ياسر المالح... الطفل الذي رحل

ياسر المالح... الطفل الذي رحل

‭ ‬من‭ ‬أبجد‭ ‬هوزب‭ ‬إلى‭ ‬افتح‭ ‬يا‭ ‬سمسم

ياسر‭ ‬المالح‭ (‬1933-2013‭) ‬كاتب‭ ‬سوري‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬صانعي‭ ‬ثقافة‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬وطننا‭ ‬العربي،‭ ‬اجتمعت‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬ومواهبه‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المعطيات،‭ ‬بوَّأته‭ ‬هذه‭ ‬المكانة،‭ ‬فهو‭ ‬مدرس‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬ومربٍّ،‭ ‬وخبير‭ ‬وسائل‭ ‬تعليمية،‭ ‬وعازف‭ ‬وباحث‭ ‬موسيقي،‭ ‬وخطاط،‭ ‬وممثل‭ ‬سابق،‭ ‬وإعلامي‭ ‬بارز،‭ ‬ومذيع‭ ‬مهم،‭ ‬بصوته‭ ‬المُميَّز،‭ ‬وأدائه‭ ‬اللغوي‭ ‬العذب‭ ‬السليم،‭ ‬وصحفي،‭ ‬وأديب‭ ‬وشاعر‭ ‬أطفال‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬صفحات‭ ‬حياته‭ ‬الغنية‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬الطفل‭ ‬هي‭ ‬ارتباط‭ ‬اسمه‭ ‬الوثيق‭ ‬ببرنامج‭ ‬اافتح‭ ‬يا‭ ‬سمسمب‭ ‬التعليمي‭ ‬المشهور،‭ ‬الذي‭ ‬أنتجته‭ ‬امؤسسة‭ ‬الإنتاج‭ ‬البرامجي‭ ‬المشترك‭ ‬لدول‭ ‬الخليج‭-‬الكويتب،‭ ‬وكان‭ ‬كبير‭ ‬كتابه‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬بالعشرات،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬مدير‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬اافتح‭ ‬يا‭ ‬سمسمب،‭ ‬التي‭ ‬صدر‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬60‭ ‬عدداً‭ ‬خلال‭ ‬العامين‭ ‬1980-1985،‭ ‬بعد‭ ‬النجاح‭ ‬الكاسح‭ ‬للمسلسل،‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬الاسم‭ ‬ذاته‭ ‬بـ360‭ ‬حلقة‭ ‬لأطفال‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬المدرسة‭.‬

شخصية‭ ‬موسوعية

تمتاز‭ ‬شخصية‭ ‬المالح‭ ‬بالجدية‭ ‬الصارمة‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬والنشاط‭ ‬والإتقان،‭ ‬ومتابعة‭ ‬التفاصيل،‭ ‬والرغبة‭ ‬المتواصلة‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬والتعلم،‭ ‬والروح‭ ‬الشابة‭ ‬المتوثبة‭ ‬نحو‭ ‬الحياة‭ ‬والتجديد‭ ‬والحرية‭.‬

عرفت‭ ‬الصديق‭ ‬المالح‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1977عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬شبابي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مساهمات‭ ‬بسيطة‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬المذكور،‭ ‬وكان‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬أقام‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬ليسهم‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬التربوية‭ ‬والصحية‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الثقافية،‭ ‬فاستعان‭ ‬بكفاءات‭ ‬عراقية‭ ‬مرموقة،‭ ‬وتصادف‭ ‬أن‭ ‬كنت‭ ‬وقتها‭ ‬محرراً‭ ‬في‭ ‬ادار‭ ‬ثقافة‭ ‬الأطفالب‭ ‬في‭ ‬بغداد‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬عديدة،‭ ‬قادني‭ ‬قدري‭ ‬عام‭ ‬2003‭ ‬إلى‭ ‬رئاسة‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬اأسامةب،‭ ‬التي‭ ‬تصدرها‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬السورية‭ ‬للأطفال،‭ ‬فكان‭ ‬اسمه‭ ‬أول‭ ‬اسم‭ ‬خطر‭ ‬في‭ ‬بالي‭ ‬ليكون‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬تحرير‭ ‬المجلة،‭ ‬لما‭ ‬أعرفه‭ ‬من‭ ‬علمه‭ ‬وفنه‭ ‬وإخلاصه،‭ ‬وخلال‭ ‬عملنا‭ ‬مع‭ ‬آخرين،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬النادرين‭ ‬الذين‭ ‬يقدمون‭ ‬لك‭ ‬مادة‭ ‬ثقافية‭ ‬تنشرها‭ ‬وأنت‭ ‬مغمض‭ ‬العينين،‭ ‬لجمالها‭ ‬وإتقانها‭ ‬وإحساسها‭ ‬التربوي‭ ‬العميق‭.‬

وكان‭ ‬أنْ‭ ‬توثَّقت‭ ‬عُرى‭ ‬الصداقة‭ ‬بيننا،‭ ‬وكثرت‭ ‬اللقاءات،‭ ‬وامتدت‭ ‬الأحاديث،‭ ‬فعرفنا‭ ‬عن‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضاً‭ ‬وآرائنا‭ ‬الكثير،‭ ‬وترافقنا‭ ‬في‭ ‬لقاءات‭ ‬وندوات‭ ‬وحوارات‭ ‬ثقافية‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬والمراكز‭ ‬الثقافية‭ ‬السورية‭.‬

بل‭ ‬إنني‭ ‬لشدة‭ ‬ثقتي‭ ‬به،‭ ‬عهدت‭ ‬إليه‭ ‬بمراجعة‭ ‬ديواني‭ ‬للأطفال‭ ‬اوطني‭ ‬قلبيب،‭ ‬الذي‭ ‬احتوى‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬في‭ ‬الأعوام‭ ‬من‭ ‬1975-2000،‭ ‬فأفادني‭ ‬بملاحظات‭ ‬سديدة،‭ ‬وقدَّم‭ ‬له‭ ‬بمقدمة‭ ‬جامعة،‭ ‬فأحسن‭ ‬وأجاد،‭ ‬وطوَّق‭ ‬عنقي‭ ‬بشهادة‭ ‬أعتزُّ‭ ‬بها‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬الاختلافات‭ ‬في‭ ‬الخيارات‭ ‬والأذواق‭ ‬والأفكار،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬النادرين‭ ‬الذين‭ ‬تختلف‭ ‬معهم‭ ‬وأنت‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬احترامك‭ ‬لشخوصهم‭ ‬وأفكارهم،‭ ‬فهو‭ ‬واسع‭ ‬الصدر،‭ ‬شديد‭ ‬الدماثة‭ ‬والمجاملة،‭ ‬مرهف‭ ‬الذوق‭ ‬والأناقة،‭ ‬حاضر‭ ‬النكتة،‭ ‬عبارته‭ ‬الشفوية‭ ‬جميلة‭ ‬تنساب‭ ‬بعامية‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الفصحى‭.‬

 

إعلامي‭ ‬بارز

كان‭ ‬ياسر‭ ‬المالح‭ ‬يؤمن‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬عملي‭ ‬ومؤثر،‭ ‬لهذا‭ ‬ركَّز‭ ‬نشاطه‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الإذاعي‭ ‬والتلفزيوني،‭ ‬فقد‭ ‬أكد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬هاتين‭ ‬الوسيلتين‭ ‬تتيحان‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الملايين،‭ ‬بينما‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يتيح‭ ‬الوصول‭ ‬إلا‭ ‬لنخبة‭ ‬قليلة‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬آلاف‭ ‬عدة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬منعه‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بإصدار‭ ‬نتاجه‭ ‬للأطفال‭ ‬في‭ ‬كتب،‭ ‬ولعلي‭ ‬أضيف‭ ‬أن‭ ‬هاتين‭ ‬الوسيلتين‭ ‬تحققان‭ ‬الشهرة‭ ‬الواسعة‭ ‬أيضاً،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬المردود‭ ‬المادي‭ ‬الذي‭ ‬يفوق‭ ‬بعشرات‭ ‬المرات‭ ‬الكتب‭ ‬المطبوعة،‭ ‬ولم‭ ‬يُصدِر‭ ‬للأطفال‭ ‬سوى‭ ‬ديوان‭ ‬يتيم‭ ‬متأخر‭ ‬هو‭ ‬االطفل‭ ‬يغني‭ ‬كلماتيب‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬عن‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬السورية‭.‬

عرف‭ ‬جمهور‭ ‬التلفزيون‭ ‬قبل‭ ‬الفضائيات‭ ‬برنامج‭ ‬اأبجد‭ ‬هوزب،‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬حضوراً‭ ‬واسعاً‭ ‬لكاتبنا،‭ ‬وكان‭ ‬برنامجاً‭ ‬لغوياً‭ ‬ثقافياً‭ ‬منوعاً،‭ ‬مازال‭ ‬يسكن‭ ‬ذاكرة‭ ‬السوريين‭ ‬الذين‭ ‬تابعوه‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات،‭ ‬ومن‭ ‬المصادفات‭ ‬الغريبة‭ ‬أن‭ ‬المرحوم‭ ‬المالح‭ ‬كتب‭ ‬وقدم‭ ‬بصوته‭ ‬قبل‭ ‬وفاته‭ ‬برنامجاً‭ ‬إذاعياً‭ ‬لافتاً،‭ ‬موضوعه‭ ‬اللغة‭ ‬باسم‭ ‬ادنيا‭ ‬الكلامب،‭ ‬فكان‭ ‬نموذجاً‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬معدٍّ‭ ‬معاصر‭ ‬متجدِّد‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬المعلومة‭ ‬اللغوية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬والفائدة‭ ‬معاً‭. ‬

وله‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المسلسلات‭ ‬والبرامج‭ ‬الإذاعية‭ ‬والتلفزيونية‭ ‬والمساهمات‭ ‬الصحفية،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬سورية،‭ ‬والكويت‭ ‬التي‭ ‬عمل‭ ‬فيها‭ ‬مدرساً‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1959‭ ‬و1964،‭ ‬ثم‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1977‭ ‬و1990‭ ‬في‭ ‬امؤسسة‭ ‬الإنتاج‭ ‬البرامجي‭ ‬المشترك‭ ‬لدول‭ ‬الخليج‭-‬الكويتب‭.‬

 

البداية‭ ‬مع‭ ‬شعر‭ ‬الأطفال

قدم‭ ‬المالح‭ ‬عشرات‭ ‬القصائد‭ ‬لأغانٍ‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬اافتح‭ ‬يا‭ ‬سمسمب‭ ‬الذي‭ ‬انطلق‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الفقرات‭ ‬التربوية‭ ‬المنوعة،‭ ‬والحوارات‭ ‬التمثيلية‭ ‬القصيرة،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬نجاح‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬عربياً،‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬قدرات‭ ‬المالح‭ ‬الشخصية،‭ ‬ومهارته‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬فريق‭ ‬عمل‭ ‬مميز،‭ ‬ما‭ ‬ضرب‭ ‬مثلاً‭ ‬عملياً‭ ‬على‭ ‬القدرات‭ ‬العربية‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬توافر‭ ‬لها‭ ‬أهم‭ ‬ثلاثة‭ ‬عوامل‭: ‬التمويل‭ ‬والإدارة‭ ‬والتخصُّص،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬نادراً‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭.‬

هذا‭ ‬النشاط‭ ‬التلفزيونيُّ‭ ‬المتنوِّع‭ ‬جعل‭ ‬الكثيرين‭ ‬لا‭ ‬ينتبهون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ياسر‭ ‬المالح‭ ‬شاعر‭ ‬أطفال‭ ‬من‭ ‬المرتبة‭ ‬الأولى،‭ ‬لما‭ ‬يمتلكه‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬سليمة‭ ‬وحب‭ ‬للموسيقى،‭ ‬ومعرفة‭ ‬تربوية،‭ ‬وروح‭ ‬مرحة،‭ ‬وهذا‭ ‬كله‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الشعر‭ ‬الجميل‭ ‬للأطفال‭. ‬

وراحت‭ ‬تجربته‭ ‬تنمو،‭ ‬بتحريض‭ ‬من‭ ‬الكِتاب‭ ‬المدرسيِّ‭ ‬الذي‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬تأليفه‭ ‬للمرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬مرَّتين‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬أوائل‭ ‬السبعينيات،‭ ‬لكن‭ ‬انتقاله‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‭ ‬للعمل‭ ‬مع‭ ‬امؤسسة‭ ‬الإنتاج‭ ‬البرامجي‭ ‬المشترك‭ ‬لدول‭ ‬الخليج‭-‬الكويتب‭ ‬أطلق‭ ‬العنان‭ ‬لشاعريته‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الطفل‭ ‬العربي‭. ‬

كان‭ ‬للراحل‭ ‬الكبير‭ ‬رأي‭ ‬خاص‭ ‬بالقصيدة‭ ‬التي‭ ‬يكتبها،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬مرتبطاً‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬بالصورة‭ ‬التلفازية‭ ‬وهو‭ ‬يكتب،‭ ‬فقصائده‭ ‬مكتوبة‭ ‬أساساً‭ ‬لتتحول‭ ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬متحركة‭ ‬مرافقة‭ ‬للنغم،‭ ‬لذا‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬قصيدة‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أداة‭ ‬فنية‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬مشروع‭ ‬أكبر‭ ‬هو‭ ‬تحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬أغنية‭ ‬مصورة،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬أكد‭ ‬لي‭ -‬رحمه‭ ‬الله‭- ‬أن‭ ‬من‭ ‬العبث‭ ‬جذب‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬بالكلمة‭ ‬وحدها،‭ ‬لهذا‭ ‬فهو‭ ‬يقدم‭ ‬تصوره‭ ‬لما‭ ‬كتب‭ ‬بقوله‭:‬

‭ ‬اما‭ ‬كتبته‭ ‬ليس‭ ‬شعراً‭ ‬كالشعر‭ ‬الذي‭ ‬ينشده‭ ‬الشعراء،‭ ‬لكنه‭ ‬شبيه‭ ‬به‭. ‬ما‭ ‬كتبته،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان،‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬النظم‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الشعر،‭ ‬ولاسيما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬التعليم‭ ‬هدفهب‭.‬

ثم‭ ‬يضيف‭: ‬

اما‭ ‬كتبته‭ ‬ليس‭ ‬أناشيد‭ ‬مدرسية،‭ ‬فللأناشيد‭ ‬المدرسية‭ ‬حرمتها‭ ‬وصورتها‭ ‬وإيقاعها‭ ‬المتميّز،‭ ‬وهي‭ ‬أناشيد‭ ‬جماعية،‭ ‬على‭ ‬الأغلب،‭ ‬ينشدها‭ ‬التلاميذ‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬المدرسة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬وفي‭ ‬المناسبات‭ ‬الاحتفالية‭.‬

ما‭ ‬كتبته‭ ‬هو‭ ‬أغانيُّ‭ ‬موظفة،‭ ‬لها‭ ‬أهداف‭ ‬محددة،‭ ‬تصلح‭ ‬للصورة‭ ‬التلفزيونيةب‭.‬

 

موضوعات‭ ‬غنية‭ ‬متعددة

ونظراً‭ ‬لتنوع‭ ‬الأغراض‭ ‬التربوية‭ ‬والتعليمية‭ ‬المطلوبة،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬المالح‭ ‬للأطفال‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬شؤون‭ ‬حياتهم،‭ ‬فها‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬افـي‭ ‬المَدرسَةب‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬المشهد‭ ‬العذب‭ ‬المشوِّق‭ ‬لعالمها‭:‬

رَنَّ‭ ‬الجَرَسْ

سَنَلتَقي‭ ‬في‭ ‬باحةٍ‭ ‬وَنلعَبُ

ونَختبي‭ ‬خَلفَ‭ ‬الشجَرْ

وَنختَفي‭ ‬ونَظهَرُ

لكنَّنا‭ ‬لا‭ ‬نتعَبُ

رَنَّ‭ ‬الجَرَسْ

عُدْنا‭ ‬إلى‭ ‬المُعَلِّمِ

يُحِبُّنا‭ ‬المُعَلِّمُ

يَبْتَسِمُ

يَخُطُّ‭ ‬ثُمَّ‭ ‬يَرسُمُ

فَنعْلَمُ

وإذا‭ ‬انتقل‭ ‬المالح‭ ‬إلى‭ ‬مجال‭ ‬آخر،‭ ‬نراه‭ ‬ينتقل‭ ‬ليُكْسِبَ‭ ‬الطفلَ‭ ‬وعياً‭ ‬مميزاً‭ ‬بأسرته،‭ ‬وبالشارع،‭ ‬وبالحرص‭ ‬على‭ ‬النظافة،‭ ‬وبالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬بلده‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬العربي،‭ ‬ولا‭ ‬ينسى‭ ‬الطفل‭ ‬ذا‭ ‬الاحتياج‭ ‬الخاص‭ ‬أو‭ ‬الفقير‭ ‬والمشرد،‭ ‬ويمكنني‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬الجار،‭ ‬تذكيراً‭ ‬بأهميته،‭ ‬وواجبنا‭ ‬تجاهه‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬اجارَك‭!‬ب‭:‬

جارَكْ‭ ‬جارَكْ

أَحِببْ‭ ‬جارَكْ‭!‬

فالجارُ‭ ‬سَيَحفَظُ‭ ‬أَسْرارَكْ

ومن‭ ‬الأمثالْ‭:‬

اَلْجارَ‭ ‬الجارْ

مِنْ‭ ‬قبلِ‭ ‬الدارْ

يا‭ ‬فَرَحَ‭ ‬الجارِ‭ ‬بِجيرانِهْ

فحياةُ‭ ‬المرءِ‭ ‬بإِخوانِهْ

والجميل‭ ‬أن‭ ‬المالح‭ ‬في‭ ‬حسه‭ ‬التربوي‭ ‬اليقظ،‭ ‬يُحْسِن‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬غرضه‭ ‬في‭ ‬أرق‭ ‬كلام،‭ ‬وأظرف‭ ‬أسلوب‭: ‬فلنتتبع‭ ‬كيف‭ ‬يقدم‭ ‬مادة‭ ‬لغوية‭ ‬بحتة‭ ‬للطفل،‭ ‬فيشحنها‭ ‬بعديد‭ ‬من‭ ‬الفوائد‭ ‬والظلال‭ ‬الجميلة‭.‬

‭ ‬وعن‭ ‬انحياز‭ ‬المالح‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬شديد‭ ‬الوضوح،‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬تربَّى‭ ‬على‭ ‬الموسيقى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يولد،‭ ‬وسمع‭ ‬الأنغام‭ ‬الجميلة،‭ ‬فشحذت‭ ‬ذوقه‭ ‬الإيقاعي‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬أمه،‭ ‬فمن‭ ‬المعروف‭ ‬علمياً‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬أمه‭ ‬تؤثر‭ ‬أصوات‭ ‬الخارج‭ ‬فيه،‭ ‬فكيف‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬شاعرنا‭ ‬تعزف‭ ‬على‭ ‬العود،‭ ‬وذات‭ ‬صوت‭ ‬جميل،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬متعلمة،‭ ‬وأبوها‭ ‬أول‭ ‬طبيب‭ ‬أسنان‭ ‬حديث‭ ‬في‭ ‬دمشق‭!‬

 

في‭ ‬جماليات‭ ‬الشعر

تنوعت‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬ياسر‭ ‬المالح‭ ‬في‭ ‬كتابته‭ ‬للأطفال،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬مرحلة،‭ ‬لطفل‭ ‬الروضة،‭ ‬وللطفل‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬قراءته،‭ ‬وللناشئة‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬بدأوا‭ ‬يبحثون‭ ‬ويتأملون‭ ‬ويقلقون،‭ ‬ونجح‭ ‬نجاحاً‭ ‬بارزاً‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الصياغة‭ ‬المطلوبة‭ ‬لكل‭ ‬مرحلة،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬جانبيها‭ ‬اللغوي‭ ‬والإدراكي،‭ ‬فيقول‭ ‬الشاعر‭:‬

اكنت‭ ‬أحرصَ‭ ‬ما‭ ‬أكون‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬الألفاظ‭ ‬السهلة‭ ‬والمعاني‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬مألوف‭ ‬ما‭ ‬يرى‭ ‬ويسمع‭ ‬ويمارس،‭ ‬وقدرت‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬معجم‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يوضع‭ ‬بعد‭. ‬واقتربت‭ ‬في‭ ‬مدلول‭ ‬الكلمات‭ ‬من‭ ‬المحسوس،‭ ‬وابتعدت‭ ‬عن‭ ‬المجرد‭ ‬ما‭ ‬وسعني‭ ‬ذلك،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تأسرني‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭. ‬فأتساهل‭ ‬بصياغة‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬المجردة،‭ ‬لأنها‭ ‬تثير‭ ‬الخيال‭ ‬والتساؤل،‭ ‬وتوحي‭ ‬بالمعنى‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفسيرب‭.‬

‭ ‬وسأقدم‭ ‬للقارئ‭ ‬العزيز‭ ‬نموذجاً‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬المالح‭ ‬ومهارته‭ ‬في‭ ‬توصيل‭ ‬معنى‭ ‬شائك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬سهل‭ ‬ذكي‭ ‬بارع،‭ ‬ففي‭ ‬قصيدة‭ ‬افِكْرَةب‭ ‬نواجه‭ ‬شاعرية‭ ‬حقة‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬جامد‭ ‬في‭ ‬الأصل،‭ ‬لكنه‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬اللعبة‭ ‬الشائقة‭:‬

كُلُّ‭ ‬فِكْرةْ

هي‭ ‬نُقْطَةْ

في‭ ‬البِدايَةْ

فاسْمَعوا‭ ‬مِنّي‭ ‬الحِكايَةْ‭:‬

ها‭ ‬هُنا‭ ‬أَرْسُمُ‭ ‬نُقطَةْ

هذِهِ‭ ‬في‭ ‬الحقِّ‭ ‬فِكرَةْ‭!‬

إِنَّها‭ ‬جِدُّ‭ ‬صَغيرَةْ

إِنَّما‭ ‬ليسَتْ‭ ‬مُثيرَةْ

راقبِ‭ ‬الفِكرَةَ‭ ‬تَنْمو

كُنْ‭ ‬مَعي‭:‬

حَوْلَها‭ ‬أَرسُمُ‭ ‬خَطّاً،‭ ‬دائِرَةْ

مِنْ‭ ‬مُحيطِ‭ ‬الدائرَةْ

أَرسُمُ‭ ‬الآنَ‭ ‬خُطوطاً

نَحوَ‭ ‬تِلكَ‭ ‬النقطَةِ

يا‭ ‬إِلهي‭!‬

صارتِ‭ ‬النُّقْطَةُ‭ ‬دولاباً‭ ‬صَغيراً

تِلكَ‭ ‬كانتْ‭ ‬فِكرتي

بَدَأتْ‭ ‬مِنْ‭ ‬نُقْطَةِ

فَاحْكِ‭ ‬عَنّي‭ ‬قِصّتي

لابد‭ ‬أنكم‭ ‬لاحظتم‭ ‬أمراً‭ ‬لافتاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬كله،‭ ‬فالشاعر‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬الانطلاق‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬إيقاعاته،‭ ‬ويندر‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬شكلاً‭ ‬عمودياً‭ ‬لقصائده،‭ ‬ومع‭ ‬شدة‭ ‬رهافته‭ ‬الموسيقية،‭ ‬فهو‭ ‬ينفر‭ ‬من‭ ‬التناظر‭ ‬الإيقاعي،‭ ‬ويضيق‭ ‬بالقافية‭ ‬الموحَّدة،‭ ‬ويفسر‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭:‬

ااخترت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الوحدة‭ ‬النغمية‭ ‬الإيقاعية‭ ‬للأغنية‭ ‬متصلة‭ ‬بالتفعيلة‭ ‬لا‭ ‬البيت‭ ‬ذي‭ ‬الشطرين‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬كتبت،‭ ‬فالتفعيلة‭ ‬تتيح‭ ‬لي‭ ‬قدراً‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬الصياغة‭ ‬لا‭ ‬يتيحها‭ ‬نظام‭ ‬البيتب‭.‬

 

خاتمة

ولعل‭ ‬أفضل‭ ‬ختام‭ ‬لهذه‭ ‬المقالة‭ ‬القصيرة‭ ‬عن‭ ‬المالح‭ ‬قصيدة‭ ‬شديدة‭ ‬القصر‭ ‬له،‭ ‬تلخص‭ ‬شعره‭ ‬كله‭ ‬لأطفالنا‭: ‬موسيقى‭ ‬راقصة،‭ ‬ولغة‭ ‬بسيطة،‭ ‬وصورة‭ ‬مجَنَّحة،‭ ‬وقيمة‭ ‬تربوية‭ ‬تلامس‭ ‬أعماق‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬االصَّحْراءب‭:‬

‭ ‬ما‭ ‬أَجْمَلَ‭ ‬التِّلالْ

ما‭ ‬أَجْمَلَ‭ ‬الرِّمالْ

كَأنَّها‭ ‬الحرير

من‭ ‬نَسْمَةٍ‭ ‬تَطيرْ

في‭ ‬أرضِنا‭ ‬صَحْراءْ

رِمالُها‭ ‬مَلساءْ

تُضيءُ‭ ‬بالعَرَبْ‭ .