عمارة ما بعد الحداثة... كسر الاعتياد وتحطيم المألوف

عمارة ما بعد الحداثة... كسر الاعتياد وتحطيم المألوف

يقول جيمسون «ليس هناك حقل من الحقول المعرفية شعر فيه رجاله بموت الحداثة وأعلنوا عن ذلك بصورة حادة، مثلما حدث في فن العمارة».

كان فن العمارة هو أول الفنون تأثرًا بصيحات ما بعد الحداثة. وقد ذهب جانكس في كتابه «لغة العمارة ما بعد الحداثية» The Language Of Postmodern Architecture إلى أن النهاية «الرمزية» للحداثة يمكن تحديدها عند الساعة 3:20 من يوم الخامس عشر من يوليو عام 1972 عندما جرى نسف مبنى برويت - إيجو Pruitt - Igoe لسكن ذوي الدخل المحدود في سانت لويس باعتباره بيئة غير صالحة للسكن فيها. لقد تهاوت أفكار لي كوربوزييه Le Corbusier (كان المبنى قد نال جائزة لي كوربوزييه حول «آلة العيش الحديث»)، وممثلين آخرين لـ«الحداثة العليا» وأفسحت الطريق أمام تقدم صارخ لإمكانات متعددة. لقد رأى جانكس أن الأهم في هدم مجمع «برويت إيجو» الطريقة التي تم بها الهدم وهي (النسف)، والتي أضحت مثالاً على النسق الفكري، والنموذج الأساس لما بعد الحداثة. فالنظرية الحداثية المعمارية كانت تعتمد في الأساس على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى الشكل، وأن يحقق البناء وظيفته على النحو الأتم، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بشكل البناء ومكامن الجمال فيه. وكما يقول جين جاكوبس J. Jacobs في دراسته المهمة «موت المدن الأمريكية الكبرى وحياتها»: «إن المسطحات الحضرية التي أقامتها الحداثة كانت نقية ومنظمة وناجحة من الناحية المادية، أما اجتماعيًا وروحانيًا وإنسانيًا فهي أقرب إلى الموات، وأن زحام وصخب القرن التاسع عشر هما ما أبقى على الحياة الحضرية المعاصرة».
في عام 1965 نشر الناقد المعماري روبرت فنتوري Robert Venturi مقالة بعنوان «مبررات عمارة البوب» في مجلة «الفن والعمارة» Art And Architecture، قدم خلالها مبررات وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة عوضًا عن المفاهيم التقليدية الموروثة من الحداثة. ثم أتبع هذه المقالة بكتابيه «التعقيد والتناقض في العمارة» و«التعلم من لاس فيجاس»، ينتقد فنتورى في الكتاب الأول ما أسماه «البساطة الزائدة» في التصميم المعماري الحداثي، واصفًا إياه بـ«النقيصة التكوينية»، داعيًا إلى «إثراء الناتج المعماري» ومبشرًا بميلاد مفاهيم نظرية جديدة، تخالف وتعارض المناهج المعمارية السابقة وتطبيقاتها البنائية المستقرة. وفي الكتاب الثاني يوصينا فنتوري بأن نتعلم جمالياتنا المعمارية من عُرى لاس فيجاس أو من الضواحي القذرة كما في ليڤيتاون، لأن الناس باختصار تحب هذه الأمكنة «وليس شرطًا أن يكون للإنسان توجه سياسي محدد حتى يدعم حقوق متوسطي الطبقة الوسطى في جماليتهم المعمارية الخاصة بهم، وقد وجدنا فعلاً أنه يتشارك في نمط ليڤيتاون الجمالي معظم متوسطي الطبقة الوسطى، السود كما البيض، الليبرالين كما المحافظين».
وبالعودة إلى جانكس نجده يصف العمارة ما بعد الحداثية بأنها تميز نفسها عن العمارة الحداثية «النخبوية» من خلال التأكيد على أولويات «الشعبوية»، وذلك يعني أنه بينما سعت الحداثة المعمارية الكلاسيكية الأنيقة إلى تمييز نفسها عن بقية نسيج المدينة الأرضي الذي تظهر ضمنه، فإن بنايات ما بعد الحداثة تنهمك، على العكس من ذلك، بإدراج نفسها ضمن النسيج الآخذ في التغير الذي تشكل عناصره الأبنية التجارية والفنادق الصغيرة ومطاعم الوجبات السريعة المنتشرة على الطرقات السريعة في المدن العالمية الكبرى. وإذا كانت نصيحة دانيال بيرن D. Burne للموجة الأولى للمصممين الحداثيين في نهاية القرن التاسع عشر هي «لا تصنع تصاميم صغيرة»؛ فإن في وسع مصمم ما بعد حداثي مثل ألدو روس A.Rosse أن يكون أكثر تواضعًا، ويتساءل «ممَ أستلهم أعمالي إذن؟ ليجيب: من الأشياء الصغرى بالتأكيد، بعدما تبين أن القدرة على تحمل الأشياء الكبرى كانت تاريخياً عائقاً كبيراً». 
إن الأبنية ما بعد الحداثية لا ترى ضيراً مثلاً في مزج الأفكار المعمارية الجديدة مع الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصدمة والإدهاش، وربما المرح والتسلية للرائي. وهو ضرب من الإيمان بأن الجمال قد يتولد من التنافر مثلما يتولد من الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولد من النظام. لقد انعكس التحول الذي حدث في المجالات الثقافية على الناتج المعماري وعلى اهتمام المعماريين، وساهم كل منهما في إثراء الفنون الأخرى، لأن الحواجز بينهما قد سقطت «فاستوعب الخطاب المعماري المعاصر اتجاهات مختلفة نحتية وتشكيلية تنهل من طرز عديدة. ورأي بعض النقاد المعماريين أن التعددية والصخب ما هما إلا تعبير عن تعددية وصخب الأحداث التي بداخل جدران البنايات وفي ما حولها. أو هي لون من الديمقراطية وحرية التعبير يسمح لكل معماري أن يطرح أفكاره الخاصة دون الالتزام بقالب يحده أو نموذج يتمثله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريين أن يفعلوه في السابق»، وفي سياق مشابه يقول جان نوفيل «لم يعد المكان يعاش بالطريقة نفسها، ولم تعد الأشياء نفسها موجودة بالداخل، فاللعب بالمقياس يتم بطريقة مختلفة، ويتم تغيير معناه، فنتمكن انطلاقًا مما كان كبير الحجم غير واضح ووظيفي على نحو خالص، وعبر انحرافات متعاقبة، من إعادة خلق وتجديد لم يكن باستطاعة أي أحد تخيل أنها ممكنة».
 سيطرح مفهوم «المدينة الكولاچ» Collage City ليصف نوع المعمار السائد في الغرب في الحقبة ما بعد الحداثية، والذي يتخذ من «الانتقائية» قاعدة أساس له. والانتقائية تعني «الجمع» و«المزج» بين العديد من «الطرز» و«الأساليب»، كما تعني أيضاً «الانفتاح على الماضي» والحنين إليه. والمثال الجلي الذي يستخدمه المعماريون عادة لشرح مفهوم «الانتقائية» كما تتجلى في فن المعمار، هو مبنى مؤسسة At&T (مبنى سوني Sony الآن) الذي صممه فيليب جونسون P.Johnson في مدينة نيويورك. إذ تعد هذه البناية الأكثر جدلاً في النطاق المعماري كونها تجمع ما لا يجتمع معمارياً. فهي ناطحة سحاب مبنية على الطراز الحداثي الوظيفي المتقشف الخالي من الزخارف والحليات التي لا وظيفة لها، فيما تعلو قمتها مقصورة مثلثة الشكل على الطراز القديم المميز للقرن السابع عشر الذي يتسم بوفرة الزخارف والتفاصيل الشكلانية التي لا تخدم وظيفة بعينها سوى تحقيق المتعة الجمالية. هذه الانتقائية أو المزج أصبحت هي لغة العمارة ما بعد الحداثية، فأصبح من الطبيعي أن نجد بناية شديدة الحداثية محمولة على أعمدة بيزنطية أو رومانية موغلة في القدم. وكما يقول بودريار «فإن العمارة تترجم عالماً بأكمله»، إن هذه الانتقائية هي انعكاس لعالم يسوده التشظي والتعددية «فيستمع الفرد إلى موسيقى الريجاي ويشاهد أفلام رعاة البقر ويتناول أطعمة مكدونالدز على الغداء وطعامًا محليًا على العشاء، ويضع عطور باريس في طوكيو ويرتدي أزياء «ريترو» في هونج كونج...»، فالتجاور وتزامن الأنماط والقيم والأمزجة والأشكال والمباني والمساحات والحضارات، هما ما يؤولان إلى ما يسميه جينكس «القرية الكونية» Global Village. ولما كانت القرية تعني ما هو محدود ومحلي ومتجانس، في حين تشير الكونية إلى ما هو كبير ومتعدد ومتباعد الأطراف ومختلف وغير متكافئ، فإن لقاء هذين الحدين يعني تجاور قيمهما وواقعهما، بحيث نحصل على إنتاج انتقائي متبادل التأثر والتأثير. وباختصار فإن «التشظي، والكولاج، والانتقاء، والمزج، مع الإحساس بالعرضية والفوضى، هي الأطروحات الأساسية، ربما، التي تهيمن اليوم على ممارسات العمارة والتصميم المديني». وهو ما يجمعها بالتأكيد مع ممارسات مشابهة في حقول أخرى، مثل الرسم والأدب والسينما والاجتماع وعلم النفس والفلسفة.
ويرى جيمسون أن عمارة ما بعد الحداثة هي عرض من أعراض اضمحلال حضاري مزمن، إنها «ليست إعادة بناء للمدن، وإنما موت لها»، فانتشار ما يسمى بـ «الصناديق الزجاجية المترهلة» بمعظم المراكز المدنية في العالم، يشهد على ما يبدو بأن «الحداثة العليا قد ماتت ودفنت للأبد، وأن إبداعاتها التشكيلية قد نفدت نفاداً كاملاً، وأن أحلامها الأفلاطونية غير قابلة للتحقق». ويواصل جيمسون «المدهش في التكوينات المعمارية الجديدة حول باريس وفي بقاع متعددة من أوربا هو أنها جميعًا لا تقدم أي «منظور» محدد على الإطلاق. القضية ليست فقط في أن الشوارع بمفهومها المعروف وقيمها الضمنية قد اختفت تمامًا من هذه التكوينات المعمارية، بل في أن كل الحدود المعروفة للشكل المعماري قد تلاشت أيضًا. ذلك مذهل ومربك إلى حد كبير. وفي ظل هذا الارتباك الوجودي المدمر، الذي تمارسه ما بعد الحداثة على فضائها المكاني، يظهر لنا تشخيص نهائي وأخير لمدى عجزنا عن طرح أنفسنا في المكان وتعريفه بصورة تعكس وعيًا حقيقيًا به، وهو الأمر الذي يفسر بدوره ظهور التوجه الداعي لثقافة عالمية متعددة الجنسيات تذوب فيها الهويات فتصير مفتتة عاجزة عن موضعة ذواتها» .