الملاءة... لباس المرأة القسنطينية التقليدي

بمناسبة احتضان مدينة قسنطينة فعاليات عاصمة الثقافة العربية لعام 2015، يسعدني أن أساهم بهذا الجهد المتواضع لأعرِّف بجزء من تراث المدينة العريقة وبموروثها الحضاري المتنوع.
قطعة قماش سوداء اللون، طولها يقارب الاثنتي عشرة ذراعاً تلتحفها المرأة القسنطينية عند خروجها من بيتها لتنقلاتها ولقضاء حاجياتها ومستلزماتها، تغطي بها كامل جسدها مع ترك فتحة طولية واسعة في الجهة الأمامية في الوسط، تسمح لها بتحريك ذراعيها بسهولة وبكل حرية، وتضيف لهذه القطعة من القماش قطعة أخرى صغيرة بيضاء اللون، تغطي بها وجهها تسمى االعجارب، وبذلك لن يبقى ظاهراً من كامل جسدها إلا عيناها فقط، إنها الملاية القسنطينية، لباس العفة والطهارة، لباس الأنوثة.
والملاية (الملاءة) لباس فضفاض، غير شفاف، لا يظهر من مفاتن المرأة ومحاسنها شيئاً، ويحجب جسدها كلية عن الأجانب، بما لا يسمح لأحد أن يفرق بين امرأة وأخرى من حيث الغنى والفقر، والطبقة الاجتماعية، فضلاً عن شخصها، بل وبإمكانه أيضاً أن يحجب عن الأنظار حتى ما تحمله المرأة في يدها من متاع، وهو الأمر الذي جعل الثورة الجزائرية 1954 - 1962، تستغله لمصلحتها في معركتها ضد االمستدمرب الفرنسي، عن طريق استخدام المرأة الملتحفة في نقل بعض الأسلحة (المسدسات) والوثائق والرسائل وحتى القنابل، بل وتنفيذ بعض العمليات الفدائية في المدن ضد عساكر ومصالح المستعمر الفرنسي.
هذا اللباس ارتدته المرأة القسنطينية، وتبعتها بعد ذلك كل نسوة الشرق الجزائري - حسب الرواية التاريخية المتوارثة - منذ الوجود العثماني في الجزائر، وبالضبط عقب وفاة حاكم بايلك الشرق صالح باي 1771 - 1792، الذي كان يتخذ من مدينة قسنطينة عاصمة لإقليمه، وشهدت فترة حكمه عديداً من الإنجازات، وعرف إقليمه ازدهاراً اقتصادياً واجتماعياً زاد من نفوذه وحب الرعية له، وهي الأسباب التي جعلت المرأة في قسنطينة تلبس الملاية السوداء تعبيراً عن ألمها وحزنها وكربها لفقدانها حاكم إقليمها. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الملاية رمزاً للمرأة القسنطينية وللمرأة في الشرق الجزائري.
ويروى أنه في احتفالية فرنسا بمرور قرن على احتلال الجزائر (1830 - 1930)، التي تقرر لها أن تدوم ستة أشهر، حاولت الإدارة الاستعمارية أن تبرهن لنفسها ولضيوفها على ذوبان المجتمع الجزائري وانصهاره في الشخصية الفرنسية وانسلاخه عن مقوماته وعاداته وتقاليده الشرقية، فألبست بعض النسوة الجزائريات لباساً سافراً، وحاولت إظهارهن في حفل عمومي بذلك اللباس، لكن المفاجأة كانت أنه بعد رفع الستار تبين أن النسوة عُدن ولبسن لحافاتهن رمز شخصيتهن وعفتهن، تعبيراً عن رفض الانسلاخ عن مبادئ وقيم المجتمع الجزائري المحافظ.
ويقابل الملاية المستعملة في قسنطينة ومدن الشرق الجزائري مثل قالمة وسوق أهراس وعنابة والطارف، وسكيكدة وسطيف وتبسة... يقابلها في الغرب والوسط وحتى في بعض مدن الجنوب الغربي كبشار االحايكب الأبيض، إلا أن المرأة في الوسط تضيف له االعجارب الأبيض مثلها مثل المرأة في الشرق. أما المرأة في الغرب، فتلتحفه وتغطي به كامل جسدها ولا تبقي منه ظاهراً إلا عيناً واحدة.
والملاية التي اشتهرت بها المرأة في قسنطينة والشرق الجزائري منذ أكثر من قرنين، أصبحت إحدى عناصر هويتها.
ولم يبق هذا اللباس اليوم إلا عند بعض العجائز اللاتي رفضن الانسياق وراء التغيير والشمولية اللذين يعرفهما العالم، وبقين متشبثات بالموروث الحضاري ولباس الجدات والخصوصية القسنطينية، كما أصبح حضور الملاية في أيامنا هذه يقتصر على ما ينجزه بعض مخرجي الأفلام والمسلسلات التي تعود إلى حقب ارتداء الملاية، ولوحات بعض الرسامين وبعض الأشعار والأغاني التي تحمل في عديد من مقاطعها دلالات الملاية، وكذلك في بعض المتاحف التي خصصت للأزياء التقليدية، كما نراها أيضاً في تظاهرات اللباس التقليدي، وذلك لأن فتاة اليوم عزفت عن ارتدائها، بدعوى أنها وليدة زمان وسبب معينين، وبذلك فهي تقليدية، ولأنها غير عملية ولا تتماشى مع العصر، خاصة أن المرأة اليوم أصبحت تخرج وباستمرار للدراسة والعمل والتسوق، عكس المرأة في السابق، التي كانت ماكثة في البيت وخروجها من منزلها نادر.
لكن - وللحفاظ على هذا اللباس من الاندثار النهائي - ألا يمكن أن يراودنا الأمل ونتحدث عن انبعاث هذا اللباس من جديد واستعادته مجده الغابر، ويجد من يرتدينه من بناتنا ويخرجنه من دائرة الإهمال الذي طاله؟
الأمر لا يبدو مستحيلاً وإن كان صعباً للتجسيد في زمن العولمة والموضة المتسارعة، لكن إذا وجدت الملاية مصمماً للأزياء يجتهد ويضع لمسات عصرية تطورها بما يتماشى والعصر وتخلق حوافز لارتدائها، فمن المؤكد أن الملاية ستعود للحياة، وتجد من تعتز وتفتخر بلباسها وارتدائها.
نأمل ذلك، وهذه دعوة لكل غيور على خصوصيات الشعوب الحضارية في زمن القالب الواحد المفروض من قبل الطرف القوي في هذه المعمورة .