نَزار قبَّاني والأخطاءُ اللُّغَوية

نَزار قبَّاني والأخطاءُ اللُّغَوية

اتصل بي مرة الشاعر الكبير نزار قباني في ساعة متأخرة من الليل ليشكو من يد امتدت إلى مقاله، الصادر في اليوم السابق، وأمعنت فيه تخريباً أو تصحيحاً لم يخطر له ببال. كنا نعمل أنا ونزار في مجلة لبنانية واسعة النفوذ، كان هو يكتب فيها مقالاً أسبوعياً في حين كنت مسؤولاً عن قسمها الثقافي.

كان أو ما خطر ببالي ونزار في فورة غضبه على المذبحة التي مني بها مقاله، هو مراجعة المصحح اللغوي في المجلة. فما إن فاتحته في اليوم التالي بالأمر حتى قال لي إنه تدخل بالفعل في مقال نزار ولكن لإصلاح الأخطاء اللغوية، فحذف وأضاف الكثير في المرة الأخيرة، في حين أن تدخله في مقالات نزار السابقة كان في حدود ضيقة جدا. فقلت له: ولكن نزار قباني ليس محررًا كباقي المحررين، إنه الشاعر الكبير المعروف والشعراء عادة يجددون اللغة ويطورونها. ثم إنه ذُكر في المجلة أن المقال بقلم نزار، فهو إذن مسؤول عن لغته وعن أخطائه إذا كان ثمة أخطاء ولا يجوز أن تُخضعه لما تُخضع له باقي المحررين. وعندما راجعت رئيس التحرير لاحقا بما حصل، اتصل بالمصحح موبخا مؤنبا، كما اتصل بالشاعر معتذرا، واعدا بعدم تكرار حكاية التصحيح هذه.
والواقع أن المصحح اللغوي، هنا أو هناك, كثيراً ما يكون ضحلاً محدود المعرفة في مسائل اللغة، ولكنه كثيرًا ما يتدخل من دون حق لكي يقال عنه إنه «عالم باللغة»، أو لكي يبرر المهمة التي أسندت إليه. وكثيرا ما استبدل بالصحيح الخطأ، وكثيرا ما أحل خطأ محل خطأ آخر.
وكثيرا ما تشدد حيث يجب التيسير وتشجيع الانفراج، فأغلق باب الاجتهاد والتساهل وولج باب التضييق حتى الاختناق.
من المبادئ القانونية العامة أن الخطأ الشائع ينشئ القانون، أي أن من شأن الخطأ إذا شاع أن يكرّس قاعدة قانونية ملزمة لزوم النص التشريعي. وفي مسائل اللغة يُعمل بهذا المبدأ أيضا، فإذا تكرر ما يعتبره بعضهم خطأ وشاع هذا الخطأ في الاستعمال الأدبي وغير الأدبي، دخل على الفور إلى عالم القواعد وأصبح مع الوقت صحيحًا إلى جانب باقي الصحيح. وفي إطار اللغة العربية وهي لغة عريقة وساعية إلى اقتحام المعاصرة والحداثة، من غير الجائز إعاقة سعيها نحو الانفتاح أو سجنها في سراديب التحمل والتشدد، وتسليمها بالتالي إلى مصححين من نوع المصحح الذي عالج مقالات نزار بغرض تنقيتها من الأخطاء اللغوية. وقد قرأت مرة لأحد كبار علماء «العربية» في القرن العشرين رأيا  يقول فيه: «اكتب ما تشاء وأنا أُخرّج».
أي أنه يدعو إلى حرية الكتابة واللغة، معتبرا ضمنا أنه ليس في «العربية» خطأ، نظرًا - على الأرجح - لتعدد وجهات النظر والمدارس، ونظرًا قبل كل شيء لمرونة قواعدها ورحابة أفقها.
أما التمحّل والتقعّر فلا يوصلان المثقف، بوجه عام، إلا إلى ما وصل إليه مثقف لبناني في النصف الأول من القرن العشرين، كان يقرأ الصحف في الصباح ليمضي ساعات بعد الظهر والمساء في تدبيج رسائل إلى رؤساء تحريرها ينبّههم فيها إلى أخطاء لغوية وقعت في أعداد اليوم السابق، وقد دأب هذا الرجل على ممارسة مهنته هذه إلى أن مات، فأدرجه بعضهم في باب «من راقب الناس مات همًا».
على أن كل هذا لا يعني بالطبع ترك أمر اللغة على غاربها وتشجيع الفوضى والفلتان فيها، وإنما يعني فتح أبواب ونوافذ اللغة لكي يدخل الهواء والشمس إليها، وكذلك إحداث نوع من ثورة لغوية من شأنها فتح قنوات اتصال بين العربية والحياة، أي بين لسان العرب القديم ولسان العرب الحديث، وبين العربية ومناهج علم اللغة الحديث في العالم، شبيهة بالقنوات التي فتحها علماء «العربية» في الماضي. وكل ذلك يُحسن إلى العربية ويلبسها ثوبًا جديدًا هي جديرة به. لقد عاصرت العربية الدهر فتىً وها هي تعاصره اليوم وقد هَرِمَ وهرمت معه، ولكنها جديرة بأن تتجدد وتتطور، ولكن بأسلوب يختلف عن الأسلوب الذي توسله مصحح المجلة اللبنانية مع الشاعر الكبير نزار قباني، رحمه الله .