الشعر الجاهلي بين طه حسين ومارغليوث
صادف الكتاب الأشهر لعميد الأدب العربي طه حسين، والمعنون بـ «في الشعر الجاهلي»، جدلاً واسعاً في الثقافة العربية المعاصرة، ولم يقتصر هذا الجدل على فحواه ومعناه، وإنما امتد ليسائل عن أصوله ومصادره، فإذا كان مؤلفه يقول عن الشعر الجاهلي إنه منحول كتبه اللاحقون، فإن من النقاد من يعد ذلك الكتاب - كذلك - منحولاً من كتاب للمستشرق الإنجليزي ديفيد صموئيل مارغليوث.
هذه القضية الشائكة كرست لها حياتها الباحثة التونسية بسمة حجام بن عثمان، وقد جعلتها مادة كتابها الذي بين أيدينا، وإن كانت قد رحلت قبل أن تراه منشوراً، فقد صدر مؤلفها برعاية زوجها وشقيقها، اللذين أهديا نسخته لمجلة العربي، وهم - ثلاثتهم - كما جاء في الرسالة المرفقة بالكتاب: امن القراء الأوفياء لمجلة العربي، وندرك قيمة ما يُكتب فيها من أعمال جيدة ومقالات ممتازة ودراسات ثرية للتراث الفكري العربي منفتحة على التراث الفكري والأدبي العالميب.
والحق أن هذا الكتاب يدخل في صميم ما أشار إليه زوجها الدكتور يوسف بن عثمان وشقيقها طاهر الحجام، فقد شرعت الكاتبة الباب واسعاً لدراسة مقارنة، ومتعمقة، أدبية وتاريخية، فلم تقف عند حد القضايا التي أثيرت، وإنـما وضعت أمام القارئ - بحياد أكاديمي - الأمر برمته، مستقصية كل شيء يتصل بتاريخ العلَمين في دراسة الشعر الجاهلي؛ طه حسين ومارغليوث، في بابين، تناول الأول في فصليْه قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، وتعرض الثاني في فصلين آخرين إلى مظاهر الاختلاف والائتلاف بين المدونتين، مدونة طه حسين في كتابه، ومدونة مارغليوث في مؤلفه.
أثار طه حسين بكتابه، منذ صدوره سنة 1926، ردود أفعال متباينة جعلت النقاد يسمونه الكتاب االضجةب نظراً إلى أطروحة صاحبه الجريئة، وهي الشك في صحة الشعر الجاهلي واعتباره شعراً نُظم بعد ظهور الإسلام.
وما لفت انتباه الباحثة في كثير من الدراسات النقدية اقتران مضمون هذا الكتاب بمقال كتبه المستشرق الإنجليزي دافيد صموئيل مارغليوث بعنوان: اأصول الشعر العربيب (The Origins of Arabic Poetry)، نُشر سنة 1925 في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية (The Journal of the Royal Asiatic Society).
فبعض النقاد يؤكدون أن طه حسين سطا على هذا المقال وقدمه في الجامعة في شكل محاضرات، ويدفع آخرون هذه التهمة عنه، مبرزين أوجه الاختلاف بين ما ورد في مقال مارغليوث وما جاء في كتاب طه حسين.
مؤلفة الكتاب هي بسمة حجّام بن عثمان
(1968 / 2014) التي نالت شهادة الأستاذية في اللغة والآداب والحضارة العربية من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس سنة 1992 وشهادة الماجستير في الاختصاص نفسه سنة 2009، وقد نشرت كتابها االأطلسية للنشرب، في تونس، ديسمبر 2014.
وقد تواتر البحث في مسألة الانتحال في الشعر العربي القديم ومواقف المحدثين من الرواة والقصاصين الذين يرجع إليهم الفضل في حفظ ما تبقى من الشعر العربي القديم والإسهام في حركة جمعه وتدوينه بما لهذه المسألة من أبعاد عقدية وسياسية وأيديولوجية ظهر صداها بوضوح في ما كتب من مؤلفات في العصر الحديث، فقد أولى الدارسون عرباً ومستشرقين أهمية كبرى لمصادر هذا الشعر وجذوره، ولكيفية انتشاره وتدوينه، فلم يتعرضوا - في ما كتبوا - لأغراضه ومضامينه إلا بالقدر الذي يكشف عن مدى تصويره للفترة التي ظهر فيها، ولم يتناولوا أشكاله إلا بالقدر الذي يشي بطرائق الشعراء في التعبير وتشكيل المعاني.
ولا شـيء يصل العصور الإسلامية بالعصر الجاهلي سوى هذا الشعر المنسوب إلى الجاهليين، ومن غير الطبيعي ألا يكون للعرب تاريخ قبل ظهور الإسلام، بكل ما يتضمنه لفظ تاريخ من أحداث ووقائع، ومساجلات ومنافرات، وانتصارات وانكشافات. وقد كان الشعر العربي خير حافظ لها، وخير معين على تحسس حياة العرب في الجاهلية والوقوف على طرائق عيشهم وأنواع المعاملات في ما بينهم، ووسائل التعبير عندهم، لذا يعتبر الشعر الجاهلي أقدم أثر عن الفترة الجاهلية، وهو الأصل الذي مهد لظهور الشعر العربي عموماً في سائر عصوره، كما أنه المرجع الذي يعتمد لمعرفة جيد الشعر من رديئه، فقد اكتملت به الأغراض والمواضيع وتدعمت به البنى والأوزان.
وأسئلة الباحثة الأساسية هي: كيف وصل إلينا هذا الشعر؟ وهل كانت المحافظة عليه الرواية أم الكتابة؟ وهل عرف العرب الكتابة في الجاهلية؟ فإن كان ذلك كذلك، فلم دوّن الشعر وأهمل النثر؟ وهل دوّن كل الشعر حقاً؟ أم دوّن بعضه وأسقط كثيره؟ وما الاعتبارات في تدوين البعض وإسقاط قسم كبير منه؟
وإذا أقررنا بتعذر وجود كتابة عند العرب في العصر الجاهلي تسمح بتقييد الشعر كله، وبأن التدوين قد تم في القرن الثاني للهجرة، كما تذهب إلى ذلك أغلب المصادر والمراجع، فإن وسيلة الاحتفاظ به الوحيدة كانت الرواية الشفوية بكل ما في الرواية من تسلسل وانقطاع، وإسناد وغير إسناد، وحفظ ونسيان، وصدق وكذب.
فهل استطاع الرواة حفظ آلاف الأبيات من الشعر ومئات القصائد والمقطوعات لينقلوها سماعاً من عصر إلى عصر لتدون في القرن الثاني مثلما سمعت أول مرة، ومثلما قالها أصحابها في الجاهلية؟ وهل كان الرواة - وفي مقدمتهم حماد الراوية وخلف الأحمر - على قدر سواء من الحفظ والعلم والثقة؟ هذه التساؤلات وغيرها كثير تناولها لماماً المستشرق مارغليوث في أكثر من موضع من مؤلفاته، التي كانت آخرها كتابه الموسوم
بـ اأصول الشعر العربي (The origine of arabic poetry) (1925).
وبعد سنة من ظهور كتاب مارغليوث أخرج طه حسين كتابه الشهير افي الشعر الجاهليب (1926)، وقد أعلن هذا وذاك في غير تردد أن ما يسمى شعراً جاهلياً إنما هو شعر منتحل من وضع مجموعة من الرواة في القرنين الأول والثاني من الهجرة، وأكد طه حسين رأي سابقه فقال: اإن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليينب.
ودافيد صمويل مارغليوث (1858 - 1940)، هو مستشرق بريطاني متخرج من جامعة أكسفورد، اعتنى بالتراث العربي بعد أن أتقن العربية وأصبح مدرساً لها، ثم رأس تحرير مجلة الجمعية الملكية الآسيوية ونشر فيها بحوثه، تردد كثيراً على البلدان الشرقية، وانتخب عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، والمجمع اللغوي البريطاني، والجمعية الشرقية البريطانية وغير ذلك. وله آراء في الشعر العربي القديم، حيث انشغل بقضية الشك في هذا الرصيد الأدبي طوال حياته العملية.
كتب مارغليوث هذا المقال في أبريل سنة 1925، ونشر في شهر يوليو من السنة نفسها، وترجم أربع مرات، وقد آثرت المؤلفة اعتماد الترجمة الأخيرة، انظراً إلى جدتها وإلى استفادة المترجم إبراهيم عوض من الترجمات الثلاث السابقةب.
انطلق مارغليوث من تأكيد أن القرآن الكريم ينبذ الشعراء لصفاتهم التي تتنافى والإسلام مثل المبالغة والكذب والكهانة، وتعتبر هذه الفكرة دعامة أسّس عليها فكرته المتمثلة في أن المسلمين أنكروا الشعر الجاهلي ولم يعتنوا بتدوينه وحفظه، لأنه كان يُتناقل شفوياً، لذلك ضاع هذا الشعر وما بقي في كتب الأدب القديم ليس إلا أصوات الرواة المنتحلين الذين ينظمون القصائد الطوال وينسبونها إلى فحول الشعراء، واستند مارغليوث إلى حجج كثيرة لإثبات الانتحال في الشعر الجاهلي، سمّاها البراهين الداخلية والبراهين الخارجية.
ويبدو أن مارغليوث كان متأثراً في نظرية الشك هذه بآراء ياقوت الحموي في الانتحال، المبثوثة في كتاب اإرشاد الأريبب وهو الكتاب الذي اعتنى بتحقيقه بين سنتي 1907 و1926، أي تقريباً في الفترة التي كتب فيها هذا المقال، إذ استغلّ ما ورد في الكتاب من التشكيك في أشعار الجاهليين والطّعن في مصداقية بعض الرّواة ليُنكر صحّتها كلّها، وذهب في ذلك كلّ مذهب.
وقد رد على آراء مارغليوث كثيرون، وأبرز الذين تكفّلوا بذلك تشارلز جيمس ليال في دائرة معارف الدّين والأخلاق الصادرة باللغة الإنجليزية في مقدّمة الجزء الثاني من كتاب المفضّليات، المكتوب أيضاً بالإنجليزية، وجاء الرّد ملخّصاً في كتاب موقف النقد الأدبي من الشّعر الجاهلي لمحمّد رجب البيّومي.
وأهمّ مواطن الخطأ في نظرية مارغليوث، في نظر جيمس ليال، الأطروحة نفسها المتمثّلة في إنكاره صحّة الشعر الجاهلي، فقد عبّر ليال عن رفضه لهذه الفكرة في قوله: اومن إفراط الخيال أن تظنّ أن معظم القصائد المنسوبة إليهم منحولة في عصر متأخر، ومن تأليف أدباء عاشوا تحت ظروف مغايرة تمام المغايرة، وفي عالم شديد الاختلاف عن أيّام الحياة البدويّة في الصحراء العربيةب.
أما طه حسين الذي التحق بالأزهر سنة 1902 ثم درس بالجامعة المصرية في عام 1908 وتخرّج فيها حاصلاً على شهادة الدكتوراه عن أبي العلاء المعرّي
سنة 1914، قبل أن ينتقل إلى فرنسا ويتخصّص في الأدب والدراسات الكلاسيكية في مونبيلييه (Montpellier) ثم يواصل دراسته في السّوربون بين سنتي 1915و1919 ويحصل على الدكتوراه باللغة الفرنسية برسالة علمية عنوانها ادراسة تحليلية نقدية لفلسفة ابن خلدون الاجتماعيةب، ويشتغل إثر عودته إلى مصر بالتّدريس، ولكنه يفصل من الجامعة المصريّة بسبب نشره كتاب افي الشعر الجاهليب، ويحال إلى النيابة بسببه، ويبدأ التحقيق معه يوم 19 أكتوبر سنة 1926، غير أن المحكمة برّأته يوم 30 مارس 1927، ليعود إلى التدريس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفي عام 1942 أصبح مستشاراً لوزير المعارف ثم مديراً لجامعة الإسكندرية، وفي عام 1950 أصبح وزيراً للمعارف.
وطه حسين كاتب غزير الإنتاج جمعت مؤلفاته في 16 مجلداً، وبأفكاره النيّرة حصل على أكثر من 36 جائزة أهمها وسام قلادة النيل سنة 1965 وجائزة الأمم المتحدة سنة 1973، وتم انتخابه رئيساً لمجمع اللغة العربية عام 1963، وظلّ في هذا المنصب حتّى وفاته يوم 28 أكتوبر سنة 1973.
وإلى جانب القضايا الملتبسة التي أثارها الكتاب، فإن أحد المنشغلين بالقضية - سلطان منير الذي أعدّ بحثه عن ابن سلام وكتابه طبقات فحول الشعراء - يؤكد أن طه حسين أحيا هذا الكتاب، ولفت إليه الأنظار قائلاً: ولا نبعد حين نقول إن أزمة الثقة بالشعر الجاهلي التي أثارها الدكتور طه حسين كانت خيراً عميماً على ابن سلام وكتابه، إذ جعلت أنظار الباحثين المؤرخين للنقد العربي تتجه إليه وتخلّي له مكاناً في أبحاثها، وتحاول أن تعطيه ما سلبه منه الزمان.
ويرى عبدالرحمن تليمة في مقدّمته للنسخة الجديدة لكتاب في االشعر الجاهليب أن الكاتب تأثّر بمناهج المستشرقين في دراساتهم لآدابهم، فأراد أن يطبّق هذا المنهج على الأدب العربي.
يقول عبدالرّحمن تليمة: اوبديهي أن طه حسين قد قرأ عمل المستشرقين في هذا الشأن، وأنه قد اطّلع كذلك على دراسات أوربية تشكّك في الوجود التاريخي لسقراط وهوميروس وغيرهما من أئمّة الثقافة القديمة، فأغراه كل ذلك إغراء بالتوسّع في القول بانتحال كثرة الشعر الجاهليب.
ويقارن عبدالعزيز المقالح بين منهج طه حسين في الشك ومنهج ديكارت، ويبرز الفرق بينهما بقوله: اويستطيع القارئ غير المتخصص، فضلاً عن القارئ المتخصص، أن يدرك بين منهج ديكارت ومنهج طه حسين بوناً شاسعاً، منهج الأول فلسفي، ومنهج الآخر أدبي صرف، شك الأول وسيلة لليقين، وشكّ الآخر وسيلة للإنكار... ويمكن القول بعد ذلك إن شك ديكارت كان منصباً على القضايا العقلية، بينما كان شك طه حسين منصبّاً على القضايا النقلية، وعلى الأمور المتعلقة بالشعر والأدبب.
ومثلما سجّلت الباحثة تشابهاً في الأسلوب، سجّلت أيضاً تشابهاً في المصادر المشتركة بين المؤلفين، ومنها االأغانيب، لاشتماله على أخبار الشّعراء والرّواة، وكتاب العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق، وعاد طه حسين إلى تفسير الطبري وتاريخه، بينما اكتفى مارغليوث بذكر الطبري والجزء والصفحة دون تدوين اسم الكتاب، والأرجح أنه يشير إلى تاريخ الطبري، لا إلى تفسيره.
وقد أحال كلا المؤلفين إلى البيان والتبيين للجاحظ، والمزهر للسيوطي وطبقات ابن سعد. والملاحظ أنّ طه حسين لم يذر مصادره في هوامش كتاب افي الشعر الجاهليب، لذلك عادت الباحثة إلى كتاب افي الأدب الجاهليب لتدوين قائمة المصادر التي عاد إليها طه حسين.
ولم يفت الباحثة إلى جانب ما وثقته من فهارس أن تضع بعض الملاحق؛ ومنها تصريح طه حسين نفسه بعدم اطلاعه على مقال مارغليوث، وتصريح مارغليوث بتبرئة طه حسين، وقد جاء فيه: افكرة الكتاب مماثلة إلى حد كبير للفكرة التي أدرت حولها بحثي عن أصول الشعر العربي الذي نشرته في هذه المجلة، في الوقت نفسه تقريبا، الذي ظهرت فيه طبعة الكتاب الأولى، وبذلك توصل كل منا مستقلاً عن الآخر تماماً إلى نتائج متشابهةب .