العرب على حدود بيزنطة

العرب على حدود بيزنطة

في‭ ‬عام‭ ‬1964،‭ ‬صدر‭ ‬للعالمة‭ ‬الروسية‭ ‬المبدعة‭ ‬نينا‭ ‬فكتورفانا‭ ‬بيجوليفسكيا‭ ‬Nina‭ ‬Victorovna‭ ‬Pigulevskia‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬واللغات‭ ‬القديمة‭ ‬كتاب‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬العرب‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬بيزنطة‭ ‬وإيران‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬ظهرت‭ ‬أول‭ ‬ترجمة‭ ‬لهذا‭ ‬المصنف‭ ‬القيّم‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1985‭.‬

وُلدت‭ ‬مؤلفة‭ ‬الكتاب‭ ‬عام‭ ‬1894‭ ‬بمدينة‭ ‬‮«‬لينجراد‮»‬‭ ‬في‭ ‬أسرة‭ ‬مرموقة‭ ‬أثرت‭ ‬روسيا‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬العلماء،‭ ‬ودرست‭ ‬التاريخ‭ ‬واللغات‭ ‬الكلاسيكية‭ (‬اليونانية‭ ‬واللاتينية‭) ‬بجامعة‭ ‬بطرسبرج،‭ ‬ثم‭ ‬التحقت‭ ‬عقب‭ ‬ذلك‭ ‬بمعهد‭ ‬الدراسات‭ ‬الشرقية‭ ‬التابع‭ ‬لتلك‭ ‬الجامعة،‭ ‬حيث‭ ‬تخصصت‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬السامية،‭ ‬وهي‭ ‬العبرية‭ ‬والآرامية‭ ‬والسريانية‭ ‬والحبشية،‭ ‬والتي‭ ‬أضافت‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وقد‭ ‬اختارت‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬موضوعًا‭ ‬لدراستها‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬النصرانية‭ ‬الأولى،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬أكاسرة‭ ‬الفرس‭ ‬وقياصرة‭ ‬الروم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬المنطقة،‭ ‬وهو‭ ‬ذلك‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬وضعت‭ ‬حدًا‭ ‬له‭ ‬حركة‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭.‬

وعندما‭ ‬اختارتها‭ ‬المنية‭ ‬عام‭ ‬1970‭ ‬كانت‭ ‬نينا‭ ‬فكتورفنا‭ ‬قد‭ ‬أضحت‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬المرموقين‭ ‬ببلادها‭ ‬وعضوًا‭ ‬مناوبًا‭ ‬بأكاديمية‭ ‬العلوم‭ ‬السوفييتية،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬واكتسبت‭ ‬شهرة‭ ‬عالمية‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬دراستها،‭ ‬وشمل‭ ‬هذا‭ ‬تاريخ‭ ‬الدولة‭ ‬البيزنطية‭ ‬وإيران‭ ‬الساسانية‭ ‬وقبائل‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬خبير‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالسريان‭ ‬وحضارتهم‭ ‬وأدبهم،‭ ‬وخلفت‭ ‬وراءها‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬مائة‭ ‬وثمانين‭ ‬بحثًا،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كتب‭ ‬ومقالات‭ ‬وتعليقات‭ ‬ونقد،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬كتبها‭ ‬التي‭ ‬نالت‭ ‬شهرة‭ ‬عالمية‭ ‬نذكر‭ ‬الآتي‭:‬

‭- ‬‮«‬أرض‭ ‬الجزيرة‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬القرنين‭ ‬الخامس‭ ‬والسادس‮»‬‭ (‬1940‭).‬

‭- ‬‮«‬بيزنطة‭ ‬وإيران‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬القرنين‭ ‬السادس‭ ‬والسابع‮»‬‭ (‬1946‭).‬

‭- ‬‮«‬بيزنطة‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الهند‮»‬‭ (‬1951‭).‬

‭- ‬‮«‬مدن‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسيطة‭ ‬المبكرة‮»‬‭ (‬1956‭).‬

‭- ‬‮«‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ - ‬بيزنطة‭ ‬وصقلية‮»‬‭ (‬1979‭).‬

‭- ‬‮«‬حضارة‭ ‬السريان‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسيطة‮»‬‭ (‬1979‭).‬

وقد‭ ‬استحق‭ ‬مصنفها‭ ‬‮«‬العرب‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬بيزنطة‭ ‬وإيران‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‮»‬‭ ‬النقل‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لأسباب‭ ‬عدة،‭ ‬منها‭: ‬إن‭ ‬إجادة‭ ‬المؤلفة‭ ‬للغات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬القديمة‭ ‬مكّنتها‭ ‬من‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬المدوّنة‭ ‬باليونانية‭ ‬واللاتينية،‭ ‬لتستخرج‭ ‬منها‭ ‬أخبار‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬مع‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬ووريثتها‭ ‬بيزنطة،‭ ‬كذلك‭ ‬قد‭ ‬مكّنتها‭ ‬إجادتها‭ ‬للغات‭ ‬السامية‭ ‬من‭ ‬تتبع‭ ‬أخبار‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬آثار‭ ‬المؤلفين‭ ‬ومخطوطاتهم،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬فقد‭ ‬عدت‭ ‬نينا‭ ‬فكتورفانا‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬البيزنطيات‭ (‬Byzantinologist‭) ‬وشاركت‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬البيزنطية‭ ‬المدوّنة‭ ‬باللغة‭ ‬اليونانية‭ ‬لتستخرج‭ ‬مادتها‭ ‬التي‭ ‬تمس‭ ‬العرب‭ ‬وتمس‭ ‬سياسة‭ ‬بيزنطة‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭.‬

تقع‭ ‬النسخة‭ ‬العربية‭ ‬المترجمة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬أربعمائة‭ ‬وعشرين‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬الكبير،‭ ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬ثمانية‭ ‬فصول‭. ‬فبعدما‭ ‬تعرضت‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬لمصادر‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬المصادر‭ ‬اليونانية‭ ‬واللاتينية،‭ ‬ومدوني‭ ‬الحوليات‭ ‬من‭ ‬السريان،‭ ‬فقد‭ ‬خصصت‭ ‬الفصول‭ ‬من‭ ‬الثاني‭ ‬إلى‭ ‬الخامس‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬البيزنطية،‭ ‬وقد‭ ‬وضح‭ ‬جليًا‭ ‬اهتمامها‭ ‬بشخصية‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬سيادة‭ ‬مملكة‭ ‬عرب‭ ‬الفرس‭ ‬أو‭ ‬‮«‬اللخميين‮»‬‭ ‬وسيادة‭ ‬قبيلة‭ ‬كندة‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬ببيزنطة،‭ ‬وأفردت‭ ‬الفصل‭ ‬الخامس‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬الغساسنة‭ ‬كعمال‭ ‬للبيزنطيين،‭ ‬أما‭ ‬الفصل‭ ‬السادس،‭ ‬فقد‭ ‬أشارت‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الحدود‭ ‬البيزنطية،‭ ‬خاصة‭ ‬دور‭ ‬الغساسنة‭ ‬ووجودهم‭ ‬كدولة‭ ‬عازلة‭ ‬ضد‭ ‬هجمات‭ ‬الفرس‭ ‬وعربان‭ ‬البادية،‭ ‬ثم‭ ‬تعرضت‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬السابع‭ ‬إلى‭ ‬تركيب‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬وأوضاعه‭ ‬الاقتصادية‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬الأحلاف‭ ‬القبلية،‭ ‬ثم‭ ‬أفردت‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأخير‭ ‬وهو‭ ‬الفصل‭ ‬الثامن‭ ‬لموضوع‭ ‬علاقة‭ ‬العرب‭ ‬بالنصرانية‭.‬

ولعل‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬يتم‭ ‬فيها‭ ‬فحص‭ ‬تاريخ‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬المتاخمة‭ ‬للحدود‭ ‬البيزنطية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬والسلم،‭ ‬وكذلك‭ ‬دراسة‭ ‬علاقات‭ ‬التحالف‭ ‬لهذه‭ ‬القبائل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بيزنطة‭ ‬وإيران‭ ‬بصورة‭ ‬متتابعة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬للشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الاتحادات‭ ‬العربية‭ ‬المتاخمة‭ ‬للدولة‭ ‬البيزنطية‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬العداء،‭ ‬فإنها‭ ‬كوّنت‭ ‬أحلافًا‭ ‬قبلية‭ ‬وكانت‭ ‬لها‭ ‬تنظيمات‭ ‬عسكرية‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬التحالف‭ ‬معها‭ ‬أمرًا‭ ‬مرغوبًا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الدولتين‭ ‬الكبيرتين،‭ ‬وقد‭ ‬حافظت‭ ‬تلك‭ ‬القبائل‭ ‬على‭ ‬تقسيماتها‭ ‬القبلية‭ ‬والعشائرية‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬جيشها،‭ ‬وكانت‭ ‬لهذه‭ ‬القبائل‭ ‬حدودها‭ ‬الجغرافية‭ ‬ونقاطها‭ ‬الحصينة،‭ ‬وبمرور‭ ‬الزمن‭ ‬ثبتت‭ ‬هذه‭ ‬الحدود‭ ‬واكتسبت‭ ‬صفة‭ ‬من‭ ‬الدوام،‭ ‬بحيث‭ ‬أضحى‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الممكن‭ ‬اجتيازها‭ ‬دون‭ ‬نشوب‭ ‬مناوشات‭.‬

لقد‭ ‬سبقت‭ ‬ظهور‭ ‬الإسلام‭ ‬هزات‭ ‬اجتماعية‭ ‬عميقة‭ ‬الأثر‭ ‬داخل‭ ‬الدولتين‭ ‬الكبيرتين‭ ‬بآسيا‭ ‬الغربية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثالث،‭ ‬وهو‭ ‬القرن‭ ‬الذي‭ ‬استفحلت‭ ‬فيه‭ ‬أزمة‭ ‬المجتمع‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الرق،‭ ‬التي‭ ‬اخترمت‭ ‬منطقة‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬بأكملها،‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬وهو‭ ‬قرن‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية‭ ‬وانتصار‭ ‬العرب،‭ ‬والتاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬والحربي‭ ‬لهذه‭ ‬الفترة‭ ‬المفعمة‭ ‬بالأحداث‭ ‬يذكر‭ ‬مشاركة‭ ‬القبائل‭ ‬وأحلاف‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحروب،‭ ‬كذلك‭ ‬ساقت‭ ‬التطورات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬ضرب‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬يعتبر‭ ‬أكثر‭ ‬تقدمًا‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬الرق‭ ‬وهو‭ ‬المجتمع‭ ‬الإقطاعي،‭ ‬وقد‭ ‬ترك‭ ‬هذا‭ ‬الطابع‭ ‬الإقطاعي‭ ‬المبكر‭ ‬للنظم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ببيزنطة‭ ‬وإيران‭ ‬أثره‭ ‬بالتالي‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬الرقعة‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتبع‭ ‬تلكما‭ ‬الدولتين‭.‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬القبائل‭ ‬مجتمعة‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أيديولوجية‭ ‬جديدة‭ ‬لتتوحد‭ ‬كلمتهم‭ ‬عليها،‭ ‬ولم‭ ‬تسهم‭ ‬النصرانية‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬توحيد‭ ‬كلمة‭ ‬العرب،‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬درجة‭ ‬تطورهم‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬التركيب‭ ‬النفسي‭ ‬للعرب‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬نفوسهم‭ ‬تلك‭ ‬الوحدانية‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬القرآن،‭ ‬وذلك‭ ‬التوافق‭ ‬الحضاري‭ ‬للإسلام‭ ‬مع‭ ‬حياتهم‭ ‬البدوية‭ ‬وشبه‭ ‬البدوية،‭ ‬ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬التطور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للعرب‭ ‬آنذاك‭ ‬بلغ‭ ‬مرحلة‭ ‬تحددت‭ ‬فيها‭ ‬بوضوح‭ ‬حاجتهم‭ ‬إلى‭ ‬ديانة‭ ‬تتجاوز‭ ‬الاختلافات‭ ‬القبلية‭ ‬وتجمع‭ ‬كلمتهم،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬استجابة‭ ‬لهذه‭ ‬الحالة‭ ‬الملحة‭ ‬وللمستوى‭ ‬الحضاري‭ ‬الذي‭ ‬بلغه‭ ‬العرب‭ ‬آنذاك،‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬أسهمت‭ ‬فيه‭ ‬عناصر‭ ‬عربية‭ ‬جنوبية‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬حضارة‭ ‬مستقرة‭ ‬لها‭ ‬ومُثلها‭ ‬الأخلاقية‭ ‬وعاداتها‭ ‬المتميزة،‭ ‬وانضمت‭ ‬إليها‭ ‬القبائل‭ ‬الرحل‭ ‬وأشباه‭ ‬الرحل‭ ‬لوسط‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭.‬

ويمثل‭ ‬الشعر‭ ‬الشعبي‭ ‬للقبائل‭ ‬العربية‭ ‬عنصرًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬ارتبط‭ ‬ظهوره‭ ‬بأسماء‭ ‬الشعراء‭ ‬الأوائل‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭ ‬وامرئ‭ ‬القيس،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬آثارهم‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬لما‭ ‬حفظته‭ ‬من‭ ‬الأنساب‭ ‬المتواترة‭ ‬التي‭ ‬اهتمت‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬المجتمعات‭ ‬البدوية‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬المناطق‭ ‬الوسطى‭ ‬من‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أضحت‭ ‬مهد‭ ‬الإسلام،‭ ‬فإن‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬بيزنظة‭ ‬وإيران‭ ‬قد‭ ‬مهّدت‭ ‬بدورها‭ ‬الطريق،‭ ‬ووسعت‭ ‬الإمكانات‭ ‬أمام‭ ‬حركة‭ ‬الفتوح‭ ‬الكبرى‭ ‬للمسلمين،‭ ‬بل‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬شعوب‭ ‬أخرى‭ ‬ذات‭ ‬حضارات‭ ‬عريقة‭ ‬بآسيا‭ ‬وإفريقيا‭.‬

لقد‭ ‬تمرّست‭ ‬المؤلفة‭ ‬جيدًا‭ ‬بمنهج‭ ‬البحث‭ ‬التاريخي،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تاريخ‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬القديم،‭ ‬مما‭ ‬انعكس‭ ‬بوضوح‭ ‬على‭ ‬مؤلفها‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬التماسك‭ ‬المنطقي‭ ‬والبراعة‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬فاستحق‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬المصنفات‭ ‬في‭ ‬مجاله‭ ‬‭>‬