هيتشكوك... الإنسان بوصفه طريدة

هيتشكوك... الإنسان بوصفه طريدة

في واحد من أروع أفلام المخرج الأمريكي الكبير فريد زينمان (رجل لكل العصور، 1966م)، يقول توماس مور لابنته: «حين يضعنا الله في موقف عصيب، علينا أن نُعمل العقل ما استطعنا، فإن نجحنا في التغلب على المشكلة، فهي مشيئته هو لا مشيئتنا نحن، أما نحن كبشر، فتنحصر مهمتنا الأساسية في الهروب».

«الهروب»؛ هذه هي الكلمة المفتاح لكل أعمال ألفريد هيتشكوك (لندن، 13 أغسطس 1899م – لوس أنجلوس، 29 أبريل 1980م)، والذي يمكننا القول إن مجمل أعماله كان فيلماً واحداً طويلاً عن الإنسان بوصفه طريدة. فهيتشكوك ليس كالمخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي، الذي كان يؤمن بأن الإنسان موجود لوظيفة جمالية، وأنه مهمته الأساسية على الأرض هي اكتشاف الجمال، وتحقيق الجمال. لا، هيتشكوك كان قد حسم أمره منذ الطفولة بأن الإنسان ليس إلا طريدة، ومهمته الأساسية على الأرض تنحصر في الهروب.
معظم نقاد السينما يصنفون فيلمه «الشمال عبر الشمال الغربي، 1959م» بأنه جوهرة التاج، قد يفضل البعض «دوار، 1958م»، أو «سايكو، 1960م»، أو «النافذة الخلفية، 1954م»، لكنني شخصياً أجد أن «الطيور، 1960م» هو العمل الذي تتحقق فيه بشكل مثالي، وببلاغة سينمائية مدهشة، رؤية هيتشكوك عن الإنسان بوصفه «طريدة»؛ إنه العمل الذي حاول فيه أن يلخص الوضع الإنساني من الأزل إلى الأبد، ولذا فهو الفيلم الوحيد الذي نلمس فيه – إجمالاً - ملمحاً ما وجودياً قلما نلمسه في أعمال هيتشكوك الأخرى.

هزيمة لابد منها
في «الطيور»؛ الإنسان ليس مطارداً من قبل إنسان آخر مثله (كما هي الحال في بقية أفلام هيتشكوك)، ولكن من قبل قوى أعلى، ولأسباب غامضة، وبنتيجة حتمية معلومة منذ البداية؛ هي الهزيمة المحققة للإنسان (أيضاً على عكس كل أفلامه التي ينتصر فيها الإنسان البريء). فمن بين كل أفلام هيتشكوك -الذي كان يؤمن بأن قوة الفيلم تتناسب طردياً مع قوة الشرير-، يبرز «الطيور» بوصفه الفيلم الذي يبلغ فيه الخطر كماله، يبلغ فيه الشرير الشر المطلق الذي لا راد له ولا قدرة للبشر على هزيمته؛ إنها الطيور، الطيور العادية؛ الطيور التي يرجع تاريخ وجودها على الأرض إلى أكثر من 140 مليون عام خلت، وها هي قد قررت أخيراً أن تهاجم البشرية، وأن تقضي على الإنسان، في جريمة قتل صامتة، ولأسباب غير معلومة، وكأن دوافع الشر عدمية (هذا إن كانت هناك دوافع أصلاً لدى الطيور)، وكأن الأهمية الحقيقية هي للشر نفسه كقوة وجودية قاهرة، بغض النظر عن دوافعه.
في محادثة بين عالمة الطيور العجوز وتيبي هيدرن، تقول عالمة الطيور: «ولكن، إذا قررت الطيور فعلاً أن تهاجم البشر فلا أمل لنا! كيف نستطيع أن نواجهها؟! إنها أكثر من 100 مليار طائر على سطح الأرض!». كان هيتشكوك قد صرح بأنه لو كان «الطيور» فيلماً يتعلق بالصقور، والنسور، والطيور الجارحة، لما كان قد اهتم بتصوير الفيلم. ما أعجب الساخر الكبير ذا القوام البرميلي هو أن الأمر يتعلق بطيور عادية، طيور كل يوم، طيور كالنوارس، والغربان، والعصافير، والطيور البحرية، التي قررت أن تقضي على البشرية (لاحظ الفرق بينه وبين فيلم كـ «الفك المفترس، 1975م» الذي سيخرجه ستيفن سبيلبرج لاحقاً، والذي حاول فيه أن يقتفي آثار «الطيور» في استراتيجيته العامة، وإن كان فيلماً عن أسماك القرش المفترسة لا عن الطيور الوديعة رمز السلام).
وتبرز لنا سخرية هيتشكوك أوجها حين نكتشف المفارقة الكاملة بعد مشاهدة «الطيور»، من أن أجمل أفلامه عن الهروب؛ عن الإنسان بوصفه مخلوقاً مطارَداً، ليس به – من أوله لآخره - إلا مشهد واحد فقط لهروب فعلي، هروب مادي حقيقي قائم، أما بقية الفيلم فاستسلام من البشر للطيور. مشهد الهروب المادي الوحيد في الفيلم هو مشهد هروب الأطفال من الطيور التي تطاردهم أمام المدرسة، ولن تغفل شهية مماثلة لشهية هيتشكوك الساخرة ملاحظة أن المشهد كله لا يمكن إلا أن يكون أيضاً مشهداً ساخراً: الطيور العادية، طيور كل يوم تطارد الأطفال! 

سخرية ومفارقات
بالإضافة إلى السخرية الإنجليزية الباردة المحقونة في كل أفلامه، هيتشكوك مغرم ببناء أفلامه أيضاً على المفارقات، وهو من كبار السينمائيين الذين تملأهم الرغبة الجارفة في العمل في نطاق المفارقات والتعارضات الثنائية. كان يعتقد أنه من المفارقة الثنائية ينبثق شيء ما ثالث؛ شيء أسمى من اعتيادية الحياة اليومية. حياة هيتشكوك نفسها مفارقة كبيرة؛ فهو -بوجهه الذي لم يعبر وجه مثله عن السأم والضجر في العالم المعاصر- كان يسعى طوال الوقت لتسلية نفسه بالتفتيش عن التشويق والإثارة، خلال حياته الرتيبة، والمنظمة، والاعتيادية. فملك التشويق والإثارة، والقتل، والتنكر، وعوالم الجواسيس، والمبتزين، والمخربين، والقتلة، هو رجل إنجليزي تقليدي، متقيد أشد التقيد بعاداته اليومية، وطقوسه الرتيبة التي لا تتبدل، وحياته المنتظمة مع زوجته التي لم يعرف نساءً غيرها طوال حياته، وهو شديد الالتزام بوظيفته في شركة يونيفرسال للإنتاج السينمائي التي تستمر من التاسعة صباحاً إلى السادسة مساءً. كان ملك المطاردات، الرجل الذي تزخر أفلامه بالحركة والعدو والهروب، هو نفسه الرجل الذي يكره كرهاً شديداً بذل أي مجهود بدني من أي نوع.
المفارقات الثنائية مبثوثة كتفاصيل بصرية لا نهاية لها في أعمال هيتشكوك. من المفارقات في «الطيور» مثلاً: يقبض ميتش في بداية الفيلم على طير الكناري الذي أفلت من ميلاني، ويودعه في القفص، قائلاً: «ها أنا أضعكِ في قفصك الذهبي يا ميلاني دانييلز!». في ما بعد، وفي خليج بوديجا، تلجأ ميلاني إلى كشك هاتف زجاجي هرباً من هجمات الطيور، تماماً كطائر الكناري في القفص، لكن القفص هذه المرة ليس ذهبياً، بل كارثياً.

الطريق كمفارقة بصرية
في أحد المشاهد الأخرى البليغة في «الطيور»، يأمر هيتشكوك مساعديه برش الطريق الترابي الذي تسير عليه سيارة والدة ميتش بالمياه، حتى لا تثير السيارة الغبار أثناء سيرها. وفي أعقاب اكتشافها مقتل المزارع وفقأ الطيور لعينيه، تسرع والدة ميتش هاربة بسيارتها على الطريق الترابي الذي أمر هيتشكوك مساعديه هذه المرة بأن يعملوا على أن يثير أكبر قدر ممكن من التراب أفقياً. مفارقة بصرية بين هدوء النفس وسلامها قبل اكتشاف الكارثة، واضطرابها وانفعالها أثناء الهروب.
فيلم «الطيور» بأكمله ينهض على المفارقة الثنائية ما بين حال الإنسان وحال الطيور. هذه المرة، الطيور هي الطليقة والإنسان هو الموجود داخل القفص. هذه المرة، طيور كل يوم هي الصياد، والإنسان هو الطريدة.
المفارقة في أعمال هيتشكوك لا توجد فقط داخل الفيلم الواحد، بل يمكن رصدها أيضاً ما بين فيلم وفيلم. في «الطيور» يتعامل هيتشكوك مع الطيور كأنها طائرات تهاجم البشر، في حين يتعامل مع الطائرة التي تهاجم البطل في الصحراء في الشمال عبر الشمال الغربي كأنها طائر من الطيور.
مفارقة أخرى مهمة يلاحظها المُشاهد لسينما هيتشكوك: أن أجمل مشاهد القتل في سينماه لا تحدث ليلاً، بل نهاراً وفي وضح النور. مفارقات هيتشكوك تنهض أيضاً ما بين الصورة والحوار. هناك دائماً - وعلى وجه الإجمال - طباق بين ما نراه في الصورة وما يدور من حوار بين الشخصيات، ونادراً ما يكرر الحوار ما يرد في الصورة؛ هذا من أهم المبادئ التي يعمل هيتشكوك في ظلها، وهو مبدأ اكتسبه أثناء عمله في السينما الصامتة في بداية حياته المهنية، حين تعلم كيف يروي القصة البصرية بالصورة فقط، وبعد دخول الصوت للسينما، كان من أوائل السينمائيين الذين عملوا على أن يكون الصوت «إضافة» إلى القصة البصرية، وليس مجرد تكرار لها.
اختيار أبطال الفيلم في حد ذاته قد يخضع أيضاً للمفارقات عند هيتشكوك. فمثلاً، في فيلم «سيئة السمعة، 1946م» يختار هيتشكوك الأبطال تنفيذاً لمفارقة خطرت على باله أثناء التحضير للفيلم؛ أن يستغل الفارق في طول القامة بين إنجريد برجمان وكلود ريتز، كعامل لإثارة الانفعال لدى الجمهور؛ رجل قصير عاشق لامرأة طويلة!

سينما عقوق الإنسان
التحريات حول حياة وطريقة عمل هيتشكوك تثبت لنا أن المفارقة الثنائية لعبت دوراً كبيراً في علاقته بجمهور المشاهدين من ناحية، وبطريقة صنعه لأفلامه من ناحية ثانية. كان هيتشكوك يؤمن منذ صدر شبابه بأن الإنسان مخلوق عاق بطبعه، وقد تعمق هذا الإيمان أكثر فأكثر عبر تجاربه الطويلة مع جمهور أفلامه. كان يرى أن المشاهدين يدخلون الفيلم، ويستمتعون به، ولكنهم يصرون على إظهار أن حبكة القصة في الفيلم لم تنطل عليهم. كان هيتشكوك يرى في ذلك ضرباً من الشيزوفرينيا يقود الجماهير إلى مجافاة متعتهم أثناء الفرجة؛ الاستمتاع بالفيلم، وادعاء أن الألاعيب الواردة به لم تنطل عليهم في الوقت نفسه! ولذلك، وطد هيتشكوك نفسه على الرد على هذا التحدي بسلوك منهج معين في الإخراج لا يمكن معه للجمهور أن يحزر ما الذي ستكون عليه اللقطة التالية (نفس طريقة موتسارت في التأليف الموسيقي، والتي استلهمها الموسيقار محمد عبد الوهاب أيضاً في عمله؛ حيث كان من المستحيل توقع الجملة الموسيقية التالية في أي لحن جديد)؛ هي سلطة مطلقة استبدادية يمارسها هيتشكوك على الجمهور بفضل نوع خاص من تقطيع المشهد الواحد إلى أحجام لقطات مختلفة، لكل حجم منها هدف محدد يهدف إلى إحداث تأثير بعينه في الجمهور، وهو ما أصبح أسلوباً فريداً بلغ ذروته في فيلم «الشمال عبر الشمال الغربي»، ثم أخذت عنه ألعاب الفيديو الحديثة التي تُبنى استراتيجيتها العامة على أساس المراحل التراتبية (أو المقاطع المنفصلة-المتصلة) لرحلة البطل للوصول إلى الهدف النهائي.
دور المفارقة كبير أيضاً في اقتناع هيتشكوك (أبو القوانين في سينما التشويق) بمبادئ سينمائية معينة والالتزام بها طوال مشواره الفني. فالسينمائي والناقد العارف بأعمال هيتشكوك يعلم أن هناك قواعد ثابتة لا تتغير في كل أفلامه؛ قواعد كان قد طورها أثناء عمله بالملاحظة الدقيقة والألمعية المشهود له بها، وأثبتت جدواها على مر مشواره الفني في حبس أنفاس المشاهدين، وفي الحفاظ على قدر كبير من «طزاجة» المشاهدات المتعددة للفيلم الواحد، بحيث لا يمل الجمهور من تكرار مشاهدة الفيلم الواحد مع مرور الزمن.

المفاجأة أساس عمل هيتشكوك
من أهم هذه القواعد «الهيتشكوكية»، قلب ما هو متعارف عليه في  القصص البوليسية المعروفة بـ «من الفاعل؟» رأساً على عقب؛ فهيتشكوك –على عكس أجاثا كريستي مثلاً- يكشف للمُشاهد عن الفاعل الحقيقي في أول 10 دقائق بالفيلم، لأن أساس عمله ليس هو تحقيق «المفاجأة» في نهاية الفيلم – كما هي روايات أجاثا كريستي التي يتضح في نهاية آخر 5 صفحات منها أن الفاعل الحقيقي هو أبعد شخصية يمكن أن يتصورها القارئ-، لا، بل إن هدف هيتشكوك هو على الدوام المحافظة على «التشويق» من أول الفيلم إلى آخره، ويحقق ذلك عن طريق الترقب الدائم من قبل المُشاهد لمصير البطل المظلوم الذي يسعى لإثبات براءته، بينما المُشاهد يعلم الفاعل الحقيقي، ويتابع رحلة البطل بانفعال أثناء محاولته لإثبات براءته. لقد أدرك هيتشكوك في بداية عمله السينمائي أن ما هو مناسب للأدب ليس مناسباً للسينما، على الأقل تلك التي يفضل صنعها، فطور هو بنفسه قواعد التشويق السينمائي، والتي أثمرت عن نجاحات شعبية ونقدية لأفلامه، ويحسب له أنه لم يقع في فخ غواية تحويل الأعمال الأدبية الكبرى إلى سينما؛ ومن ذلك مثلاً رفضه تحويل رائعة دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» إلى عمل سينمائي، وتفضيله العمل على قصص وروايات من المستوى التجاري العادي، أعمال لم تحقق كمالها الأدبي، ويمكن العمل بحرية على تطويرها بصرياً.
كان هيتشكوك يقدر الفن السينمائي تقديراً كبيراً بوصفه الشكل البصري الحديث للثقافة الإنسانية، وهو الذي وصفه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (مفاوضات، 1990م) بأنه همزة الوصل بين تقاليد التجريب الإنجليزي الكلاسيكي وحركة الحداثة؛ آخر فرسان الكلاسيكية وأول فرسان الحداثة السينمائية. هيتشكوك كمؤلف سينمائي رائد كان يحمل فهماً بصرياً معقداً للسينما بوصفها شكلاً يجمع بين شعبوية الحكي، والشكل الطليعي للفن بوصفه تجريباً مستمراً، وهو ما جعل الكتابات النقدية الحديثة تصنف أعماله ليس فقط كأعمال تنتمي للموجة الشعبية للسينما الجماهيرية، بل أيضاً كأعمال تحوي قدراً كبيراً من السيريالية أحياناً والتعبيرية أحياناً أخرى، حتى وإن تخفت هذه الأعمال وراء شعبويتها.

لماذا يخشى الظلام؟
تأثر هيتشكوك يبدو لنا عميقاً بكتابات كل من شارل بودلير، وجوستاف فلوبير، وأوسكار وايلد، وإدجار آلان بو. تأثره ببو يرجع إلى الطفولة، ونلمس ذلك في مقال نادر كتبه هيتشكوك بعنوان «لماذا أخشى الظلام؟، 1961م»، وصف فيه تأثره الشديد في طفولته بقصص بو الخيالية والغريبة وخصوصاً كتابه «حكايات الغرائب والعرائب، 1840م» (Tales of the Grotesque and Arabesque). سينما هيتشكوك بأكملها تبدو لنا وكأنها تحمل قدراً كبيراً من الفضل لعالم إدجار آلان بو وقصصه المليئة بمرض استحواذ الفكرة الواحدة (لاحظ أيضاً أن معظم شخصيات دوستويفسكي في ما بعد سيستحوذ عليها مرض الفكرة الواحدة)، والغموض، والشخصيات التي تنضح بالغرابة. التأثر والتشابه بين بو وهيتشكوك لا يمتد فقط ليشمل الاهتمام بكل ما له علاقة بالرعب، بل أيضاً بالنظر إلى الإنسان على أنه كائن عاق، تنتفي من تصرفاته صفة الرشادة والحكمة، بالإضافة إلى ولع كل من بو وهيتشكوك بالفنون المختلفة وفهمهما العميق لها، وفي الوقت نفسه، شعبوية أعمال كل منهما، والروح شبه - العلمية التي تغلف أيضاً أعمالهما.
تبدو تأثيرات عوالم بو أكثر ما تبدو في فيلم «النافذة الخلفية، 1954م» والذي يمكننا اعتباره فيلماً داخل الفيلم (جيمس ستيوارت المصور قعيد الكرسي المتحرك المهووس بمراقبة حيوات جيرانه عبر نافذة حجرته التي تطل على الفناء الخلفي). وفيلم «دوار» الذي نقترب فيه أكثر من سيريالية تشبه سيريالية بو، ونحن نتابع التحري السابق سكوتي المصاب بعقدة الخوف من الأماكن المرتفعة، والذي تتداخل عنده عوالم الحقيقة بالأحلام (كما تتداخل عوالم السينما الشعبية بالطليعية عند هيتشكوك نفسه)، ويصبح في رحلة بحث عن المعنى، بعد أن فتح الغموض الإمكانات اللانهائية لتفسير تشابه شخصية فتاة يقابلها حديثاً مع أخرى شهد موتها بأم عينيه. وحتى فيلم «سايكو» الذي يحاول فيه المجرم المختل أنطوني بيركنز أن يخلق أمه من جديد، بتجميع شذرات من مواد وألبسة مختلفة (كمحاولات هيتشكوك نفسه أن يخلق فناً خالصاً من السينما، مستعيناً بشذرات وتأثيرات من الفنون الأخرى).
تبدو تأثيرات «بو» أيضاً مبثوثة في كل أفلام هيتشكوك؛ ليس فقط من حيث التأثر بسيريالية بو التي تظهر في مشاهد الأحلام والكوابيس في أفلام هيتشكوك -مثل الحلم الذي صممه سلفادور دالي في فيلم «الممسوس، 1945م»، أو الحلم الذي صممه جون فيرين في فيلم «دوار» -، ولكن في الأساس في الاستراتيجية العامة لعمل هيتشكوك، التي يتضح لنا أنه كان يهدف منها إلى إرباك الحس الواقعي العام في الفيلم لمصلحة عوالم الأحلام ومنطقها، وهو ما جعل السيناريو - ومنطقية السرد السينمائي طبقاً للقواعد الكلاسيكية - هو أضعف العناصر على الإطلاق في سينما هيتشكوك. لكن من المفارقات حتى هنا، أن هذا البناء للأفلام بمنطق الأحلام، كان يغلفه هيتشكوك بهوس شديد نحو توثيق واقعي لكل ما له علاقة بالعناصر البصرية والشكلية في الفيلم (الديكورات، والإكسسوارات، والشوارع، والمباني... إلخ)، بل وكان يفاخر بقدرته على النقل شبه الحرفي للأماكن الحقيقية التي وقعت فيها الأحداث إلى الديكورات السينمائية.
ورغم المنطق العام للحلم الذي يغلف كل سينما هيتشكوك، فإننا لا نكاد نلمس في أعماله روحاً تأملية أو روحانيات أو محاولات فلسفية – على عكس سينما تاركوفسكي أو برجمان مثلاً-، والمبرر هنا يبدو منطقياً ومعقولاً؛ فالهروب لا يتحمل تفكيراً ميتافيزيقياً، قد يتحمل لمحات، أو شذرات من مقاربات تأملية، تحدث أثناء الهدنة بين مطاردة وأخرى، خلال استراحات الطريدة عبر الطريق الطويل للهرب -كما هي الحال مثلاً في لقطة في فيلم «الطيور»، عندما تجلس ميلاني أمام المدرسة وتشعل سيجارة في انتظار خروج الأطفال-، لكنه لا يتحمل عمقاً فلسفياً ولا روحاً تأملية طويلة. فعلى الطريدة أن تستأنف سريعاً هروبها، شاحذة كل تفكيرها في صعوبات وعقبات الطريق، على الإنسان - الطريدة أن يتخطى عوائق الطريق كما يتخطى العداء الحواجز في سباقات العدو واجتياز الموانع. هروب، وهروب فقط، ممزوج بسخرية باردة ميزت كل أفلامه، سواء التي صنعها في إنجلترا، أو تلك التي صنعها بعد الانتقال لهوليوود والعمل في استوديوهاتها.
إحدى المفارقات التأملية النادرة في سينما هيتشكوك نجدها في فيلم «دوار»؛ في مشهد أقدم كائن حي في العالم: شجرة «سكوايا سمبرفايرنس» الموجودة في إحدى غابات مدينة سان فرانسيسكو والتي يبلغ عمرها أكثر من 2000 سنة. تقف كيم نوفاك أمام مقطع عرضي لجذع شجرة نبتت عام 909م، وتم قطعها عام 1930م. المقطع العرضي عليه علامات توضح توافق تطور نمو الشجرة مع تواريخ بعض الأحداث المهمة في العالم الغربي: توقيع «الماجنا كارتا» 1215م، اكتشاف أمريكا 1492م، إعلان الاستقلال الأمريكي 1776م. تشير كيم نوفاك بسبابة القفاز المخملي إلى نقطة على مقطع جذع الشجرة وتقول لجيمس ستيوارت: «هنا ولدت»، ويزحف إصبع الوسطى ليشير إلى نقطة بجوار الأولى وتقول: «وهنا مت». في لحظة تتحول الإشارة الزمانية إلى إشارة مكانية، فيتم الاستدلال على عمر زماني كامل بمسافة مكانية هي المسافة بين إصبعي السبابة والوسطى المتلاصقين؛ كأن ليس ثمة طريقة أخرى للاستدلال على تفاهة زمن حياة الإنسان إلا بفضيحة مكانية صارخة. مفارقة تأملية نادرة تصدر عن بطلة طريدة تستريح قليلاً من عناء الطريق .