القنّينة الزجاجية

لعل من كوّنها من بلّور برّاق شفيف، سعى إلى النظافة قبل كل غاية، وإلى الأناقة والجمال. إنها القنّينة ابنة الزجاج الجميل.
أنت حين تزور بلاداً ما، لابد أن يدعوك مضيفك إلى زيارة محترفاتها، وفي طليعتها محترفات الزجاج، حيث يبهرك الصنائعيون بالخفة والشطارة في استنباط الأشكال على أنواعها، الصغير منها والكبير، والمربع والمستدير، والمسطح الذي تتزحلق فوقه اللمسات والنظرات... كما يحمّلك نماذج منها لأهلك وأصحابك إنما قد يفوته أن ينبهك إلى مخاطر التصريح بها أمام أي سائق متهور لسيارة قابلة للتهور، سائق يشرب من القنّينة ويرميها إلى الشارع، والشارع هو بحر الناس.
يخدم السائق نفسه بماء القنّينة، وحين يتبين له أنها جفّت ونضب خيرها، يلقي بها حنقاً وغضباً عبر النافذة التي لحظها مخترع السيارة كرمى لعينيه، القنّينة تستحق هذه النهاية بعرفه وحكمه، فلِمَ لم تكن هذه المصنوعة الصعلوكة المسكينة بحجم البرميل، لكي يملأ منها جوفه الوسيع كاملاً، ويرتوي، ويترك مقود سيارته بنشوة مطمئناً، ويفتح الصدر، ويبعد الساعدين أحدهما عن الآخر، وينفخ على هواه، ينفخ كثيراً، ومن ثم يضرب على البطن بيد، ويستعيد المقود بالأخرى وهو يقول: الحمد لله. ارتويت أولاً، وألقيت قمامتي بوجوه الآخرين ثانياً، ولم تصدم سيارتي سيارة أخرى ثالثاً، فقد تركت المقود ومارست حريتي بأمان، وأنا حر مذ ولدتني أمي، وفي بلادي حرية خصبة طافحة لا تأكلها نار؟!
تُحدّث السائق عن بشر في بلدان أجنبية بعيدة، لا يفعلون مثل ما يفعل، فيرد على الفور: إنهم موتى في معرض الحياة، لا همة فيهم تدفعهم إلى فعل ما أفعله، وإنهم لفرط خمولهم قد يؤجلون الأكل والشرب حتى العودة إلى بيوتهم المقفلة، ويغيب عن بال كل منهم أن السيارة هي بيت ثانٍ يستطيع الإنسان أن يفعل فيه كل شيء، وصولاً إلى الغناء والرقص والاتصال بأرجاء الدنيا، بهدف تعميم الحماقات على المتابعين فور حصولها. ألم تُصنع الهواتف الذكية الجوالة من أجل هذه الغاية؟ ويسأل سائقنا الأجانب الغرباء، من بعيد: أليست الغاية من القنّينة الزجاجية شرب المحتوى رياً للبطن، وتحطيم الهيكل إرضاءً للأذن؟ أما سمعتم عن التقاسيم في موسيقانا، التقاسيم على العود والكمنجة والقانون والناي؟ وما هي التقاسيم؟ إنها إطلاق النغمات على المزاج والهوى والرغبة الفنية التي نسميها في دنيا الطرب: اسلطنةب. وفي الزجاج يجري الأمر نفسه، فللسائق المتفنّن أن يقسّم القنّينة، وأن يشبعها تقسيماً وتكسيراً بداعي التفاعل والانفعال. والانفعال هو من دواعي الموهبة في حسابه، وتكسير الزجاج أيضاً، وتقطيع الأوتار، وتحطيم القلوب التي غلبت عليها الرهافة، وساد بين جنباتها الذوق والنظام.
وبعد أن يرمي السائق سؤاله خلف قنّينته، لنا أن نتساءل: من أين لتلك القلوب بوجيه، يعير الانتباه لمسألة القنّينة هذه، بعد أن ينتهي من وضع الحلول للقضايا الكبيرة في الوطن، حرباً واقتصاداً وسياسة؟ وقبل ذلك، من أين لها بشارح أو مفسّر ينقل صورتها إلى الوجيه، ويقنعه بما حصل لها، وما حصل بواسطتها، وما حصل من جرّائها؟ الوجيه ذاك، حينما يضطر للمرور في طريق مشترك يمر فيه البشر العاديون، هل يتكبد عناء رؤية ما قد يعكّر صفوه كما يرى الآخرون؟ ولو رأى، فهل يحسب أن هؤلاء إنما يتلهون بشظايا القنّينة بملء إرادتهم بعد أن استبد بهم ضجر، أو ضاق سبيل، أو أقفل ملعب أو تدحرجت كرة في دهليز مظلم؟ ونتساءل أيضاً: من أين لتلك القلوب بوجيه يفرّق بين القنّينة وكرة القدم وجمجمة الإنسان؟ من أين... من أين بوجيه يسوق السائق مخالفاً، إلى سجنه، ويبقي على الشارع نظيفاً في شرع المشرّعين؟ .