ليوبولد سيدار سنجور... بين السياسة والشعر

ليوبولد سيدار سنجور...  بين السياسة والشعر

المتصفّح لسجلّ الراحل الكبير ليوبولد سيدار سنجور (1906-2001) يقف على مآثر كبيرة في مجال السياسة والشعر خوّلت له أن يكون واحدا من أعظم الشخصيّات التي أنجبتها القارة السوداء خلال القرن العشرين.

كان الجنرال ديجول مصيبا حين وصفه في مذكراته قائلا: «إنه-أي سنجور-منفتح على جميع الفنون،  وبالدرجة الأولى على فنّ السياسة. وهو شديد الاعتزاز بزنوجيّته،  وأيضا بالثقافة الفرنسية، ويحكم بحنكة وثبات السنغال المضطرب». ولعل ما تميّز به ليوبولد سيدار سنجور هو أنه انسحب بهدوء من كرسيّ الحكم، ومن دون أن يثير أيّ قلاقل. فكان في ذلك استثناء في القارة السوداء، بل في ما اصطلح على تسميته بـ «العالم الثالث» عموما، حيث يتشبّث الحكام بالسلطة فلا يتركونها إلا عندما يكونون مجبرين على ذلك!
ملمّحا إلى طفولته،  كتب سنجور في قصيدة من قصائد ديوانه «إثيوبيّات» يقول:
لست أدري في أيّ زمن حدث ذلك 
فأنا أخلط بين الطفولة وعدن
مثلما أمزج الكوت بالحياة-
جسر مودّة يربط بينهما
ولد ليوبولد سنجور عام 1906 في مقاطعة «جوال» الواقعة على مسافة 100 كيلومتر جنوب داكار. وهو ينتسب إلى عائلة اعتنقت الكاثوليكية بعد أن كانت مسلمة، لذا سمّي ليوبولد. وكان والده مزواجا، فكــــــان عدد إخوته  وإخواته يقارب الثلاثين! وكانت أمه من قبيلة أخرى غير قبيلة والده. وكان له أخ يرعى الأغنام. وفي ما بعد كتب سنجور متحدثا عن أمه وعن خاله: «كنت أحسّ بآلام أمي،  وكنت أحاول في كلّ فرصة أن أكون قريبا من خالي الذي فتح عينيّ على حياة الحيوانات،  وعلى ظواهر الطبيعة وعجائبها». وكثيرا ما كان سلوك الفتى ليوبولد يغضب أباه . لذا لم يكن يتردّد في ضربه، وخصوصا عندما يذهب لزيارة خاله، وغالبا ما كان الفتى الحالم ليوبولد يفرّ من البيت العائلي لـ «يضيع» وسط الطبيعة الساحرة، وليسبح في النهر من دون خوف من التماسيح، أو يركض خلف الأحمرة،  أو يختلس بعضا من تلك الثمــــار الإفريقيّة التي تسكت الجوع، وتطفئ نار العطش. وأحيانا كان يؤدّي زيارة إلى معبد «مبسيل» حيث يرقد تحت أشجار ضخمة، ملوك قبيلته. وكانت تلك الزيارات تفتح أمامه أبواب السحر والأساطير.
وفي عام 1914، العام نفسه الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى، أرسل الفتى إلى مدرسة يديرها الآباء البيض، وكانت تقع على مسافة ستة كيلومترات شمال «جوال»، على ساحل المحيط الأطلسي. ولم يكن التلاميذ يكتفون بالاستماع إلى الدروس،  بل كانوا يقومون بأعمال زراعيّة،  ويرعون المواشي،  ويعتنون بالأشجار،  والنباتات،  ويغسلون الصّحون. وقد أظهر الفتى ليوبولد سنجور ذكاء خارقا في سنة البداية. وكان يعجبه أن يردّد بلغته الأم، وباللغة الفرنسية أسماء الأشجار، والحيوانات، والطيور. وقبل أن يبلغ سنّ المراهقة، كان قد تعلّم الصيد. وفي العطل المدرسيّة، كان يعود إلى البيت العائلي في كلّ يوم بصيد وفير.

أول قصيدة
في السادسة عشرة من عمره،  ترك سنجور المدرسة الريفيّة الجميلة التي ستحضر كثيرا في ما بعد في أشعاره، وخصوصا في ديوانه: «أناشيد وظلال» ليمضي بضعة أعوام في داكار أظهر خلالها تفوّقا في الفرنسيّة،  واللاتينية، واليونانية، وفي الرياضيّات أيضا. وفي آخر كلّ سنة،  كان يحصل على جوائز هي عبارة عن كتب في الأدب وفي التاريخ والجغرافيا. وفي العطل كان يمضي أوقاتا طويلة في مطالعة تلك الكتب، وتصفحها ليتعرف من خلالها على الكلاسيكيين الفرنسيين مسجلا في دفتره ما كان يروق له من قصائد ومن فقرات نثرية. وكان في الواحدة والعشرين من عمره لمّا كتب أول قصيدة. وكان ذلك بمناسبة مولد أخ له. وعقب حصوله على شهادة البكالوريا عام 1928، سافر إلى باريس ليلتحق بمعهد «لوي لوغران» الذي كان آنذاك من أرقى المعاهد في العاصمة الفرنسية. غير أن الدراسة لم تمنع سنجور من متابعة ما كان يجري من أحداث ثقافية وسياسية. وقد اهتمّ بالسوريالية التي كانت في ذلك الوقت - نهاية العشرينيات، ومطلع الثلاثينيات - تملأ الدنيا، وتشغل الناس. وكان أقطابها البارزون، وخصوصا أندريه بروتون، يطالبون بالانفتاح على الثقافات الأخرى، المجهولة والمهملة والبعيدة مثل الثقافة الإفريقية التي اكتشفوا ثراءها من خلال الفن الإفريقي. وكانت موسيقى الجاز قد فتحت عيون الغربيين على جمال وسحر الموسيقى الإفريقية. أما كتابات بول موران، وبليز ساندرارس المستوحاة من رحلات قام بها هذان الكاتبان الكبيران إلى العديد من البلدان الإفريقيّة، فقد سمحت للفرنسيين، وللأوربيين عموما بأن ينظروا إلى القارة السمراء من زاوية أخرى غير الزاوية الاستعمارية التي تمجد خصال الرجل الأبيض، ورسالته التبشيرية والحضارية. ولم يلبث الشاب الإفريقي الذكي أن اكتشف أن أوربا التي كان منبهرا بها وهو هناك في المدرسة الريفية على ساحل المحيط الأطلسي، أو في داكار، هي في الحقيقة قارّة منغلقة على نفسها، تعجّ بالتناقضات، وبالصراعات الأيديولوجية، رافضة ثقافات الشعوب الأخرى، وإليها تنظر باحتقار. بعد ذلك، ملمّحا إلى اكتشافه هذا، كتب ليوبولد سنجور يقول: «لم تعد أوربا بالنسبة لي وصفة كونية، بل مجرّد طريقة بسيطة!». وكان لقاؤه بأيمي سيزار القادم من جزر الأنتي» أهم حدث عاشه سنجور في الثلاثينيات من القرن الماضي وهو يحاول أن يفكّ رموز اكتشافه للوجه الجديد للقارة العجوز. ورغم اختلافهما في الأفكار، وفي السلوك، تصادق الشابان، وتحابا. ومعا سوف يقومان في ما بعد بأعمال جليلة لمصلحة بلديهما، ولمصلحة القارة الإفريقية برمتها. وكان سنجور هو الذي ساعد سيزار على اكتشاف ثراء وعمق الثقافة الإفريقية. ومعترفا بهذا الفضل، كتب سيزار يقول: «كان هو (يقصد سنجور) الصديق والأخ، والشاهد الأمثل الذي فتح عينيّ على إفريقيا».أما سنجور فقد كتب عن صديقه يقول: «لقد قبلني كما أنا، معه لم أكن واثقا بأنني على حق».
في أوقات الاستراحة، على عشب الحيّ الجامعيّ، في بولفار «جوردان»  بباريس، كان الصديقان يقضيان أوقاتا طويلة في قراءة الشعر بصوت عال. وحين لا تعجبهما القصائد التي كانا يكتبانها، كانا يعجّلان بتمزيقها غير آسفين. وفي عام 1934 أسسا مجلة «الطالب الزنجي»، وفيها نشرا أول بيان لهما عن «الزنوجية» التي ستصبح من ذلك الحين مذهبهما في الأدب، كما في السياسة. وكان هدفهما من خلال تلك المجلة، ربط الطلبة الأفارقة «المتفرنسين» بثقافتهم وتقاليدهم، ولغاتهم الأصليّة. وفي العام المذكور نفسه، كان سنجور أول طالب إفريقي يحصل على شهادة التبريز في النحو الفرنسي. وفي السنة التالية، عيّن أستاذا في معهد «ديكارت» بمدينة «تور». وهناك أمضى ثلاثة أعوام. وفي الليل، كان يعطي دروسا مجانية للعمال.

أورفي الأسود
وفي عام 1937، حضر سنجور مؤتمر «التطور الثقافي للشعوب المستعمَرة». وفي مداخلته، تحدث عن الحضارة الإفريقية التي نشأت في ظلّ الإمبراطوريات القديمة، وأسست على قاعدة العائلة، مؤكدا أنه ليست هناك حضارة متفوقة على حضارة أخرى. وهو في موقفه هذا شبيه إلى حدّ كبير بسارتر في عمله الذي حمل عنوان «أورفي الأسود»، الذي يهب فيه الزنجيّ مهمة لا يستطيع أحد غيره القيام بها، ألا وهي «سقي العقلانية الأوربية الباردة بمياه الجنوب الحارة».
بعد «تور» عاد سنجور من جديد إلى باريس. غير أن الحرب العالمية الثانية كانت قد اندلعت فجنّد فورا، وأرسل إلى جبهة القتال ليقع في الأسر. وكان عليه أن يمضي سنتين كاملتين متنقلا بين المحتشدات، والمعسكرات النازية. وقد سمحت له فترة الأسر تلك بالاحتكاك ببسطاء الناس. وكان يكتب الرسائل التي يرسلها الجنود الأميّون إلى أهاليهم. وبمساعدة الأسرى القادمين من بلاده، حاول جمع الأمثال، والحكايات الشعبية. بل إنه شرع في تعلم اللغة الألمانية لكي يقرأ جوته بلغته الأصلية. وبعد انتهاء الحرب، عيّن سنجور مدرسا في المدرسة الوطنية لبلدان ما وراء البحار الناطقة باللغة الفرنسية. وكانت مهمته تدريس اللغات والحضارات الإفريقية للموظفين الفرنسيين الذين كان يتمّ إرسالهم إلى المستعمرات.وانطلاقا من هذه الفترة، نشط في المجال السياسي، مهتما بالقضية الوطنية لبلاده، رافضا العنف، ومحبّذا الطرق الشرعية، ومعتمدا على الإقناع، والصبر، والنزاهة. وعقب صدور مجموعته «أناشيد وظلال»، وذلك عام 1945، لم تعد «الزنوجية» أسطورة غامضة، بل أصبحت فكرة ملموسة. فكرة تحرّض الشعوب المولّى عليها على تقرير مصيرها.
وعندما صدر العدد الأول من مجلة «الحضور الإفريقي»، كان سنجور أحد الأسماء البارزة فيها إلى جانب ألبير كامو،  وسيزار،  والكاتب الزنجي الأمريكي ريتشارد رايت. كما تضمنت «أنطولوجيا الشعر الإفريقي والماغاشي الجديد الناطق بالفرنسية»،  والتي قدمها سارتر، مختارات من قصائده.
بعد تعيينه عضوا في البرلمان الفرنسي،  عاد سنجور إلى السنغال ليجوبها من شمالها إلى جنوبها،  ومن شرقها إلى غربها،  متحدثا إلى فقراء الفلاحين،  وبسطاء الناس،  وصيّادي الأسماك. وقد أكسبته تلك الجولات شعبية كبيرة في وطنه. كما قام بجولات في جميع أنحاء العالم، مدافعا عن الحقوق الوطنية لبلاده. وبعد حصول السنغال على استقلالها،  انتخب رئيسا بالإجماع. وكان ذلك في صيف عام 1960. وخلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاما، استطاع سنجور أن يحكم السنغال المضطرب بحكمة،  مؤسسا دولة حديثة تتعايش فيها الأقليات والأديان في أمن وسلام. وفي النهاية انتصر الشعر على هيبة السلطة وبريقها، وغادر سنجور الحكم بهدوء الحكماء ليمضي السنوات الأخيرة من حياته في شقة في باريس بصحبة زوجته الفرنسية. وفي حوار أجرته معه جريدة «لوموند» بعد مرور 16 عاما على تخليه عن السلطة، قال سنجور: «ما هو أساسي في حياتي هو الشعر، والشعر فقط لا غير!» .