في المقهى

لم أعدْ كما كنت سابقاً... لسبب أجهله، هل لأن الأيام ليست متشابهة؟ لا يمر يوم شبيه بيوم سبقه، أنا كذلك، أقول ... أيمكنك أنت أيضاً؟ فلا تقل وتردد ما تقوله كل يوم منذ التقينا... منذ جمعتنا الصُدف... أذكر يومها أنني كنت بصحبة صديق... لم تكن لك معرفة به... ارتبطنا بصداقة أو شبه صداقة... والتقينا بعدها وأصبحنا نلتقي يومياً... لأني ارتحت لما كنت تقصّ عليّ، وتحكي وتظهر معرفتك بأشياء كثيرة جعلتني أكتشف أن لي صديقاً ذا ثقافة، وهذا نادر... لكن يا صديقي كل ما كنت تخبرني به كان يتردّد على لسانك كل مرة نلتقي به... وهذا منذ سنوات... والسنة مؤلفة من 365 يوماً.. لقد تعبت وحفظت كل ما قلته وردّدته يومياً. في السياسة والأدب والفن، أنا لم أدرك هذا، قال لي متعجباً، كنت ومازلت أعتقد أنك مستمع ومرتاح لما أقوله، أنت تفاجئني الآن، سأسكت الآن، قال مازحاً:
- لا... لا تسكت... سكوتك يجعلني ساكتاً، وما الفائدة من لقائنا اليومي؟
- نحن صديقان أو...
- صديقان نعم... قلت لك بصراحة إن تكرار معلوماتك ينقصها من رونقها.
- طيب...
ساد سكوت، تحوّل إلى حزن، ثم قام وسلّم واتجه نحو باب المقهى، لحقته وأجبرته على أن يعود... ليس خوفاً عليه... بل خوفاً عليّ... من الوحدة التي سأقع فيها... التي مررت وأمرّ بها دوماً وهي مخيفة.
عاد وجلس على كرسيه وقمت أنا لأشتري جريدة، قلت له:
- هل سمعت بما يحدث في لبنان؟
- ماذا؟ ماذا حدث؟!
- لبنان محاصر من كل الجهات، وفوضى... كما ترى.
- لبنان مسكين.
- هل تعلم ما مشكلته الكبرى؟
- لا... نعم... لا... قل مـــا هــــي المـــشكــلة؟
- لبنان يا أخي يسكنه لبنانيات ولبنانيون... هذه هي المشكلة.
ضحك ثم قال: أنت لبناني كما أنا... هل اشتريت جنسية؟
أعني جنسية أجنبية، أمريكية، فرنسية، إلى آخره.
- المشكلة أني لا أشعر بأني أحمل جنسية، ليت جنسيتي اللبنانية الرسمية تحملني وترميني خارج الحدود، وأتمنى أن ترميني بعيداً وتنسيني ماضيّ وحاضري، وأعود طفلاً لا أم ولا أب له... أطوف ضائعاً في الأرض حرّاً، سابحاً في البحار وطائراً في الأجواء... قاطعني:
- تتكلم كشاعر... كمّل.
- هذا يكفي... أخاف من أن تقول إني أكرّر أقوالي.
- لا... هذا جديد... أنت تقول كلاماً جديداً وترسم صوراً جميلة.
- لا تنــــس أنـــي رسّام... تخيّلــــت وضعك في الأجواء والبحار ورأيــــت فيها لوحة جمـــيلة... الخيال يا أخي... الخيال.
- منذ أن تعرّفنا على بعضنا لم تكلّمني يوماً عن عملك الفنّي... عن فنك، هل هذا سر من أسرارك؟
- لا... ليس سرّاً، الفن يـــا أخــــي لغــــة تحكي عن حالها... لن ترى لوحة إذا لم تكن موجودة أمامك... يستطيع الإنسان أن يتكلم عن الفن... لكن الفن يكون بعيداً عنه... التكلّم عن الفن يُدخل المتكلم في باب الأدب... لهذا فكثيرون في بلادنا يتكلمون ويتفلسفون ويمدحون أو يذمّون فناناً وفنه، لكنهم لا يستطيعون أن يحوّلوا كلامهم أو نقدهم إلى عمل فنّي... يبقى كلاماً فقط والفن يبقى بعيداً.
- جميل... صحيح... لا بأس... هل ترى؟ أنت الآن تتكلّم... وهذا ما يسعدني وكنت دائماً مستمعاً؟
- كنت مستمعاً لأنك كنت أنت المتكلّم، قال هذا وضحك...
- حديــثــــك هذا عــــن الرســــم... وأنا مـــــوافق مع كوني جـــاهـــلاً بهــذا المضـــمار... ولكن بالنسبة للموسيقى، هل تعــتــقد أن أقــــوالك عن الرسم تنطـــبق على الموسيقى أيضاً؟
- سأعطيك مثلاً... إذا قلت لك إن السمفونية الخامسة لبتهوفن عمل كبير جداً ككل مؤلفاته... فهل تسمعها؟
- لا...
- الموسيقى للسمع والتمتّع بها والسفر بعيداً وأنت جالس على كرسيك وأذناك تستمعان مع كل إحساسك.
- أنا أعني الموسيقى العربية والغناء.
- الموسيقى العربية تختلف عن الموسيقى الغربية.
أنا لا أعني الموسيقى العربية اليوم وهكذا يسمّونها!! هذه الموسيقى المنتشرة والغناء... أنا أعني يا صديقي الموسيقى والغناء العربي الأصيل... جداً... ونصيحة منّي... هي ألا تصدّق أو ترى ما يقوله الإعلام عن فلان وفلانة من االمطربين والمطرباتب والراقصين والراقصات.
- هل انتهيت؟
- من ماذا؟
- من كلامك عن الفن.
- أنا لا أتكلم عن الفن، بل عمَّن يعتبرون أنفسهم فنانين وفنانات.
الآن... انتهيت من حديثي، هل أعجبك ما قلته؟
- طبعاً... كم الساعة الآن؟
- آه... نسيتها في البيت.
- وأنا لا أحمل ساعة... هذا ما يجعلنا أحراراً.
تُسمع طلقات نارية... مازالت تُسمع... ساد سكوت في المقهى... فجأة خرج الجميع مسرعين... وبقيت مع الصديق نتحاور والمقهى فرغ من زبائن إلا منا، وقد أبدلنا بحديثنا التكلّم في موضوع السياسة.
عندما رأينا مسلّحين يدخلون المقهى... خرجنا منه بهدوء... بهدوء... >