كائنات «هدى الجهوري» معطوبة فَـ «الأشياء ليست في أماكنا»

كائنات «هدى الجهوري» معطوبة فَـ «الأشياء ليست في أماكنا»
        

          بين سلاسة اللغة، ومتعة الحكاية، مضت هدى الجهوري في إلقاء بقع ضوء بجرأة عبر عملها الروائي «الأشياء ليست في أماكنها» ملبسة شخصياتها أفكارًا تحررية دفعتها نحوها المعرفة، في رغبة مهمتها دفع الشخصيات أبعد من سجونها الذاتية، لكن حالة التمرد أو الانعتاق من أسوار الأمس لا تعني بالضرورة مواجهة إيجابية مع واقعها.

          لماذا لم تضع الكاتبة الأشياء في أماكنها؟ ربما لأنها رفضت اعتيادية الرؤية، وتبحث عن المختلف، فجميع عناصر روايتها تبحث عن المختلف، في تركيبة العمل الفني أو تركيبة الشخوص وهي تعرّي نفسها أمام واقعها، أمامنا كقرّاء، لم نعدم سابقًا (ولا لاحقًا) كائنات تعرفنا على أحوالها السرية والخاصة، لكن هدى الجهوري فعلتها بالاقتراب من شخوص تشبهنا في واقعنا الاجتماعي.

          كائناتها متشابهة، قد تتنوّع في مسمياتها، لكنها جميعها - متفقة على أنها كائنات معطوبة ممتلكة قدرًا عاليًا من الصدامية مع مجتمع لا يستوعبها، لا في أمسه ولا في يومه، محاولة الخروج من الـ«نعم» الخجولة إلى الـ«لا» الصارخة، حيث إن «الأشياء ليست في أماكنها»، ليست تفاصيل الحكاية ودوران الشخوص حولها، بل إدانة المجتمع الذي بعثر ديمومة أشيائه، وفجّر في بشره أسئلة التمرّد على الأمس، لعلّ اليوم يأتي أكثر إنسانية، لكن الكائنات لا تكف عن البحث عن نفسها، كأنها كانت بالأمس هي نفسها حتمًا، واليوم هي تبحث عن ذواتها المبعثرة فلا هي لقيت هواء الماضي وقد استكانت إليه وأدمنت كل شيء فيه، حتى المسكنة والخوف، ولا وجدت في انفتاحات اليوم الأمان الموعودة به.

          كائنات هدى الجهوري في روايتها الصادرة ضمن كتاب «نزوى» أشبه بالفراشات التي خرجت من شرانقها قبل موعدها، تعصف بها الريح وأجنحتها مازالت طرية، وأضعف من منازلة حياة جديدة، تغلق مسامات النوافذ القديمة، لكن الهواء لم يعتد المرور بسلاسة عبر نوافذ حديثة التكوين أقرب ما تكون إلى أبواب في يوم عاصف.

          تبث الرواية لغتها الشعرية من المفتتح الأول، حيث المفتاح لتحديد ملامح الشخوص، هناك رجل «حازم» وامرأة «منى» وطفلة هي «فيّ»، اللغة طرزتها هدى الجهوري بشاعرية تكاد تنسحب على جميع الشخصيات، محاولة إيجاد ما يمكن تسميته بالخدعة الروائية، فالشخوص مثقفة، هي الكاتب /المؤلف، كما ترتقي لغة الكلام لأن الشخصيات تحب القراءة، ولذا فإنها تعرف الحديث برقي، والكتابة بشاعرية، والتفكير بسعة أفق، وبالتالي فإن المعرفة هي ثورة التغيير داخل الشخوص، والبحث عمّا هو أوسع من القرية، من أفق الأمس، للكائنات على اختلاف مقاصدها.

ضدّية العلاقة

          لم تكن المؤلفة بحاجة إلى المقطع الأخير من روايتها لتهدم علينا جسور العلاقة بين فراشاتها الطائفة بنار الضوء ونوره، به سحبت منّا شغف الكائنات بأعطابها، وتماهيها مع ضبابية الأحداث وصدق واقعها، حتى مع انفلاتها باتجاه حالات الحلم. الغيبوبة التي تعصف بالبطلة «منى» التي تكاد تكون وحيدة في دائرة اللعبة، أعطتها الراوية أكثر من نصف الرواية فيما اختزلت الآخرين «أمل ومحسن» في زاويتين ضيقتين من مساحة العمل الفني، منى تأخذ عبر روايتها حكايات الآخرين ما يدفع النور إلى عتمتها، ومحاولتها اكتشاف نفسها، من خلال ضدّية العلاقة معهم (زوجها محسن، صديقتها أمل، صديقها حازم، ابنتها مي).. والانسحاب إلى وهم معلق على مشجب قديم، الجني الذي يتلبسها لتمارس حريتها في المزارع، حرية تحليق الروح، مقابل تحليق الجسد لصديقتها أمل والتي تشترك معها في ضدّية أخرى: النسب، هذا الذي تتجرأ على تناوله هدى الجهوري رغم أنه من أشد أنواع «المسكوت عنه» في المجتمع المحلي القائم على القبليّة في تركيبته، لكن العلاقات الجديدة «والقوانين» فرضت المساواة، بالرغم من أن المجتمع لم يعترف بها، وبقي في تقسيماته القديمة.

          جميع الشخصيات مصابة بأزمة، متلبّسة بحالات من الخوف والتداعي، منها ما سقط كون أنه لا مناص من وضع الأشياء في أماكنها التي تحلم بها كـ«أمل» التي أنست إلى حياة عدّتها أقرب إلى نفسها فعاشتها طولاً وعرضًا، وأخرى تحاول الحياة بقدر ما تهبه من جمال دون الاقتراب من حيويتها كـ«محسن زوج منى» الواقع حسب نظر زوجته في البقعة الثلجية فيما تحتاج هي إلى دفء الحياة والشعور بالحب والعاطفة المحفزة للشعور بالكون الذي تراه بعيني الفنانة والمبدعة، كما أن أغلب الشخصيات تعبّر عن نفسها بالكلمة ذاتها، حتى حازم البعيد عن البيئة يقول عن نفسه وهو يتحدث عن علاقته مع المرأة التي أحبها «نبيلة»، إنه رجل معطوب.

الحياة في مرايا أخرى

          بضع صفحات تبدأ بها الرواية أشبه بتقديم خالٍ من العنوان، لكنّ الحكايات تبدأ بالتكشّف مع صوت أمل، صوتها السارد المتحدث عن نفسه، والكائنات (المعطوبة) من حوله، اعتبرتها المؤلفة في العنوان الذي حمله هذا الفصل «الحياة في مرايا أخرى»، تكاشف قارئها بأحوال هذه الشخصية الواقفة أمام المرآة منذ الأسطر الأولى: بشرة سمراء، شعر مجعد، شفة سفلى غليظة.. «ولكني بالمجمل امرأة جميلة» ص17، يمكنها الدخول إلى كل الأمكنة دون استطاعة أحد اكتشاف سوادها الداخلي، أمها حددت لها هويتها: «لست عبدة يا أمل، ولست حرة بالكامل أيضًا».

          ومثلما تنظر أمل إلى «الحياة في مرايا أخرى» فإن المؤلفة اختارت لمنى عنوانًا للفصل الذي تتحدث به كساردة عبر سؤال «من يكمل الوقت دون أن يقترف..؟». ومثلما تضيع الكلمة الأخيرة منه فإن علامة الاستفهام تحمل معها اللفظة القابعة في زوايا ستقرأ بالتعرف على عالم منى كما تعبّر عنه، لا كما يراه الآخرون عبر مراياهم، فهي منذ صغرها تعتقد كما تقول: «إن وجود الآخرين من حولي هو وجود طارئ، هو خلفية للمشهد الذي يضيئني أنا وأسرتي وصديقاتي لا أكثر» ص79، ترتبط «برجل تحسدني عليه كل الفتيات، لأنه يمنحني كل شيء عدا الحرارة والدفء والانتشاء والحب والهبل أيضًا!». ص80، وإنه «عندما وهبني الخيارات كاملة استل من صدري الحياة والعصافير».

          استخدمت هدى الجهوري أسلوب التداعي الذاتي لشخصيتيها المتحدثتين بضمير المتكلم «أمل ومنى» فيما يشبه فصلي الرواية «إن تجاوزنا المفتتح الأولي، رسالتان متبادلتان بين حازم ومنى لتأكيد معنى الرحيل والقطيعة ورأي كل منهما في الآخر».

          اعتمد تداعي الشخصيتين على حديثهما عن نفسيهما، وعن الآخرين أيضًا، عبر تجزئة الحدث / الزمن، ونثره بتفاوتات وتنوعات، مرة يصبح الزمن هو اليوم، أحيانًا يعود إلى الماضي بطريقة «الفلاش باك» ليرصد طفولة الشخصيات، وبصمتها الأولى على دروب الحياة، إرهاصات مرحلة الطفولة التي أجبرت الشخوص على سير خطواتها بتأثير من تلك المرحلة عندما كبرت، وقد يتساءل التداعي الذاتي للشخصيات - عن الغد كصمود نفسي أمام معركة اليوم مع حياة ثلجية «كواقع منى»، رغم أن الانكشاف الأول لبدء حياتها مع «الرجل الجامعي» محسن كان إيجابيًا، حديثه عن الحرية في اتخاذ القرارات عبّرت عنه «لابد أن هذا الرجل قد فرّ من إحدى الروايات الجميلة» ص84.

المرأة مقابل المرأة

          وتعطي الرواية المناخ الذي عاشت فيه فتاتان «منى وأمل» كمحورين متناقضين رغم قربهما كصديقتين، لكن ما يجمعها هو التناقض لا التشابه «في العلاقة مع القراء فقط»، واحدة محسوبة على القيمة الموجبة للمجتمع والأخرى على القيمة السلبية، إنما هناك معاناة مجتزأة من حياة طرفي المعادلة، أم منى حسنة السمعة لكنها لا تعيش سعيدة، وتسحب عقدها النفسية والاجتماعية على ابنتها حيث غلق الأبواب دون أي حرية للطفولة المنطلقة، والكي بالنار على الفخذ، والضرب المبرح. الطفلة التي تكبر ترى في صديقتها أمل السعادة والحرية والابتهاج بالطفولة وما بعدها. تعيد الرواية الزمن لما قبل وجود شخصياتها للبحث في التركيبة التربوية لها، لهدفين اثنين: لوصف العلاقة بين المرأة والمجتمع، والتدليل على تناقل جينات التربية بين الأجيال، تتحدث منى عن أمها: «أمي تلجأ دائما إلى الحرمان المتعمد من أجل أن أشب امرأة ناضجة» ص101، فيكون الحرمان جزءًا من التربية، ليس لأنه الأسلوب الصحيح ولكن لأنها تحمل خوفها القديم، حين كان عمرها 14 عامًا «بدأ بربطها والدها إلى جذع النخلة في ساعات غيابه في الحقل خوفا من أن تفوح رائحة فضيحة تدفع وجهه إلى الاسوداد» ص101.

          وأمل تواجه صور الأمس، أمها سيئة السمعة، تقبل رؤوس الجميع، وتسهر ليلة العيد لتعالج ثقوب الملابس التي جادت بها أيادي «أهل منى ومن على شاكلتهم» عليهم، ووالدها الذي يقوم بخدمة من يعتبرهم أسياده، تمرد أمل عبّرت عنه بخوفها أن تخرج إلى الحارة فتشير فتاة إلى ما ترتديه أمل وتقول لها هذا ثوبي، تصرخ أمل بالتمرد، تذهب إلى المدينة حيث يمكنها أن تتساوى مع الآخرين، أن تشكّل عالمها الخاص كالذي قرأته في الروايات والكتب. خالتها التي تدفعها للقراءة تقول لها إن المعرفة تقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب، وإنه سيصبح قادرا على اتخاذ قراراته بنفسه دون وصاية من أحد، والقراءة تساوي الحرية، لكن محسن أراد لها أن تقرأ من أجل المتعة، لأنها حرة من الداخل.

          منى تواجه أمها، المرأة مقابل المرأة، لم يكن القمع رجوليًا بالضرورة، والدها ينطبق عليه الوصف «لا يهش ولا ينش»، فتحملت الأم مهمة التربية لكن بقسوة الرجل «الغائب حتى وهو حاضر داخل البيت»، حملت جينات القسوة من أبيها، وتختلف منى عن أمل في فلسفة الأشياء من حولها، أنوثتها، علاقتها بالآخر/ الرجل، أنثى تكتشف نفسها، تريد إخبار الآخرين بأنها أصبحت أنثى.

          الرواية هي رواية منى، وهناك تشابكات في علاقاتها مع جميع الشخصيات الرئيسية للرواية، كما أن هناك بضع صفحات على لسان أمل، ومثلها «تقريبا» يرويها محسن تحت عنوان «حكاية بلا عكاز» كمن يبرر أن حكاياته ناقصة، وأن العشيق السري الذي يشم رائحته في جسد زوجته منى لا يستطيع الاستدلال عليه، مع تبرير فني بأن الحالة التي تغيّر إليها محسن لها أساس، وإن بدا عليه الشك، مع أنه التقى حازم، الرسام، صديق زوجته الرسامة، ويستطيع التعرف على ما يمكن أن يربط أصحاب الموهبة الواحدة من تقارب، ليس بالضرورة أن يكون على سطح لوحة فنية.

          وأخيرًا هذه الرواية تنثر حلم اللغة وكوابيس الواقع، وكما قالت مؤلفتها في إهدائها الموقّع منها على نسختي بأن «الخدعة الكبيرة هي أن نصدق أن الأشياء في أماكنها دومًا».
-------------------------------
* كاتب من سلطنة عُمان

 

 

محمد بن سيف الرحبي*