يوسف إدريس.. «أتعس أيامه أيام الانتظار»

في ندوة عقدت في بيروت سنة 1974 وكان عنوانها: «هل للأديب العربي دور؟» تساءل يوسف إدريس: «ما الذي يحدث إن نهضنا ذات صباح فوجدنا أنه ليس ثمة كتاب ولا مجلة ولا ثقافة؟ أغلب الظن أن أحدا لن يشعر بالخسارة».
يتساءل يوسف إدريس ضمنيا عن وضع كُتَّاب أكلهم اليأس، وسفه التجاهل واللااهتمام مطامحهم وأحلامهم، كتَّاب لطالما حلموا بخلق «أسطورتهم الشخصية» في بحيرة الوجود الآسنة، ولطالما احترقوا في جذوة الكلمة، ولطالما قمطوا كلماتهم برهافة ووضعوها بين الناس، لكن سرعان ما التقطوها بخفة الساحر خشية أن تدوسها أحذية قاسية أو تضيع في الزحام، ليهدهدوها من جديد ويلفوها في كفن البياض.
يتساءل يوسف إدريس عن جدوى الكتابة في زمن تقرع الكلمة صداها، ويقول عن حادثة انتحار الروائي الياباني يوكيومشيميا: «لقد انتحر ميشيميا في اللحظة التي أدرك فيها أن دعوته بلا جدوى وبلا صدى. وككاتب اكتشف أنه يكتب في فراغ وبلا صدى».
يتساءل يوسف إدريس في زمن يتم فيه تكريم الكاتب في رفاته، مع أنه كما يقول بودلير «كلمة مديح في حياتي، خير من ألف كتاب يكتب عني بعد موتي»، فوردة كلمات عطرة فواحة في الحياة قد تغنينا عن مشاتل الكتب والكلمات بعد الممات، وروح المبدع والفنان شفافة وسهلة الانكسار، لكن سرعان ما تلتئم ويتم وصلها بينابيع الفرح والبهجة، إذا ما أمطرناها بقطرات الحب والاعتراف.
ظل يوسف إدريس أبو القصة المصرية أو «تشيكوف العرب»، كما يلقب عادة، يشعر بالغبن حتى آخر مراحل حياته، وهو الذي وهب قلمه للفئات المغبونة والمسحوقة، وعزم على تعرية العوالم السفلية للمجتمع المصري والأغوار المظلمة للنفسية الإنسانية، مؤمنا بأن التغيير لا يولد إلا من عملية فضح، وأن ندوب المجتمع لن تندمل إلا إذا تركناها عرضة للشمس، وهو الذي افترش سجادة الواقع في الـ350 قصة قصيرة التي صدرت في 12 مجموعة قصصية، وعشر روايات وتسع مسرحيات و13 كتابًا يحتوي على مقالات صحفية تفرغ لها في أواخر حياته، دفاعا عن «وجوده اليومي» كما صرح، بعدما تمت محاسبته على «خيانته العظمى»، مضيفا في مقدمة كتابه «الإيدز العربي» الصادر عن دار المستقبل العربي عام 1989، تحت عنوان: «كلمة - أيضا - لا بد منها»:
«أريد أن أتكلم بصراحة في موضوع أنا متهم به. فمنذ سنوات قامت حملة ضدي على هيئة اتهام وكأنه اتهام بالخيانة العظمى. لماذا تركت الأعمال الأدبية ومنها القصة والرواية والمسرحية واتجهت إلى المقالة الصحفية»؟.
ظل يوسف إدريس يحرس مملكته الإبداعية بنرجسية وشموخ واعتلاء، يحلم باستقبال رئاسي أو ملكي له في المطار يليق بصولجان القلم، ليغرف الجمال والبهاء والصفاء من فضاضة الحياة وقتامتها وذمامتها، وليلمس الأعذار لخطايا وشرور وآثام الفئات المسحوقة ويعلقها على مشجب الأنظمة الاجتماعية المتشابكة والسيئة، فسقوط «سناء» في مستنقع الرشوة في قصة «العيب» هو ثمرة خطيئة مجتمعية تكالبت على الشخصية لاغتصاب قيمها النبيلة. و«شهرت» في قصة (قاع المدينة) كانت ضحية لكسرة خبز، أوقعت بها في حضن «عبدالله» وفي حضن عابري سبيل.
ظل يوسف إدريس مسكونا بقلق السؤال، منفلتا من شرنقة التكرار والاستنساخ، رافضا الانسحاق تحت سطوة الأيديولوجيا وجبروتها، هادرا مجلجلا في أبهة صمته الأزتيكي، بقلم حر مقدام، بمتعة عري وفضح علني، بلغة ضاجة بالكثير من الشحنات الوجدانية والانفعالية، لغة تغوص في تراب المجتمع المصري لتعانق فضاء إنسانيا أرحب.
ظل متصالحا مع آلامه وخيباته وانكساراته برحابة فكر وروح، منتظرا كوة ضوء ولو في أحلك الفترات، مستعيضا عن الحياة بخلود جلجامشي، وقال عنه نجيب محفوظ بعد رحيله: «كانت أسعد أيامه أيام العطاء وأتعس أيامه، أيام الانتظار، وحتى المرض والتجارب المرة، كان على أتم الاستعداد للمصالحة معها والرضا بها إذا وهبته مادة جديدة أو فتحت له نافذة مغلقة أو خصته بحقيقة خافية من حقائق الوجود».