا زمانَ الوصل بالأندلسِ
لم يكن وصلك إلا حلماً
في الكرى أو خلسةَ المختلسِ
الموشح الذائع الصيت للأندلسي لسان الدين بن الخطيب، الذي ما أنْ يقرأه أحدنا أو يسمعه مُغنَّى، حتى يخطفه الخيالُ إلى الأندلس، وتنتابه أشواقٌ متدفقة من هذا النص البالغ الرقة والعذوبة في التراث العربي، ولا أنجو شخصياً من الفخ العذب لهذا النص، ولكنه يأخذني إلى عالمٍ آخر، إلى «عالم المعرفة»، فدائماً يذكِّرني بكتاب «الموشحات الأندلسية» للدكتور محمد زكريا عناني، الذي صدر عن سلسلةِ عالم المعرفة في شهر يوليو من عام 1980م.
كان الكتاب رقم 31 في السلسلة التي بدأ إصدارها عام 1978، ومازالت مستمرة حتى الآن، لتظل كما كانت خلال السنوات الطويلة الماضية رافداً أساسياً من روافد الثقافة العربية، التي يمكن القول بقدر كافٍ من اليقين، إنَّه لا بيتَ في العالم العربي يخلو من كتب «عالم المعرفة» بعضها أو كلها.
وبين الكتاب رقم واحد «الحضارة» للدكتور حسين مؤنس عام 1978، والكتاب رقم 405 «السعادة.. موجز تاريخي» في أكتوبر 2013، قدمت السلسلة تنوعاً ثرياً من معارف أدبية وفكرية وعلمية واقتصادية بأقلامٍ عربية وأجنبية، تشكل بانوراما للقرن العشرين وامتداده في القرن الحادي والعشرين، وصولاً إلى فيزياء المستحيل، في الكتاب رقم 399 لمؤلفه عالم الفيزياء الحائز جائزة نوبل ميشيو كاكو، وترجمة د. سعد الدين خرفان، ويتحدث الكتاب الذي يحمل الاسم ذاته «فيزياء المستحيل» عن احتمالات في المستقبل تتراوح بين عدة عقود من السنين وبين ملايين السنين، مثل النقل الفوري البعيد والسفر فائق السرعة عبر الفضاء، والثقوب الدودية، والاحتجاب عن الرؤية، أو ما يُعرف أسطورياً بـ «طاقيةِ الإخفاء»، وهو ما ظهرت له بضعة تطبيقات علمية أخيراً، غير أن ثمة ما سينتظره البشر لملايين السنين وقد لا يظهر أبداً، لأنه يُناقض القوانين الأساسية المعروفة للفيزياء، مثل آلات الحركة الدائمة والاستبصار، وإن ظهر كما يقول ميشيو كاكو، فإنه سيمثل تغيراً في الفهم القائم للفيزياء.
ولعلَّها صدفة دالـــة، أن يكون الكتـــاب الأول في عالم المعرفة هو «الحـــضارة.. دارسة في عوامــل قيامها وتطـــورها» لمؤلفه د.حسين مؤنس، والحضارة كما نعلم ليست أكثر ولا أقل من حركة الإنسان على الأرض في تطوره وفي فهمه لذاته وإبداعه البشري بكل أشكاله المادية والفنية والتكنولوجية، وأن يكـــون الكتاب رقم 400 في شهر يونيو 2013 حين صدرت السلسلة بثوب جديد، هو «مختصر لتاريخ العالم» لمؤلفه إي إتش غومبيرتش، وترجمة د.ابتهال الخطيب، حيث يرصد المؤلف بتبسيط وبتركيز في الحقيقة على الغرب وهو يعترف بذلك، تاريخَ الإنسان، مُنطلقاً من النشأة البيولوجية الأولى إلى عالم اليوم كما نعيشه، وماراً بظهور الإسلام الحنيف وحضارته التي كانت رافعة أساسية للحضارة الإنسانية ومطورةً لها.
وهكذا قدمت السلسلة كتباً مؤلفة ومترجمة، تجمع بين روح العصر وروح الأمة معاً كما جاء في الكلمة التقديمية للسلسلة التي كتبها مؤسسها أحمد مشاري العدواني، يقول: «عندما فكر اﻟﻤﺠلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في إصدار سلسلة شهرية من الكتب الثقافية، كان ذلك بوحي من شعوره بحاجة القارئ العربي الماسة إلى الكتاب الذي يجعله مواكباً لأحدث التطورات في المعرفة من دون أن تفقده المواكبة انتماءه لحضارته وأمته، فهو بحاجة إلى ثقافة تجمع بين روح العصر وروح الأمة معاً.
وتشتد حاجة القارئ إلحاحاً في وقت أخذت فيه وسائل تكنولوجية ضخمة في ترويج ثقافات غربية نشأت في مجتمعات معينة لتلبية حاجات تلك اﻟﻤﺠتمعات في ظروف معينة، وأخذت هذه الثقافة أو الثقافات الغربية تزحف عليه لتعصف بكيانه ولتفقده هويته ولتزعزع ثقته بماضي أمته وبحاضرها ومستقبلها.
وعلى هدى من هذا التصور انطلقنا في التخطيط لهذه السلسلة ورسم سياستها، وتأليف لجنة ضمت مختلف التخصصات أنيطت بها مهمة تحرير السلسلة. وأخذنا نتصل بالأكاديميين واﻟﻤﺨتصين للكتابة في موضوعات نراها مهمة، أو في موضوعات يرونها هم مهمة ولا تتعارض مع السياسة المرسومة للسلسلة. وقد استجاب لدعوتنا نفر كبير من رجال الفكر العربي».. أحمد مشاري العدواني، العدد الأول من عالم المعرفة عام 1978.
ولعلَّ واقع الإصدارات بعد 35 عاماً ومن العدد 1 إلى العدد 405 يؤكد أنَّ ما قاله المرحوم أحمد مشاري العدواني قد تحقق واقعاً في كل بيتٍ عربي وفي كل مؤسسة عربية، حتى أن توقف السلسلة لمرتين خلال مسيرتها كان محسوساً إلى حد كبير.
كان التوقف الأول في أغسطس من عام 1990 عقب الغزو العراقــي لــدولة الكويت، وكانت السلسلة قد أصدرت عددها رقم 152 بعنوان «التلوث مشكلة العصر» لتعود إلى الصدور بعد تحرير الكويت ولكن من القاهرة، حيث صدر العدد رقم 153 في أكتوبر من عام 1991 وكان دالاً في عنوانه ومحتــــواه «الكـــويـــت والتنمية الثقــــافية العربيــــة»، ثم عادت السلسلة لتصدر من الكويت في أبريل من عام 1992.
في يوينو 2010 صدر العدد 376 بعنوان «التوحد بين العلم والخيال» ثم توقفت للمرة الثانية لأسباب تقنية وإدارية لمدة عام، حتى صدر العدد 377 في يونيو 2011 بكتاب «أوديسا التعددية الثقافية.. سبر السياسات الجديدة في التنوع (ج1).
ولعدة مرات غيَّرت السلسلة ثــــوب إصدارها، لتواكب التطـــور في الطباعة، وتنأى عن التنميط الشكلي، وإن كان المحتوى بالطبع ظلَّ على حيويته في التنوع ما بين الثقــافي والمعرفي والعلمي والاجتماعي والنفسي والسلوكي، وغير ذلك من مجالات المعرفة الإنسانية، مؤلفة بأقلام كـــتاب عرب، أو مترجمة عن كتاب أجانب، مع الأخذ في الاعتـــبار مواكبة إصدارات السلسلة للتطور الراهن في شتى مناحي الحياة، ولعلَّ كتاباً مثل كتاب «مدن المعرفة.. المداخل والخبرات والرؤى»، الصادر في أكتوبر 2011، يعطي نموذجاً لذلك في بسطه عبر نماذج لمفهوم المدينة الذكية مثل سنغافورة ودبي، أو كتاب «تكنولوجيا النانو.. من أجل غد أفضل» لمؤلفه الأستاذ الدكتور محمد شريف الإسكندراني، الصادر في أبريل 2010، يعطي كذلك نموذجاً آخر لما لتكنولوجيا النانو من أهمية صاعدة الآن في التقنية المعاصرة من الطب إلى الكمبيوتر إلى تحلية المياه.
لكن، ماذا عن لحظة التأسيس لعالم المعرفة؟ ومن أين جاء الاسم؟ أترك الإجابة للكاتب المصري محمد المنسي قنديل، من تحقيقه الذي نشره في مجلة العربي، العدد 541 ديسمبر 2003 بمناسبة مرور 25 عاماً على إصدار السلسلة.. يقول:
«تعود فكرة إصدار سلسلة عالم المعرفة إلى عام 1975، أي منذ وقت مبكر من إنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت, الذي صدر المرسوم الأميري بالموافقة على إنشائه في يناير 1973، وعلى الفور بدأت الاستعدادات لتحويل هذا المرسوم إلى واقع فعال. وكان الحلم في بناء صرح ثقافي ضخم يرعى الفنون ويذود عن الآداب، من أجل هذا عقدت أكثر من ندوة وقدم العديد من الاقتراحات، وذلك قبل أن تبدأ انطلاقة المجلس في الحادي والعشرين من شهر يناير عام 1974.
وكان الهدف الأساس من وراء التفكير في إصدار تلك السلسلة الجديدة هو إشباع حاجة القارئ العربي, بثقافة العصر الذي يعيش فيه مع عدم تجاهل تراثه وعناصر الأصالة في شخصيته.
وبناء على تكليف من الأستاذ عبدالعزيز حسين، الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس المجلس، تقدم المفكر العربي د.فؤاد زكريا، الذي كان في ذلك الوقت رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة الكويت بورقة عمل تتضمن الملامح الأولى لمشروع سلسلة عالم المعرفة. وكان أهم ما فيها أن المكتبة العربية لا تنقصها سلسلة من الكتب المبسطة ولكن تنقصها الكتب المخططة، أي تلك التي لها خطة مُسبقة تراعى فيها تلبية حاجات القارئ العربي غير المتخصص إلى الإلمام بثقافة العصر. كما أن هذا التخطيط سوف يساعد السلسلة على أن تظل محتفظة بمستوى علمي معقول.
ومن الجدير بالذكر أن د.فؤاد زكريا هو الذي اختار أيضاً اسم «عالم المعرفة»، وقد برر ذلك بسببين، أولهما أن لفظ المعرفة شامل يجمع بين الإنسانيات والعلوم والآداب والفنون. وثانيهما أن هذا الاسم يتماشى مع اسم مجلة «عالم الفكر» التي كانت تصدرها وزارة الإعلام».
وعلى حواف الزمن الممتدة، نذهب مرة أخرى إلى الموشحات الأندلسية، حيث نقرأ في كتاب د.محمد زكريا عناني، هذين البيتين من موشح لابن زمرك المتوفى سنة 795 هـ:
ومن شموسٍ بها تحفُّ
تديرهــــــا بينـــــها البــدورُ
مزاجها العذبُ سلسبيلٌ
يا هَلْ إلى رشفِها سبيلُ؟
نعم.. ثمة سبيل، أن تكون حريصاً على اقتناء نسختك من «عالم المعرفة» ومــــن إصدارات المجلس الوطني للثقافة والــــفنون والآداب في الكويت (عالم الفكر/ إبداعات عالمية/ الثقافة العالمية/ مسرحيات عالمية), التي تشكل مع عالم المعرفة شموساً وبدوراً ثقافـــية وعلمية ومعرفية، وبالطبع أن تكون حريصاً على اقتناء نسختك من المجلات التي تُرفق مع إصداراتها الشهرية كتباً مجانية، مثل مجلات «دبي الثقافية والرافد وتراث والثقافة الجديدة» وغيرها من المجلات التي تشكل هي الأخرى روافد للثقافة العربية المعاصرة.. و.. جادك الغيث .