رحلة «شرق وغرب» لمحمد حسين هيكل نموذجاً صورة الآخَر في المتخيل الرِّحلي العربي

رحلة «شرق وغرب» لمحمد حسين هيكل نموذجاً صورة الآخَر في المتخيل الرِّحلي العربي

شكل أدب الرحلة منذ القديم للأنا الراحلة حقلاً خصباً للتعرف على الآخر المرتحل إلى أرضه، مكنه من بنية مجموعة من الصور والتمثلات Représentations  والميثات Mythes حول هذا الآخر المغاير ثقافياً وسيكولوجياً وسوسيولوجياً، التي قد تكون إيجابية أحياناً، أو سلبية إن كان محركها الأيديولوجيا أحياناً أخرى. إن أدب الرحلة نظراً لغناه وثرائه، شكل على الدوام مبحثاً خصباً من مباحث الصورولوجيا  «Imagologie».

إذا كان الرحالة الغربي منذ وطأت قدماه أرض الشرق منذ العصور القديمة، تمكن من تنميط الشرق والشرقيين، من خلال رسم صور دونية لهم، عبر مخيلة جائعة إلى معانقة السحري، والإيروسي، والعجائبي،  فإن الرحالة  الشرقي إلى بلاد الغرب والعالم، خاصة في زمن «صدمة الحداثة»، قد ركز بالأساس على تتبع ملامح النهضة العلمية والصناعية، وتطور العمران ومظاهر العصرنة، رغبة منه في الخروج من وضعية التيه، وحالة الشلل العربي. ويمكن اعتبار محمد حسين هيكل في رحلته «شرق وغرب» من الرحالة العرب الأوائل الذين سعوا إلى اكتشاف هذا الآخر المغاير. انطلاقا من هذا نتساءل: ما مفهوم الصورة؟ ما المتخيل؟ وما الميث؟ وما علاقة الرحلة بمبحث الصورلوجيا؟ وحتى يكتمل عقد البحث فيلتقي النظري بالإجرائي، نطرح السؤال الآتي: ما هي صورة الآخر في رحلة شرق وغرب؟
 
مفاهيم أولية
1- الصورة:
تأتي الصورة في المعاجم العربية بمعنى حقيقة الشيء وشكله وصفته، ففي قاموس المنجد في اللغة والأعلام «الصورة هي من صور أي جعل له صورة وشكلا ورسمه ونقشه، والصورة جمعها صور، وهي الشكل، وكل ما يصور وهي الصفة» (المنجد في اللغة والأعلام، دار الحرف، بيروت، 1986، ص. 440). وهي أيضا «تمثيل بصري لموضوع ما (...) الصورة إنتاج للخيال المحض، وهي بذلك تبدع اللغة، وتعارض المجاز الذي يخرج اللغة عن دورها الاستعمالي» (سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، وسوشبريس، الدار البيضاء، ط1، 1985، ص. 188).
وبالـــــــــــرجـــــــوع إلــــــــــى الأصــــــــــــل اللــــغـــــــــــوي لـ «Imagologie» نجدها مشتقة من الكلمة اللاتينية «imago» بمعنى الرمز والشكل والأيقونة 
(Paul , Robert :  le petit Robert , Paris, 1982, p :1125-1126). وفي السيميائيات البصرية «تعتبر الصورة وحدة مستقلة بذاتها في مستوى التمظهر، كما أنه كل من الدلالة قابل للتحليل»، إضافة إلى أن «سيميولوجيا الصورة التي تحيل إلى نظرية التواصل تعتبر الصورة عموما رسالة مكونة من علامات أيقونية» (A. J. Greimas et J. Courtes : Sémiotique: Dictionnaire raisonné de la théorie du langage,  Hachette, p. 181.).
من هنا، تبدو الصورة مرادفة لحقيقة الشيء، كما تأتي بمعنى الشكل والرمز، وفي السيميائيات البصرية علامة أيقونية تسعى إلى إيصال رسائل معينة إلى المتلقي.
أما في الاصطلاح، فإن مبحث الصورولوجيا «ظهر في الأدب المقارن، ليشير إلى دراسة صورة شعب عند آخر، باعتبارها صورة خاطئة». ويحتاج الصورلوجي إلى علوم متعددة لدراسة صورة شعب عند شعب آخر، إذ «تعتمد الصورولوجيا على مفاهيم الدرس السيكولوجي السوسيولوجي /الإثنولوجي، وهي بذلك، عبارة عن تداخل دروس العلوم الإنسانية بالأدبية». 
من هذا المنظور، فإن «الأنا» القارئة لأدب «الآخر» المغاير عنها ثقافيا  وفكريا يتولد لديها عنه انطباعات وتمثلات وصور. إن الصورة بهذا المعنى تبدو «نظرة أو رؤية، وبالتالي موقفا من الـ «نحن» والـ «هم»، وهو في كلتا حالتيه، سواء كان موقفا سلبيا (أي ضدا) أو موقفا إيجابيا (أي مع)، لعبة بلاغية ذات سلطة قصوى في تكريس الأوضاع القائمة وتكليس الصورة السائدة» (عبدالنبي ذاكر: المغرب وأوربا: نظرات متقاطعة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير، ط 2، 2007، ص:13.). 
إن المَواطن التي تبدو أرضا خصبة لاستكشاف صورة «الآخر» الأجنبي Etranger يمكن رصدها من خلال إنتاجات مخياله المتجسدة في أنماط تفكيره ونتاجه الأدبي ورؤيته للعالم. يقول الدكتور عبد النبي ذاكر: «ليست الصورة بهذا المعنى سوى معرفة يعكسها الآخر عبر متن ما، سواء كان هذا المتن من أدب الخيال littérature de fiction أو من أدب اللاخيال littérature de non fiction، سواء أكانت هذه المعرفة/ الصورة مقروءة (أي مكتوبة) أم بصرية (أي مرئية: كالصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية والرسوم الساخرة واللوحات الفنية)، أم سمعية – بصرية audio – visuelle  كالأفلام السينمائية والأشرطة التلفزيونية».
إن هذه الصورة التي تبلورها «الأنا» عن «الآخر» المغاير لها، تعتبر «طرزا من طرز الوعي». وهي أيضا جملة من التمثلات  représentations  تصبح مع مرور الأزمان رموزا وأيقونات أو نماذج عليا متكلسة في اللاوعي الجمعي. والجدير بالذكر، أن معرفة الآخر تمكن الأنا ذاتها من معرفة صورتها وتجديدها، ذلك «أن فهم الآخر كشف للذات، بل إن ماهية الغير تتجدد على أساس ماهية الذات».
ولا تخلو الصورة من خطورة، فكثير من الشعوب ذهبت ضحية مسبقات واعتقادات قبلية. وتستفحل هذه الخطورة حين «تتصل بالأيديولوجيا»، الأمر الذي يؤدي إلى «الصراع والكراهية والحقد من جهة، والقلق والتضايق من جهة أخرى». إن الصورة بهذا المعنى تغدو «صورة قبلية تتغذى على كل ما هو ميثي ووهمي وسرابي ومتخيل، نظرا لتشابك الذاتي والعاطفي والثقافي بالموضوعي». 
 نخلص من هذا، إلى أن موضوع الصورولوجيا يتحدد في البحث عن الواقعي والمتخيل في الصور والميثات والتمثلات  المكونة عن الآخر الأجنبي. كما ينبغي ألا نغفل أن هذه الصورة لا تكون دوما صادقة وبريئة، إذ غالبا ما تكون مشحونة بإملاءات أيديولوجية أو فهم خاطئ لعواطف ومعتقدات الآخر.
2- المتخيل:
المتخيل في اللغة مشتق من الفعل خَيَلَ ويأتي مرادفا لمعاني «ظن وتوهم وصور له» وأيضا بمعنى «توسم وتفرس» (معجم اللغة العربية المعاصرة ص. 714 مختار). ومنه «تخيل الشيءُ له: تشبه (...) والخيال والخَيَالة: ما تشبه لك في اليقظة والحلم من صورة» (ص. 996. القاموس). 
وفي اللغة الفرنسية فالمتخيل مشتق من «imago» بمعنى «الصورة والأيقونة والرمز» (paul  robert :  le petit robert , paris, 1982, p). وفي اللاتينية بمعنى «Imaginarius» أي الذي لا يوجد إلا في المخيلة وغير الواقعي» (bid ,p :112). إنه ينسحب على معاني «اللاواقعي والخيالي والعجائبي والفانتاستيكي».
بناء على ما سبق، يحيل المتخيل في الدلالة اللغوية على معاني التوهم والظن والتوسم والتفرس من جهة، وعلى معاني الصورة والأيقونة والرمز من جهة أخرى. وبالجملة فالمتخيل هو اللاواقعي أي الذي لا يوجد إلا في المخيلة فقط.
أما في الاصطلاح الفلسفي، فقد جعله ابن سينا ركنا مكينا في تعريف الشعر. يقول: «المخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور أخرى من دون روية وفكر واختيار». وبالتالي، فالتخييل هو الأثر الذي يتركه الشعر في نفس المتلقي فتذعن له وتنبسط وتنقبض بشكل لا شعوري.
بينما في الاصطلاح البلاغي، فالمعنى التخييلي عند عبدالقاهر الجرجاني هو «الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق، وإن ما أثبته ثابت، وما نفاه منفي، وهو مفتن المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يحصر إلا تقريبا، ولا يحاط به تقسيما وتبويبا، ثم إنه يجيء طبقات، ويأتي على درجات، فمنه ما يجيء مصنوعا قد تُلُطف فيه، واستعين عليه بالحذق والرفق، حتى أعطي شبهاً من الحق، وغُشِّي رونقاً من الصدق» (عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة.ص, 267). نفهم من ذلك أن التخييل يرمي إلى الإيهام والكذب والنأي عن الصدق والواقعي. 
والملاحظ اليوم في ظل التلاقح الثقافي وتحطيم الحواجز الجمركية بين الأجناس الأدبية، أن مصطلح المتخيل، لم يعد مرتبطا بالأدب فقط، بل «أصبح يشمل التشكيل والمعمار والاقتصاد والصناعة» (ذاكر، عبدالنبي: المغرب وأوربا: نظرات متقاطعة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير، ط 2، 2007، ص: 18).
وعند ذكر المتخيل فإنه يتداعى مفهوم آخر متاخم له هو الخيال، وكلاهما له ارتباط وطيد بمفهوم الصورة. يقول الكاتب عبدالنبي ذاكر: «ومن هنا ذلك الارتباط العضوي بين المتخيل والخيال imagination فكلاهما ملتصق بالصورة». وإلى جانب هذا،  فإن المتخيل هو موضوع التخيل وموضوع الخيال أيضا، ونتاجهما، أو ناتجهما أيضا (عبدالحميد شاكر: الخيال : من الكهف إلى الواقع الافتراضي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 360، 2009، ص. 46).
3- الميث: mythe:
يعرف هذا المفهوم  تداخلا كبيرا مع مفاهيم أخرى قريبة الدلالة منه مثل الأسطورة والموتيف والصورة  والتمثيل، الأمر الذي يجعل إعطاءه مدلولا دقيقا مغامرة غير محسوبة العواقب. وقد أشار إلى هذا الخلط جان ماري غراسان J.M .Grassain خلال الندوة المنعقدة حول (الميثات والصور والتمثيلات), إذ لاحظ أن جل تعاريف الميث كانت تحيل على الصورة والتمثيل والأسطورة.
انطلاقا من هذا،  يتضح أن الميث هو الصورة التي تكونها ثقافة شعب ما عن أناس  وأشياء وأقوام أخرى، وهو مبحث من مباحث دراسة الصورة الغيرية. بينما تشكل الأساطير والخرافات التي تحاك حول شخوص رمزيين في ثقافة شعبية ما، (مثل أسطورة هرقل)، حجر الزاوية في حقل مستقل آخر من حقول الأدب المقارن يدعى: الموضوعاتية».
4- علاقة الرحلة بالمقارنة:
إن العلاقة التي تربط بين الرحلة والصورولوجيا هي المقارنة، وقد ترسخت بينهما حتى ارتقت إلى الميثاق، لكن السؤال الذي يطرح هو: ماذا يقارن الرحالة؟
مما لا جدال فيه، أن الرحالة لا يحل بأرض الأجنبي خلوا من الأفكار والهوية والثقافة التي تشبع بها في موطنه الأصلي. وهو حين يحل بالأرض الجديدة لا يكف عن مقارنة إرثه بالجديد والغريب الذي يعاينه. لذلك لم تكن الرحلة مجرد ضرب في المكان والزمان وحسب، بل هي «حركة تفضي إلى مخالطة ومداخلة الغير، ينجم عنها وصف ورصد لمختلف الجوانب الحياتية والفيزيونيمية لهذا الآخر عن طريق الملاحظة المباشرة».
إن هذه الملاحظة والمخالطة للغير الغريب عن الأنا الراحلة، تفتح باب المقارنة على مصراعيه، مقارنة تصور هذه الذات للحياة والعالم وتصور الآخر لأنماط العيش والعالم والأفكار التي هي جزء من لاوعيه. ثم إن ما يحفز على المقارنة هو الغرائبية والعجائبية التي تعج بها الأرض الجديدة.
نخلص من هذا إلى أن العلاقة بين الرحلة والصورولوجيا هي علاقة عضوية يقارن فيها الرحالة ما  تحفل به أناه من صور وميثات وتمثلات للعالم والحياة والأرض والإنسان بما يمتلكه الآخر من هذه الأمور. ولذلك يصبح  «الرحالة مقارنا والمقارن رحالة» (Encyclopédie  Universalis, 2014). 
 صورة الآخر في رحلة «شرق وغرب»
1- تعريف الكاتب: محمد حسين هيكل (1888 -1956):
   أديب وصحفي وسياسي مصري، أحد أعلام النهضة الفكرية في القرن العشرين، وصاحب أول رواية فنية تحقق مستوى عالياً من النضج في الأدب العربي الحديث (زينب). ولد سنة 1888 ببلدة كفر غنّام، محافظة الدقهلية بمصر. وفيها أتم دراسته الثانوية، ثم التحق بمدرسة الحقوق، وتخرج فيها عام 1909م ليسافر إلى فرنسا حيث حصل على الدكتوراه في الحقوق. وبعد عودته إلى مصر عمل رئيسًا لتحرير جريدة السياسة الأسبوعية، وعندما أنشئ حزب الأحرار الدستوريين (1922)، كان من أبرز رجاله؛ إذ عمل عضوًا في مجلس إدارته ثم نائبًا للرئيس (1941م) فرئيسًا للحزب (1943م)، وظل في هذا المنصب إلى أن ألغي نظام الأحزاب. تدرج في مناصب وزارية مختلفة إلى أن عُزل من قِبل السراي عام 1950م، فتفرغ للكتابة حتى وفاته سنة 1956 (الموسوعة العربية العالمية، 2005). صدرت له العديد من الدراسات والكتب والرحلات، منها «زينب» (1914م)، جان جاك روسو في جزأين (1921 - 1923م)، تراجم مصرية وغربية (1929)، ولدي (1931)، في منزل الوحي، حياة محمد  (1935)، قصة رحلة إلى الحجاز، وشرق وغرب. 
 2- صورة الآخر في الرحلة
  إذا كان الرحالة الغربي منذ وطأت قدماه أرض الشرق منذ العصور القديمة، تمكن  من  تنميط الشرق والشرقيين، من خلال رسم صور دنيا لهم، عبر مخيلة جائعة إلى  معانقة السحري، والإيروسي، والعجائبي،  فإن الرحالة الشرقي إلى بلاد الغرب والعالم، وخاصة في زمن «صدمة الحداثة»، قد ركز بالأساس على تتبع ملامح النهضة العلمية والصناعية، وتطور العمران ومظاهر العصرنة، رغبة منه في الخروج من التيه، ومن حالة الشلل العربي.
   والواقع أننا حين نقرأ رحلة «شرق وغرب» (محمد حسين هيكل: شرق وغرب، دار الهلال، 1994, بدون طبعة)، فإننا نجدها مفعمة بمشاعر الاندهاش والتعجب والافتتان بمظاهر الحضارة الغربية المتمدنة؛ بأناسها، وعمرانها، وصناعتها، وأرضها. ولا شك في أن ذلك يأتي في سياق الانفتاح على الآخر المغاير ثقافيا وسيكولوجيا، وفي سياق سماه أدونيس  «صدمة الحداثة».  وعلى إثر ذلك، يمكننا رصد الميثات الآتية: 
أ‌- ميث الأرض
في رحلة محمد حسين هيكل إلى بريطانيا العظمى رفقة أصدقائه الصحافيين، وخاصة عبداللطيف صادق، توقف عند «وطن شكسبير» مدينة ستراتفورد المطلة على نهر إيفون. لم يكن زائرا عاديا، بل كان مشدوها بعالم غريب عنه، عالم كله مياه وخضرة. وهو القادم من أرض مصر المحروقة. لقد مكنته الطبيعة الخلابة الماثلة أمام ناظريه من استيعاب شعر شكسبير أضعافا مما كان يستوعبه حين قرأه بعيدا عن معايشة التجربة. يقول: «في هذه الجولات استطعت أن أفهم من شكسبير أضعاف ما كنت أفهم منه من قبل» بيد أن الذي تخطف بال الرحالة واستبد بوجدانه هو جمال أرض ستراتفورد. يحكي قائلا: «زرت مدينة ستراتفورد في أوائل الخريف، فلم أكد أراها حتى وقفت دهشا مأخوذا (...) إذا كان هذا جمالها في الخريف فما عسى يكون جمالها في الربيع»!!
لقد بلغ منه سحر الأرض أن وقف عاجزا عن تحديد مكان القبلة، فما كان منه إلا أن جعل قبلته هذه «الفتنة الساحرة التي تلعب باللب وتأخذ بالفؤاد». يقول «لقد بلغ من أثر هذا الجمال في نفسي أن توجهت إلى الله بصلاتي موليا وجهي شطر النافذة التي كشفت في بكرة الصبح عن هذا السحر الرائع من خلق الله، جاعلا منها قبلتي، لأنني لم أعرف اتجاه البيت الحرام لأولي وجهي شطره».
 ولم يكن سحر طبيعة ستراتفورد وحده الذي استبد بالرحالة، بل نالت منه أيضا شلالات شافورن بسويسرا. فلما جاءها رفقة ابنه ترجلا من السيارة، وتوقفا عند المساقط  مثل الصنمين. يقول: «فلما كنا عند الجسر الصغير الذي يتخطى الإنسان الراين فوقه إلى منطقة المساقط تركنا السيارة وترجلنا وعبرنا الجسر وطال سيرنا حتى كنا عند البناء المطل على هذه المساقط التي تنحدر الشلالات من حولها شلالا فشلالا، ودرنا حول هول هذا البناء ودخلنا إلى حيث نشاهد الشلالات، يا للجلال والروعة والجمال، ويا لقدرة خالق كل شيء، ويا لعظمته وجلاله».
ونظرا إلى أن المقارنة ترتبط ارتباطا عضويا بالرحلة، فإن الذات الراحلة، ظلت تقارن طبيعة ستراتفورد بطبيعة البلدان التي زارتها. فمما نرصده في هذا الجانب، مقارنة أرض ستراتفورد بطبيعة فرنسا وسويسرا ومصر. يقول: «ليست منطقة ستراتفورد جبلية كسويسرا أو كمناطق الأوفرن والسافو في فرنسا، وليست لها بحيرات كليمان ولوسرن ولا كالبحيرات الإيطالية. لكنها ليست منطقة مستوية استواء مصر، بل هي منطقة متموجة». ويضيف أيضا «وقد نجد أحيانا جدولا من الماء ينساب هادئا، ليس له من الجلبة ما للإيفون عند قلعة وارك، مثل هدوء الإيفون إذ يمر تحت مسرح شكسبير التذكاري بستراتفورد دون أن يكون له مثل سعته، وسعة الإيفون لا تزيد على سعة ترعة صغيرة في مصر، لكنه في وسط هذه الطبيعة الساحرة أشبه شيء بالابتسامة ينفرج عنها ثغر حسناء».
ب‌ - ميث العمران
إن الذات الراحلة تمتلك قريحة حادة تمكنها من التقاط عوالم الآخر، والغوص عميقا في مجمل تفاصيلها، ملتقطة ذاتية الآخر المغايرة ثقافيا وسيكولوجيا وسوسيولوجيا، وتلك هي مهام أدب الرحلة والرحالة. إنه رصد للتقاليد والعادات والطقوس والفنون.
ومما استرعى انتباه هيكل في رحلته إلى الآخر المظاهر العمرانية، التي وقف عندها مطولا، مستنطقا جمالها وروعتها، وساعيا إلى نقل صورة نابضة بالحياة عنها، سواء في مدن باريس أو لندن أو برلين أو هلسنكي أو نيويورك...أو غيرها من المدن التي زارها في الغرب.
ففي حديثه عن مدينة برلين، توقف كثيرا عند شوارعها وما تزخر به من زينة ونظافة ونظام ودقة، تفوق ما في لندن وباريس. يقول: «وفيها من التماثيل ما يزين شارعا بأكمله زينة ناطقة بتاريخ ألمانيا المجيد، ومطلا من ناحية أخرى على الرايخستاج وتحيط به من مظاهر الجمال ما لا يحيط بالفندوم شيء من مثله». ويضيف: «والحق أنه ليس في أوربا كلها مدينة بلغ نظام شوارعها من الدقة، وبلغت هذه الشوارع نفسها كما بلغت المدينة كلها من النظافة مبلغ برلين».
ومن تجليات التطور العمراني الألماني نظام المرور الذي يكشف عن عقلية تقدس النظام، وتعتبره سلوكا روحيا لا ينبغي تخطيه. يبرز الرحالة في هذا المقام: «ونظام المرور في هذه الشوارع الكبرى عجيب. كنت أعتقد أن ليس في العالم كنظام لندن نظام. والحق أن البوليس الإنجليزي مثل أعلى للبوليس في العالم كله. والحق كذلك أن برلين ليس بها حركة من المرور مثل ما في لندن وباريس زحاما ونشاطا مستمرا، لكن نظام المرور في برلين يرجع إلى روح النظام القائمة بنفس الشعب الألماني أكثر مما يرجع إلى شيء آخر».
إضافة إلى هذا، فإن الكنائس هي الأخرى تعتبر آية من آيات التطور العمراني في برلين، وهي لا تقل روعة وبهاء عن كنائس لندن وباريس. يقول: «وبرلين فيها كنائس لا تقل روعة ولا جمالا عن كنائس لندن ولا «كنائس باريس». أما مبنى البرلمان الألماني «الرايخستاج» فإنه رغم ضخامته وفخامته تنقصه الرقة والرشاقة الموجودة في لندن  وباريس «فهو ضخم فخيم ككل ما في برلين، ولكنه تنقصه كذلك الرشاقة وتنقصه الرقة. وهو بعد – كأكثر برلمانات أوربا- دون برلمان بودابست جمالا وغنى وروعة أخاذة للنظر».
أما فن العمارة في باريس، فإنه أنيق ورشيق، ظل يلهم الشعراء والفنانين وكبار المبدعين، جعل هيكل يؤكد أن «ما يسترعي نظرك وأنت في باريس نظام تخطيط العمارة في شارع أو حي بأكمله، فأنت لا ترى نافذة أعلى من نافذة، ولا منزلا متواضعا إلى جانب عمارة كبيرة». فهذه الأناقة والرقة لا تجدها في الشوارع أو الأحياء أو العمارات الضخمة، بل «في متاجر الحديد في باريس زينة للنظر على حين ترى متاجر أقمشة السيدات في لندن متاجر عمل وجد ونشاط متصل». أما أنوارها وأضواؤها فهي لا تنقطع حتى سميت عاصمة الأنوار، وهذا ما جعل أحد القادمين إليها من بلاد الشرق يندهش لأنوارها فيتساءل «هل هذا مولد النبي؟».
أما العمران في أمريكا فلم يكن هو الآخر أقل روعة وفخامة مما عاينه هيكل في أوربا، ولعل أهم مميزاته الأخاذة ناطحات السحاب العملاقة، والمصاعد الكهربائية التي تختصر الطبقات في ثوان. يقول هيكل: «الولايات المتحدة الأمريكية هي بلاد ناطحات السحاب، فمباني نيويورك ترتفع في الجو ثلاثين وخمسين وسبعين طبقة». بيد أن هذا العلو المريع  تتغلب عليه المصاعد السريعة «ومع ذلك فالمصاعد (الأسانسيرات) السريعة تجعل الصعود في هذه الصروح الشاهقة أمرا يسيرا حتى لتكاد تشعر وأنت تصعد إلى الطابق الثلاثين بأنك بلغته في زمن أوجز مما نبلغ فيه الطابق الخامس في أوربا أو القاهرة» 
ج‌ -  ميث الإنسان
استطاع الرحالة والمستشرقون الغربيون تنميط الإنسان الشرقي في صور وميثات وتمثلات دنيئة ومحقرة لإنسانيته، فهو إنسان خامل، ونزوي، مستبد، ويفضل الموت على العمل، وكاذب، ومنافق، وغيرها من التمثلات. أما محمد حسين هيكل في رحلته إلى بلاد أوربا وأمريكا والشرق، فإنه ينقل للغربي صورة مغايرة عما كلسه الغربي عن الشرقي في متخيله، فهو إنسان حيوي، ينضح شبابا وفتوة، ويعيش الحياة بطولها وعرضها، بعيدا عن الرقابة. الأمر الذي أوجد سيكولوجيا مفعمة بالحيوية والغبطة، وخاصة في باريس بلاد السحر والجمال.  فهي تدعوك إلى النهل من مواردها إلى غاية ما تستطيع النفس. إلى «الغاية التي تجعلك - على حد قول آنسة مصرية – تستيقظ أربعا وعشرين ساعة في اليوم لأنك واجد في كل ساعة منها متاعا ترد منهله».
ومن الأمور التي توقف عندها الرحالة هيكل في باريس، واستولت على لبه، احتفال الباريسيين بعيد الحرية، وإقبالهم على الملذات والمتع والصخب، لدرجة أنه لم يصدق ما تراه عيناه. يقول: «ما هذا الذي أرى؟ إن الناس قد بلغ منهم الجذل مبلغا لو أن شيئا من مثله حدث في  مصر لنادى المنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور. إنهم يرقصون في كل مكان، ويغنون في كل مكان، ويقبلون بعضهم بعضا في كل مكان، وذلك لا ريب، هو احتفالهم بعيد الحرية». وحين يقارن الرحالة مظاهر الحياة وإقبال الناس عليها في القاهرة وباريس يقول: «لقد شهدت جموع الناس الحاشدة في مصر لمناسبات مختلفة كلها أو أكثرها متصل بالدين، كحفلة الكسوة، أو طلعة المحل، أو رؤية رمضان، أو وفاء النيل، لكني لم أر مثل هذا الجذل الذي يتجاوز الحدود كلها مما رأيت في باريس يوم 14 يوليو. وما كان بالنسبة لي مفاجأة لم يسبق لي في الحياة مفاجأة مثلها».
وفي مقابل صورة الإنسان الغربي الجذلان والحيوي والنشيط، نجده يعطي صورة نقيضة عن الشرقي في نموذج الإنسان اليهودي في بيت المقدس قرب حائط المبكى ظهر الجمعة وصبح السبت. فاليهودي موغل في الخرافية والأسطورية، ومشدود إلى الماضي السحيق، ولا يكف عن البكاء. فاليهود حين يحجون إلى حائط المبكى من كل الأطياف تراهم «يقبل بعضهم أحجاره ويتمسح بعضهم بها تبركا وطلبا للمثوبة، فإذا حان موعد البكاء، رأيت ربانيهم وقف على رأسهم يحدوهم ويجيبونه».
إن هذا المنظر مثير للشفقة والشجن، فهؤلاء الباكون «تسيل دموعهم على خدودهم، وتخنق العبرات بعضهم حتى يكاد يغص بها». 
د - ميث الحياة الفنية
في ظل هذه الحيوية والنشاط اللذين يعمان الإنسان الأوربي، وهذا التطور العمراني الهائل، نتساءل: هل للحياة الفنية والثقافية مكان؟ إن رحلة «شرق وغرب» تبين أن الإنسان الغربي إنسان محب للفن والثقافة. وهو ما يؤسس لميث الإنسان المثقف والمستنير. وقد تأتى ذلك من المعارض الفنية، والعروض المسرحية، والمكتبات المنتشرة، والكتب المنتشرة على طول الشوارع، وخاصة في الحي اللاتيني بباريس. يقول: «في باريس ظاهرة لم أر مثلها في ما زرته من سائر العواصم، وهذه الظاهرة أكثر وضوحا في الحي اللاتيني منها في سائر أحياء العاصمة الفرنسية. فالمكتبات في شارع سان ميشيل وفي الشوارع المتفرعة منه لا يكاد يحصيها عد».
والإنسان الغربي لا يقبل بنهم على الكتب فقط، بل يتهالك على المسارح حتى أنك أحيانا لا تجد مكانا للجلوس لامتلاء القاعات. يقول: «ففي فرنسا يدفعون اليوم أسعارا عالية للدخول إلى بيت موليير، وهم يزحمونه كل يوم، فما تجد به مقعدا خاليا بعد بدء التمثيل بدقيقة أو دقائق». وأما إيقاع الموسيقى والغناء في برلين «فقد كان سريعا ما سمعنا وما رأينا وإن لم نفهم من أنماط الغناء شيئا، كانت الموسيقى ساحرة وكان التمثيل باهرا. وكانت تهيئة المسرح بدقة وإتقان يفوقان ما شهدنا في باريس نفسها ويزيدان الموسيقى والتمثيل سحرا وبهرا».
خلاصة
بناء على ما سبق، يتبين أن صورة الآخر تكتسي أهمية بالغة في النص الرحلي، نظرا إلى أن الذات الراحلة إلى الفضاء الجديد، أول ما يشد انتباهها هو هذا الآخر المغاير عنها ثقافيا ونفسيا. ولعل المبحث القمين بإثارة قضايا الآخر المرتحل إلى فضائه هو الصورولوجيا من حيث كونه يعقد مقارنة بين صورة «الأنا» وصورة «الآخر». ويصطدم الصورولوجي في هذا المبحث بالعديد من المصطلحات والمفاهيم المعقدة والمتداخلة، التي تحتاج إلى كثير من الضبط والتحديد، من قبيل: الصورة والمتخيل، والميث والغريب، والأنا والآخر. وقد كشف التحليل التطبيقي لرحلة «شرق وغرب» أن الرحالة المصري محمد حسين هيكل، كان مؤطرا في رصده للآخر بصورة الإعجاب  بميث الأرض والعمران والإنسان والفن .