ياسر المالح... الطفل الذي رحل

• من أبجد هوزب إلى افتح يا سمسم
ياسر المالح (1933-2013) كاتب سوري من أهم صانعي ثقافة الطفل في وطننا العربي، اجتمعت في شخصه ومواهبه جملة من المعطيات، بوَّأته هذه المكانة، فهو مدرس للغة العربية ومربٍّ، وخبير وسائل تعليمية، وعازف وباحث موسيقي، وخطاط، وممثل سابق، وإعلامي بارز، ومذيع مهم، بصوته المُميَّز، وأدائه اللغوي العذب السليم، وصحفي، وأديب وشاعر أطفال. لا شك في أن أهم صفحات حياته الغنية في ثقافة الطفل هي ارتباط اسمه الوثيق ببرنامج اافتح يا سمسمب التعليمي المشهور، الذي أنتجته امؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج-الكويتب، وكان كبير كتابه الذين كانوا بالعشرات، كما كان مدير التحرير في مجلة اافتح يا سمسمب، التي صدر منها في الكويت 60 عدداً خلال العامين 1980-1985، بعد النجاح الكاسح للمسلسل، الذي أخذ الاسم ذاته بـ360 حلقة لأطفال ما قبل المدرسة.
شخصية موسوعية
تمتاز شخصية المالح بالجدية الصارمة في العمل، والنشاط والإتقان، ومتابعة التفاصيل، والرغبة المتواصلة في التطور والتعلم، والروح الشابة المتوثبة نحو الحياة والتجديد والحرية.
عرفت الصديق المالح في عام 1977عندما كنت في مطلع شبابي، من خلال مساهمات بسيطة في البرنامج المذكور، وكان وقتها قد أقام في الكويت ليسهم في عدد من البرامج التربوية والصحية من الناحية الثقافية، فاستعان بكفاءات عراقية مرموقة، وتصادف أن كنت وقتها محرراً في ادار ثقافة الأطفالب في بغداد.
بعد ذلك بسنوات عديدة، قادني قدري عام 2003 إلى رئاسة تحرير مجلة اأسامةب، التي تصدرها وزارة الثقافة السورية للأطفال، فكان اسمه أول اسم خطر في بالي ليكون في هيئة تحرير المجلة، لما أعرفه من علمه وفنه وإخلاصه، وخلال عملنا مع آخرين، كان من النادرين الذين يقدمون لك مادة ثقافية تنشرها وأنت مغمض العينين، لجمالها وإتقانها وإحساسها التربوي العميق.
وكان أنْ توثَّقت عُرى الصداقة بيننا، وكثرت اللقاءات، وامتدت الأحاديث، فعرفنا عن بعضنا بعضاً وآرائنا الكثير، وترافقنا في لقاءات وندوات وحوارات ثقافية في الجامعة والمراكز الثقافية السورية.
بل إنني لشدة ثقتي به، عهدت إليه بمراجعة ديواني للأطفال اوطني قلبيب، الذي احتوى أكثر ما كتبته في الأعوام من 1975-2000، فأفادني بملاحظات سديدة، وقدَّم له بمقدمة جامعة، فأحسن وأجاد، وطوَّق عنقي بشهادة أعتزُّ بها.
وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات في الخيارات والأذواق والأفكار، فقد كان واحداً من النادرين الذين تختلف معهم وأنت في ذروة احترامك لشخوصهم وأفكارهم، فهو واسع الصدر، شديد الدماثة والمجاملة، مرهف الذوق والأناقة، حاضر النكتة، عبارته الشفوية جميلة تنساب بعامية أقرب إلى الفصحى.
إعلامي بارز
كان ياسر المالح يؤمن بما هو عملي ومؤثر، لهذا ركَّز نشاطه على العمل الإذاعي والتلفزيوني، فقد أكد لي أن هاتين الوسيلتين تتيحان الوصول إلى الملايين، بينما الكتاب لا يتيح الوصول إلا لنخبة قليلة لا تزيد على آلاف عدة، وهذا ما منعه من الاهتمام بإصدار نتاجه للأطفال في كتب، ولعلي أضيف أن هاتين الوسيلتين تحققان الشهرة الواسعة أيضاً، ما عدا المردود المادي الذي يفوق بعشرات المرات الكتب المطبوعة، ولم يُصدِر للأطفال سوى ديوان يتيم متأخر هو االطفل يغني كلماتيب عام 2010 عن وزارة الثقافة السورية.
عرف جمهور التلفزيون قبل الفضائيات برنامج اأبجد هوزب، الذي حقق حضوراً واسعاً لكاتبنا، وكان برنامجاً لغوياً ثقافياً منوعاً، مازال يسكن ذاكرة السوريين الذين تابعوه في أواخر الستينيات، ومن المصادفات الغريبة أن المرحوم المالح كتب وقدم بصوته قبل وفاته برنامجاً إذاعياً لافتاً، موضوعه اللغة باسم ادنيا الكلامب، فكان نموذجاً على قدرة معدٍّ معاصر متجدِّد على تقديم المعلومة اللغوية في إطار من المتعة والفائدة معاً.
وله عديد من المسلسلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والمساهمات الصحفية، خاصة في سورية، والكويت التي عمل فيها مدرساً بين عامي 1959 و1964، ثم بين عامي 1977 و1990 في امؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج-الكويتب.
البداية مع شعر الأطفال
قدم المالح عشرات القصائد لأغانٍ في برنامج اافتح يا سمسمب الذي انطلق عام 1977، إضافة إلى الفقرات التربوية المنوعة، والحوارات التمثيلية القصيرة، وقد كان نجاح هذا البرنامج عربياً، دليلاً على قدرات المالح الشخصية، ومهارته في التعامل مع فريق عمل مميز، ما ضرب مثلاً عملياً على القدرات العربية إذا ما توافر لها أهم ثلاثة عوامل: التمويل والإدارة والتخصُّص، وهو الأمر الذي نادراً ما يحصل في الوطن العربي.
هذا النشاط التلفزيونيُّ المتنوِّع جعل الكثيرين لا ينتبهون إلى أن ياسر المالح شاعر أطفال من المرتبة الأولى، لما يمتلكه من لغة سليمة وحب للموسيقى، ومعرفة تربوية، وروح مرحة، وهذا كله من خصائص الشعر الجميل للأطفال.
وراحت تجربته تنمو، بتحريض من الكِتاب المدرسيِّ الذي شارك في تأليفه للمرحلة الابتدائية مرَّتين في سورية أوائل السبعينيات، لكن انتقاله إلى الكويت للعمل مع امؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج-الكويتب أطلق العنان لشاعريته في خدمة الطفل العربي.
كان للراحل الكبير رأي خاص بالقصيدة التي يكتبها، فقد ظل مرتبطاً على الدوام بالصورة التلفازية وهو يكتب، فقصائده مكتوبة أساساً لتتحول إلى صور متحركة مرافقة للنغم، لذا فهو لا يكتب قصيدة قائمة بذاتها، بل هي أداة فنية في خدمة مشروع أكبر هو تحوّلها إلى أغنية مصورة، وكثيراً ما أكد لي -رحمه الله- أن من العبث جذب الطفل في هذه الأيام بالكلمة وحدها، لهذا فهو يقدم تصوره لما كتب بقوله:
اما كتبته ليس شعراً كالشعر الذي ينشده الشعراء، لكنه شبيه به. ما كتبته، هو في معظم الأحيان، أقرب إلى النظم منه إلى الشعر، ولاسيما إذا كان التعليم هدفهب.
ثم يضيف:
اما كتبته ليس أناشيد مدرسية، فللأناشيد المدرسية حرمتها وصورتها وإيقاعها المتميّز، وهي أناشيد جماعية، على الأغلب، ينشدها التلاميذ في ساحة المدرسة، أو على المسرح، وفي المناسبات الاحتفالية.
ما كتبته هو أغانيُّ موظفة، لها أهداف محددة، تصلح للصورة التلفزيونيةب.
موضوعات غنية متعددة
ونظراً لتنوع الأغراض التربوية والتعليمية المطلوبة، فقد كتب المالح للأطفال في شتى شؤون حياتهم، فها هو في قصيدة افـي المَدرسَةب يقدم لنا المشهد العذب المشوِّق لعالمها:
رَنَّ الجَرَسْ
سَنَلتَقي في باحةٍ وَنلعَبُ
ونَختبي خَلفَ الشجَرْ
وَنختَفي ونَظهَرُ
لكنَّنا لا نتعَبُ
رَنَّ الجَرَسْ
عُدْنا إلى المُعَلِّمِ
يُحِبُّنا المُعَلِّمُ
يَبْتَسِمُ
يَخُطُّ ثُمَّ يَرسُمُ
فَنعْلَمُ
وإذا انتقل المالح إلى مجال آخر، نراه ينتقل ليُكْسِبَ الطفلَ وعياً مميزاً بأسرته، وبالشارع، وبالحرص على النظافة، وبالانتماء إلى بلده ثم إلى وطنه العربي، ولا ينسى الطفل ذا الاحتياج الخاص أو الفقير والمشرد، ويمكنني أن أقدم ما كتبه عن الجار، تذكيراً بأهميته، وواجبنا تجاهه في قصيدة اجارَك!ب:
جارَكْ جارَكْ
أَحِببْ جارَكْ!
فالجارُ سَيَحفَظُ أَسْرارَكْ
ومن الأمثالْ:
اَلْجارَ الجارْ
مِنْ قبلِ الدارْ
يا فَرَحَ الجارِ بِجيرانِهْ
فحياةُ المرءِ بإِخوانِهْ
والجميل أن المالح في حسه التربوي اليقظ، يُحْسِن أن يقدم غرضه في أرق كلام، وأظرف أسلوب: فلنتتبع كيف يقدم مادة لغوية بحتة للطفل، فيشحنها بعديد من الفوائد والظلال الجميلة.
وعن انحياز المالح إلى الفن شديد الوضوح، قال لي إنه تربَّى على الموسيقى قبل أن يولد، وسمع الأنغام الجميلة، فشحذت ذوقه الإيقاعي وهو في بطن أمه، فمن المعروف علمياً الآن أن الطفل في بطن أمه تؤثر أصوات الخارج فيه، فكيف وقد كانت أم شاعرنا تعزف على العود، وذات صوت جميل، فهي من أسرة متعلمة، وأبوها أول طبيب أسنان حديث في دمشق!
في جماليات الشعر
تنوعت تجربة الشاعر ياسر المالح في كتابته للأطفال، فقد كتب لأكثر من مرحلة، لطفل الروضة، وللطفل في بداية قراءته، وللناشئة من الذين بدأوا يبحثون ويتأملون ويقلقون، ونجح نجاحاً بارزاً في معرفة الصياغة المطلوبة لكل مرحلة، خاصة في جانبيها اللغوي والإدراكي، فيقول الشاعر:
اكنت أحرصَ ما أكون على اختيار الألفاظ السهلة والمعاني القريبة من مألوف ما يرى ويسمع ويمارس، وقدرت أنها من معجم الطفل الذي لم يوضع بعد. واقتربت في مدلول الكلمات من المحسوس، وابتعدت عن المجرد ما وسعني ذلك، إلا أن تأسرني الصورة الشعرية. فأتساهل بصياغة بعض الكلمات المجردة، لأنها تثير الخيال والتساؤل، وتوحي بالمعنى من دون تفسيرب.
وسأقدم للقارئ العزيز نموذجاً على قدرة المالح ومهارته في توصيل معنى شائك في إطار سهل ذكي بارع، ففي قصيدة افِكْرَةب نواجه شاعرية حقة في موضوع جامد في الأصل، لكنه تحول إلى ما يشبه اللعبة الشائقة:
كُلُّ فِكْرةْ
هي نُقْطَةْ
في البِدايَةْ
فاسْمَعوا مِنّي الحِكايَةْ:
ها هُنا أَرْسُمُ نُقطَةْ
هذِهِ في الحقِّ فِكرَةْ!
إِنَّها جِدُّ صَغيرَةْ
إِنَّما ليسَتْ مُثيرَةْ
راقبِ الفِكرَةَ تَنْمو
كُنْ مَعي:
حَوْلَها أَرسُمُ خَطّاً، دائِرَةْ
مِنْ مُحيطِ الدائرَةْ
أَرسُمُ الآنَ خُطوطاً
نَحوَ تِلكَ النقطَةِ
يا إِلهي!
صارتِ النُّقْطَةُ دولاباً صَغيراً
تِلكَ كانتْ فِكرتي
بَدَأتْ مِنْ نُقْطَةِ
فَاحْكِ عَنّي قِصّتي
لابد أنكم لاحظتم أمراً لافتاً في هذا الشعر كله، فالشاعر يميل إلى الانطلاق في اختيار إيقاعاته، ويندر أن يختار شكلاً عمودياً لقصائده، ومع شدة رهافته الموسيقية، فهو ينفر من التناظر الإيقاعي، ويضيق بالقافية الموحَّدة، ويفسر ذلك بقوله:
ااخترت أن تكون الوحدة النغمية الإيقاعية للأغنية متصلة بالتفعيلة لا البيت ذي الشطرين في معظم ما كتبت، فالتفعيلة تتيح لي قدراً من الحرية في الصياغة لا يتيحها نظام البيتب.
خاتمة
ولعل أفضل ختام لهذه المقالة القصيرة عن المالح قصيدة شديدة القصر له، تلخص شعره كله لأطفالنا: موسيقى راقصة، ولغة بسيطة، وصورة مجَنَّحة، وقيمة تربوية تلامس أعماق الطفل في قصيدة االصَّحْراءب:
ما أَجْمَلَ التِّلالْ
ما أَجْمَلَ الرِّمالْ
كَأنَّها الحرير
من نَسْمَةٍ تَطيرْ
في أرضِنا صَحْراءْ
رِمالُها مَلساءْ
تُضيءُ بالعَرَبْ .