اتجاهات ووسائل التنشئة في الأسرة

هناك إجماع إنساني تاريخي على أن التربية الجيدة هي مفتاح كل نهضة وتنمية، وفي العصر الحديث زاد الاقتناع بأن مصير المجتمعات الحالية يتوقف على طريقة تربيتها لناشئتها. وإذا كانت كثير من المجتمعات التي راهنت على التربية ووسائل التنشئة، بتجديدها وتطوير أساليبها وتصحيح مساراتها قد أفلحت في جني أفضل الثمار، فإن مجتمعاتنا مازالت تعاني انعكاسات سلبية على الناشئة من جراء تقاليد تربوية بالية وقواعد متوارثة وممارسات خاطئة. فتربيتنا أصبحت تمثل إحدى أهم وأخطر الأزمات المجتمعية التي نعانيها، بدل أن تكون القاطرة التي تقود مجتمعنا في سكة النمو والتطور. ويتجلى ذلك بصورة قوية وصادقة في تربيتنا المنزلية وطرق تنشئتنا لأبنائنا وبناتنا، والتي تؤثر بعمق في شخصيات ناشئتنا.
في المحيط المنزلي، وفي فترة الطفولة خاصة، تتشكل شخصيات الأفراد وتتحدد سماتها، وتتكون أغلب الاتجاهات النفسية التي تهيمن على الأنا أو الذات الشعورية للفرد، لذلك يعتبر المحيط المنزلي مؤسسة تربوية ذات أهمية كبيرة لا تضاهى، تتأثر تنشئة الأفراد الاجتماعية بمكوناته من أشخاص وظروف اجتماعية واقتصادية وقيم واتجاهات تنشئة وغيرها، لأن كل الخبرات المبكرة والصدمات الأليمة في الطفولة تؤثر بعمق على الجوانب الانفعالية والجماعية في شخصيات الأفراد الراشدين.
لهذا نجد أكثر اضطرابات التوافق الاجتماعي ومشكلات التكيف المدرسي في الطفولة والمراهقة والرشد، ذات علاقة وثيقة بالاضطرابات في عملية التنشئة التي خضع لها الفرد في طفولته، حين كان رضيعاً فطفلاً، يتحسس أولى خطواته في التوافق مع البيئة المحيطة المباشرة.
اتجاهات التنشئة
التنشئة الاجتماعية هي التأثير الذي يقع على الطفل من بيئته الاجتماعية لتحويله إلى كائن اجتماعي ولإعداده لثقافته التي يعيش فيها، ومن خلال هذه العملية، يتمثل الناشئ عناصر الثقافة، وتنتقل من خلالها توقعات الجماعة إلى الأفراد عن طريق اللغة والحركات والإشارات. وهكذا تعمل التنشئة على تحويل الكائن الحي إلى شخصية والشخصية إلى فرد اجتماعي يوجه سلوكه الوجهة التي تتفق مع توقعات الآخرين، وتتضمن التنشئة أسلوب تنمية الشخصية وتنمية القدرات والمعايير والأحكام والاتجاهات والدوافع التي في مجموعها تكون الشخصية.
إن التنشئة الاجتماعية التي تتم في المحيط المنزلي، هي مجموعة من الممارسات والتفاعلات والعلاقات التي تتوخى تشريب الطفل القيم، وتعليمه قواعد السلوك وتدريبه على عادات المجتمع، ويتم ذلك بالتلقين بأشكال شتى، مباشرة أو بالتلميح والملاحظة، أو بواسطة التأثير الثقافي.
هذه التنشئة هي تربية وتعليم، أساسها التفاعل الاجتماعي بين الطفل والمحيطين به، والغاية منها تيسير اندماج الطفل في الحياة الاجتماعية بتعليمه أنماط السلوك المناسب لدوره الاجتماعي المهيأ له، حتى يستطيع أن يؤدي وظائفه الاجتماعية.
كما تعلمه المعايير وتشرِّبه القيم التي تبصره بحدود أدواره داخل مجتمعه، فيتعلم كيف يساير جماعته ويتوحد مع قيمها، وكيف ينجح في تحقيق التكيف المنشود، ومرجعــه فــــي كــــل ذلك ما اكتسبه بالملاحظة أو بطرق مباشرة مستبصرة. وبفضل هذه العملية المعقدة، يتحول الفرد من مجرد كائن حي إلى كائن اجتماعي، باستغلال إمكاناته الذاتية المتنوعة، فيصبح قادراً على تنظيم استجاباته السلوكية، مسترشداً في ذلك بالمعايير والقيم السائدة في محيطه وبخبراته الشخصية المؤلمة أو السارة، التي ترتبت عن العلاقات التي كونها مع محيطه.
اتجاهات التنشئة
كل مربٍ يتمسك في أدائه وظيفته التربوية ومعاملته لأبنائه ومن في حكمهم بأسلوب معين يسمى اتجاه التنشئة. فاتجاهات التنشـــئة تعني ما يراه الآباء ويتمسكون به من أسالــيب في معاملة الأطفال في مواقف حياتهم المختلفة، وهي التي تحكم طرق تربيتهم لأبنائهم وعلاقاتهم بهم.
ولتيسير الفهم نعرض الاتجاهات الوالدية معرَّفة بإيجاز، ومرتَّبة حسب شيوعها الملاحظ في الأسر العربية:
اتجاه الإهمال: ويعني نقص الرعاية الوالدية للطفل، ونقص العناية بحاجاته وبتوجيهه وتربيته، فلا يشجع على السلوك المرغوب ولا ينبه إن أتى سلوكاً سيئا.
اتجاه التسلط والقسوة: أي فرض الرأي على الطفل وإلزامه بالخضوع الكامل، ولا سبيل إلى التحكم فيه إلا بالقسوة، باستعمال وسائل العقاب البدني والنفسي.
اتجاه التدليل: ومعناه منح الطفل مزيداً من الحنان فوق حاجته، وتلبية رغباته كلها بالشكل الذي يريد، وعدم منعه مما يرغب فيه من أشياء وسلوك وعادات وعلاقات، وتوفير ما يساعده على تحقيق رغباته من دون إبطاء.
اتجاه الحماية الزائدة: وهو قيام الوالدين نيابة عن الطفل بالواجبات والأعمال التي يمكن أن يقوم بها، وذلك حرصاً من الوالدين على حماية الطفل من أي ضرر أو خطر متوقع أو ألم مهما كانت درجته وأهميته.
اتجاه التذبذب: حين لا يستقر الوالدان على اتجاه معين، ولا تثبت لديهما معايير السلوك الجيد أو القبيح، بحيث قد يعاقب الطفل على سلوك من المحتمل أن يكون قد نال عنه ثوابا، أو لم يعاقب عليه في وقت سابق.
اتجاه السواء: يتمثل في اتباع الأساليب التي تتفق مع الأسس التربوية النفسية في معاملة الطفل، والبعد عن الأساليب التي قد تُلحق به ضرراً نفسياً أو بدنياً.
وسائل التنشئة
هي الأدوات التي يستعين بها الوالدان في تعاملهما مع الأطفال وتنشئتهم وضبطهم أو تعديل سلوكهم.
العقاب البدني: يحتل العقاب البدني المقام الأول من بين وسائل التنشئة، ويتمثل في الضرب باليد أو العصا أو الجلد بالحزام أو اللطم على الوجه، والمواقف التي تدفع الوالدين إلى اللجوء إلى العقاب البدني كثيرة، منها:
- الخلفية التربوية لهما، فقد يكون الآباء والأمهات قد خضعوا في طفولتهم للعقاب البدني كوسيلة تنشيئية، وقد خلف هذا العقاب في أنفسهم خبرة مؤلمة ترسبت في أعماق ذواتهم، ونتج عن ذلك خوف لا شعوري منه، وتعظيم لأهميته وفائدته، واعتبر الوسيلة التي لا بديل عنها في تنشئة الصغار.
- الفشل في استعمال وسائل أخرى، كالتهديد أو المكافأة للسيطرة على سلوك الصغار.
- الحدة في طباع الوالدين، لذلك نجد العقاب البدني قد يكون متفاوتا بتفاوت الحالات الانفعالية للوالدين، فبعض الوالدين يرفض كل معارضة لقراراته وكل مناقشة أو حوار مع الطفل، وسرعة الغضب تدفعه لضرب الطفل عند ظهور بوادر أي رد فعل من طرف الطفل.
- افتقاد الوالدين الرضا والاطمئنان النفسي بسبب التوتر الناتج عن مشكلات العمل والعلاقات الاجتماعية العامة.
- سوء العلاقات بين الوالدين يجعلهما يجدان في ضرب الطفل متنفساً عن معاناتهما وتفريغاً لمشاعر الإحباط التي يعانيانها.
التهديد: أشكال التهديد كثيرة، منها: الوعيد بالعقاب البدني المرتقب؛ أو بالعقاب الغيبي، واستجلاب المصائب والسوء للطفل بالدعوات (دعوة الشر)؛ كما يقع التخويف بالحيوانات الخرافية والكائنات الغيبية، وإيهام الطفل باستحضارها, مثل االغول والجن والعفاريت أو غيرهاب.
يلجأ الوالدان إلى التهديد لإثارة المخاوف لديه، وكفه عن الاستجابات السلوكية المزعجة، وهذا التهديد يخلف آثاراً سيئة في نفسية الطفل، لا تقل خطورة عن العقاب البدني.
الحجز في الغرفة والمنع من الحرية: يلجأ بعض الوالدين إلى ذلك أحيانا، لمنع الطفل من نشاطه الزائد الذي يسبب قلقاً لهما، أو يثير مشكلات مع الجيران، أو لتأديبه على سلوك صدر عنه.
وغالباً ما يكون الحجز في الغرفة ذ المظلمة أحياناً ذ مصحوباً بالتهديد أو التخويف، كما يكون المنع من الحركة بتهديد الطفل من الشر الذي ستنزله به العفاريت أو الشياطين، إذا ما استمر في سلوكه وعدم طاعته لوالديه، ويترتب على ذلك قلق مزمن يصعب علاجه، قد يلازم الطفل في مراهقته وشبابه، ويبقى مؤثراً حتى مراحل متقدمة من عمره .